قصتي بين ماض من الزمان وآت - رابعا

                                                                    

                          الدكتورعبدالرزاق محمد جعفر
               استاذ جامعات بغداد والفاتح وصفاقس / سـابقا

                               

   قصتي بين ماض من الزمان وآت - رابعاً / العودة الى بغداد:

*** في شباط (فبراير) سنة 1963، اتيحت "لصابر" فرصة لزيارة الأهل في عطلة نصف السنة, وغادرمطار موســكوعلى متن طائرة الخـطوط الجـوية الروســية ايروفلوت , وبعد طيران ممتع, حطت الطائرة في مطار بغداد, وتهيأ الركاب للنزول من الطائرة وما ان ترجل صابر, حتى هبً الأهل والأصدقاء يرحبون به وبعد أيام سافر الى (الشطرة), لزيارة والديه واخوانه, ونصحه بعض الزملاء بعدم  المكوث هنا طويلاً , لأن الجوالسياسي في بغداد وكل المحافظات بات ملبداً بالغيوم !
 ***بعد ان غادرالأقارب الديوانية (غرفة الأستقبال) مساءاً, اختلى احد اقارب "صابر" به,.. وأعلمه بما فعله جهاز الأمن مع المثقفين من غيرالموالين للنظام الجديد واتهموا بتهم مثل: " الشيوعية ً" او" العهد الملكي ", او "الناصرية"!


            
       
***في مطلع عام 1963  بـدأت تلوح في الأفق سحب قاتمة ضَّد سياسة الزعيم عبدالكريم رئيس الوزراء, ونشطت المعارضة بقيادة الأحزاب القومية والتقدمية والمرجعية الدينية في النجف الأشرف , كما أعلن طلبة جامعة بغداد الإضراب , وعَمَّتْ المظاهرات في بغداد وعدة مدن اخرى مطالبة بتغييرمسار الثورة والإطاحة بعبد الكريم قاسم ونظامه,.. وانقسـم الشعب بين مؤيد ومعارض , ونفـذ ت الاغتيالات السياسية في عدة مدن عراقية , وخاصة في مدينة الموصل، فادت الى تفاقم النزاعات بين الأحزاب والتنظيمات النقابية المؤيدة والمعادية لثورة الرابع عشر من  تموز!
 وهكذا أزدادت  تلك الحالة شراسـة بين القوى المتصارعة عندما اسـتيقظت كافة الأحزاب  التقدمية, وسـاهمت مع احزابً مختلفة لتأييد نظام عبدالكريم قاسم , وسـيرت مظاهرات بشعارات مؤيدة للنظام,مثل:
أتحاد فدرالي ,.. صداقة سـوفيتيه, وسـبع ملايين تريد حزب الشيوعي بالحكم",( كان تعداد النفوس آنذاك سبعة ملايين).

 *** كما بزغت تكتلات اخرى معارضة , رافعة شعار: وحده...وحده ,..وحده ياسـلام!,..
 أي انها تطالب ان يتبنى نائب رئيس الوزراء العقيد عبدالسلام , اعلان الوحدة الفورية مع, "الجمهورية العربية المتحدة",.. التي تكونت من الوحدة بين مصـر وسوريا.
وعلى اية حال,.. باتت المؤشرات السياسية على الساحة الداخلية والخارجية على وشـك الأعلان عن سقوط نظام قاسم في اي لحظة, وصار لزاماً على "صابر" العودة الى دراسته في موسـكو ولذا بدأ بتحضير وثائق السفر.
*** حجز "صابر" تذكرة سفرعلى الخطوط الجوية الأمريكية, " بان أمريكان" القادمة من طهران والمتوجهة إلى ميونيخ عن طريق بغداد,حيث من المفروض وصولها الى مطار بغداد عند الساعة التاسعة صباحاً من يوم الثامن من  شهر شباط (فبراير), سنة 1963,... ألا أن مديرشركة الطيران قال له:
من المحتمل عدم وصول الطائرة الأمريكية " البان أمريكان " في موعدها المقرر الى بغداد, وسـنـنـقـلكم بطائرة أخرى!

 *** لم يًعرَّ "صابر" أهـمـية لكلام ذلك المدير, واعتبره أمراً اعتيادياً, ثم تأهب  للتوجه نحو  المطارالدولي في بغداد , وما ان وصل الى قاعة المغادرة , حتى بدأ بالأجراءات المتعلقة بالسفر, ووقف في " الطابور" لأجل وزن الحقائب,.. وبعد  لحظات سـَمعَ كل من هو في المطار دوي متفجرات, وطائرة صغيرة تحوم فوق وزارة الدفاع الواقعة في باب المعظم مقابل بناية المطار, وتبيّن فيما بعد ان ما يدور في الأفق شيئاً مختلفاً, فحتى الساعة التاسعة من ذلك اليوم لم يُعلن عن وصول الطائرة الأمريكية, وسمع صوتاً من راديو بغداد يعلن عن مقتل عبدالكريم قاسم,..  ومنع السفر!
*** دبَّت الفوضى داخل المطار,... وتوقفت معاملة أســــتلام تذاكرالسفر وصدرالأمر بأخلاء قاعة الأستقبال من المسافرين  وعاد "صابر" إلى دار أخيه في بغداد , وقد لاحظ  في طريق العودة كيف كانت الطائرة تقصف وزارة الدفاع,.. التي كانت المقرالرســمي للزعيم قاســم ,  قائد ثورة 14 تموز 1958 ورئيس الوزراء ووزير الدفاع!
*** ما أن وصل "صابر" الى دار أخيه , حتى سـمع من اذاعة بغداد عدة بيانات تعلن اندلاع ثورة الرابع عشر من رمضان  ( ثورة الثامن من شباط )لإســـقاط نظام عبدالكريم قاســـم,.. بقيادة عبد السلام عارف والذي كان المساعد الأول لعبد الكريم قاســم ووزيراً للداخلية , ثم دبً الخلاف بينهما,.. وحكم عليه بالإعدام في محكمة الشعب برآسة المهداوي,ألا أن  الزعيم عبدالكريم قاسم, عفا عنه  وغادر العراق إلى المملكة العربية السعودية للعمرة!

**وفي يوم التالي ( السبت), تبين أن عبد الكريم قاسم وجماعته ما زالوا في وزارة الدفاع، ولذا طلب من (الزعيم عبد الكريم) التنازل عن الحكم وتمت الموافقة, ونقل وكافة المقربين في نظامه  إلى دار الإذاعة لكي يذيع بياناً يعلن فيه تنحيه عن السلطة ، إلا أن احد الضباط المعادين لقاسم وسياسته دخل البهو المكتض بمعظم رجال ثورة 14من تموز 1958,... ورشقهم برشاشته وأرداهم قتلى ، وتلي بعد ذلك بياناً أعلن فيه نهاية نظام قاسم).)                                    
*** بعد ثلاثة أسابيع من اعتكاف "صابر" في دار أخيه بما يشبه الأقامة الأجبارية , سمع بياناً حكومياً من الأذاعة ,  يجيز  للعراقي الـسفر الى خارج العراق , بشرط أن يثبت عدم ارتباطه  بأية علاقة مع االنظام القاسمي اوبأي تهمة جناية, بشهادة من مديرية الأمن,.. وفي الحال ,.. توجه "صابر" إلى مقرعمل عمه التاجر في الشورجة وطلب منه المساعـدة للحصول على موافقة مديرية الأمن على سـفره لأكمال دراسته, فنادى العم على احد عماله, وطلب منه تسليم جواز سـفـر"صابر" الى السيد (....), لكي يستخرج من الأمن شهادة بعدم الأنتماء لأي حزب والترخيص له بالسفرلخارج العراق! , وبعد أقل من ساعتين جاء الرجل  والبشرى تعلو وجهه, وجواز السفر بيده وسلمه "لصابر",.. وقد اكمل الموافقة على سفره!

*** وفي ليلة الســفر أقام أخ صابر دعوة لأصدقائه في مطعم (شريف وحداد), وكان ملتقى رجال الدولة، وكانت سـهـرة ممتعة, ولكن (الحلو ما يكملش), كما يقال باللهجة المصرية!,
   
 
                            ساحة حافظ القاضي     

 فأثناء وضع صحون الأكل، لاحظ "صابر" بالقرب منه شخصا من  المعادين لنظام قاسم,.. كان مدرس الأعمال في ثانوية الزراعة في الشطرة عندما كان صابر مديرها, وأتهم بسرقة (الخشب ) المخصص لتدريب الطلبة, ووصلت أخبارية تفيد بعمله (بودي) لسيارة "باص",.. فأضطر "صابر", لـرفع الموضوع الى مدير معارف مركز اللواء في الناصرية, لأرسال لجنة للتحقيق , وفي اول جلسـة انهارالمتهم , ثم اعترف , فاصدرت اللجنه قراراً بنقله الى ثانوية أخرى,(وتغريمه قيمة الخشب )!

 *** أن تخوف" صابر" من ذلك المدرس  يعود لعدم رغبته بالتصادم معه في هذا الوقت الحرج, فيتعرقل ســـفره في صباح الغد الى موســـكو!, فقد حدس بالذي سيؤديه التصادم فطلب من أخيه أن يدفع الحساب للنادل,ومغادرة المقهى بسرعة , ثم لاحظ تهيؤ ذلك المعلم وجماعته للخروج خلفهم  فطلب صابر من اخيه الأسراع,... متذرعاً بسوء حالته الصحية!
*** ومن حُسن الحظ, كانت في تلك الليلة مفارز من الجنود في مناطق بغداد المهمة  تطلب من كل سائق سيارة التوقف لتـفتيـشـه بدقة, بسبب حدوث اضطرابات في معسـكرالرشيد,.. وما أن وصلت سيارة أخ "صابر" بالقرب من احدى المفارز في ساحة التحرير, حتى أطلَ عليهما جندي, لفحص السيارة , وتفتـش هويتهم, للتعرف عـلى الركاب!,..ثم تمعن الجندي                             
"بصابر" وأخيه وصرخ: " مًن ؟,.. ,مَنْ؟ "..أولاد الحاج ....؟, وسرعان ما تعرف "صابر" عليه حيث كان معه في مدرسة الشطرة الابتدائية, وطلب الجندي منهما التوجه على فور الى دارهم , لأسباب أمنية , حيث اكتشفت محاولة انقلاب في معسكر الرشيد!

***لم يكن ارتباك "صابر" خوفاً من الأمن , لأنه حاصل على تصريح منهم يسمح له بالسفر الى خارج العراق , الا ان خوفه كان من أحتمال اي شجار مع ذلك المعلم , قد يـسبب تأخير طيرانه  في صباح الغد, ويتأجل سـفره الى الأسبوع القادم!
*** سـارت الأمور بشكل طبيعي, وفي الصباح توجه "صابر" واخيه الى المطار,..وتمت الرحلة ًعلى متن الطائرة الألمانية عن طريق بيروت,(ترانزيت),.. والسكن لمدة ليلة, في فندق (فينيسـيا الفخم),ومن حسن حظ "صابر" مشاهدة المطرب السـوري "فريد الأطرش", وهو يستلم مفتاح غرفته,..فتبادل معه التحية, وشرح عن ما يحدث في العراق , وما ان اوشـك فريد مغادرة المكان,..حتى ودع "صابر", وقال له :
 (عقبال عندنا ! ) , وفعلاً, بعد شهر من ثورة 8 شباط حدثت ثورة في سوريا في 8 آذار !
** ما ان وصلت الطائرة المقلة لصابر الى مطار موسـكو,.. حتى هرع اصدقاءه يلوحون له, فقد تسربت إشاعة أعتقاله, صباح يوم 8 شباط , لأن النظام الجديد,.. اتخذ موقفاً معادياً من الدول الأشــتراكية لمساندتها ثورة 14من تموز 1958, ومناصرتها للأحزاب التقدمية.
 ***  لم يكن "صابر" معادياً للتوجه العروبي ، إلا أن وجوده كطالب في موسكو،... وعلاقة موسكو الجيدة بالنظام السابق جعل بعض الناس يقذفون التهم جُزافاً على الآخرين , معتبرين كل دارس في الأتحاد السوفيتي هو " شـيوعي "!، وكان ذلك غير صحيح،... فالكثيرمن الطلبة الدارسين هناك بعيدين عن السياسـة ولم يكن لديهم انتماء لأيّ حزب!


يتبع في الحلقة القادمة

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

811 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع