قصتي بين ماض من الزمان وآت ! - ثالثا

                                                     

                   الدكتورعبدالرزاق محمد جعفر
          استاذ جامعات بغداد والفاتح وصفاقس / سـابقا

                                   

        قصتي بين ماض من الزمان وآت ! - ثالثاً / ســفرة لندن !

عاد صابر الى موسكو , بعد أنتهاء أجازته السنوية التي أمضاها في قطار الصداقة ,   فقبع  في سـكنه موشحاً بالحزن على فرصة ضيعها, لفقدانه عنوان الصبية التي تعرف عليها في مقهى مخاج كاله وأنتهى كل شي , وتوشح برداء الحزن  المُفعم بالآلام,.. لفقدانه فرصة لن تتكرر و تظاهر بالمرح,.. مكوناً علائق طيبة مع طلبة الجامعة ، ولكنه لم يوفق, وصار يتسلى بأغاني سيدة الطرب وموحدة العرب أم كلثوم ويردد:
ربـمـا تـجـمـعـنـا اقـدارنـا= ذات يـوم بـعـد ما عـزً اللـقـاء
فـأذا انـكـر,.. خـلٌ خـلـهُ = وتـلاقــيـنـا لـقـاءَ ,.. الـغربـاء
 ومضـى كـل الـى غايـتـه =لا تـقـل شـأنـا فـأن الحـظ شـاء
*** تذكرصابر, أن الزمن كفيل بطمس آلام السنين"،..فالمشكلة كالجبل,.. كلما أبتعدت عنه تراه أصَغر!
***  كون صابر زمالات جديدة ، وصار سكنه ملتقى للعراقيين عندما يأتي المساء,في معظم أيام الأسبوع ، عدا عطلة نهاية الأسبوع,حيث يقضيها في مشاهدة فلم سينمائي , او تمثيلية  ,..الذي يعتبر من أشـهر"البلشوي تياتر في المسرح الكبير"
المسارح العالمية, فقد شـيد في العصر القيصري, وأضيفت له تحسينات رائعة, ولغاية يومنا هذا مازال في الصدارة.
***  كما كون صابرعلاقات عابرة,..أوقل علائق لقتل الوقت كالتي يطلق عليها باللهجة العراقية " يابسه وتمن" مع بعض طالبات الجامعة, وفي يوم ما قالت له أحداهن : معظم العرب يعتبرون اي صبية ترتبط بصداقة مع شاب عاهرة , فأحتج صابر وقال لها:  
- لكل بلد عاداته التي يتمسك بها، فأنت في مجتمع مفتوح لا يعير أهمية لعلاقتك بالذكور,أما في مجتمعنا, فالأمر يختلف, لوجود قوانين شرعية تحكم سلوك الفرد في المجتمع, ولا يمكن مخالفتها مطلقا لأنها منزلة من الســـماء , ومدونة في القرآن الكريم, ولا يبيح أي خلوة بين الجنسين قبل إعلان الزواج الشرعي،حيث يعتبر أساس الزواج هو " الأشهار"!
*** رغب صابر في العطلة الصيفية سنة 1962 بزيارة اوربا مع بعض الزملاء المسافرين إلى لندن عاصمة إنكلترا بحراً، فتوجهوا بالقطار إلى " لينين كراد " أي مدينة لينين, التي كانت العاصمة في العهد القيصري , وتعتبرالمدينة الثانية عندما أصبحت موسكو هي عاصمة الأتحاد السوفيتي, بعد الثورة الشيوعية في السابع من أكتوبرسنة 1917 , وقد حافظت على طابعها المعماري للقرن التاسع عشـر كما أن موقعها الجغرافي وقربها من القطب الشمالي , كساها حلة ممتعة للغاية حيث يبدأ (النهار) في الصيف بالزيادة و(الليل) بالنقص حتى يصبح طول الغروب عدة دقائق وتسمى تلك الظاهرة بـ (بيلي نوج) , أي (الليل الأبيض) , أنه منظر خلاب يحدث مرة في السنة.

 *** رَكبَ صابر ورفاقه , باخرة روســية, أشبه بـقصر شـُـيدَ في القرن التاسع عشر,.. وزُيّنَ بطريقة حديثة تبهرالناظرين , وما أن يضع الراكب قـدمه على سـُـلم الباخرة , حتى يجد صفاً من المضيفات الروسيات الجميلات يبتسمن له,.. وأذا ما طلب المسافر أعانة, فستهرع أحداهن ملبية الطلب , ومترنحة بمشيتها, وكأنها أحدى بطات بحيرة البجع!, فيتفجر البركان الخامل بأحشاء السائل مدندناً مقطعاً من أغنية كاظم الساهر:

سلمتك بيد الله,.. يا محملني أذية
يا ريت ما شفتك وش جابك عليّه؟
***أمـضى صابر ورفاقه في تلك الباخرة أربعة ليالي ، ممتمة ومن أروعها ما حدث في مساء الليلة الأخيرة حيث كان صابر ورفاقه على ظهرالباخرة, وما أن بان ميناء لندن من على بُعد حتى لاحظوا أعداداً من مخازن "النفط", المستورد من حقول
 النفط العراقية , وراحوا يصرخون بالروسي أمام الركاب:
 (أَيتَّه ناشا نفتً!),أي:هذه مخازن نفطنا المنهوب,والناس من حولهم في ذهول , لم يستوعبوا صراخ الشباب!

***  دُهـشَ صابر ورفاقه عند وصلهم لندن وتجولوا بأشهر شوارعـها الموسـوم بـ "أكسفورد" , والذي يضَّمَ بين جانبيه أرقى مخازن الكماليات التي تبهرالزبائن , ومن المستحيل أن يغادرها الزبون دون شـراء شيئ ما,.. و كسبت تلك البضائع شهرة لجودتها , ولأخلاق الباعة الأنكليز بمعاملة البـشر!      
*** مضـى أسبوعاً على وجود صابر ورفاقه في لندن ,..ولذا قرروا العودة إلى موسكوعن طريق القطارمروراً بألمانيا, وكانت السفرة ممتعة حتى وصول القطار إلى الحدود البولنيه.  
*** أكمل الجميع شراء ما تيسر من الكماليات غير المتوفرة في موسكو, قسم منها كهدايا للمعارف, والقسم الآخر لبيعها للفرق الشـاسع بين سعر الشراء والبيع وهو ما يطلق عليه  
بـ (السوق السوداء),..ولم يوافق صابر على هذا العمل وأعتبره مضر للدولة السوفيتية, كما نبه رفاقه لتدقيق صـلاحية الفيزة البولونية, وفرح الجميع لعدم ســقوط فيزتهم , إلا أن ســـوء الحظ جعل القطار يتأخرعن موعد دخوله الأراضي البولونية , بسبب عطل فني,.. فدخل متأخراً الى اول محطة عند الساعة الثانية صباحاً , وهذا يعني دخول القطار بعد يوم واحد عن موعده المقرر!
 *** ما أن دخل الجندي المسؤول عن جوازات الركاب , حتى لاحظ نهاية صلاحية فيزة صابر لمدة يوم واحد,.. وطلب منه النزول معه لتصحيح فيزته حيث صارت (اكسباير)أي أنتهت   صلاحيتها "ساقطه" فضَجَّ رفاق صابر بالضحك,.. فهو الذي نبههم بضرورة التأكد من صلاحية فيزتهم , ولكن "حظه " المنحوس ,.. أستفاق من سباته!
   

                  جانب من شارع أكسفورد في لندن

*** انزعج الجندي من الضحك , متصوراً أنه المقصود , لعدم نطقه الروسية, وتكلمها كأي اجنبي يتكلم لغة غيرلغته ولذا اخذ جواز سـفـرصابر وامره بعصبية بالنزول بمعيته الى  إلى مقرالمفرزة العسكرية في محطة القطار , فأذعَّنَ صابر,... وما أن َهبَط َومسـَّت قدمه أرض المحطة , حتى أعطى الجندي أوامره للقطاربالتحرك, وراح رفاق صابر يصرخون , والتفت نحوهم في ذهول!, حيث كان بالقميص والبنطلون والشبشب!, وليس في جيبه اية عملة, وتبادل معهم الصراخ ، وبدأ القطار بالأبتعاد,وقاده الجندي إلى مقرالمفرزة العسكرية , وطلب منه الجلوس على مسطبة قرب الباب, ثم دخل مزهواً في المفرزة!  وبيده جواز سـفر صابر ولم يطل ثانية, حتى الصباح!
*** وفي الصباح بدأ الموظفون في محطة القطار البولونية بالوصول لعملهم,.. وشاهد صابر من ضمنهم ذلك الجندي,.. فتبعه وراح يكلمه بالروسي وهو (إمطنـَّشْ) أي لا يسمع ولا يتكلم ثم أشـرَ بيده إلى صابر لكي يتبعه,... ودخل بمعيته إلى ضابط برتبة كبيرة , وسلمه جوازه,.. وراح  الضابط يدقق به, ثم كتب عليه بعض الكلمات وسلمه للجندي وأمره أن يقود صابر ,.. نحو قطارعلى وشك  مغادرة المحطه, ولم يسلمه الجواز حتى صعد القطار وهكذا تم كل شيئ وفق أوامر العسكري , وأســتلـم صابر جوازه من الجندي البولوني وصعد إلى القطار , وبعد لحظات بدأ القطار بالتحرك , ففرح  صابر لأنتهاء تلك المشكلة وتألم, لا بسبب جهله لقوانين (الفيزة)، بل للحظ الذي جعل القطار يتأخر تلك الليلة!
*** جلـس صابرعلى أحد المقاعد الفارغة في عربة القطار يجتر الذكريات, وأخذته سُـنة من  النوم ,...ولم يشـعـر ألا عند توقف القطار في المحطة !,.. فترجل صابرووجد نفسه ثانية في محطة (برلين) , عاصمة المانيا الديمقراطية سابقاً ، فذهل لهذه المفاجأة ،... ولم يخطر بباله أن سلطة الحدود البولونية سـتعيده الى برلين ثانية!,..فأخذ صابر ينظر بوجوه الناس وهومهموم فمنذ الأمس وهو بدون طعام ولم يذق طعم النوم طيلة الليلة المنصرمة!
 على جندي روسي ، وركز صابر نظره على العلامة المميزة الموضوعة على قبعة الجندي,...أي: " المطرقة والمنجل" فتقدم نحوه وكلمه باللغة الروسية , فرحب الجندي به وأستمع بكل أدب لقصته وقاده إلى المركز العسكري الروسـي في الطابق الثاني في المحطة, وبعد استراحة قليلة، طلب الجندي من صابر أن يرقد على سرير في الغرفة المجاورة, فرمى صابر نفسه وغط في نوم عميق ،.. ولا يدري كم مضى من الوقت، حتى وجد الجندي واقفاً بجانبه وبصحبته شـاب وسيم بملابس مدنية زاهية ، قدم نفسه لصابر واستمع إلى قصتة , ثم طلب منه التوجه معه, فطاوعه صابر ونهض بمعية ذلك الرجل الروسي بسيارته الخاصة الدبلوماسية نحو مركز المدينة , وبعد فترة توقفت السيارة أمام مخزن للملابس الجاهزة، ثم  طلب الشاب من صابر أختيارالملابس الداخلية وبدلة,... وهكذا دفع الموظف الروسي ثمنها ، ثم اقتاد بعد ذلك ضيفه إلى فندق ممتاز وتكلم مع الأستعلامات باللغة الألمانية وسلمه المفتاح ووقع على ورقة خاصة , والتفت إلى صابر وحدثه بالروسية ، حيث اخبره بضرورة الإقامة بهذا الفندق لحين عمل التأشيرة (الفيزة), ثم سلمه ظرفاً يحوي بعض النقود, وأبى صابر أن يستلامها ، إلا أن الشاب الروسي أكد لصابر أن هذه النقود وجميع ما صرف عليه,.. هو دين بذمته يستقطع من راتبه عند عودته إلى موسكو, واقام صابربالفندق حتى اكتملت فيزته!  
يتبع في الحلقة القادمة,.. مع محبتي

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

489 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع