لا عدالة حيث لا حقيقة

                                       

قبل أسابيع وتحديدا في الرابع عشر من أغسطس (آب) الماضي انعقدت الجلسة السابعة لمحاكمتي وأفراد حمايتي، ونشرت الصحف نص ما دار في هذه الجلسة، وما وجه لأفراد حمايتي من اتهامات باطلة، ومما جاء في إفادات المتهمين - الشهود من أفراد حمايتي ارتكابهم جرائم قتل كان ثمن الجريمة الواحدة 200 - 300 دولار، على أساس أني دفعتها لهم شخصيا، يدا بيد، يا الله... بينما عندي مئات الموظفين وعشرات المحاسبين وأمناء الصندوق كان من السهولة تكليفهم بهذه المهمة والتكتم عن سبب الدفع أو تبويبه لأبواب صرف أخرى..

ولست أدري لماذا يكون نائب رئيس الجمهورية خصوصا الهاشمي بهذه السذاجة ويقدم الدليل على نفسه في عدد من الجرائم ربما تجاوزت 300 جريمة وعلى مدى سنوات، حسبما ذكر الناطق الرسمي باسم مجلس القضاء العراقي الذي لم يبق منه إلا اسمه، وبات عنوانا بلا مضمون. والمشتكى إلى الله، اسأل الذين تعاملوا مع الهاشمي وعرفوه عن قرب من كل الأطياف والألوان في الماضي والحاضر، هل هذه هي شخصية الهاشمي معلم الأركان ومدرس فن الحرب؟!

أوراق التحقيق – بما تضمنته من اعترافات انتزعت بالإكراه - أشارت إلى أن الهاشمي كان يكافئ كل من ارتكب جريمة من أفراد حمايته باحتفالات كان يراعي فيها المراسم البروتوكولية المعتادة؛ حيث يستدعي القتلة المفترضين إلى مكتبه وأمام مستشاريه وسكرتيره الشخصي وكبار مسؤولي الحماية وضباط الأمن الشخصي وكان الهاشمي نائب الرئيس يوزع على القتلة كتب الشكر مع مبلغ من المال، لم لا.. المناسبة جديرة بالاحتفال وتكريم القتلة من مهام نائب الرئيس، ورئاسة الجمهورية في العراق ومكتب نائب الرئيس على وجه الخصوص، هم ليسوا رجال دولة حامين للدستور والنظام بل عصابة من القتلة فرضت نفسها على العملية السياسية عن طريق المافيا وليس عن طريق صناديق الانتخاب.. ربما نسي المحققون أن عزف السلام الجمهوري أو دعوة ممثلين عن ديوان الرئاسة أو كبار الساسة والزعماء السياسيين أو ربما ممثلي الأمم المتحدة في العراق ضروري في مثل هذه المناسبات.. وبالتالي كيف تستقيم الاحتفالية دون ذلك.. لا أدري عن هذا النوع المبتكر من الكوميديا السوداء.. ليس إلا.
من مبادئ القانون الجنائي أن لكل جريمة دافعا، وفي هذا المجال لا أناقش إن كان لدي أو لدى حمايتي دافع لقتل موظف حكومي أو محامية أو ضابط أمن أو قاض أو إمام مسجد أو ناشط في الحزب الإسلامي أو محافظ أو شيخ عشيرة أو.. أو... شخصيات لا نعرفهم ولم نسمع عنهم ولم نلتق بهم ولم تجمعنا صدفة أو مناسبة أو مصلحة أو خصومة بهم.. لماذا إذن نقتلهم؟ لا أدري.. هذا جانب. ومن جانب آخر، إذا لم يكن الدافع شخصيا، فربما يكون الدافع ماديا، وأن حماياتي ما هم إلا قتلة مأجورون، وفي هذه الحالة لست أدري إن كان مبلغ 200 - 300 دولار يشكل رقما مغريا وكافيا للمجازفة بتقديم رقبة قاتل محترف للمشنقة، آخذين بنظر الاعتبار أن رواتب أفراد الحمايات تتراوح بين 750 - 1500 دولار شهريا. طبعا الدفع بالدينار العراقي وليس بالدولار ولست أدري لماذا اختار المحققون في الاعترافات المفروضة قسرا العملة الأميركية.. ربما العملة التي يتعامل بها القتلة المأجورون عادة هي العملة الدولية وليس الوطنية.. لست أدري.
وإذا لم يكن هؤلاء كما قدمهم قضاء المالكي ووصفهم إعلامه المغرض باعتبارهم قتلة مأجورين يقتلون مقابل المال، إذن البديل المحتمل أن يكون هؤلاء مجاهدين، والذي نعلمه أن هؤلاء يقتلون الناس حسب معتقداتهم لا طلبا للمال وإنما أملا بالفردوس الأعلى والضيافة عند رسول الله، عليه الصلاة والسلام، وفي هذه الحالة هل يعقل أن هؤلاء يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، الذي يقتل في سبيل الله لا تستهويه مادة صغرت أم عظمت، بل هو يقدم أغلى ما عنده وإن تطلب الأمر.. حياته.. وهكذا تصبح قضية 200 - 300 دولار مسألة محيرة يستحيل قبولها أو هضمها تحت أي ظرف كان.. لأنها ببساطة محض كذب.
نعم، لدي دافع حقيقي للقصاص من قتلة أشقائي وأحسبهم شهداء عند الله سبحانه، شقيقتي الحاجة ميسون الهاشمي وأشقائي عامر ومحمود.. لكن القتلة ما زالوا أحرارا طلقاء لسبب بسيط وهو أني لم آخذ بثأر إخوتي على الرغم من أنه سلوك مشروع خصوصا عندما تتستر أجهزة الحكومة على القتلة. إذا كان من خلقي أن أصفي خلافاتي مع الآخرين بالقتل لسعيت لقتل من قتل إخوتي، أو أجتهد لقتل المالكي خصمي السياسي اللدود، مثل هذا القتل سيكون له دافع ومغزى، ولا أدري لماذا لم أفعل ذلك؟ واخترت كبديل أن أقتل موظفا أو شرطي مرور أو محامية أو قاضيا... إلخ إذا كان لدي القتلة المدربون، ولدي الغطاء الرسمي، ولدي المال، ولدي السلاح والأكثر من ذلك لدي الدافع.. ولدي المعلومة عمن قتل إخوتي.. إذن لماذا لم أبادر بقتلهم؟ السبب الوحيد لأني لا أؤمن بالعنف حتى ثأرا ممن قتل أهلي وحرمني منهم. لقد تركت القصاص لله الحاكم العدل. والمقربون مني يعلمون أني حتى لم أتابع نتائج التحقيق ولم أعترض عندما قيدت الجرائم ضد مجهول، بينما نفذ المجرمون جرائمهم في وضح النهار وتحت الشمس وأمام الناس. والمالكي وزمرته يعرفون ذلك ويتكتمون عليه.
هذا غيض من فيض، وما أفرزه التحقيق المسيس، مضحك مبكي، ومن يرفض الانصياع لإرادة الأجهزة الأمنية والمحققين في ترديد اعترافات باطلة معدة سلفا يقتل، كالشهيد عامر البطاوي مثلا، الذي قتل بسبب التعذيب المفرط، وسلمت جثته لأهله وفيها نزف واضح من جميع مخارج الجسم، ولم تصدر شهادة بوفاته من الطب العدلي حتى الآن ورفض طلب العائلة بتشريح الجثة وما قيل عن فشل كلوي لم يعلن بيان أسبابه والأطباء يعلمون أن الشد والضرب المبرح يقود إلى ذلك والشهيد – بإذن الله – كان موفور الصحة والعافية، إلى جانب ذلك رفض القضاء متابعة الموضوع على الرغم من اعتراض اللجنة النيابية لحقوق الإنسان.
لاحظت أن بعض أفراد الحماية كرروا أمام المحكمة نفس الأقاويل والادعاءات التي كانوا قد ذكروها أمام الهيئة التحقيقية، استغربت وتعجبت، لسبب أن هذه الاعترافات على الرغم من أنها كاذبة ومفروضة عليهم فإنها ستقودهم إلى حبل المشنقة بينما هم أبرياء، جاءت الإجابة من عوائلهم أن أبناءهم يفضلون الموت على التعذيب!!! ويا هول ما يتعرضون له! سألنا كيف؟ جاءت الإجابة «التهديد بالاغتصاب». التهديد بالتعدي على المحارم، الأم أو الأخت أو الزوجة، تسليط فولتية كهرباء عالية على مناطق حساسة في الجسم، الأعضاء التناسلية!! أو الأذنين!! حيث يتعرض الإنسان كما علمت إلى كم هائل من الانفعالات العصبية والنفسية التي لا يمكن وصفها أو تحملها أو السيطرة عليها، العبث بمخارج الجسم بطريقة مقززة ومهينة.. لهذا السبب كان المرحوم عامر البطاوي ينزف من جميع مخارج جسمه.
هذا نمط من الوسائل المستخدمة في التحقيق وأكده متبجحا أحد المتورطين بالتعذيب من منتسبي الأجهزة الأمنية وأحتفظ باسمه عندما قال محاولا زرع الخوف في قلوب المعارضين «لا يصمد أمامنا أحد، ولدينا من الوسائل ما يمكن أن تجبر أي شخص بالاعتراف بأي جريمة»، ومضى قائلا، «رشح لي من تشاء وأتعهد لك بإجباره وخلال خمس عشرة دقيقة بالاعتراف بأنه من قتل الإمام الحسين عليه السلام.. وأنا في هذا أقسم ولا أمزح».
 بالمناسبة قضى شاب آخر من عشيرة البطاوي قبل أسابيع أيضا بسبب التعذيب المفرط، كما قضى شاب آخر من البصرة لنفس السبب وبعد 48 ساعة من احتجازه خطأ بسبب تشابه الأسماء، هذا ما نعلم به.. لكن الفاجعة أكبر من ذلك بكثير؛ حيث يقضي خلف القضبان ولسنوات طويلة الآلاف من الشباب الأبرياء الذين أخذوا بالشبهة محرومين من حقهم في الحرية والحياة الكريمة، والتقارير الأممية والوطنية والعربية حول ملف حقوق الإنسان في العراق خير دليل، وفضيحة ليث الدليمي شاهد حي، تم التستر عليها كما جرت العادة في مثل هذه الفضائح بتبديل لجنة التحقيق واختفت القضية بعد ذلك عن الأضواء، وسكت الإعلام المخطوف، وانشغلت اللجان المتخصصة في مجلس النواب بمسائل هامشية وتخلت عن حقوق الناس.
خمس سنوات مرت والحكومة العراقية تمنع ممثل المقرر الخاص ضد التعذيب من دخول العراق لتقصي الحقائق بصدد المئات من التقارير المقلقة التي وصلت مكتب المقرر حول التعذيب المنهجي اليومي في العراق، والسبب واضح ومعلوم.
والتعذيب في العراق بات يشكل فضيحة وعارا، بل مفارقة بسبب عدم انسجام مثل هذا السلوك الذي يطبع الأنظمة الشمولية بما فيها من سوء مع مواصفات ما نطلق عليه (العراق الجديد)؛ حيث نفترض احترام الحقوق المدنية وسيادة القانون والمؤسسات. وما كان ذلك ليحصل لو صمد قضاتنا أمام الترهيب والترغيب، لكن الذي حصل هو استجابة قضاة نافذون ومؤثرون لخدمة الحكم التسلطي وتكريس التحالف غير المقدس بين السلطة والثورة، وسهل ذلك إصدار أحكام جائرة أضرت بالعدالة وقوضت سمعة القضاء العراقي.
وهكذا، عندما يكون القضاء مسيسا، وعندما يتحيز القضاة ويفقدون استقلاليتهم وحياديتهم ونزاهتهم، وعندما يتخلى الإعلام الرسمي عن مهنيته ويصبح مطية قيادها بيد من يملك القوة والسلطة، هنا تغيب العدالة، وتضيع الحقيقة، ويشيع بدلها التدليس والكذب والتزوير، وبفضل ذلك تضيع الحقوق، ويصبح من السهولة بمكان أن يتحول المجرم إلى بريء، والبريء إلى مجرم، بجرة قلم.
وعلى هذه الشاكلة، لماذا لا يتحول سياسي معارض نذر نفسه للسلام بين عشية وضحاها إلى متهم بترؤس عصابة للقتل والإرهاب؟ لماذا لا وقد حصل هذا فعلا في قضية استهدافي؟
بل هذا بالضبط هو الوضع الذي عليه بلدي في هذه الأيام، لذا ينبغي الحذر فيما نسمع أو نقرأ أو نشاهد. وانتظروا قصصا جديدة وروايات في جلسة المحاكمة المقبلة يوم التاسع من سبتمبر (أيلول) الحالي.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

825 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع