هذه بغداد التي فاجأتني: يا عودة للدار ما اقساها

                                                       

                                 د.سعد ناجي جواد

هذه بغداد التي فاجأتني: يا عودة  للدار ما اقساها

تذكرت صدر هذا البيت من الشعر والذي قاله الشاعر العراقي العربي الكبير الراحل احمد الصافي النجفي، عندما عاد الى بغداد بعد عقود من الفراق وبعد ان فقد بصره
يا عودةً للدار ما اقساها
اسمع بغداد ولا أراها
تذكرته، وانا المبصر والحمد لله،  عندما عدت الى بغداد بعد فراق قارب العقد من الزمن، وبعد ان عشت فيها ست سنوات من الاحتلال البغيض، وشاهدت كل شيء ينهار من حولي . لم أكن في اي وقت من الأوقات أفكر في ان اغادر بغداد التي عشقتها، ولم أفكر في يوم من الأيام ان يكون لي سكن او عمل دائم او قبر يضمني الا في بغداد. تركتها مكرها ولم تتركني يوما من الأيام في غربتي. ولما عدت لها كنت كما قال النجفي اسمعها وأشم عطرها ولا أراها. كنت ارى كل ما حولي بقايا لمدينة جميلة مهملة مخربة . لا يستطيع المرء ان يتنقل في أرجائها الا بشق الانفس. فالزحام طابعها اليومي واللانظام يحكم حياتها. منذ ان تطأ قدمك بغداد تجد النٓفٓس الطائفي والعنصري يفوح منها. وفيها تجد نوعان من البشر النوع الاول هو الشعبي البائس والذي لا حول له ولا قوة ولا يزال يحتفظ ببساطته وطيبته ، والذي يتعرض يوميا للتفجيرات الإرهابية ومع ذلك يبقى صابرا على ما ابتلي به، والنوع الثاني والذي يمثله الوافدون والحكام الجدد والذين استفادوا من الاحتلال و تبعاته ويصرون على أشعارك بان كل شيء يسير نحو الاحسن. وان الفشل في تحقيق الأمن والاستقرار، بل وحتى الشوارع المهملة سببه الارهاب والنظام السابق. ويصر هذا النفر على ان في العراق ديمقراطية ولا يجيبوك عن الفساد المستشري و لا عن الطريقة التي اثرى فيها البعض ولا عن الاملاك الكبيرة التي استولت عليها الأحزاب الجديدة او عن المناطق شبه المغلقة التي جعلوها خاصتهم. واذا قدر لك ان تزور بعض الدوائر الحكومية تجد من يعمل بصمت وتفاني يجعلك تتساءل هل ان هؤلاء الأشخاص هم نفسهم من يرتشي او من يخطف او يقتل الابرياء؟ ولكن اذا ما تعمقت بالأمر تجد ان مليشيات الأحزاب الجديدة هي من يتحكم بالطيبين وبدوائرهم الرسمية والأخيرين لا قدرة لهم على مواجهتهم او الوقوف بوجه نفوذهم. واذا ما قدر للمرء ان يتحدث عن الكم الهائل من الخراب والاهمال يجيبك المستفيدون ان البلاد تمر بازمة اقتصادية كبيرة وان هناك شحة في الموارد، ولكن لا يقولون لك كيف انتقلوا من حال بائس الى ثراء فاحش، ولا يقولون كيف لبلد يعيش الغالبية العظمى من ابناءه حالة كفاف بل وعسر، يقوم نواب البرلمان باتخاذ قرار بزيادة رواتبهم بأكثر من مليون دينار شهريا ولا عن مخصصاتهم  الكبيرة، في الوقت الذي لا تزيد فيه رواتب الغالبية العظمى من الموظفين البسطاء عن نصف هذه الزيادة، وفِي وقت تتعرض فيه رواتب المتقاعدين لاستقطاعات، ولا لماذا يتم دفع الرواتب كل أربعين يوما وليس شهريا.
في بغداد اليوم لا يمكنك التنقل بين منطقة واُخرى دون ان توقفك نقاط التفتيش العديدة والمنتشرة في كل أرجائها الامر الذي يجعلك تتساءل كيف يتمكن الارهابيون من تمرير سياراتهم المفخخة واحزمتهم الناسفة عبر كل هذا السيطرات الأمنية العديدة. وبغداد لا تختلف عن باقي المدن العراقية التي تعاني نفس المعاناة. ومجالس المحافظات لا تقل فسادا عن مجلس النواب والوزارات المركزية. في بغداد تشم وتتحسس رائحة الفساد أينما ذهبت. ولا تجد اي إعمار باستثناء مراكز التسوق الجديدة ( المولات) والتي لا يعرف أهالي بغداد من يمتلكها. وأخيرا وليس آخراً لا يمكن لأي زائر لبغداد الا ان يشعر بالبون الواسع بين القلة من المتنفذين من اتباع الأحزاب الحاكمة وبين الغالبية العظمى من الناس البسطاء. فمواكب المتنفذين وحماياتهم بل وحتى ممرات سياراتهم تختلف عن تلك المخصصة للعامة. الامر الملفت للنظر ان الغالبية العظمى ممن التقيتهم وكذلك الصديق العزيز الذي لازمني طوال ايّام بقائي، كانوا يتوجهون إلينا ويثنون علينا وعلى ارائنا الناقدة لما يجري، ويطلبوننا بالثبات على مواقفنا.
لا اعتقد ان بغداد بل والعراق قد تعرض في التاريخ الحديث لمثل هذا التخريب والاهمال، ولم تمر البلاد بفترة اهملت فيها الكفاءات الوطنية وهمشت مثل ما حدث طوال الأربعة عشرة سنة الماضية. ولم يشعر العراقي في وقت من الأوقات باليأس من الحالة او من الوجوه التي تتصدر الواجهة السياسية. والاكثر ايلاما من ذلك هو شعور البسطاء بان لا أمل في الزمن المنظور في إصلاح ما افسده وخربه الاحتلال ، وان هذا المحتل والنفوذ الايراني الكبير لن يتخليا عن دعم هذه القلة الخاضعة لهما والمؤتمرة بأمرهما. ولكن ورغم كل حالات الاحباط التي يمر بها العراقيون البسطاء ورغم كل المحاولات الرامية الى تهميشهم فان الزائر لا يمكن ان يخطيء نظرات الأمل في عيون الشباب وعبارات التهكم بالحاكمين في أحاديث الغالبية العظمى، لقد تعرضت بغداد طوال تاريخها الطويل الى غزوات همجية كثيرة والى تدمير كبير مرات عديدة ولكنها كانت دائما تنهض من كبوتها وتطرد محتليها وتحاسب الفاسدين المتسلطين عليها بفضل سواعد ابنائها الاصلاء والغيارى، وهذا ما سيحدث ان شاء الله ولو بعد حين.
كاتب عراقي


  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

869 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع