الدراسة المتوسطة في الخمسينات ... ذكريات وشجون

                                

              عبد الوهاب ناجي احمد الجبوري


الدراسة المتوسطة في الخمسينات ... ذكريات وشجون

من ذلك الزمن الجميل وفي خمسينات القرن المنصرم كانت الدراسة المتوسطة في العراق تتسم بالجدية والرغبة في تحصيل العلم والمعرفة وتفاعل المدرسين مع الطلبة بأداء واجبهم بتفان وإخلاص ,كذلك واقع ونبض الحياة البسيطة والعفوية والألفة والمحبة في العلاقات الاجتماعية . كنت طالبا في متوسطة الغربية للبنين الواقعة في باب المعظم قلب بغداد النابض حيث يقع امامها مقر فرقة موسيقى الجيش التي كانت تسمع انغامها الشجية من بعيد وهي تنساب مع النسيم العليل تصدح في ذلك الجو البهيج وفي نهاية نفس الشارع يقع نادي الهواة الرياضي وفي الشارع الامامي لها كلية الهندسة والجهة الخلفية لها كلية الملكة عالية , كان مدير المدرسة التربوي الفاضل الاستاذ عبد الكريم العطار يعاونه التربوي الفاضل الاستاذ ابراهيم المنصور , ومن الجدير بالذكر كنا نذهب نحن الطلبة الى المدرسة مرتين في اليوم وعلى فترتين صباحية ومسائية الاولى تبدأ من الساعة الثامنة صباحا حتى الثانية عشر باربع حصص والثانية تبدأ من الساعة الثانية بعد الظهر الى الساعة الرابعة عصرا وبواقع حصتين وبين هاتين الفترتين كنا نذهب الى بيوتنا لتناول وجبة الغداء بعدها نعود ثانية الى المدرسة لإكمال دروس الفترة الثانية , هكذا كان الحال ويحصل ذلك بكل لهفة وشوق ودون كلل وملل لأننا كنا نتلقى علما وأدبا رصينين وتربية فنية راقية ورياضة تبني اجسام سليمة وصحية . ولم يكن وجود لقاموس الدروس الخصوصية كما هو شائع في الوقت الراهن حيث كان المدرس ان اقتضت الحاجة ان يعيد الدرس لمن لم يفهمه بصورة صحيحة حتى في الفرصة المخصصة للاستراحة . تتكون المدرسة من طابقين تحوي على الصفوف وقاعات مختبر للكيمياء والفيزياء ومكتبة ومرسم مع ساحة خلفية واسعة لكرة السلة والقدم مع قاعة مسرح وحلبة صغيرة للملاكمة , وكان في الصف الواحد لا يقل عن خمسة وعشرون طالبا يضم ابن العامل والفلاح والكاسب وابن الضابط والطبيب وحتى ابن احد وزراء الصحة السابقين ومن شتى القوميات والأديان منهم المسلم والمسيحي واليهودي كلهم في توليفة منسجمة وصداقة متينة لا مكان فيها لما يسمى بالطائفية ولم نكن نعرف معنى لهذه الكلمة اصلا ولا تخطر ببال احد وكنا نمرح ونلعب ونأكل سوية اثناء السفرات المدرسية , وكان في صفنا طالب عربي من اليمن الشقيق مبعوثا للدراسة في بغداد , انظر عزيزي القارئ كيف كان حال العراق حيث يبعث الى مدارسه المتوسطة طلاب عرب لينهلوا العلم من مدارسه وقد مرض هذا الطالب الشقيق يوما ما فقام وفد من طلبة الصف لعيادته في مقر اقامته الواقع في ضاحية جميلة وهادئة في الصرافية وهو بيت الطلبة المخصص للطلبة العرب المطل على نهر دجلة , وكان تدريس مادتي الكيمياء والفيزياء لا يجري في الصفوف المعتادة بل تدرس في قاعة المختبر الخاصة بهما حيث الاجهزة و وسائل الايضاح متوفرة واذكر ان قاعة مختبر الكيمياء كانت تحوي على منصة واسعة يقف عليها المدرس وخلفه السبورة وإمام المنصة منضدة كبيرة عليها اجهزة المختبر من انابيب اختبار ودوارق وغيرها وقد نصب على المنضدة صنبور الماء الذي يستخدم اثناء اجراء التجارب الكيماوية المختلفة من قبل مدرس المادة كذلك كانت القاعة تحوي على خزانات زجاجية فيها كافة المواد والعناصر الكيماوية محفوظة في قناني زجاجية مدون عليها اسماء المواد , ولا يسعني في هذا المجال إلا ان اتذكر اساتذتي الاجلاء وأترحم عليهم ان كانوا قد رحلوا اسكنهم الله تعالى جنات الخلد حيث غرسوا في نفوسنا المعرفة والثقافة الراقية وبناء الشخصية السليمة , ومن اساتذتي المحترمين الاستاذ حسين امين الذي حصل فيما بعد على شهادة الدكتوراه ولقب شيخ المؤرخين العرب حيث كان في مطلع شبابه مدرسا لمادة التاريخ الاسلامي للصف الثاني المتوسط وحفز فينا حب البحث والتقصي في علوم التاريخ واذكر كيف كان يوزع على الطلبة الكتب والمصادر التاريخية لكتابة بحث تاريخي فكان من نصيبي كتاب (( حياة محمد )) لمؤلفه الدكتور محمد حسين هيكل لكتابة البحث المطلوب , واني اتساءل هل يقوم اساتذة التاريخ في الوقت الراهن بتوجيه طلابهم لكتابة بحث تاريخي في هذه المرحلة المبكرة من الدراسة المتوسطة ( مجرد سؤال ) ومن اساتذتي ايضا الدكتورة ( فيما بعد) بهيجة الحسني في اللغة العربية والأستاذة وداد كساب في الرياضيات والجبر , وفي التربية الفنية والرسم الحاج سعاد سليم وهو شقيق الفنان الكبير النحات والرسام المرحوم جواد سليم الذي قام بعمل نصب الحرية الخالد في ساحة التحرير ببغداد وكان الحاج سليم يلقي على مسامعنا بعض النظريات في الرسم منها المنظور ذلك في الصف الاول المتوسط وفي الصف الثاني جاءنا في مادة الرسم والتربية الفنية الفنان القدير المرحوم شاكر حسن السعيد احد منظري الفن التشكيلي الكبار  ومن مؤسسي جماعة البعد الرابع , وكان يخصص بعض الوقت من الحصة الدراسية ليلقي على مسامعنا بعض اقاصيص ( هانس كريستيان اندرسن) لينمي ملكة الخيال والإبداع الفني في نفوس الطلبة كما كان يقيم معرضا سنويا من ابداعات ورسوم الطلبة ويختار الاجود منها وينظم دليل يتضمن اسماء اللوحات ورساميها ذلك في المهرجان السنوي للخطابة والرسم والتمثيل الذي تقيمه ادارة المدرسة في نهاية الفصل الدراسي وفيه تعرض مسرحية كاملة من اعداد وإخراج الفنان المرحوم الحاج ناجي الراوي وتمثيل نخبة من الطلبة الذي كان الفنان الراوي يدربهم على اداء الادوار في قاعة مسرح المدرسة .وفي هذا الاطار ولإكمال الصورة في مجال النشاط اللاصفي فكان يناط ببعض الطلبة ذوي الخط والتصميم الجيد بعمل نشرة جداريه مستطيلة الشكل توضع في اطار خشبي مغلف بالزجاج ويقوم بتحرير هذه النشرة الطلبة انفسهم بكتابة المقالات الادبية والعلمية والثقافية اضافة الى اللطائف والطرائف  المتنوعة وتعلق في اروقة المدرسة وتبدل النشرة من حين الى اخر , ومن زملاء الدراسة في هذه المرحلة اتذكر منهم ( غازي عبد الصمد )الذي اصبح فيما بعد ملاكما معروفا وعظوا في اتحاد الملاكمة باللجنة الاولمبية العراقية وتشاء الصدف ان اقوم بتأشير زواجه في السجل المدني عندما كنت موظفا في دائرة الاحوال المدنية في المنصور في السبعينات عند مراجعته الدائرة المذكورة , ومنهم ايضا الطالب حسن شلش الذي اصبح فيما بعد احد مدراء المصارف العرقية المهمة , وكذلك الطالب عباس عبد المجيد القصاب احد انجال وزراء الصحة السابقين . ولن انسى ذلك اليوم الذي هدد  بغداد فيضان دجلة عام 1954 حيث هرعت الجموع من طلبة مدارس بغداد لنجدتها من الغرق المحقق ومعاونة ابطال الجيش العراقي في تعبئة اكياس الجنفاص بالرمال لتقوية تخوم السدة الشرقية التي كانت في حينه تحمي بغداد من الغرق وذلك قبل انشاء سدة الثرثار , وكانت لحظات رهيبة ونحن نرى الافاعي  الكبيرة والحيوانات النافقة تطفو على سطح المياه الهادرة . ولك ان تقارن عزيزي القارئ بين ما أل اليه واقع التربية والتعليم للمرحلة المتوسطة في الوقت الراهن الاغبر وما كان عليه في الفترة التي نتحدث عنها حيث , كل شئ سائرا ( الى الوراء در ) بفضل ما افرزه الاحتلال الامريكي البغيض من دمار شامل في اجهزة الدولة وفساد مستشر اخذ ينخر في جسد البلاد حتى النخاع وأقول للمسئولين القائمين على قطاع التربية والتعليم وغيرهم ( النص ردن ) هكذا كنا وأين اصبحنا وكيف ؟؟
فارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء .واختتم مقالي هذا بتحية خالصة لجريدة المشرق الغراء مؤسسها وكادرها ذلك المنبر الحر الشريف

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

841 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع