ضاري المحمود في الذكرى التسعون للمأثرة الوطنية الكبيرة

                                            

                            د.ضرغام الدباغ

                  

                 ضاري المحمود
في الذكرى التسعون للمأثرة الوطنية الكبيرة

                                

قبل تسعون عاماً في الأربعاء 1 / شباط / 2028 وفي سجن بغداد سلم الشيخ ضاري المحمود أنفاسه الأخيرة وأنتقل إلى جوار ربه، عراقياً عربياً مسلماً مخلصاً مجاهداً في سبيل حقه وأرضه وكرامة وطنه وأمته ونقاء دينه، بطلاً عراقياً يخلد التاريخ مأثرته الوطنية ودوره الكبير بجانب شخصيات وقوى عراقية لها دورها المجيد في ثورة العشرين، التي وضعت الأسس الحقيقية للاستقلال العراقي مؤكداً بالتضحية بالنفس والولد والمال والجاه، في سبيل حق وطنه في الحرية، ورفض الاحتلال.

ضاري محمود الزوبعي الشمري، كبير قومه وعشيرته ومنطقته، لم يستغل هذه المزايا في سبيل بناء أسرة ثرية تتمتع بالمال والسمعة والجاه، بل وضع كل ذلك وقبلها روحه وحياته، وحياة أولاده في أتون الصراع الوطني مع الاستعمار الذي يريد أحتلال واستعباد ونهب بلاده، فهب مناضلاً مكافحاً مجاهداً حتى النفس الأخير شهيداً وراء القضبان يحتسبه الله شهيداً وشعبه بطلاً ورمزاً من رموز التاريخ السياسي المعاصر.

ولد ضاري (1868) في بيئة عشائربة، فالثقافة في هذه البيئة تقتصر على ثقافة المجالس والدواوين، وأخبار الأولين، وفقه الدين، وسير الرجال، وأنباء الغزوات، وكرامات الأولياء والقادة المجاهدين، تعلم بصفة خاصة القراءة والكتابة، ودروس القرآن، ولكن شخصيته القيادية جاءت من خلال زعامته لقبيلته الكبيرة والقوية، ولشجاعته ووضوح الرؤية.
صدام ضاري المحمود مع الإنكليز كمستعمرين للعراق لم يكن مصادفة، فهو من قاوم احتلالهم، وبقي في جبهة مقاومة الاحتلال حتى الأخير، ومع أول بوادر ثورة العراقيين على الاحتلال كان لابد أن يكون ضاري المحمود في مقدمتهم، وكان للشيخ ضاري مساهمة في الثورة العراقية الكبرى، إذ كانت له مراسلاته مع كربلاء والنجف وبغداد، مع قادة العشائر ورجال الدين، وقادة الرأي.
أما صدامه مع العقيد البريطاني جيرارد إيفيلين ليتشمان (Gerard Evelyn Lachman) الذي عرف في العراق بأسم لجمن، ضابط الاستخبارات العسكرية (عضو الجمعية الجغرافية الملكية ــ المولود في 1880 / وقتل في العراق بتاريخ 12 / آب ــ أغسطس / 1920)، وهو من رجال الاستعمار الذين يتمتعون بتجربة طويلة، وبطباع شرسة، وعدوانية، فكان صداماً مبكراً، ومع بدايات الثورة العراقية الكبرى، إذ كان ضاري المحمود حاضراً في الاجتماع الذي دعى إليه لجمن رؤساء العشائر الدليم، وخاطبهم لجمن في الأوضاع وأخبرهم أنه والإدارة الاستعمارية يريدون معرفة رأيهم فيما يدور وفي الأحداث، بوصفه قادة عشائر عربية سنية، وعدم المشاركة في أعمال الثوار الشيعة ومطالباتهم في حكومة وطنية مستقلة.

                           

(الصورة : العقيد البريطاني جيرارد ليتشمان بزي عربي بدوي)

وهنا وبشخصية القائد الوطني، هب ضاري المحمود ليسد ثغرة يحاول القائد المستعمر أن يحفرها ويتسلل من خلالها، والمأثرة هنا تكمن في شخصية القائد ضاري المحمود، وسرعة بديهيته وحرصه على الثورة وهدفها، وهو إحساس قيادي فطري تمتع به ضاري المحمود إذ قال موجهاً حديثه للقائد البريطاني وللحضور وفي حديثه نبرة تحذير للجميع أن تجنبوا فخاً يعده لكم المستعمر، الذي لا يريد الخير للجميع، ويغتال آمال الجميع، فعلى الجميع الوقوف صفاً واحداً تقبض على السلاح وتقارع العدو الواحد بكف واحدة.
" لا تذكر يا لجمن كلمة (شيعة) فليس في ديننا سنة ولا شيعة، بل هناك دين واحد وعرق واحد وكلمة واحدة وإجماع على تشكيل حكومة وطنية، فإذا لبيتم مطاليب الثورة فإن الاستقرار والأمن يسودان العراق. وإنني في موقفي هذا أخاطبك بلسان المجتمعين ".

أخرست هذه المداخلة الوطنية الرائعة القائد الاستعماري لجمن الذي رد غاضباً " أنتم عشائر وينبغي أن تكونوا مستقلين" .

    

  (الصورة : رجال القبائل العراقية الملتحمون في ثورة العشرين)

هذا هو ديدن العدو، أي عدو يريد أن يحتل عقول أهل البلاد قبل بلادهم، فهو لم يسيطر على بلاد أهلها متحدون الفكر والإرادة، لذا يريدهم طوائفاً، وبعدها يريدهم عشائر متفرقة، ولا يقبل بهم إلى خانعون تحت خيمة المستعمر ليسهل له إنجاز مخططه الذي قطع من أجله مسافات شاسعة.
كيف أدرك ضاري المحمود المسألة الوطنية بطابعها الكفاحي في العقد الثاني من القرن العشرين وكيف أندغم في أتونها، ما هي القوة الفكرية الآيديولوجية والسياسية الثورية التي آمن بها هذا الثائر الكبير .. وقاد أسرته وعشيرته وأهل منطقته في نضال مسلح ضد العدو المحتل. فعندما هبت رياح الثورة، ضاري المحمود كان مهيأ لها نفسياً وعقلياً، والثورة تملأ روحه، وكيف لا وهو أبن البوادي الحرة التي تأنف من أن تخضع تحت الهيمنة الأجنبية، والقاموس السياسي في عصره كان بسيطاً، فليس لنا أن نطالب ثورة العشرين بمعطيات السياسة المعاصرة، ومصطلحاتها، كقضايا الصراع مع الإمبريالية والصراع الطبقي، ولكن رفض الهيمنة الأجنبية، ونهب الثروات الوطنية، وفرض ثقافة أجنبية هي شعارات وطنية صالحة لكل عصر وأوان. الثورة مشتعلة، والكل ماض إليها .. هبوا دفاعاً عن الوطن.
سائر الأمور تدخل في نطاق التفاصيل، يستدعي القائد الاستعماري الشرس، ويحمل الشيخ ما لا طاقة له به، أن يساعدهم في قمع الثورة، ويعامل الشيخ الجليل بقلة تهذيب هم مجبولون عليها، فما كان من أولاده الأشاوس إلا أن يردوها رصاصاً في صدر المستعمر، يختتمها الشيخ الثائر بضربة سيف قاضية.
ضاري المحمود يفهم الثورة على المستعمر بأنها أمر من الله سبحانه فيخاطب رجاله: "إن هذا هو أمر الله، وتلك هي مشيئته وهو مقدر علينا محتوم، وإني أوصيكم أن تكونوا رجالا صابرين على البلوى وعلى ما يصيبكم، واتفقوا ولا تتفرقوا". هكذا يفهم الضاري الثورة أن الله لا يريد لكم أن تقبلوا إرادة المحتل، الاحتلال تناقض رئيسي، روته الكفاح، بما في ذلك استخدام السلاح مع العدو الذي يرفض احترام الإرادة الشعبية.
يلتجأ الثائر إلى شعبه، إلى بواديه، إلى تلك الوهاد والرمال التي يعرفها وتعرفه، يعشقها وتعشقه، ثمانية سنوات كاملة في حضن البادية العراقية / السورية، إلى أن طرقت الشيخوخة صحته، وكان يضطر لمراجعة الأطباء للعلاج، وكلاب المستعمر لتلاحقه/ وقد وضعوا جائزة ثمينة لرأسه (10 ألاف روبية) وقد حكم بالإعدام غيابياً، وليلقى القبض عليه بمكيدة وخيانة.
يحضر الشيخ المهيب للمحاكمة، ولشيخوخته وأصابته بأمراض وبيلة، يستبدل الحكم بالإعدام الغيابي، بالمؤبد وجاهاً. بعدها بأيام قليلة (1 / شباط / 1928) تنتقل روحه إلى بارئها آمنة مطمئنة والحكم لله وحده من قبل ومن بعد وقد أدت ما عليها من فرض الطاعة والإخلاص للوطن.

        

(الصورة : تشييع ضاري المحمود ملفوفاً بالعلم العراقي يوم 2 / شباط / 1928)
والآن يودع الوطن أبنه البار في تظاهرة شعبية هي أقرب منها للجنازة والتشييع، يشارك فيها العراقيون بكافه شرائحهم، بكافة مكوناتهم، بغداد تزحف تهتف بل تزمجر، بغداد تبرق بأضواء العيون ودموعها، وترعد بالأهازيج:
" هز لندن ضاري وبجاها (بكاها).. منصورة يا ثورة ضاري.. منصورة يا ثورة ضاري ".
النساء تبكي.. وتزغرد! : يا هلال الدنيا شهالغيبة. (1)
الصحف العراقية تودع الثائر الكبير
ــ يا ضربة حرٍ لن ننساها ... هز لندن ضاري وبكاها فلتدفن لندن موتاها
ــ ولنغسل أرض الوطن من أدران الاستعمار.
ــ ولنخلق من ضاري رمزا للثوار.
ــ في كل مكان من وطني .. في المصنع والحقل وفي الدار.
ــ ولنخلد ذكرا ثورتنا .. ولنخلد ذكرى الثوار الأحرار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. يا هلال الدنيا ما هذه الغيبة

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

695 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع