جنائن بابل المعلقة ... في بابل، تفنيد مغالطة ستيفاني دالي

                                                                                          

                            عامر حنا فتوحي

جنائن بابل المعلقة ... في بابل ،تفنيد مغالطة ستيفاني دالي

                         

في حدود العام 1857م وبغض النظر عن ضعف الإثباتات المادية ومحدودية الإكتشافات من ناحية، ومن ناحية أخرى عدم أرتياح المختصين الفرنسيين* والألمان والروس وبقية الأوربيين، فأن الجمعية الآسيوية الملكية (البريطانية) أقرت مصطلح (علم الآشوريات). بناءاً على إدعاء أساتذة الجمعية، بأن ما أكتشفه لايارد في نينوى، العاصمة القديمة لإقليم آشور من الفترة 668 - 627 ق.م يعتبر أقدم أنماط الكتابة الرافدية. برغم ذلك، وفي أقل من عشرين عاماً تم إكتشاف المئات من الألواح ومن كافة أنحاء الشرق الأوسط. هذه الألواح التي كان منقوشاً عليها بالكتابة المسمارية والصورية، لم تكن أقدم من ألواح نينوى بمائتين أو ثلاثمائة عام فقط ، ولكنها كانت أقدم منها بألفين عام وفي بعض الأحيان بثلاثة آلاف عام، وعلى سبيل المثال، الألواح المكتشفة في كيش وأور وأوروك.
بعض المختصين الأوربيين أقترحوا مراجعة مصداقية المصطلح وأقترحوا تسميات بديلة منها (علم المسماريات) و(علم الرافديات). هذا التوجه لتصحيح الخطأ الذي قامت به الجمعية الآسيوية الملكية، هو ما جعل العالم الآثاري صامويل نوح كريمر لأن يقترح مصطلح (علم السومريات). برغم جميع هذه الإعتراضات، أهمل أساتذة الجمعية الآسيوية الملكية البريطانية كل هذه المقترحات وأصروا على إستخدام المصطلح الخطأ، مدعين بأنه ليس ثمة من حاجة لإستبدال ما هو قيد الإستعمال دولياً ولأكثر من عقدين. بإختصار، فأن أسلوب التعالي البريطاني والطموحات السياسية هو الذي تعمد فرض إستخدام مصطلح علمي غير صحيح.

مرة أخرى، وفقاً لذات السياقات المتعالية، والبحث عن الشهرة، وعوامل غير سليمة أخرى، وقفت وراء الإدعاء غير الصحيح الذي أقترح مؤخراً موقعاً مختلفاً للجنائن المعلقة البابلية أحدى عجائب الدنيا السبعة القديمة. ستيفاني ماري دالي عضوة جمعية خبراء الآثار في جامعة أوكسفورد البريطانية، مواليد 1943م، هيّ مختصة بريطانية أخرى في حقل تاريخ الشرق الأدنى، متقاعدة بصفة زميلة باحثة من المعهد الشرقي لجامعة أوكسفورد. أشتهرت بما يسمى بالتحقيق حول الجنائن المعلقة البابلية وبمقترحها غير الواقعي، الذي سأقوم هنا بتفنيده. أقترحت دالي بأن الجنائن المعلقة البابلية ليست في بابل وبأن نبوخذنصر لم يبنها، وإنما وفقاً لمنطقها الشخصي الضعيف فأنها في نينوى وبأنها قد بنيت في عهد سنحاريب!

منذ أن نشرت ستيفاني دالي نظريتها عن الجنائن المعلقة ونسبتها لغير مكانها الصحيح، كتب البعض عن محاولتها لخلط الأوراق من أجل دعم نظريتها التي تعتمد نظرية ضعيفة يدحضها الواقع التاريخي والجغرافي للمنطقة، علماً بأنها:
1- دالي تخلط وعن عمد ما بين سنحاريب الذي دمر بابل وتقول عنه بأنه أحب بابل! وما بين آشور بانيبال الذي أحرق بابل ونهب مكتباتها.
2- يخلط كُتّاب آخرون ما بين سنحاريب الذي أنشأ قناة للمياه وهو نظام تقليدي في العراق القديم وما بين جدارية في قصر آشوربانيبال متجاهلين حقيقة أن الفنانين الرافديين لم يكونوا يعتمدون في أعمالهم الجدارية البعد الثالث (المنظور) ولذلك تبدو الجدارية لغير الملمين بأصول الفن الرافدي، وكأنها طبقات مع أنها في الواقع مجرد تعبير عن المسافات وليس الإرتفاعات.
3- الأهم من هذا وذاك أن أي فلاح بسيط من سهل نينوى يعرف أنه ليس هنالك من حاجة لإبتكار تكنولوجيا إروائية معقدة في نينوى بدليل، أن جميع النواعير (water wheels) تم إستخدامها في وسط وجنوب العراق وليس في شماله، والسبب أن نينوى تعتمد الزراعة الديمية التي تعتمد المطر وليس الزراعة السيحية التي هيّ سمة وسط وجنوب وادي الرافدين لقلة منسوب الأمطار.
4- يتهم هؤلاء الذين يدعمون دالي بأن العالم والمؤرخ الكلداني بيروسس / برحوشا ولأسباب سياسية قد نسب الجنائن المعلقة لبابل، متجاهلين بأنه أحد أهم العباقرة الأكاديميين في وادي الرافدين القديم وبأنه أبن بابل الذي يعرف كل ما فيها، وهو العالم الفذ الذي قام بتدريس الأغريق أسس العلوم الرافدية في جزيرة كوس، وهو العالم الذي أبتكر مزولة المغناطيس التي تجمع ما بين المزولة التقليدية ومنظومة تحديد النظام الفلكي، وفي ذات الوقت، يتجاهل هؤلاء وعن عمد، بأن البريطانيين هم ولأسباب سياسية من هاجم كريمر وكتابه الآساطير السومرية لأنه أشار إلى وجود يسبق السومريين في الإقليم البابلي، ومتناسين ولأسباب سياسية أيضاً، بأن الإنكليز هم من فرضوا مصطلح علم الآسيريولجي ناسبين إبتكار الكتابة لإقليم آشور متجاهلين عن عمد أكثر من 2120 عام من إستخدام الكتابة في إقليم بابل قبل تأسيس أول مملكة في بلاد آشور عام 1813 ق.م وذلك من قِبَل ملك بابلي هو شمشي أدد الأول!
5- هؤلاء الكتاب أنفسهم وبدوافع غير علمية، حاولوا أن يعطوا تفسيرات بعيدة عن الواقع لكتابات مؤرخين مهمين مثل جوزيفوس وديودرس، وغيرهم ممن كتبوا عن الجنائن المعلقة البابلية بحجة أنهم يتكلمون عن جدارية آشوربانيبال، متجاهلين وعن عمد أيضاً، بأن نينوى في عهدهم كانت قد أصبحت أثراً بعد عين، بعد ثلاثة قرون من دمارها وأختفائها من المشهد الرافدي.
كل هذه الإدعاءات غير العلمية، من أجل إشاعة مغالطة تاريخية جديدة أساسها هو أن ينزعوا عن بابل إبتكار آخر. علماً بأن هنالك علماء آثار ومؤرخين ألمان وفرنسيين وروس وعراقيين أكدوا وبما لا يرقى إليه الشك بأن البناء المقبب (ثلاجة بابل) في قصر نبوخذنصر هيّ المكان المرجح للجنائن المعلقة.
6- تدعي دالي بأن سجلات نبوخذنصر لم تشر إلى الجنائن المعلقة، متجاهلة بأننا لم نعثر على معظم سجلات نبوخذنصر حتى الآن، وذلك بسبب إغراق بابل لمرتين بشكل مجحف من قبل سنحاريب وآشوربانيبال وإرتفاع مستوى المياه الجوفية من ناحية ومن ناحية أخرى،تحويل مياه الفرات عن بابل في عهد كورش مما أدى إلى إهمال المدينة وقضى على تاريخ آلاف من السنين، وبضمنها الغالب الأعم من سجلات نبوخذنصر.

ختاماً أشير بأن تشجير أسطح القصور البابلية هو تقليد وسطجنوبي شائع ومتعارف عليه يمتد منذ عهد ذاك حتى العصر الحديث، فيما ذكره آسنحاريب لأنه تقليد جديد على نينوى التي تشتهر أصلاً بالغابات وبجوها البارد قياساً بمدينة بابل.
الجنائن كانت بابلية ولا يمكن لمن يطلق النظريات وهو ليس أبن ذلك الوطن أن يفتي بنظريات خيالية يسخر منها أي فلاح بسيط من نينوى.

أن كل من له عينان يمكنه أن يرى بأن غاية القناة في جدارية آشوربانيبال هو توفير مياه للقصر وبطبيعة الحال هنالك أشجار (على الأرض) تحيط بالقصر (بمستوى أرض القصر) بعضها أمام القصر وبعضها على مسافة بعيدة أو بقرب القصر، لكن لا توجد شجرة واحدة على سطح القصر.
من زار المنطقة وأنا منهم، يستطيع وبسهولة أن يؤكد بأن قناة سنحاريب غير مهيئة لأن يزرع عليها شجرة واحدة، لكن المشهد حولها (أمامها وخلفها) يعج بالنباتات والأشجار. ولا يوجد شجرة واحدة وأكرر (لا توجد شجرة واحدة) معلقة على مصطبة أو على سطح القصر.

للأسف، فأنه وعلى ما يبدو، أن بعض من يتسمون بالمختصين ما زالوا يعتقدون بأن في أمكانهم أن يقترحوا ما يشاءون، وما على الآخرين إلا أن يوافقهم الرأي. الحق، فأن كل إقتراح خرجت به علينا دالي، لا أساس له من الصحة علمياً، وبأنها مخطئة تماماً.

* الفرنسيون كانوا أول من أستخدم هذا المصطلح على نطاق محلي ضيق وذلك في عهد الكاردينال ريشليو. ولكن عندما أكتشف الفرنسيون والمختصون الأوربيون خطأ هذا المصطلح، أقترحوا تغييره.

لقراءة الموضوع باللغة الإنكليزية والإطلاع على المزيد من الرسوم التوضيحية يمكنكم زيارة مدونة (عامر فتوحي) على الرابط أدناه
http://amerfatuhi.blogspot.com/…/the-hanging-gardens-of-bab…

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

838 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع