الأصمعي الجديد "الومبي" / الجزء الرابع

                                             

                      بقلم اسماعيل مصطفى

الأصمعي الجديد "الومبي" / الجزء الرابع

أنجبت محلة الأصمعي الجديد في البصرة المعروفة أيضاً باسم "الومبي" الكثير من الشخصيات البارزة على كافة الأصعدة الاجتماعية والأدبية والفنية والعلمية والرياضية وغيرها.

سنتطرق في هذا الجزء وباختصار شديد لعدد من الشخصيات الاجتماعية التي عاشت في هذه المحلة العريقة:

المرحوم "شيبه زيّه"

هذا الرجل كان مسيحياً وعاش هو وعائلته في "الومبي" مع المسلمين طيلة عقود من الزمن، وكان ماهراً في مختلف الاختصاصات "الكهرباء والميكانيك ومد أنابيب الماء وطلاء الجدران وغيرها"، ومن المعروف عن هذا الشخص أنه لايتوانى أبداً عن تقديم شتى أنواع الخدمات لمختلف أصناف الناس دون مقابل ماديّ وفي مختلف الظروف مهما كانت صعبة كنزول المطر الشديد أو البرد القارس "القارص".

قضى "شيبه زيّه" معظم حياته في ممارسة أعمال ومهن وحرف كثيرة مع شركات أجنبية كانت تأتي لتنفيذ مشاريع خدمية مهمة في البصرة، وكانت باختياره على الدوام واحدة أو أكثر من سيارات تلك الشركات التي كانت تسمح له باستخدامها لخدمة أهالي المنطقة في شتى الأوقات، وقد كان هذا الشخص على أهبة الاستعداد لخدمة الناس وقضاء حوائجهم برحابة صدر "في الليل والنهار على حدّ سواء" دون مقابل مادي كما ذكرنا آنفا.


وتجدر الإشارة إلى أن معظم السيارات التي كان يستخدمها "شيبه زيّه" في ممارسة أعماله وخدمة الناس كانت تعمل وفق نظام المرور الإنجليزي، حيث كان مقود هذه السيارات "السكّان" يقع في الجهة اليمنى منها وليس في الجانب الأيسر كما هو معروف في جميع السيارات المستخدمة في العراق وهو ما كان يثير انتباه الناس لأن قيادة هذا النوع من السيارات يحتاج إلى مهارة خاصة تحول دون الوقوع في خطأ قد يؤدي إلى حوادث مرورية كارثية.

المرحوم مصطفى خضير

المرحوم "مصطفى خضير" كان أيضاً من الشخصيات الاجتماعية التي عاشت في محلة الأصمعي الجديد "الومبي" وهو من أوائل الفنيين والمتخصصين الذين كان يرسلهم العراق إلى خارج البلاد لغرض استيراد مختلف أنواع السيّارات من دول عديدة لاسيّما حافلات نقل الركاب من بينها حافلات "مرسيدس" الألمانية و"إيكاروس المجر" الهنغارية و"نصر" المصرية. وكانت لهذا الشخص قدرة عالية في معرفة وتشخيص عطلات السيارات وتصليحها بمجرد وضع أصابعه في أذنيه وسماع صوت محرك السيارة مهما كان موديلها.

ومن صفاته أيضاً أنه كان يبادر أيضاً لقضاء حوائج الناس في أحلك الظروف مع جاره "شيبه زيّه" الذي ورد ذكره قبل قليل.

ففي أحد الأيام ذهبت إحدى المدارس الابتدائية في "الومبي" للتنزه في منطقة الأثل التابعة لقضاء الزبير (جنوب غرب البصرة) وهي منطقة نائية وصحراوية، ولدى انتهاء المدرسة من النزهة ضيّعت مسيرها وتاهت في الصحراء ولم تهتدي لمعرفة طريق العودة، وعندما علمت أمهات الطلّاب بذلك أخذن يلطمن على رؤوسهن لأن منطقة الأثل تتواجد فيها حيوانات مفترسة تخرج من أوكارها في الليل، فأخبروا "مصطفى خضير " و"شيبه زيّه" بهذه المعضلة وكان الجوّ ممطراً وعاصفاً، فأسرعا للبحث بسيارتين قديمتين عن الطلّاب في منتصف الليل إلى أن شاهدا ناراً في مكان بعيد كان المعلمون قد أوقدوها لتدفئة الطلّاب لأن الطقس كان بارداً، وفي نهاية المطاف تمكنا من إعادة جميع الطلّاب إلى منازلهم وذويهم الذين عاشوا ساعات حرجة للغاية جرّاء القلق على مصير أبنائهم.

وفي إحدى ليالي الشتاء الباردة تعرض طفل اسمه "كاظم علي گعيد" إلى حريق شبّ في ملابسه نتيجة جلوسه قرب الصوبة فاخبروا "مصطفى خضير" بالحادث وكان في حينها نائماً لتوّه ليستريح من عمل شاق فهبّ بمجرد سماعه لأصوات الناس وفزعهم وأسرع بأخذ الطفل إلى المستشفى على أمل إنقاذه إلّا أن الطفل فارق الحياة بين يديه لأن النيران كانت قد التهمت جسده الغضّ ووصلت إلى صدره وقلبه.

ومن المواقف الأخرى أن مصطفى خضير تألم كثيراً واغرورقت عيونه بالدموع بشكل واضح حزناً وأسفاً على شاب اسمه "حسام" توفي نتيجة تعرضه للدهس بسيارة سحقت عظامه بعد أن طالب بكشف قتلة الشقيق الأصغر للشاعر "أحمد مطر" المرحوم "زكي" الذي تم دهسه كذلك بسيارة حكومية أدت إلى وفاته أيضاً، ولمّا أرادت عائلة المرحوم "حسام" مغادرة المنطقة لعدم تمكنها من تحمل فراق ولدها نهاهم أقرباؤهم ونصحوهم بالبقاء حفاظاً على العشرة الطيّبة التي امتدت لعقود من الزمن مع مصطفى وأسرته، فاستجابوا لهذا الطلب اعتزازاً بهذا الجار وعائلته.

من الأمور التي لابدّ من الإشارة إليها أن "مصطفى خضير" عمل في السنوات الأخيرة من حياته في عدد من الشركات التي كانت تأتي من الخارج لتنفيذ مشاريع خدمية عملاقة في البصرة في أواخر سبعينات القرن الماضي، وعندما توفي هذا الشخص نتيجة سكتة دماغية مفاجئة ألمت به وهو في عمر التاسعة والأربعين أقيمت الفاتحة على روحه في بيت أخيه الكائن في محلة "الأبلة" التابعة لمنطقة المعقل في البصرة، وقد حضر الفاتحة جمع كبير من المتخصصين والعمّال الأجانب، وعندما سألهم الناس عن سبب حضورهم وهم أجانب أجابوا بأنهم فقدوا بموت مصطفى شخصاً لا يمكن تعويضه بسهولة لأنه كان بارعاً في اختصاصه "ميكانيك السيارات" ولديه شهادات تقديرية من شركة "مرسيدس" حصل عليها عندما كان في ألمانيا الغربية عام 1959 وقد أهّلته لممارسة عمله في أرقى الشركات المتخصصة بعلوم الميكانيك حتى آخر يوم من حياته.

ومن الشخصيات الاجتماعية الأخرى التي تركت بصمات واضحة في تاريخ الومبي يمكن الإشارة إلى عدد من النساء بينهن:

أم عبد الزهرة

هذه المرأة الطاعنة في السن كان لديها أربعة شباب هم (عبد الزهرة وحمزة وطالب وحسين) وكانوا كلّهم رياضيون، خصوصاً طالب الذي لعب دوراً مهماً في حراسة مرمى نادي الميناء ومنتخب البصرة لكرة القدم لفترة من الزمن.

ومن صفات هذه المرأة أنها كانت تهتم كثيراً بتشجيع الفرق الرياضية إلى درجة أن الناس كانت تهيء لها مكاناً خاصاً لتراقب المباريات وتبدي رأيها وكأنها صاحبة اختصاص في مجال التعليق على المباريات. وكانت (أم عبد الزهرة) تظهر حماساً لافتاً عند تسجيل هدف من قبل منتخب الأصمعي الجديد "الومبي" الذي كان يضم نخبة من اللاعبين الدوليين والبصريين بينهم عبد الرزاق أحمد وأخواه (هادي وهاشم أحمد) ومجبل چويد وعيسى عبود وفيصل شيحان وعباس غضبان وقاسم شعبان وعلي لفتة ورعد ناصر وعلي مطر وغيرهم الكثير الكثير ممن زخرت بهم ساحات الومبي.

وهنا لابدّ من الاشارة إلى أن محلة الاصمعي الجديد (الومبي) أنجبت شخصيات رياضية أخرى مثّلت البصرة في الكثير من الألعاب بينهم كريم ناصر و عبد الزهرة نايف وحسن مولى في كرة القدم. كما برز اللاعب حكمت عبد الإمام الذي مثّل العراق لسنوات طويلة في سباق الركض (الجري السريع) إلى جانب سامي الشيخلي وهيثم نديم وفاهم عبد السادة، بالإضافة إلى العدّاء موحان جبر الحاصل على بطولات كثيرة على مستوى العالم العربي في سباق الضاحية "الماراثون". كما كان بطل العراق في سباق رمي الرمح "هاني عبد وليد" من منطقة مجاورة وملاصقة للومبي ويحسب منها، بالإضافة إلى المرحوم (عبد الجبار الكناني) بطل العراق في السباحة. وكان المرحوم المقدم "شياع الميّاحي" وهو من أبطال البصرة والعراق في العديد من الألعاب لاسيّما الساحة والميدان من محلة الومبي أيضاً.

المرحومة "كماله"

هذه المرأة المسيحية التي كان اسمها الحقيقي "كمال" لكن زوجها "نوري" الذي كانت تلقبه وتدلعه باسم "أنور" هو الذي أطلق عليها اسم "كماله" للدلع أيضاً.

عاشت هذه المرأة حوالي ثمانين عاماً في أوساط المسلمين وكأنها واحدة منهم في كل شيء. جاءت كماله وزوجها أنور من لبنان واستقرا في الومبي منذ تأسيسه في خمسينات القرن الماضي إلى أن توفيا في هذه المحلة دون أن يفارقاها طيلة حياتهما المديدة.

كانت كماله تتقن اللغة الانجليزية وتتحدث بها بطلاقة مع طلبة الجامعات وأصحاب الاختصاص، وكانت تحفظ عن ظهر قلب الكثير من القصص الانجليزية التي تدرس في المدارس المتوسطة والثانوية كقصة "سهام والأقزام السبعة" وغيرها.

ولأنها لم ترزق بطفل تعتني به انشغلت هذه المرأة المسيحية بتربية مختلف أنواع الحيوانات الأليفة كالقطط والكلاب والدواجن، وكان لديها قطّتان يعرفهما أهالي المنطقة اسم إحداهن "لولوة" والأخرى "مرجان". وكانت هاتان القطّتان تتميزان بالذكاء والجمال والانسجام والألفة مع الناس.

وكان أنور زوج "كماله" الوحيد في المنطقة الذي لديه "كسّارة البندق" لأنه كان يحب أكل البندق بشكل غير مألوف لدى عامّة الناس في ستينات وسبعينات القرن الماضي.

ومن الطريف أن نشير هنا إلى أن الشاعر المعروف "أحمد مطر" كان يسكن في بيت يقابل بيت "أنور وكماله"، وكان هذا الشاعر يطلق بين الحين والآخر أهزوجات* قصيرة يذكر فيها "أنور وكماله" لتلطيف الأجواء وعندما كنّا صغاراً كناّ نردد هذه الأهزوجات بين الحين والآخر ومن بينها "يه أنور وين ولّيت كماله حرگت البيت" و"يه أنور شني هالغطّة كماله كلت البطة" و"يه أنور وين نايم كماله تريد دايم".

وعُرفت كماله كذلك بطريقتها الخاصة بشوي السمك في تنّور الطين بعد حشوه بمواد غذائية لذيذة تشم منها رائحة البهارات من مكان بعيد.

 *الأهزوجة نوع من الأناشيد الشعبية التي لا يصاحبها أي نوع من الآلات الموسيقية، فهي تعتمد في إلقائها على المد الطويل للكلمات مع إصدار الصوت الواضح الدال على هذا المد.

بقلم / اسماعيل مصطفى

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

718 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع