المحرقة التى أهلكت العراق.. لئلا ننسى!

                                                

                            رمـيـز نظـمي

المحرقة التى أهلكت العراق.. لئلا ننسى!

«تمت إبادة ما يقرب من 3.3 مليون عراقي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة في الفترة من آب/ أغسطس 1990 حتى نهاية 2011»

البروفيسور/ فرانسيس بويل Francis Boyle، جامعة إلينوي، الولايات المتحدة الأمريكية"

 

بلاد الرافدين هو اسم العراق التاريخى، أى بلاد دجلة والفرات؛ إلا أنه فى العقود الأخيرة شق نهر ثالث طريقه فى أرض العراق الطاهرة، نهر من الدماء والشقاء.

ثمانينيات القرن العشرين:
هيمنت الحرب الإيرانية - العراقية على ثمانينيات القرن الماضى، اندلعت الحرب فى آب/ أغسطس – أيلول/ سبتمبر فى عام 1980 واستمرت لثمان سنوات طوال. كانت من أكثر الحروب الدموية فى تاريخ العالم، حرباً عبثية خلفت وراءها مئات الآلاف من القتلى والجرحى من كلا البلدين الجارين، ناهيك عن مليارات الدولارات من الخسائر المادية.

كانت الحرب بمثابة حمام دم خططت الإدراة الأمريكية وحلفاؤها لاستمرارها لأطول فترة ممكنة، ومن أجل إطالتها تآمروا على عدم حسم الحرب لصالح أى من طرفيها، ووفقاً لما تم الكشف عنه من خلال فضيحة "إيران جيت/ إيران كونترا"، فقد قام الكيان الصهيونى ببيع أسلحة أمريكية بمليارات الدولارات إلى إيران بما فى ذلك صواريخ هوك وتاو، وقطع غيار الطائرات الفانتوم، وبدورها قامت واشنطن بتسريب معلومات استخبارية فى غاية الأهمية إلى العراق حسب ما ذكره المحقق الصحفى سيمور هيرش Seymour Hersh فى صحيفة النيويورك تايمز بتاريخ 26 كانون الثانى/ يناير 1992.

أكد هنرى كيسنجر (Henry Kissinger)، وزير الخارجية الأمريكى السابق ومستشار الأمن القومى، فى أكتوبر 1980: "أن استمرار الحرب بين إيران والعراق يصب فى المصالح الأمريكية"، ومن جانبها فإن إسرائيل أرادت استمرار الحرب لمائة سنة فلذا أصيبت بإحباط عندما انتهت بعد سنوات ثمان فقط. وقد قامت المقاتلات الإسرائيلية خلال الحرب بمهاجمة العراق فى 7 حزيران/ يونيو 1981 ودمرت مجمّعه النووى فى التويثة بالقرب من العاصمة بغداد.

وفى عام 1988 استطاعت القوات المسلحة العراقية، وبشكل حاسم، من تعزيز قدراتها القتالية؛ فأرغمت إيران على قبول وقف إطلاق النار الذى كانت تدعو إليه القيادة العراقية، أما بالنسبة إلى النظام فى إيران فإنّ قبوله بإيقاف القتال كان "أكثر مرارة من تجرع السم"، ولكن لم يكن لديه أى خيار آخر، فربما كان البديل هو تعرض إيران لخسائر أكبر، وتوقفت فعلاً العمليات العسكرية فى 20 آب/ أغسطس 1988.

حرب الكويت 1991:
بعد عاميين فقط من نهاية الحرب مع إيران، تهور- وبشكل خطير- الرئيس العراقى صدام حسين وقرر احتلال الكويت، كانت لديه مآخذ وتهم، بنظرة مصيرية، ضد النظام الكويتى، إضافة إلى ذلك اعتبر صدام، أسوة بقادة عراقيين سابقين، أن الكويت تاريخياً كانت جزءاً من ولاية البصرة العراقية أثناء الإمبراطورية العثمانية لحين اقتطاعها من قبل الاحتلال البريطانى، كان احتلال الكويت قراراً مميتاً استطاعت الإدارة الأمريكية خداع صدام لاتخاذه.

قامت السفيرة الأمريكية في العراق، آبريل جلاسبي (April Glaspie)، بإبلاغ الرئيس العراقي في 25 تموز/ يوليو 1990، أي قبل ثمانية أيام من الغزو وعندما كانت قواته تقوم بالانتشار على الحدود العراقية/ الكويتية، "إننا ليس لدينا رأي بخصوص نزاعاتكم العربية الداخلية، على غرار النزاع القائم بينكم وبين الكويت، وقد وجهني وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر (James Baker) للتأكيد على ما تمت الإشارة إليه سابقاً للعراق في الستينيات بأن مسألة الكويت ليس لها علاقة بالولايات المتحدة الأمريكية."

علاوة على ذلك فإن ما أفادت به جلاسبي لم تكن الإشارة الوحيدة، ففي 24 تموز/ يوليو 1990، قامت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأمريكية، مارجريت توتويلر (Margret Tutwiler) بإصدار تصريح أشارت فيه: "لا يوجد لدينا أي معاهدات دفاع مع الكويت ولا توجد أي التزامات دفاعية أو أمنية بخصوص الكويت". وقد أكد هذه الرسالة أيضاً مساعد وزير الخارجية الأمريكي، جون إتش كيلي (John H. Kelly)، في جلسة لمجلس الشيوخ الأمريكي قبل الغزو بيومين فقط.

من المؤكد لو هددت الولايات المتحدة الأمريكية صدام من اتخاذ هذه الخطوة، لما تجرأ على احتلال الكويت. وعوضاً عن تحذيره، بدأ أن الإدارة الأمريكية أوعزت إليه بأنها لا تعارض نيته في غزو الكويت. لقد كان احتلال الكويت مكيدة لم تنجح الإدارة الأمريكية من إيقاع صدام فيها فحسب، بل أبقته عالقاً بها.

ووفقاً للكتاب الأبيض الرسمي بعنوان "الأردن وأزمة الخليج" الذى أصدره الملك حسين ملك الأردن في 1 آب/ أغسطس 1991، فإن الإدارة الأمريكية وحلفاءها في المنطقة رفضوا أي محاولة لانسحاب عراقي يحفظ ماء وجه العراق، ويشير الكتاب إلى أنه لو كان قد تمت تلبية بعض الشروط سهلة المنال، لكان صدام قد انسحب من الكويت بسلام. وكما أشار أستاذ العلوم السياسية الأمريكي، مايكل بارينتي، في كتابه، "ضد الإمبراطورية"، بأن الإدارة الأمريكية كانت تسعى إلى القتال. وقد نُقل على لسان المتحدثين باسم البيت الأبيض وصفهم لأي انسحاب عراقي من الكويت بأنه بمثابة " الكابوس أو السيناريو الأسوأ". حيث أنه كان سيقّوض مخططاتهم الموضوعة بإحكام للهجوم على العراق.

وبالنسبة إلى الرئيس صدام حسين، فمع توجهاته الاستبدادية وعدم مرونته، افتقر أيضاً الفطنة التكتيكية اللازمة لإحباط الخطر المحدق؛ فقد استغلت واشنطن وحلفاؤها احتلاله للكويت، من أجل شن حرب شرسة غايتها تدمير البنية التحتية العراقية، وقواته العسكرية، وكذلك الخبرة التي اكتسبها خلال الحرب مع إيران. فقد اعتبروا العراق المتطور تهديداً لمصالحهم الكبرى في المنطقة وعنصراً مقاوماً ورادعاً لإسرائيل لممارسة سياساتها العدائية. ألم يشر كيسنجر صراحة قائلاً "إن النفط أكثر أهمية كسلعة من أن يتم تركه في أيدي العرب". إن كل ما أرادوه هو الحرب، وها هم قد حصلوا عليها.

قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بنشر ما يقارب من مليون من قواتها العسكرية في حفر الباطن والصحراء السعودية، والتي باشرت هجومها الشرس على العراق في 16 كانون الثانى/ يناير 1991 من خلال حملة جوية عارمة، إضافة إلى قصفها للمواقع العسكرية العراقية استهدفت ودمرت بنية العراق التحتية من مصافي النفط ومحطات الكهرباء ومراكز تصفية المياه والصرف الصحى ومحطات الاتصالات ومصانع الأدوية والبتروكيميائيات والجسور ومراكز التعليم وإلخ.

وكما أشار البروفيسور ويليام بولك (William Bolk)، جامعة شيكاجو، في كتابه "فهم العراق" إلى أن "العراقيين لم يكن لديهم ما يضاهي الأسطول الجوي الأمريكى الضخم الذي قام ضد العراق بأكثر من 106,000 طلعة جوية وأسقط 88,000 طن من القنابل (ما يعادل 7 قنابل نووية من نوع هيروشيما). علاوة على ذلك تم إطلاق ما يقرب من 300 صاروخ مسير من طراز توماهوك، كل منها يحمل نصف طن من المواد شديدة الانفجار، وقد أدى هذا الهجوم الجوي العاتى إلى سحق العراق قبل مشاركة أي قوات برية." علاوة على ذلك قامت القوات الأمريكية أيضاً بإطلاق ما يزيد عن 860,000 قذيفة من اليورانيوم المخصب التى ستستمر اشعاعاتها في تلويث البيئة العراقية إلى الأبد.

وقد تجسدت هذه الهجمات الوحشية في إحدى أكثر الغارات الهمجية التي تم ارتكابها فى التاريخ العسكرى، وهي مجزرة "طريق الموت". ففي ليلة السادس/ السابع والعشرين من شباط/ فبراير 1991، بعد إعلان وقف إطلاق النار، غادرت الكويت، متوجهة إلى البصرة، قافلة من مركبات عسكرية ومدنية تحمل عشرات الآلاف من الجنود والمدنيين العراقيين إلى جانب عمال من مصر وفلسطين والسودان والأردن ودول أخرى على الطريق السريع رقم 80، وعلى الرغم من إعلان وقف إطلاق النار، قامت المقاتلات الأمريكية بقصف مقدمة ومؤخرة القافلة التي كان يبلغ طولها عدة أميال لشل حركتها، ومن ثم بدأت الطائرات والمروحيات العسكرية والمدفعية في قصف المركبات العالقة على مدار 10 ساعات تدميراً وقتلاً وحرقاً لمن فيها.

وقد وصف أحد الطيارين الأمريكيين المشهد "كان الأمر أشبه بإطلاق الرصاص على سمك فى برميل"، فى حين تفاخر طيار آخر "عرض لم يكن له مثيل، لقد كان أكبر من أى مهرجان ليوم الاستقلال الأمريكى، (4 تموز \ يوليو)، رأيناه فى حياتنا، وقد كنا نشاهد الدبابات تنفجر وتتطاير منها الأشلاء والقذائف تسقط والأهداف تتحوّل إلى رماد أبيض"، ووصف أحد الجنود، بول سوليفان (Paul Sullivan)، المذبحة "كانت هناك أميال وأميال من الشاحنات والدبابات المتفحمة والمبانى المتهدمة وأشلاء لأذرع ولأرجل فى كل مكان واتجاه."

هل يوجد تصرف أكثر جبناً وعاراً من مهاجمة أهداف مكشوفة ليس لها القدرة للدفاع عن نفسها؟ إذا لم تكن تلك جريمة حرب، إذن فما هي؟ ووفقاً لنيوزويك "إصدار خاص بالنصر" المؤرخ فى 11 آذار/ مارس 1991، فإن الجنرال نورمان شوارسكوف (Norman Schwarzkopf)، القائد العسكرى لدولة "أرض الأحرار وموطن الشجعان" (الولايات المتحدة الأمريكية)، كان قلقا فقط بشأن "إلى متى سيقف العالم وهو يشاهد الولايات المتحدة الأمريكية تنشر الجحيم في العراق قبل أن يقول توقفوا، إن هذا يكفي".

وقد أكد البروفيسور/ جون مولر (John Mueller)، جامعة ولاية أوهايو، الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك قائلاً: "لم يكن الكثير من القصف على العراق والقوات العراقية ذا ضرورة أو مطلوباً على الصعيد العسكري. فقد شمل ذلك قصف تعسفى للمنشآت الكهربائية العراقية، والمرافق الأخرى؛ وهو الأمر الذي أسهم بدوره وبشكل هام في موت الكثير من المدنيين بعد الحرب". لماذا يتطلب تحرير الكويت تدمير البنى التحتية للعراق، ولمصانع ومنشآت مدنية مئات الأميال شمال الكويت؟ يبدو أن الإجابة الوحيدة المنطقية هي أنه قد تم استغلال شعار تحرير الكويت كذريعة لسحق أي قدرات وطاقات عراقية. وعلى النقيض من ذلك فإنه خلال الحرب الإيرانية العراقية عامةً لم يقم أي طرف بمهاجمة منشآت مدنية للطرف الآخر، فقد كانت المعارك تدور غالباً في المناطق الحدودية.

قام مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، مارتي اتيساري (Marti Ahtisaari) بزيارة العراق بعد نهاية الحرب في بعثة لتقصي الحقائق، وفي مذكرة رسمية مرقمة S/22366 ومؤرخة 20 مارس 1991 ذكر"لم نرَ أو نقرأ أي شيء نجح في تهيئنا بالشكل الكافي لهذا الحجم من الدمار الذي حل بهذا البلد (العراق). فقد سبب النزاع الأخير نتائج مروعة على البنية التحتية الاقتصادية لمجتمع - حتى كانون الثانى/ يناير 1991- كان متحضراً ومتطوراً، أما الآن فإن أغلب وسائل دعم الحياة الحديثة قد دُمرت أو أضحت أطلالاً. لقد تحول العراق الآن وفى المستقبل المنظور إلى العصر البدائى مع كل المعوقات المترتبة على اعتماده السابق على متطلبات العصر الحديث من تكنولوجيا والاستعمال المركز للطاقة ".

الحصار 1990 – 2003
وما تلى ذلك كان أكثر سوءاً. فرداً على غزو العراق للكويت، قام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بدفع رئيسى من واشنطن ولندن، باتخاذ العديد من القرارات التي تفرض عقوبات على العراق الغرض المفروض منها تحقيق هدفين رئيسيين وهما: الانسحاب من الكويت والقضاء على أسلحة الدمار الشامل. وقد تمثلت القرارات الرئيسية في القرار رقم 661 بتاريخ 6 آب/ أغسطس 1990 والقرار رقم 687 بتاريخ 3 نيسان/ أبريل 1991.

وقد كانت هذه العقوبات قاسية للغاية بحيث أنها وضعت العراق بشكل فعال تحت الحصار وحرمته من التعامل مع باقي دول العالم. لم يكن لهذه العقوبات مثيل ولم تتشابه معها أي عقوبات مفروضة من قبل الأمم المتحدة على أي دولة أخرى قبل أو بعد فرضها على العراق. كان نطاق هذه العقوبات وتطبيقها الانتقامي غير مسبوق إطلاقاً، بالأحرى لم تكن عقوبات بقدر ما كانت محرقة للشعب العراقى؛ حتى تلك الشروط الشديدة التي فُرضت قسرا على ألمانيا في سنة 1919 بعد الحرب العالمية الأولى، لم تشمل حصاراً تجارياً كالذي فرض على العراق.

وعندما أُخضع العراق لتلك العقوبات، كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العظمى الوحيدة في العالم؛ فقد كان الاتحاد السوفيتي يلفظ أنفاسه الأخيرة، واستغلت الإدارة الأمريكية وضعها الجديد كقوة عظمى منفردة للتسلط على الأعضاء الآخرين في مجلس الامن. ووفقاً لفون سبونيك (von Sponeck)، المساعد السابق للأمين العام للأمم المتحدة، فإن وضع الأمم المتحدة حينئذٍ كان يتمثل في عبارة واحدة "الخوف والتهيب من العقاب الأمريكي".

وبالإضافة إلى الحصار التجاري ومنع السفر جواً من وإلى العراق، فإنه تم تجميد كافة الأرصدة العراقية في الخارج، بصرف النظر عما إذا كانت مملوكة من قبل مواطنين أو من قبل الدولة. وعلى الرغم من أن العقوبات الدولية عادة تحدد أشخاصاً معينين لتُطبق عليهم، غير أنه في حالة العراق شملت العقوبات كافة العراقيين البالغ عددهم 20 مليون مواطن.

ومن خلال منع صادرات النفط والمنتجات الأخرى، حُرم العراق من الحصول على أي عملة أجنبية. وهو الأمر الذي أدى بدوره إلى تراجع شديد في قيمة العملة العراقية، الدينار العراقي. وقبل العقوبات كان مبلغ 2,500 دينار عراقي يساوي، حسب أسعار الصرف الرسمية، حوالى 7,500 دولار أمريكي، أما وبعد العقوبات فقد تراجعت قيمتها السوقية إلى 1 دولار أمريكي (نعم، دولار واحد). وهبط الدخل الحقيقي للفرد بنسبة تزيد عن 90% وإنخفضت رواتب موظفى القطاع العام إلى مايعادل أربعة دولارات شهرياً، وارتفعت البطالة بشكل مروع.

ونتج عن ذلك تضخم هائل لأسعار المواد الغذائية الأساسية مثل الحليب والخبز والأرز وزيت الطهي، حيث زادت أثمان هذه السلع بمعدل 2,600 %. وعلى نحو مماثل ارتفعت أسعار الأدوية إلى معدلات خيالية، فقد تم تدمير مجمع الصناعات الدوائية العراقي في سامراء من قبل قاذفات القنابل الأمريكية. كان الحظر على الواردات شاملاً حتى إنه ضم الأقلام الرصاص وأكفان الدفن ولقاح الأطفال، تحت ذريعة إمكانية استخدامهم لأغراض عسكرية! كذلك اختفت الواردات تقريباً، لتتراجع من 10 مليار دولار في 1989 إلى 0.20 مليار دولار في 1993، وحدث الأمر ذاته مع الصادرات، لتنخفض من 12.3 مليار دولار في 1989 إلى 0.07 مليار دولار في 1993.

ومن أجل تلبية احتياجاتهم الأساسية، اضطرت العديد من الأسر العراقية لبيع ممتلكاتها ولوازمها المنزلية. تدريجياً اصبحت الحياة لا تطاق فى ظروف معيشية، تشحُ فيها المواد الغذائية، وتندر الأدوية الأساسية، وتتلاشى الطاقة الكهربائية، وتفقدُ المياه النظيفة، وتُطفح المجارى، وتتفاقم الديون وتختفى ابتسامة الأطفال، ويتفشى الإحباط وتندثر الأواصر الاجتماعية الحميمة. حياة يموت فيها الضعاف ويتألم منها الأشداء. حوّل الحصار، والحرب المدمرة التى سبقته، حياة شعب قوامه 20 مليون نسمة، فى ليلة وضحاها وبدون أى ذنب اقترفه، من العيش الكريم إلى البقاء الذميم، وابقتهم كذلك طوال 13 سنة.

وأيدت هذا الوصف البروفيسور جوي جوردون (Joy Gordan)، جامعة فايرفيلد الأمريكية، (مؤلفة كتاب الحرب الخفية)، حيث كتبت: "تأتي في أعقاب القصف العنيف والهائل خلال حرب الخليج الأولى عام 1991، العقوبات التي كان لها أثر كارثي على الصعيد الإنساني، وهى ما منعت العراق من إعادة البناء أو حتى الحفاظ على بنيته التحتية، فقد أُصيبت وسائل توليد الكهرباء والزراعة ومعالجة المياه والاتصالات والمواصلات والرعاية الصحية والتعليم جميعها بالشلل". وأشار خبير آخر، البروفيسور فرانسيس بويل (Francis Boyle)، جامعة إلينوي، الولايات المتحدة الأمريكية، في تقييمه للعدد الإجمالي للعراقيين الذين لقوا حتفهم جراء الحصار، "لقد لقي ما يقرب 1.7 مليون عراقي تقريباً حتفهم كنتيجة مباشرة لهذه العقوبات الاقتصادية الهادفة إلى الإبادة الجماعية، من بينهم ما يقرب من 750,000 طفل عراقي".

وفي 12 مايس/ مايو 1996، تم إجراء مقابلة مع مادلين آلبرايت (Madeline Albright) من قبل محطة سي بي إس الإخبارية خلال عملها كسفيرة للولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة، وقد سألها المحاور "لقد لقي نصف مليون طفل (عراقي) حتفهم، وهو عدد أكبر من الأطفال الذين لقوا مصرعهم في هيروشيما. هل الأمر يستحق كل ذلك؟ فردت قائلة: "إننا نعتقد أن الأمر يستحق ذلك". لقد جاء رد آلبرايت مروعاً ولكن صريحاً، لقد كان ذلك بمثابة دليل، إن كانت هناك أي حاجة لدليل، على أن سياسة الإبادة الجماعية التي اتبعتها الإدارة الأمريكية نحو العراق كانت متعمدة ومقصودة. وحسبما أكد عليه السفير الماليزي في الأمم المتحدة لمجلس الأمن: "إن نفس السياسة التي يُفترض غايتها إخلاء العراق من أسلحة الدمار الشامل أصبحت في حد ذاتها بمثابة سلاح دمار شامل".

وقد أدت هذه العقوبات غير الإنسانية وتطبيقها الوحشي إلى استقالة غير مسبوقة لثلاثة مسؤولين رفيعي المستوى في الأمم المتحدة، كان المسؤول الأول هو دينيس هاليدي (Denis Halliday)، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة الذي استقال من منصبه كمنسق إنساني للأمم المتحدة في العراق، والذى وصف العقوبات بأنها: "إجرامية وأدت إلى الإبادة الجماعية". بينما كان ثاني من تقدموا باستقالتهم هو من خلفه في المنصب، هانس- كريستوف فون سبونيك (Hans-Christof von Sponeck)، الذي أشار إلى العقوبات بأنها "خبيثة". وكانت جوتا بورجهاردت (Jutta Burghardt) مديرة برنامج الغذاء العالمى فى العراق ثالث مسؤول يتقدم باستقالته احتجاجاً على هذه العقوبات. لقد تمتع هؤلاء الثلاثة بالشرف الكافي للاعتراض على العقوبات على خلاف آخرين ممن يسمون بالدبلوماسيين الذي تواطؤا في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية للشعب العراقي من أمثال البريطانيين ديفيد هاني وجيريمي جرين ستوك والأمريكيين مادلين ألبرايت وجون نيجروبونت.

وعند استقالتها، عبرت جوتا بورجهاردت عن تشاؤمها من إمكانية رفع العقوبات؛ فقد ذكرت أن الحصار "يصب فى مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بشكل لا يصدق؛ فمع فرض العقوبات، أصبحت منطقة النفط العربية تحت سيطرتهم مع إمكانية بيع كميات ضخمة من الأسلحة إلى الدول المجاورة، وإضعاف القوة العراقية الإقليمية، وتحويلها إلى مجتمع ضعيف ومفكك."

ومن جانبه وثق دينيس هاليداي أسباب استقالته قائلاً: "لقد كانت استقالتي ضرورية وذلك لرفضي قبول أوامر مجلس الأمن بالاستمرار في فرض عقوبات الإبادة الجماعية على الأبرياء من الشعب العراقي. إن استمراري في منصبي يعد بمثابة تواطؤ فى إجراء هذه الكارثة الإنسانية، وبالإضافة إلى ذلك فإن حسي الفطري بالعدل قد أُصيب بالغضب. وذلك بسبب انتهاك تلك العقوبات لحياة ومعيشة الأطفال والأسر والعديد من أحبائهم في العراق. لا يمكن تبرير قتل الأطفال والمسنين والمرضى والأغنياء والفقراء في أي مكان وتحت أي ظروف وخصوصا من قبل الأمم المتحدة".

بالإضافة إلى ذلك، فقد قام دينيس هاليداي وفون سبونيك بإصدار بيان مشترك ذكرا فيه "إن المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، كأعضاء دائمين في مجلس الأمن، على علم كامل بأن حصار الأمم المتحدة المفروض في الوقت الراهن يمثل انتهاكاً لمواثيق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومعاهدات جنيف ولاهاي والقوانين الدولية الأخرى؛ فقد اتبعت كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، وبشكل متعمد، سياسة العقاب منذ تحقيق النصر في حرب الخليج سنة 1991. فقد عارضت الحكومتين وبشكل دائم السماح لمجس الأمن التابع للأمم المتحدة بأداء واجبه المفروض عليه في تقييم آثار سياسات العقوبات على المدنيين. نحن نعلم وبشكل مباشر بهذا الأمر، لأن هاتين الحكومتين قد حاولتا منعنا من إعلام مجلس الأمن بهذا الشأن. إن وفاة ما يقرب من 5,000 إلى 6,000 طفل شهرياً يرجع بشكل أساسي إلى تلوث المياه ونقص الأدوية وسوء التغذية. إن تباطؤ حكومتي الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة المتعمد في السماح بدخول هذه المواد والمعدات هو المسؤول الأساسي عن هذه المأساة، وليس الحكومة العراقية".

وشهد شاهدُ من أهلها أيضاً حيث تم كذلك إدانة الحكومتين من داخل البعثة الدبلوماسية البريطانية في الأمم المتحدة، وذلك من قبل كرين روس (Carine Ross) الذى شغل منصب رئيس قسم الشرق الأوسط فى البعثة خلال الفترة المهمة من 1997 إلى 2002. وكانت إحدى مهامه الرئيسية الإشراف على تطبيق نظام العقوبات ضد العراق، وفي إفادته إلى البرلمان البريطاني في شهر تموز/ يوليو 2006، أقر: "إن حجم الأدلة يشير بوضوح إلى أن العقوبات قد تسببت في معاناة إنسانية ضخمة للشعب العراقي وبشكل خاص للأطفال، وكذلك بضرر هائل للاقتصاد العراقي والبنية التحتية المدنية ... وبالنسبة إلينا – حكومتي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا فقد كنا القائمين الرئيسين على التخطيط للعقوبات والدفاع عنها – وكنا على علم تام في ذلك الوقت بهذه النتائج - ولكن تم تجاهلنا لها بشكل كبير، أو إلقاء اللوم على حكومة صدام ... لقد دمرت العقوبات الاقتصاد المدني العراقي، وجردت كل الشعب من وسائل المعيشة وأجبرته على الاعتماد على الأمم المتحدة المؤونة التي تقدمها الحكومة".

أثبتت الطريقة القاسية التي اتبعتها كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في فرض وتطبيق الحصار أنهما كانتا غير أمينتين في مزاعمهما بـأن العقوبات لم تهدف إلى الإضرار بالشعب العراق، بل إجبار العراق على الانسحاب من الكويت، والقضاء على أسلحة الدمار الشامل .. فبعد تحرير الكويت وقبول القيادة العراقية كافة قرارات الأمم المتحدة بما في ذلك التخلص من أي أسلحة دمار شامل متبقية والموافقة على المراقبة الخارجية المستمرة، كان من المفروض على الحكومتين، إن كانتا فعلاً حريصتين على مصلحة الشعب العراقى، أن ترفعا الحصار عن التصدير، وعن استيراد المنتجات الإنسانية الأساسية كالغذاء والأدوية، مع إبقاء الحظر على استيراد المعدات العسكرية أو شبه العسكرية.

قام مركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (CESR) والذي مقره في مدينة نيويورك (والمعروف سابقاً باسم فريق دراسات هارفرد)، بإرسال بعثتى تقصي حقائق إلى العراق في سنتى 1991 و1996 لتقييم آثار العقوبات، وفى تقريره الذى أصدره فى مايس/ مايو 1996 بعنوان "معاناة عقوبات الأمم المتحدة: تقييم لحقوق الإنسان في ظل عقوبات الأمم المتحدة المفروضة على العراق". لم يكتف التقرير بإثارة أسئلة من النواحي الأخلاقية والقانونية لتبعات العقوبات التي "تفرض تكاليف رهيبة على الشعب الذي ليس له أي دور في السياسات الخاصة بحكومته أو سياسات المجتمع الدولي" بل أكد أيضاً على وجود "وسائل أقل عنفاً لتقويض النظام العراقي بدون تحميل طبقات المجتمع الأكثر ضعفاً عبءَ هذا الثمن الباهظ".

وكان من الممكن أن تكون آثار الحصار أكثر سوءاً لولاً توفر عاملين أساسيين: العامل الأول كان نظام المؤونة الذي أداره كل من القطاع العام والقطاع الخاص في العراق، والذي ساعد على تلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية لشعب من 20 مليون نسمة والحد من آثار المجاعة، لقد كانت الطريقة الكفؤة التي تمت بها إدارته فى ظروف شديدة القسوة، بمثابة دلالة قوية على إبداع الشعب العراقي وعلى قدرته فى مجابهة التحديات. لقد تم تنفيذ هذا النظام بفعالة وعدالة وحرص، بدءاً من الزراعة مروراً بالحصاد والشراء والتوزيع، ووصولاً إلى التسليم. وقد أشاد بهذا النظام فريق مركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بقيادة البروفيسور آذار (Athar) من كلية لندن للعلوم الاقتصادية سنة 1996 حيث وصفوه بأنه "مثال لبرنامج ناجح للأمن الغذائي".

وقد تمثل العامل الثاني في الدور الذي لعبته النساء العراقيات اللواتى كنّ الأكثر تضرراً من هذه العقوبات، فقد أعالت المرأة العراقية نسبة كبيرة من الأسر؛ لأن نسبة كبيرة منهنّ فقدتَ أزواجهن سواء خلال الحرب، أو عن طريق الطلاق. وقسم منهن تُركن من قبل أزواجهن الذين لم يستطيعوا مجابهة وصمة العار الاجتماعية المتمثلة في إخفاقهم في الاستمرار في إعالة عوائلهم نظراً للظروف الاقتصادية القاسية الناتجة عن الحصار. ومع شبه إنهيار النظام المدرسى والرعاية الصحية، تولت المرأة العراقية بالإضافة إلى دورها كأم مسؤوليات أخرى تمثلت في كسب الدخل، وتعليم الأبناء، وتقديم الرعاية الصحية، وهي مهام يستحيل تحمُلها في آن واحد في الظروف الطبيعية فكيف فى أحوال مرعبة؟

على الرغم من كل تلك الظروف الفظيعة، حافظت المرأة العراقية على كرامتها وظلت تكدح في صمت وبشكل بطولي. وقد أشار فريق دراسات دولي قام بزيارة العراق من أجل تقييم آثار العقوبات المفروضة في تقريره إلى "أن المرأة العراقية قد واجهت هذه الأزمة الكبرى ليس فقط كضحية ولكن كعنصر أساسي تولى إعالة أسرته والمجتمع الذي يعيش فيه. حيث أن أساس المجتمع العراقي هو المنزل؛ فقد تم الحفاظ عليه من خلال إبداعها وقوتها على الرغم من عوزها الاقتصادي وحرمانها العاطفي والاجتماعي والنفسي" هل هناك تقدير أسمى من ذلك؟.

إنّ العوز الناتج عن تلك العقوبات القاسية قد أدى حتمياً إلى تصدعات في النسيج المعنوي والأخلاقى للمجتمع. فقد كان من الممكن للوالد ذى الطفل المريض الذي في حاجة إلى دواء لينقذ حياته تبلغ قيمته ضعف راتبه الشهري، أن يضطر إلى التخلي عن مبادئه وقبول الرشاوى. وهكذا فقد زرعت العقوبات بذور الفساد في العراق. وقد ذكرت البروفيسور جوردون "لقد تم تحويل مجتمع معروف بعلمائه ومهندسيه وأطبائه من خلال الحصار إلى مجتمع يهيمن عليه الشحاذون والمجرمون وتجار السوق السوداء".

لقد كان من الواضح إن الإدارتين الأمريكية والبريطانية ترغبان في استمرار العقوبات بصرف النظر عن مدى تقيد العراق وامتثاله لقرارات الأمم المتحدة. فقد أعلن روبرت جيتس (Robert Gates)، وهو أحد أعضاء الفريق الأمني الخاص بالرئيس بوش الأب والذي أصبح لاحقاً وزيراً للدفاع، بعد فترة وجيزة من نهاية حرب الخليج سنة 1991 أنه "سيتم الإبقاء على كافة العقوبات الممكنة لحين مغادرته (الرئيس صدام حسين)". وفي عام 1997 أكد الرئيس كلينتون (Clinton) على ذلك قائلاً "ستظل العقوبات مفروضة للأبد أو طالما ظل هو (الرئيس صدام حسين) موجوداً". وبما أن تغيير النظام لم يكن جزءاً من قرارات العقوبات العراقية المفروضة من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فلماذا تدعو الإدارة الأمريكية إليه؟ بالتأكيد فإن ذلك لم يكن بسبب السياسات المستبدة لصدام حسين؛ فقد كانت هناك دول وقادة آخرين أسوأ حالاً مما كان عليه صدام، ولكن لم يتم الاعتراض عليهم على الإطلاق، وفي واقع الأمر أن بعضهم كانوا من صنائع الولايات المتحدة الأمريكية. بالنسبة للعراق فإن عبارة "تغيير النظام" كانت تعني عملياً "تهديم الدولة".

ومع ذلك فقد كانت هناك العديد من الأصوات المعارضة في مجلس الشيوخ الأمريكي والبرلمان البريطاني. على سبيل المثال، قال توني بين (Tony Benn)، وهو سياسي بريطاني بارز ويحظى باحترام كبير، في خطاب له في 13 كانون الثانى/ يناير 1998، "أرجو أن يتفهم رئيس الوزراء (توني بلير) أن الاتهام الموجه إلى حكومتي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا هو استخدام العقوبات التى تهدف إلى إبادة جماعية". وعلى غراره، أشار بوبي راش (Bobby Rush)، وهو عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي وناشط في الحقوق المدنية، في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2002، قائلاً: "على الرغم من ادعاء الرئيس الأمريكي (جورج بوش الابن) أن الولايات المتحدة الأمريكية صديقة للشعب العراقي، إلا أنه لا يمكننا إهانة الشعب الأمريكي من خلال تجاهل الحقيقة أن العقوبات التي تم فرضها بوازع من الولايات المتحدة الأمريكية، قد أدت إلى جعل العراق مرتعاً للأوبئة والفقر الشديد، وأن كل ما ستفعله الحرب هو أن تجعل الشعب العراقي يغوص أكثر في المزيد من الموت واليأس".

ومن ثم فقد بدا على نحو جلي أن الغرض الفعلي من العقوبات هو تدمير العراق وتحويله من دولة فاعلة إلى كيان ممزق فى المستقبل المنظور. قبل الحصار، حقق العراق إنجازات مهمة في قطاعات حيوية مثل التعليم والرعاية الصحية والزراعة والصناعة والضمان الإجتماعى والعلوم والبنى التحتية. وقد أشار ماثيو شويتزر Matthew Schweitzer، زميل باحث في مؤسسة مستقلة مقرها واشنطن العاصمة، EPIC، قائلاً: "قبل العقوبات عام 1990، قدم صدام حسين مستويات مذهلة من التمويل لمؤسسات بلاده لإثبات أن للعراق دوراً على المستوى الدولى؛ فقد حصل الطلاب فى مختلف المجالات والتخصصات على منح كاملة للدراسة في الخارج، وكانت المنشآت الطبية والحاسوبية في جامعات العاصمة العليا من بين الأكثر تطوراً في المنطقة إلى جانب حصولها على أحدث المعدات والأجهزة المختبرية والطبية، وتلقى العديد من الأطباء والعلماء والتقنيين الدراسة والتدريب في أوروبا، وأصبحت لديهم الإمكانيات من أجل استخدام درجاتهم العلمية الأجنبية بأفضل شكل ممكن، إضافة إلى أن التعليم الجامعي كان مجانياً."

وقد تلقى العراق في عام 1982 تقديراً من منظمة اليونسكو لنجاحه في مكافحة الأمية. وباختصار فإن العراق "خلال الثمانينيات كانت محل إعجاب العالم النامي من حيث الاستثمارات في مجالات الصحة والتعليم والبنى التحتية الأساسية". إذاً لم يكن الغرض الحقيقى للحرب على العراق هو القضاء على أسلحة الدمار الشامل العراقية، بل القضاء على القدرات والخبرات العلمية العراقية، وكما ذكر البروفيسور جوردون "ومن أجل القضاء على هذه القدرات، بدلاً من الأسلحة نفسها، فإن ذلك سيتطلب حرفياً إعادة الدولة إلى أكثر الأوضاع بدائية وإبقائها في هذه الظروف إلى الأبد".

على خلاف معظم الدول العربية الأخرى، فإن العراق يمتلك كل المتطلبات اللازمة لتحقيق التطور والتقدم، حيث إن له ثروة ضخمة من الاحتياطيات النفطية وأراضي خصبة وموارد مائية ومعدنية وفوق كل ذلك فإنه يمتلك القوة البشرية المؤهلة، ويبدو أن رؤية العراق كدولة مزدهرة وقوية من قبل الإدارة الأمريكية وحلفائها وإسرائيل على وجه الخصوص، كان يسبب القلق لهم وخاصة أن بغداد قد عُرفت بتبنيها للطموحات العربية، وعلى الأخص القضية الفلسطينية، تعزز هذا التصور عندما أعلن الرئيس صدام حسين في نيسان/ أبريل 1990، بعد انتصاره المفترض على إيران، بأنه سيرد علي أى هجوم إسرائيلى "بحرق نصف إسرائيل." ويمكن القول أن هذا التصريح هو السبب الأساسى الذى حثهم على شن الحرب على العراق، على الأغلب فإن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها كانوا سيقومون بمحاربة العراق بوسيلة أو أخرى حتى وإن لم يقم بغزو الكويت.

وحسبما أشار البروفيسور رايموند بيكر Raymond Baker، جامعة ترينيتي الأمريكية،" فإن المخططين للحرب كانوا يهدفون قصداً وعن عمد إلى تدمير الدولة العراقية. وقد قاموا بذلك لأن وجود العراق في وضع قوة يمثل عقبة ورادعاً للمخططات الاستعمارية الأمريكية، والإصرار الإسرائيلي على الهيمنة الإقليمية دون أية عوائق."

والخلاصة يمكن القول إن الإدارة الأمريكية وحلفاءها بفرضهم الحصار الجائر على العراق كانوا يقصدون تحقيق أربعة أهداف: أ) تدمير البنية التحتية البشرية والعلمية والمادية للعراق. ب) كسر القيم المعنوية للمجتمع العراقي وغرس بذور الفساد. ج) استنزاف أي قدرات للدولة العراقية لمقاومة غزوهم المرتقب. د) إجبار العراق على التخلي عن التزاماته العروبية خاصة القضية الفلسطينية.

ومع مرور الوقت، بدأ المجتمع الدولي يدرك الطبيعة الدنيئة لسياسات الإدارتين الأمريكية والبريطانية تجاه العراق. علاوة على ذلك، فإنه في أواخر التسعينيات بدأ وضع الولايات المتحدة الأمريكية كالقوة العظمى الوحيدة في العالم بالتخلخل. فقد انبعثت روسيا من رماد الاتحاد السوفيتي، وبدأت فرنسا في اتخاذ مواقف أكثر استقلالية، وأصبحت الصين أكثر حزماً؛ فشكلت هذه التطورات مخاوف جدية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وبدأوا في التساؤل إلى متى سيظل في إمكانهم الاستمرار في فرض الحصار على العراق؟ وإن حققت العقوبات إلى حد كبير الأهداف الثلاثة الأولى إلا أنها أخفقت في تحقيق الغرض الرابع. إذ رفض العراق وبكل إباء التخلي عن التزاماته العروبية والتحررية، ولهذا قرر أعداؤه أن الطريق الوحيد للوصول إلى هدفهم الرابع هو غزو واحتلال العراق.

غزو العراق 2003
بعد حرب الكويت المدمرة وسنوات الحصار العجاف، لم يعد يشكل العراق أى تهديد عسكرى‘ إلا أن ما أربك واشنطن ولندن وتل أبيب أن العراق ظل محتفظاً بتماسكه كالطود، ولم يتنازل عن قضايا أمته المشروعة، وعلى الأخص الشأن الفلسطينى، وبالمقابل وقف الشعب العربى من محيطه إلى خليجه إلى جانبه مؤيداً له، معتزاً بتحديه الشامخ، علماً أن الجنود العرب الذين أجبرتهم أنظمتهم المأجورة سنة 1990 إلى الذهاب إلى حفر الباطن للمشاركة فى "تحرير" الكويت، احتفل الكثير منهم عند سماعهم بأن صواريخ الحسين العراقية تدك الكيان الصهيونى وهتفوا "يا عراق يا حبيب! اضرب اضرب تل أبيب!". وبذلك توصل أعداء الأمة إلى الاستنتاج بأن الأحتلال هو الحل الوحيد لإهلاك العراق، وأنه فقط من خلال غزوه يمكن أيجاد "الحل النهائى" للمشكلة العراقية.

"مدنيون يتضورون جوعاً بينما ينتظرون قتلهم" هذا ما قالته المؤلفة والناشطة السياسية أرونداتى روى (Arundhati Roy) وهو قول يصف بدقة الوضع العراقى قبيل الغزو. الحصار الجائر الذى دام 13 سنة فاتكة، تلاه احتلال مدمر. ففى 19 مارس 2003 شنت حكومتا الولايات المتحدة وبريطانيا غزوهم غير المشروع بذريعة أن العراق كان لايزال يمتلك برنامجاً "نشطاً وتفصيلياً ومتطوراً" لأسلحة الدمار الشامل الذى له "القدرة على إلحاق الضرر الفعلى بالمنطقة وباستقرار العالم"!

وفي الفترة التي سبقت غزو العراق سنة 2003، استهدفت الإدارة الأمريكية الدول الأعضاء في مجلس الأمن بالضغط والتهديد وحتى بالتجسس من أجل الحصول على العدد المطلوب من الأصوات المؤيدة لغزوها المرتقب، وبرغم كل وسائل الابتزاز، قدمت ثلاث دول فقط وهي بلغاريا وإسبانيا والمملكة المتحدة دعمها الكامل إلى الولايات المتحدة الأمريكية. في حين لم تقم بذلك الدول الإحدى عشرة المتبقية: الصين، فرنسا، روسيا، أنجولا، الكاميرون، تشيلي، ألمانيا، غينيا، المكسيك، باكستان وسوريا. فهذه الدول، على الرغم من أن بعضها كان في موقف ضعف أمام الولايات المتحدة الأمريكية، رفضت تقبل الحملة المضللة التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد العراق؛ ولهذا فإن ادعاء حكومتى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بأنهم كانوا يدافعون عن المجتمع الدولي في حربهم على العراق هو إدعاء كاذب ومغاير للحقيقة.

في محاولة لتبرير غزوهم، لجأت واشنطن ولندن إلى استخدام أساليب مخادعة واختراع معلومات مزيفة. فإن ما تقدم به توني بلير، رئيس وزراء "المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية"، من أدلة ضد العراق باعتبارها براهين سرية وغير قابلة للجدل تبين أنه لا يمكن وصفها إلا بالكاذبة حتى أنه أصبح يُشار إليها باسم "ملف التضليل". جزء من هذا الملف الذي أعلن بلير أنه قد تم إعداده من قبل لجنة كبرى "ترأسها مجلس الوزراء وتألفت من رؤساء ثلاثة وكالات استخباراتية وأمنية، ورئيس أركان الاستخبارات العسكرية وكبار المسؤولين من أبرز الجهات الحكومية"، كان مسروقاً بما في ذلك الأخطاء الإملائية من أطروحة ماجستير لأحد الطلبة!. فهل هناك فعل أكثر حقارة وإثارة للشفقة من ذلك؟ وأظهر هذا العمل اللاأخلاقي المستوى المنحط الذى كانت حكومتا الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على استعداد للهبوط إليه من أجل الوصول إلى هدفيهما الشرير، حيث أنهما لم تترددا في استخدام سياسة النازى جوزيف جوبلز وهى "إذا قلت كذبة كبيرة بما يكفي وظللت تكررها، فإن الناس في النهاية سيصدقونها."

وبصرف النظر عن أن حرب الكويت سنة 1991 قد سحقت الجيش العراقي وألحقت أضرار مروعة على البنى التحتية للعراق إضافةً إلى الحصار المدمر الذى دام 13 سنة والذي صاحبه جولات من التفتيش الدقيق عن أسلحة الدمار الشامل، ومناطق حظر الطيران والعديد من عمليات القصف، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها استمروا في الترويج إلى أن العراق يمثل تهديداً على المجتمع الدولي. وإنحدر توني بلير إلى حد سافل من التدليس بإدعائه الصفيق أن العراق له القدرة على مهاجمة لندن خلال 45 دقيقة بأسلحة الدمار الشامل!

حتى والت ديزني ليس باستطاعته اختلاق مثل هذه القصة الخيالية. قصة عن دولة تكافح من أجل البقاء، دولة خاضعة لحصار مميت على مدار 13 سنة، دولة لديها قوات مسلحة متهالكة وشعب يموت جوعاً، ولكنها وللعجب لا تزال تشكل خطراً على اثنتين من أغنى دول العالم وأكثرهما قوة!

وفي أعقاب الغزو تحول العراق إلى دولة فاشلة؛ فقد أصبحت البلاد مرتعاً للإرهاب والفساد والطائفية والحرب الأهلية والمخدرات والعنف والبطالة والأمية والتعذيب والقمع والتمييز والنزوح السكانى والبؤس. قبل الاحتلال كان هنالك فساد إدارى على نطاق محدود، وذلك بشكل رئيسى لتلبية ضرورات فرضها الحصار الجائر. في حين أن فساد ما بعد الاحتلال حصل من أجل إرضاء جشع يشبع؛ فقد تم اختلاس مليارات الدولارات، وعلى كافة المستويات: الحكومة والبرلمان والقضاء والشرطة والجيش الجديد والمصارف إلخ.

حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية الصادر في نيسان/ أبريل 2013 أنه وفقاً لدراسة تقوم على بيانات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتي تم إجراؤها من قبل منظمة النزاهة المالية الدولية، عانى العراق من "كم ضخم من الاحتيال والفساد والتهرب الضريبى وغسيل أموال" وأن عملية مراجعة تم إجرائها من قبل المجلس الأعلى للمراقبة المالية أشارت في تقديراتها إلى "أنه ما يقرب من 40 مليار دولار أمريكي تُهرب من البلاد سنوياً – من خلال عمليات غسيل الأموال باستخدام أنشطة البنك المركزي وبسبب الفساد". بعد الغزو، نقلت الإدارة الأمريكية جواً مليارات الدولارات "في قوالب من فئات 100 دولار أمريكي" والتي جاءت من الأصول العراقية المصادرة. ومن جملة هذه الأموال النقدية، اختفى بشكل غامض مبلغ يقدر ب 6.60 مليار دولار أمريكي. وحسب صحيفة لوس أنجلوس تايمز في عددها الصادر بتاريخ 13 حزيران/ يونيو 2011 ذكر المراقب العام الأمريكي لإعادة إعمار العراق بأن مبلغ 6.60 مليار دولار المفقود "قد تكون السرقة المالية الأكبر في التاريخ".

وأشار تقرير منظمة الشفافية الدولية أيضاً إلى أن الفساد "قد أدى إلى تعيين أعداد ضخمة من الموظفين غير المؤهلين فى القطاع العام، بناء على روابط طائفية أو سياسية أو قبلية أو علاقات عائلية، مما أدى إلى تكاثر الأداء عديم الكفاءة منذ 2003. وحسب فضيحة تم الكشف عنها مؤخراً قامت وزارة الداخلية العراقية بتعيين 9,000 موظفاً بمؤهلات جامعية مزيفة، بما في ذلك داخل مكتب رئيس الوزراء". وهكذا بفضل عملية "تحرير العراق" الأمريكية البريطانية. تم حقن الهيكل السياسى والإدارى العراقى بسموم الفساد.

وبعد الغزو، قامت الإدارة الأمريكية بتسليم السلطة إلى زمرة من السياسيين أغلبهم فى الأساس مغتربون لم يعانوا ممّا مر به العراق من محن وظروف مريرة، وكان لهذه المجموعة مؤهلان فقط وهما: التذلل إلى الإدارة الأمريكية، والرغبة في الثراء الفاحش بأي وبكل طريقة ممكنة. ومن خلال تسليم السلطة لهذه الزمرة، أمنت الإدارة الأمريكية وحلفاءها لأنفسهم النجاح في مشروعهم العراقي الشرير، وكذلك فى تغطية جرائمهم المرتكبة ضد العراق، من ضمنها الإبادة الجماعية، خلال السنوات الثلاث عشرة السابقة.

أما الشخص "العراقي" الذي تم ترشيحه من قبل الإدارة الأمريكية وخاصة المحافظين الجدد، ليكون قائد "العراق الجديد" فقد كان مُداناً بقضايا احتيال، حيث قام هو وأخوته باختلاس أربعة مؤسسات مالية في ثلاث دول مختلفة: الأردن ولبنان وسويسرا. إلا أن نزعته الطائفية وميوله الإسرائيلية كانت كفيلة بتغاضي واشنطن عن كافة مساوئه. ومن خلال اختيار هذه الشخصية المخزية، أرسلت واشنطن إلى العراقيين إشارة مفادها أنه يمكن تحقيق النجاح فى "العراق الجديد" فقط من خلال الفساد والطائفية، وهما اللعنتان اللتان كانت الإدارة الأمريكية وحلفاءها يعملون على نشرهما.

وبمجرد أن انتهى نفع هذا المحتال، قامت واشنطن بالتخلص منه كالقذارة. وحسبما ورد في صحيفة ديلى تيليغراف اللندنية في 23 مايس \ مايو 2004، فإن الرئيس جورج بوش الابن قال للملك عبد الله ملك الأردن "يمكنك التبول عليه". وفى هذا درس، إن كانت هناك حاجة إلى أي درس، لهؤلاء الحمقى في العالم العربي الذين ما يزالون يعتقدون أن الإدارة الأمريكية هى معطاء وأنه من خلال الخضوع لها يمكن تحقيق الحرية والازدهار لبلدانهم.

وقد لعبت إسرائيل دوراً محورياً في شن الحرب على العراق. فبعد أسبوعين من بدء الغزو، نُشر مقال في صحيفة هارتس الإسرائيلية بتاريخ 3 نيسان/ بريل 2003، جاء فيه "على مدار العام السابق، ظهر معتقد جديد في المدينة (واشنطن)، مفاده أن الحرب ضد العراق. قد روّج لها بحماس من قبل مجموعة صغيرة تألفت من 25 أو 30 من المحافظين الجدد، أغلبهم من اليهود". وقد أيد توماس فريدمان Thomas Freidman، الصحافي الأمريكي اليهودي البارز، ذلك قائلاً: "لقد كانت الحرب التي أرادها المحافظون الجدد. لقد كانت الحرب التي سوق لها المحافظون الجدد. لقد كان لدى هؤلاء الأشخاص فكرة يعملون على بيعها منذ وقوع أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، والآن قد أتموا الأمر. رباه، لقد باعوا الفكرة. ومن ثَمَ فإنها ليست حرباً أرادتها الجماهير. إنها حرب نخبة. يمكنني أن أقدم لكم أسماء 25 شخصاً ... لو تم نفيهم في جزيرة صحراوية منذ عام ونصف، لما وقعت حرب العراق".

لقد كان المحافظون الجدد صهاينة متشددين، وأدى دعمهم المطلق لإسرائيل إلى التشكيك فى ولائهم لأمريكا، وفى هذا الخصوص كتب المحلل الأمريكي اليهودي والصحفي في مجلة التايمز، جو كلين (Joe Klein) قائلاً: "إن حقيقة العديد من المحافظين الجدد اليهود ... قد دعموا الحرب (على العراق) والآن يروجون لشن حملة أكثر حمقاً على إيران، قد أدت إلى التساؤل عن احتمال وجود انفصام في الولاء: استخدام القوة العسكرية الأمريكية والأرواح والأموال الأمريكية من أجل جعل العالم مكاناً أكثر أمناً لإسرائيل".

وقد اتضح الدور الإسرائيلي البارز أيضاً من خلال الدليل الذي قدمه توني بلير في 29 كانون الثانى/ يناير 2010 في استجواب تشيلكوت (Chilcot) بخصوص الحرب على العراق، ففي خلال إدلائه بشهادته، أشار بلير إلى اجتماع هام أجراه مع جورج بوش الابن في كراوفورد، تكساس، في 6/7 نيسان/ أبريل 2002، من أجل مناقشة مسألة العراق. وعلى الرغم من أن الاجتماع كان من المفروض أن يقتصر رسمياً على القادة الاثنين، ألمح بلير إلى أن مسؤولين إسرائيليين قد شاركوا في المناقشات. إذ قال "اعتقد، في واقع الأمر، اتذكر فعلياً أنه كانت هناك محادثات أجريناها مع الإسرائيليين، قام بها كلانا. حيث كان ذلك جزءاً بارزاً من كل هذا".

ويُزعم أنه خلال اجتماع كراوفورد التزم بلير سراً لبوش بمشاركة بريطانيا في الغزو المقترح على العراق سواء توفر تفويض من الأمم المتحدة أم لا. وخلال الشهر نفسه كان نتنياهو في زيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أبلغ أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي بأن "الحاجة الماسة إلى إقصاء صدام حسين أصبحت أمراً أساسياً". فهل كان الأمر مصادفة؟ وبعد أربعة أشهر صرّح آربيل شارون في آب/ أغسطس 2002 بأن العراق هو "التهديد الأكبر الذي يواجه إسرائيل."

وكجزء من سياسة "فرق تَسُد" التي اتبعتها الإدارة الأمريكية وحلفاؤها، كان تأجيج الطائفية بمثابة هدف استراتيجي. فقد تم تشكيل "مجلس الحكم" من قبل واشنطن على أسس طائفية، وكان من أول القوانين التي تم تمريرها بعد الاحتلال (المادة 7 أ لسنة 2004 قانون الانتقال الإداري) جردت العراق من انتمائه إلى الأمة العربية. وقد توافقت هذه السياسة، التي تم الترويج لها بشكل أساسي من قبل صناع القرارات الصهاينة، هى أن الشعب العراقي يتألف بشكل أساسي من 3 فئات وهي الشيعة والسنة والأكراد، وأن السنة فقط هم من لديهم انتماء عروبى. وحسبما أشار أحد الكُتَاب الصهاينة "لقد كان العراق عبارة عن مزيج من القبائل والأعراق المنقسمة فيما بينها. حيث أن معظم سكان جنوب العراق يتألفون من الشيعة بنسبة 100% ولديهم ما يربطهم بإيران أكثر مما يربطهم مع "إخوانهم" السنة في الشمال".

يا له من هراء. أن دين أكثر من 95% من الشعب العراقي هو الإسلام بمدرستيه الرئيستين: السنية والشيعية. وعلى الصعيد العرقي فإن حوالي 80% من الشعب هم عرب. ولا يوجد أي اختلاف في العرق العربى بين السنة والشيعة. وفي واقع الأمر فإن نسبة كبيرة من الشيعة كانوا من السنة لحين تحولهم إلى المذهب الشيعى خلال القرن التاسع عشر عندما استقروا كمزارعين. وهنالك العديد من القبائل الكبرى التي أفرادها هم مزيج من السنة والشيعة. وكذلك من الشائع جداً الزواج بين حملة المذهبين.

إن الادعاء بأنه كان هناك عداء مزمن بين الشيعة والسنة فى العراق، وأن العراقيين الشيعة كانوا يميلون نحو إيران، ليس أكثر من مزاعم دنيئة، والأمر الذي ينفى هذا الادعاء أنه خلال الحرب العراقية الإيرانية، لم يشكل الشيعة فقط عماد القوات المسلحة العراقية، بل قد شغلوا أيضاً مناصب عسكرية قيادية، ودافعوا ببسالة وشرف عن العراق. ومن بينهم سعدي طعمة الجبوري ومحمد رضا الجشعمي وعبد الوحيد شنان الرباط. وقد حاول اللواء الرباط في العام 2017 التقدم بادعاء ضد تونى بلير لارتكابه جرائم حرب. ولكن القضاء الإنجليزى رفض الدعوى بحجة أنه لا توجد فى القانون الإنجليزي "جريمة عدوان". إنه بحق أمر لا يُصدق أن دولة تتعرض للاحتلال والتدمير لأنها زعماً ارتكبت جريمة لا يعترف بها قانون دولة الاحتلال!

كان الجيش العراقي بمثابة مؤسسة وطنية مهنية وغير طائفية. وربما لهذا السبب تم إلغاؤه من قبل الإدارة الأمريكية فوراً بعد الإحتلال، وتم تأسيس "جيش جديد" اتسم بعدم الكفاءة والطائفية. فقد استطاع بضع مئات من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق (داعش) باحتلال الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، بعد هروب فرقتين من الجيش العراقي الجديد من المدينة. لو كان الجيش الأصلي قائماً، لما سنح أمام أي جماعة إرهابية مثل «داعش» أى فرصة للبقاء، ناهيك عن تحقيق الفوز. وفي أحد المراحل بعد 2003، كان تنظيم (داعش) يسيطر على 40% من الأراضى العراقية.

قبل 2003، كان العراق خالياً من أي تنظيمات إرهابية "دينية"، فقد كانت الجماعة الوحيدة ذات هذا التوجه هي "أنصار الإسلام" والتي كان مقرها في شمال غرب العراق، وهي منطقة محمية أمريكياً من خلال حظر الطيران المفروض من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. والأمر المثير للسخرية أن العراق قبل الغزو لم يشكل أي تهديد للغرب، ولكنه وبعد أن أصبح وكراً للإرهاب، صار مصدراً للتهديد!

حصلت مجابهات ما بين السنة والشيعة بعد الاحتلال، وهذا ما تم التخطيط له من قبل الإدارة الأمريكية، وعملت على تأجيجه من خلال سياساتها. وقد أشار كل من البروفيسور طارق اسماعيل (Tareq Ismail) جامعة كالجرى كندا وماكس فولر (Max Fuller) في مقالهما الصادر فى شباط/ فبراير 2009 بعنوان "تفكيك العراق: صناعة وتسييس الطائفية" إلى أنه "على عكس الاعتقاد السائد، فإن العنف الطائفي لم يكن معهودا في أي وقت سابق في التاريخ العراقي، ويمكن القول أن الطائفية المسيسة التي تهيمن في الوقت الراهن على العراق كانت المقصودة نتيجة لسياسة الاحتلال الإنجليزي/ الأمريكي والتي كانت تقوم في أساسها على هدف تقسيم العراق إلى مقاطعات طائفية وتحويله إلى دولة هزيلة".

وفي واقع الأمر فإنه حتى أواخر الخمسينيات من القرن الماضى، لم تكن هناك أي أحزاب دينية في العراق. حيث كانت كل الأحزاب سياسية وعلمانية منها: الديمقراطية والوطنية والليبرالية والماركسية والوحدوية العروبية. تم تأسيس الحزبين الدينيين، حزب الدعوة والحزب الإسلامي (الإخوان المسلمين) بشكل رئيسى من قبل رجال الدين بعد الإطاحة بالملكية عام 1958 وذلك في محاولة لفرض التوازن مع الحركات السياسية الرئيسية الثلاثة آنذاك: الشيوعية والبعثية والناصرية. وقد اعتبر رجال الدين، الشيعة بوجه خاص، النمو السريع لهذه الحركات بمثابة تهديد وجودي لوضعهم ونفوذهم. ومن الملاحظ أن بعض المؤسسين القياديين لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق كانوا من الشيعة، مثل فؤاد الركابي وسعدون حمادي.

وكما تم الإشارة إليه أن أحد الأهداف الرئيسية للحرب على العراق لم يكن إزالة أسلحة الدمار الشامل غير الموجودة، ولكن القضاء على القدرات والخبرات العلمية للعراق. ووفقاً لوجهة نظر البروفيسور جوردون "ومن أجل القضاء على هذه القدرات، بدلاً من الأسلحة نفسها، سيتطلب هذا حرفياً إعادة الدولة إلى أكثر الأوضاع بدائية، وإبقاءها كذلك إلى الأبد". وهو الهدف الذي تحقق بنجاح من خلال حرب الخليج الأولى عام 1991 وثلاثة عشر عاماً من الحصار وأخيراً عبر الغزو والاحتلال.

وقد تجسدت عملية إعادة العراق وإبقائه فى أكثر الأوضاع بدائية من خلال حملة الاغتيالات التى بدأت بعد 2003 والتي طالت العلماء والأكاديميين العراقيين. فمما لا شك فيه أن الاحتلال قد أدى إلى إبادة الصفوة الثقافية العراقية، من خلال تعرض الكثير من أفرادها للقتل أو هجرتهم لخارج البلاد. وفي هذا السياق كتب كل من ماكس فولر وديرك آدريانسينس (Dirk Adriaensens)، وهما مؤلفا وباحثان لديهما اهتمام خاص بالعراق، "أنه من بين العديد من المآسي التي وقعت في المجتمع العراقي كنتيجة للغزو الإنجليزي الأمريكي عام 2003، هى التصفية الجسدية لمئات أو آلاف من الأكاديميين العراقيين، والتى هى أحد أكثر الأمور خزياً ودوماً ما يتم التغاضي عنها. وهى عملية فيها ما يثبت كونها حملة منظمة ووحشية للاغتيال المستهدف". وذُكر أيضاً أن فرق اغتيالات قد أرسلت من قبل جهاز المخابرات الاسرائيلي الموساد، بموافقة ضمنية من قبل القوات الأمريكية المحتلة، وأتُهمت كذلك ميليشيات طائفية بالمشاركة في تلك الإغتيالات.

منذ 1990 هجر العراق ما يقارب 4.5 مليون من خيرة أبنائه الذين كانوا يمثلون العمود الفقرى للدولة العراقية. وفى أعقاب 2003 وتحت ظروف الاحتلال شهد العراق هجرة جماعية للعلماء والمتخصصين فى مجالات الطب والهندسة والكمبيوتر والفنانين والباحثين ورجال الأعمال؛ وبذلك تجرد العراق من أفضل وأعز موارده قيمة، ألا وهى القوة البشرية. العراق، موطن الحضارات، أصبح حالياً شبه مفلسٍ فكرياً وعلمياً.

كانت بغداد عاصمة الإمبراطورية العباسية ولندن عاصمة الإمبراطورية البريطانية والآن واشنطن عاصمة "الإمبراطورية" الأمريكية. للعرب ولع شديد بالتاريخ فعند استذكارهم للإمبراطورية العباسية يستحضرون الفخامة والعظمة والكرامة والتناغم بين الأجناس والأدب والشعر والموسيقى والإنجازات العلمية والفكرية ودار الحكمة والكندى وابن الهيثم والفارابى وابن سينا وجابر بن حيان والفراهيدى وغيرهم من العلماء.

أما الإمبراطورية البريطانية فأنها تذكرهم بالمجاعات التى سببتها فى الهند وإيرلندا، ومذابحها فى أفريقيا والهند، ومعسكرات اعتقال البوير، ووعد بلفور وسايكس بيكو، وثورة العشرين، والعدوان الثلاثى (السويس) وملفات الأسلحة الكاذبة. أما الإمبراطورية الأمريكية فإنها ترمز إلى ذبح الأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر)، واستعباد الأفارقة والتمييز العنصرى وقوانين جيم كرو (Jim Crow) وهيروشيما ومصدق إيران، وآليندى تشلى، وفرق الموت فى أمريكا اللاتينية، وخليج الخنازير، وفيتنام، واللوبى الإسرائيلى، وغوانتانامو، والحرب على العراق، وأبو غريب والفلوجة وحظر المسلمين وسفارة القدس والمخدرات وقتل أطفال المدارس ودعم الأنظمة الرجعية والكيان الصهيونى الغاشم. فلهذا ليس من الغريب أن يعتبر العرب بأنهم على حق عندما يصفون أى تفاخر من قبل أمريكيين أو بريطانيين بسمو قيمهم بأنه تبجح باطل ويفتقد المصداقية.

تسببت واشنطن ولندن، حسب تقريرات البروفيسور فرانسيس بويل، فى مقتل 3.3 مليون عراقى خلال الواحد والعشرين سنة التى دامت فيها حربهم على العراق (1990 - 2011). إذ توفى 200,000 خلال حرب الكويت (1991) و1.7 مليون، بضمنهم 750,000 طفل، بسبب الحصار (1990 - 2003) و1.4 مليون نتيجة الغزو والاحتلال (2003 - 2011) وكما قال الشاعر "ما بالهم، شربوا دماء الأبرياء بلا حساب؟؟ همج .. أليس لهم إلى البشر، انتماء وانتساب".

ما الذى دفع هاتين الحكومتين إلى هذه الإبادة الجماعية لشعب لم يقترف أى جرم بحق الشعبين الأمريكى والبريطانى؟ وفى نفس الوقت تتشدقان بحقوق الإنسان وبالتزاماتهم الإنسانية؟ لربما إن أفضل شرح لهذا الإجرام هو اقتباس كلمات الباحث اس بى منظور SP Manzoor بأنه "مشروع ولد فى الحقد وتربى فى الإحباط وتغذى بالانتقام". على رغم اعتزاز جورج بوش الإبن وتونى بلير بعقيدتهم المسيحية، إلا أنهما لم يتبعا ما أوصى به الإنجيل المقدس "يكمن الخداع فى قلوب مخططى الشر، لكن أولئك الذين يروجون السلام فلهم السعادة". يمكن تفسير تفضيل الاثنين ومن لف لفهم اتباع طريق الشر عن الاقتداء بنهج السعادة هو إصابتهم بوباء الصليبيين والصليب منه براء.

إذ يبدو أن هذا الداء قد أصاب العديد من القادة الغربيين. فعندما احتل الجنرال البريطانى أدموند اللنبى (Edmund Allenby) مدينة القدس، فى 11 كانون الأول/ ديسمبر 1917، قال "لقد اكتملت الآن الحروب الصليبية". ووصف رئيس وزرائه، لويد جورج (Lloyd George) احتلال القدس بأنه هدية عيد الكريسماس للشعب البريطانى. ونشرت مجلة بنش (Punch)، بعد يومين من الاحتلال، رسماً لريتشارد قلب الاسد، أحد القادة الصليبيين، وهو ينظر إلى القدس ويقول "ها قد أصبح الحلم حقيقة". وعندما احتل الجنرال الفرنسى هنرى جورود (Henri Gouraud) دمشق فى 24 تموز/ يوليو 1920 زار ضريح الناصر صلاح الدين الأيوبى وقال "ها قد عدنا يا صلاح الدين، إنّ وجودى يثبت انتصار الصليب على الهلال".

إن هذه الأحقاد هى كراهية عنصرية، وتوجه سياسى ليس لهما أى علاقة بالدين، فقد استنكرت الكنائس المسيحية وعلى الأخص الفاتيكان جرائم الصليبيين والحرب على العراق. فما لم يتم القضاء على هذه العقلية المنحرفة والهدامة فى الغرب، فلن يتحقق أى سلام أو إزدهار دائم. الأمل الوحيد هو أن يرجع الغرب عن غيه وضلاله ويقر بالإضرار الشنيعة التى سببها للعالم العربى، وأن يعبر عن ندمه على ما اقترف من خطايا فى فلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا وإلخ...، وأن يتحكم فى جشعه وعنصريته ونفاقه وازدواجيته عند تعامله مع العالم العربى.

هنالك بوادر إيجابية تبعث على التفاؤل، ففى هذا الشأن تخلص حزب العمال البريطانى من زعيمه السابق تونى بلير، وسياساته الخارجية الحمقاء. معتقدات الزعيم الجديد، جيرمى كوربين (Jeremy Corbyn) مشجعة للغاية. سئل كوربين مؤخراً عن أسوأ حدث مر به فى مسيرته السياسية فأجاب "الحدث الذى أصابنى بالكآبة هو موافقة البرلمان البريطانى على الاشتراك فى الحرب على العراق، إذ كان فى رأيي قراراً خاطئاً بل كان قراراً كارثياً، إذ شعرت أن الحرب سيكون لها عواقب وخيمة، بدأنا الآن فى إدراكها، وهى زيادة الإرهاب وصعود الكراهية وانتشار الحروب الأخرى وحدوث أزمة اللاجئين، تلك اللحظة كانت من أسوأ لحظات حياتى".

على صناع القرار الغربيين تبنى هذا النوع من الفكر المستنير والتوجه الموضوعى والبناء. فعلى الصعيد التاريخى عاش العرب والأوربيون، مسلمين ومسيحيين ويهوداً فى انسجام لقرون عديدة فى الأندلس، فترة مجيدة جعلت الشاعر البرتغالى الشهير فيرناندو بيسوا (Fernando Pessoa)، 1888 - 1935، يقول "دعونا أن نتدارك الجريمة التى ارتكبناها عندما طردنا من شبه الجزيرة (الآيبرية) العرب الذين علمّونا الحضارة". أما آن الآوان أن تنتهى سلسلة الجرائم التى ترتكب ضد العرب؟

أما مستقبل العراق فلا خوف عليه، فمهد الحضارات على مدى 8000 عامٍ والذى أنجب حمورابى ونبوخذنصر وصلاح الدين الأيوبى ومبجلين آخرين، والذى غمر علمه العالم أجمع، لابد وأن ينهض ثانية ولو بعد حين. سيستعيد الشعب عافيته ووحدته وسيزاول واجبه الرائد فى خدمة أمته. حرابه ستعاود توجهها إلى عدوها الحقيقى القابع فى تل أبيب. وسوف ترفرف من جديد رايات العزة والكرامة، رايات رفعها وبكل إباء الكثير من الأبرار والشهداء. المجد وكل المجد لشهداء الأمة الأجلاء الذين قارعوا العدو من أمثال هناء الشيبانى وباسل الكبيسى وياسين فزاع الموسوى، وهم غيض من فيض، والملايين من الأطفال والنساء والرجال الذين لاقوا حتفهم فى ملحمة عز أمام جحافل البرابرة الذين شنوا محرقتهم على العراق على مدى 21 سنة ولا تزال. إن غداً لناظره قريب، فكما قال على بن أبى طالب، عليه السلام: "دولة الباطل ساعة، ودولة الحق حتى قيام الساعة".

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

906 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع