أميركا.. من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى

                                  

                الدكتور/ محمد عياش الكبيسي

ربما يتفق المراقبون على أن مستوى الاهتمام الأميركي بما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط لم يكن كما كان؛ حيث انحسر هذا الاهتمام لصالح منطقة أخرى لا يجمع بينها وبين منطقتنا هذه إلا كلمة «الشرق».

يشعر الأميركيون أن منافسا جديدا بدأ بالصعود على سلّم التنافس العالمي ليحتل الموقع الثالث عالميا بعد أميركا والاتحاد الأوروبي، أما إذا نظرنا إلى الاتحاد باعتباره دولا مستقلة فإن الصين ستتقدم لتحتل الموقع الثاني. لا يتخوف الأميركيون من المزاحمة الصينية في مجال الاقتصاد فحسب، بل هناك معلومات مقلقة للبيت الأبيض في مجال التصنيع العسكري خاصة فيما يعرف بالسلاح الليزري والذي بدأ الصينيون يحققون فيه طفرات غير متوقعة.
      في مجال التنافس الحضاري يسجل الصينيون نقاطا هامة لصالحهم، منها الرصيد التاريخي الضخم، حيث ينتمي الصينيون إلى حضارة موغلة في أعماق التاريخ يستلهم منها الصينيون اليوم كل مقومات الطموح النفسي والمعنوي، ومنها الموارد البشرية الهائلة التي تجعل الصين الدولة الأولى في العالم ليس من قبيل الكثرة العددية فقط، بل للتماسك الثقافي والمجتمعي من ناحية، ونمو البنية المعرفية والمهارية للمواطن الصيني من ناحية أخرى، ومنها أيضا السلوك الصيني الودي مع أغلب دول العالم قديما وحديثا على خلاف السلوك الأميركي الذي يتسم غالبا بالاستعلاء والروح العدائية.
لقد كان بعض الساسة الأميركيين المخضرمين يتخوفون من المد الإسلامي القادم كقطب عالمي جديد وبديل عن الاتحاد السوفيتي ومنظومته الشيوعية، ومن هذا المنطلق راح الأميركيون يعدون عدتهم لاحتواء هذا المد حتى تورطوا في معارك استنزفت مواردهم الاقتصادية وهيبتهم العسكرية وحتى سمعتهم الأخلاقية، وما تكبده الأميركيون على يد المقاومة العراقية طيلة ثماني سنوات تقريبا يعد النموذج الأسوأ لهذه الاستراتيجية العابثة أو المضللة.
إن العراق لم يكن بأية حال يشكل خطرا على الولايات المتحدة الأميركية ولا على مصالحها في المنطقة، خاصة بعد أن أنهك بحصار خانق دام قرابة الثلاثة عشر عاما، أما العالم الإسلامي ككل فإنه أضعف بكثير من أن يتأهل للدخول في حلبة السباق الدولي، لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا حتى معرفيا.
أذكر في بغداد سنة 2004 أي بعد الاحتلال بنحو سنة زارنا أحد الدبلوماسيين العاملين في السفارة الصينية وكان مبتهجا بعمليات المقاومة ضد الأميركيين، وكان مما قاله لنا: «إن هذه العمليات ستغير من خارطة العلاقات الدولية على مستوى العالم»!
لا شك أن الصين قد استفادت كثيرا على المستوى العالمي من التوحّل الأميركي في المستنقع العراقي، كما استفادت إيران على المستوى الإقليمي، بمعنى أن دماء المقاومين العراقيين آتت ثمارها في بكين وطهران أكثر مما أثمرت في أرضها وأمتها، وهذا يؤكد أن التخوفات الأميركية من العالم العربي والإسلامي لم تكن إلا وهما لا يستحق كل هذا الانشغال والمعاناة.
أدرك الأميركيون هذا مؤخرا فراحوا يحزمون أمتعتهم للخروج من العراق على غير هدى، ومن غير أن يقدموا شيئا يحفظ لهم ما تبقى من ماء وجوههم، وأذكر سنة 2006 في أحد المؤتمرات كان ريتشاد ميرفي الدبلوماسي الأميركي المخضرم يضرب على الطاولة بيده ويصرخ: «إننا نريد أن نخرج من العراق اليوم قبل غد.. نعم نريد أن نخرج من هذه الورطة» ربما لم نحمل كلامه في حينها محمل الجد أو الصدق.
توجه الأميركيون نحو الشرق الأقصى ليس هربا من الجحيم العراقي والنزيف اليومي لمواردهم وإمكاناتهم، بل لشعورهم أيضا أنهم قد وضعوا أنفسهم في المكان الخطأ، فدورة الصراع الحضاري لن تكون هذه المرة على هذه الأرض رغم أهميتها التاريخية والاقتصادية، وهذا لا يعني أنهم سيتركون هذه المنطقة لأهلها، فهناك أدوات تحكم وحيثيات كثيرة تضمن لهم حالة من الهيمنة والتفوق ومن ذلك:
أولا: التفوق العسكري لإسرائيل، وربما يكون هذا من ثوابت الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وعليه فليس من المسموح به تجاوز هذا السقف حتى من قبل إيران.
ثانيا: المشروع التوسعي لإيران والقادر على تصدير قدر من الخوف والقلق قادر على كبح جماح أي نزوع نحو الانعتاق والتحرر.
تجدر الإشارة هنا إلى وجود مستوى من التفاهمات الثلاثية (الأميركية والإسرائيلية والإيرانية) لضبط السلوك العام  لدول المنطقة بحيث يبقى ضمن السقف المقبول أميركيا، وربما لم تكن حرب تدمير الدولة العراقية وتفكيك بنيتها العسكرية الضخمة إلا وفق هذا السياق، مع أن الطموح العراقي كان يمكن استيعابه بوسائل أقل مؤنة وتكلفة.
الأثر الأبرز الذي خلفه الغياب النسبي للاهتمام الأميركي بالمنطقة هو وجود هامش لا بأس به للحركة لمختلف القوى المتنافسة والمتصارعة، وربما كان من نتائج هذا نجاح الإسلاميين في الوصول إلى دفة الحكم في مصر وتونس، وتنسيق المواقف بين روسيا وإيران لدعم النظام السوري وتأخير سقوطه الحتمي إلى حين إعادة ترتيب المنطقة بالطريقة التي لا تسمح بانقلاب في موازين القوى لصالح هذا الطرف أو ذاك.
إن هذا الهامش الذي خلفه الأميركيون هو سلاح ذو حدين، فبالقدر الذي يتيح جوا مناسبا لحراك عربي إسلامي وعلى مختلف الصعد السياسية والتنموية فإنه سيتيح القدر ذاته للقوى الإقليمية بالتمدد على حساب وجودنا ومصالحنا.
إن الحل يكمن في بناء قوة إقليمية ثالثة في المنطقة تحقق قدرا مقبولا من التوازن الآمن والعادل، ومستفيدة من التغيرات الكبرى التي قادها الربيع العربي ومن ذلك:
أولا: تحرر القوى البشرية الكبرى في مصر واليمن إضافة إلى ليبيا وتونس وامتلاكها لإرادتها، والمطلوب اليوم هو العمل الجاد لتوفير مستلزمات التنمية لهذه الموارد، وهذا ما تنبهت له القيادة القطرية، إلا أن بعض الدول الخليجية ما زالت متخوفة أو مترددة مع أن كل المؤشرات تقول: إن هذه القوى لا يمكن إلا أن تكون سندا وداعما لأي مشروع وحدوي أو تنسيقي.
ثانيا: تحرك القوى التحررية في الهلال العربي الخصيب (سوريا والعراق) والمطلوب احتضان هذه الثورة الصاعدة فهي الخط الأخير للدفاع عن هوية الأمة وكرامتها بوجه التمدد الإيراني الذي يستهدف الهيمنة على المحور الجغرافي لهذه الهوية (مكة والمدينة).
ثالثا: التقارب الكردي العربي، حيث تحرص قيادة إقليم كردستان على التقارب مع العرب السنة في العراق، ومع الدول العربية بالكامل خاصة بعد استشعارهم أنهم مستهدفون مع إخوانهم العرب السنة من قبل المشروع التوسعي لإيران، فالكرد أولا وأخيرا هم سنة ولسنا أولى منهم في الدفاع عن عقيدتنا وهويتنا المشتركة، وفي زيارتي الأخيرة لكردستان رأيت من علمائهم ووجهائهم ما يؤكد هذه الحقيقة.
رابعا: تطور العلاقات التركية العربية بعد جفوة أو قطيعة قاربت القرن، وهذه فرصة تاريخية لم تمنح القدر الكافي من الاهتمام والدراسة، واللافت هنا أن التوجه التركي الجديد يسير باتجاهين متكاملين: توطيد العلاقة بالمشرق العربي والإسلامي واحتفاظه بعلاقاته الاستراتيجية مع الغرب، وهو ما يعني قدرة تركيا على أن تكون جسرا مأمونا للتواصل العربي الغربي، وهو لا شك ضرورة لضمان استقرار المنطقة وتلافي أي حالة صدام شبيهة بتلك التي جرت على أرض العراق والتي فتحت علينا بابا من الشر له أول وليس له آخر.
إن الطموح المشروع بتحقيق التعايش الآمن والعادل في المنطقة لا يمكن أن يتم إلا ببناء قوتنا الإقليمية المكافئة للقوى الإقليمية الموجودة، وأما دعوات السلام والحوار والتعايش المجردة التي يطلقها ساستنا ومثقفونا فإنها رسائل لا يراها الآخرون إلا دليلا على ضعفنا وخنوعنا وهو ما يغريهم أكثر بالعدوان..

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

901 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع