الطوفان بين الأسطورة والحقيقة

                                                      

                      الدكتور صلاح رشيد الصالحي
                           تخصص تاريخ قديم


الطوفان بين الأسطورة والحقيقة

وردت اسطورة الطوفان في الكتابة الأدبية لبلاد الرافدين، ضمن ملحمة كلكامش، ثم ذكرت في التوراة والقران ، فجعلت نوح بطل لطوفان عالمي دمر الحرث والنسل، وهناك عناصر مشتركة بين ادب العراق القديم والكتب السماوية، فكلاهما يشير إلى تحذير من الإله  لبطل الطوفان المؤمن  من حدوث دمار شامل بفعل فيضان وشيك، ويقدم  الإله (آيا) النصيحة لبطل الطوفان السومري زيوسودرا (معنى اسمه أيام حياته طويلة) أو بطل الطوفان البابلي اوتنابشتم (معنى اسمه  وجد الحياة) أو أترا حاسيس (معنى اسمه  الغاية هي الحكمة) كما في النص البابلي الثالث للطوفان، أما في التوراة  فنرى الصيغة ذاتها حيث ينصح الله النبي نوح(معنى اسمه بالعبرية المتعة) في بناء سفينة يحمل فيها مجموعته المختارة من البشر والحيوانات، وإذا كان شكل السفينة في الادب البابلي مكعب فإنها في التوراة شكلها مستطيل أما في القرآن فأطلق عليها تسمية (الفلك) ولم يقل سفينة ولو قلبنا حرف (ف) إلى (ك) عندها يكون (الكلك) (باللغة الأكدية كلكو) وهي واسطة نقل نهرية معروفة منذ القدم في العراق ولغاية عشرينات القرن الماضي،  وفي كل الروايات (القديمة والسماوية) سبب الفيضان غضب الآلهة (أو الله) على البشر لصخبهم وكفرهم والحادهم وعبادتهم للأوثان.
    دخل بطل الطوفان (اوتنابشتم) أو (نوح) في السفينة واغلق بابها ونزلت الامطار وظهرت غمامة سوداء في داخلها الرعد والبرق (في الأسطورة البابلية الإله ادد سبب الامطار والرعد ) فأحالت كل نور إلى ظلمة وظلت الزوابع والريح الجنوبية تهب  ليلا ونهارا دون توقف ولمدة سبعة أيام متواصلة، وفي التوراة (40) يوما متواصلة واختفت الأرض والجبال وعاد البشر جميعا إلى الطين، وبعد توقف المطر أطلق بطل الطوفان اوتنابشتم طيور على أمل أن تعود مع الأدلة على انحسار الفيضان، وهنا نلاحظ اختلاف في نوعية الطيور الحمامة ثم السنونو والغراب والأخير الذي ولم يرجع،   أما في التوراة فقد أرسل نوح الحمامة وعادت تحمل غصن الزيتون دليل على وجود يابسة، وهكذا رست السفينة كما ورد في  القرآن الكريم على جبل جودي ولو قلبنا حرف (ج) إلى (ك) يصبح كودي وهي قريبة من كوردي وجبال الاكراد فلدينا قبائل قوتو أو  كوتيون أو كوتيوم وهذه المجموعة البشرية تسكن شمال شرق العراق ضمن جبال زاكروس، وسبق وان حكموا بلاد الرافدين قرابة قرن من الزمان، اما  في التوراة فقد رست السفينة على جبل ارارات بين تركيا وأرمينيا حاليا، ويظهر ان كتبة التوراة قد سمعوا بدولة اراراتو (شرق تركيا) وعاصمتها توشبا وكانت في حالة حرب ضد الاشوريين ولفترة طويلة، وفي النص البابلي رست على جبل نصير (Nisir) من الصعب تحديد موقعه لعله جبل سنام في جنوب العراق، وهناك اختلاف بين التوراة والنص البابلي تشمل المادة التي صنعت منها السفينة ففي التوراة مادة الخشب وهي مادة مفقودة في جنوب بلاد الرافدين لذا من المحتمل استعمل القصب في صناعة السفينة  لأنه  متوفر في جنوب العراق، ففي الالواح الحجرية الاشورية نرى صور زوارق نهرية في الاهوار وهي مصنوعة من القصب، وكما شكر اوتنابشتم الآلهة على نجاته ومن معه من الطوفان كذلك شكر نوح رب العالمين على نجاته من اليم العظيم .
    بقى ما تقوله معاول المنقبين فقد جرت عمليات التنقيب على يد الآثاري السير وولي في مدينة أور الاثرية واكتشف بعد إزالة الطبقات السكنية الأولى وجود طبقة من الطين الغريني السميك بعمق ثمانية اقدام تليها طبقة سكنية شيدت بيوتها من القصب وهي خالية من الاواني الفخارية وصرح بان الطين الغريني تراكم بفعل طوفان كبير، وقد قدر تاريخ تلك الطبقة الطينية إلى الالفية الرابعة ق.م،  كما  اكتشفت طبقات أخرى من الطمى في العديد من المواقع، ولكن لكل منهم تاريخ ينحصر بين فترات زمنية مختلفة تتراوح(4000-2500) ق.م  وهكذا نتوصل ليس هناك طوفان عالمي واحد، انما عدة طوفانات تعرضت لها منطقة وسط وجنوب العراق القديم، ومن المعروف ان انحدار الأرض من وسط العراق وحتى مصب الخليج العربي لا يتجاوز (34) متر وهذا يخلق بط في جريان المياه وتكون المستنقعات والاهوار، ومع سقوط الامطار يرتفع منسوب المياه فتختفي الأرض وتحتاج المياه لفترة زمنية  حتى تتسرب في باطن الأرض،  وتقدر مساحة الأرض المغمورة بالمياه(400) كم2 وهي بالنسبة لسكان القرى قبل الطوفان هي عالمهم الكبير فلا وجود لوسائل الاتصالات آنذاك ومن ثم أي فيضان يغمر ارضهم فهو طوفان عالمي، وبالمناسبة في القرآن الكريم ذكر حادثة الطوفان على قوم نوح ولم يشر إلى انه كان طوفان عالمي.
  على أية حال قوائم ملوك سومر قسمت إلى فترتين رئيسيتين: قبل الطوفان العظيم وبعد الطوفان، وان فترة قبل الطوفان علومها واخبارها نادرة وقديمة فمثلا يذكر الملك اشوربانيبال بانه (اطلع على علوم ما قبل الطوفان)، ويعتقد بعض العلماء ان الذاكرة البشرية تذكر حادثة طوفان كبير وقع قبل نحو(10000) سنة في نهاية العصر الجليدي الرابع أدى إلى امتلاء منخفض الخليج العربي بالمياه، وكان هذا الحدث الكارثي، في اعتقادهم، أصبح في وقت لاحق أسطورة الطوفان، يبقى عمر الانسان قبل الطوفان كانت طويلة فمثلا في التوراة عاش آدم (930) سنة إذا قسمنا هذا الرقم على (12) شهرا يصبح (77) سنة وخمسة أشهر، كذلك نوح عاش (950) سنة بعد التقسيم يصبح (79) سنة وخمسة أشهر وهذه الارقام معقولة ففي زبور داود يقول (عمر الرجل فينا سبعون مع القوة ثمانون) بمعنى اذا أعطى الله الانسان الصحة يصل عمره إلى ثمانين عاما، وأخيرا اسطورة الطوفان عراقية بحته فلا ذكر لحادثة الطوفان في الحضارة المصرية المتزامنة مع حضارة بلاد الرافدين ...


  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

676 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع