لو كان الشعر رجلاً .....لكان تريكو صكر المرّاني

                                          

                       كتابة - إيمان البستاني

   

  

لو كان الشعر رجلاً ...لكان تريكو صكر المرّاني

 

وبنيتُ مِنْ أسمى المكارمِ مَعـقلاً     ســـــيكونُ إيثارٌ له عندَ النهى
هبةُ الزمــــانِ وقد تكاثرَ خيرُها     لينالَ منهــــا ما يؤملـُهُ الورى

أحد فحول الشـعر في زمن شح القرض فيه وتفشت العجمة هو( أبو ضرغام ) تريكو بن صكر بن عبدالنبي بن مرّان بن عبدالله بن غنّام بن مبارك المندوي , وُلدَ في العمارة بالعراق , ويقال عن وقت مولده , إنه قبيل منتصف ليلة ٢٥ يناير / كانون الثاني من عام ١٩٢٥ م
وقد سمّاه والده ( تريكو ) تيّمناً بطيف رآه في المنام وهو بالشام بعيداً عن أمّه الحامل به في العمارة التي فيها بيتهم المبني بالطابوق
فقد رأى مصباحاُ كهربائياَ في حجرة بيتهم العلوي المطلّة على الشارع , فكتب الى زوجته لتسميّ الطفل القادم ب ( تريك ) الضياء , وهو الاسم الذي كان يطلقه الناس على مصباح الكهرباء عندهم في العراق
وأراد بعض الأقرباء تسميته ( عبدالله ) وهو الاسم الذي كان معروفاً به في المدارس في مدينة الموصل في السنوات الأولى من دراسته , بينما شاع اسم ( تريكو ) في بيتهم بين جميع الأهل والأقرباء . ثمّ عُرِفَ باسم أبي ضياء قبيل زواجه , وشاع اسمه ( أبو ضرغام ) بعد الزواج و مولد ابنه البكر ضرغام قبل زهاء عام من ولادة أخيه ضياء , وإن بقى معروفاً بين بعض الناس بأبي ضياء أيضاً , وقد أختار هو نفسه أسماء أولاده جميعاً من بنين و بنات , تتألف عائلته من خمسة أبناء هم (ضرغام وضياء وكامل وأكرم وزيدون) وثلاثة بنات هن ( نسرين وهيلين وماري) , ترى فيهم الفنان البارع و المهندس المقتدر و الرسام المتألق و الموسيقي المخترع , هم جميعاً ابناء نجباء يستحقون فخر أبيهم

    

تريكو صكر المرّاني ....هو أول محام في طائفته (الصابئة المندائيين) خريج كلية الحقوق عام ١٩٤٦ / بغداد ....رسام ماهر...نحّات ....خطاّط ....و قلّ من ينقش مثله على الفضة , كان مرجعاً في اللغة العربية والنحو والعروض , و مرجعاً في اللغة الإنجليزية التي أتقنها من خلال دراساته الواسعة في الفلسفة , علوم ما وراء الطبيعة , المحاسبة , الرسم والأدب الإنجليزي
بارعاً في الشطرنج و ينافس أبطال العراق أيام المرحوم عبدالرزاق أحمد طه

لم يمدح حاكماً, لم يتطرق إلى السياسة , عزة نفسه في تواضعه أسمى من بلاغة شعره , كان يرفض أن ينشر حرفاً واحدا من مؤلفاته فزهد في نفسه وفي تربية أبنائه  , له العديد من المؤلفات منها : الموشح , في العروض , الأصل في بحور الشعر , النثر وغيرها وكذلك عدد من الكتب المترجمة وأهمها إيّاك أمنح
رحل جسده في سوريا عام ٢٠١١ وبقيت روحه بين أهله وأحبابه


                 

ديوانه ( من الهمزة الى الياء ) وصلني هدية من نجله البار المهندس الشاعر الاستاذ ضياء بأهداء من يده الكريمة وقفت صامتة أمام هيبة كلماته
الديوان ضخم ب ٧٨٢ صفحة من الحجم الكبير له هيبة الشعر , ثمين كأنه كنز يحوي قلائد من جواهر منضودة , الشعر فيه حكم ومواعظ و تهذيب انه بأختصار سيرة رجل حكيم اتكأت عليه الدنيا بقضها و قضيضها
صورته رحمه الله على الغلاف توشي بوسامة واضحة يفوح منها عطر القصائد و رنين القوافي  وبالمحاماة مهنة
في مفتتح الديوان كلماته المكتوبة كأهداء بخط يده الكريمة ( رحمه الله )  وهن ثلاث كلمات فقط حيث يقول (الى الأجيال بعدي) كتبها ببغداد في ٤- ٤ - ١٩٧٨ م .....كأنه ترك روحه فيها و تزن اكثر من ألاف الأبيات


  

يحكي في مقدمة ديوانه أن أوّل قصيدة له نظمها سنة ١٩٤٣ , ولم يبلغ حينذاك الثامنة عشرة من عمره , و يذكر منها هذين البيتين في الفخر والتحدي
وأضمرتُمْ لَي الشَرْا      فكان الشرُّ بي خَيْرَا
و قيَّدْتمْ سَرَاحِيني        فكُنتُ اللَّيْثَ والصَّقْرَا

ثم قفز قفزة عظيمة في الشعر في أوّل سنة ١٩٧٠ , حين نظم قصيدته ( مناجاة النفس) و مطلعها


تَقَدَّمْ ففي عُمْرِ الزَّمَانِ تَقَدُّمُ        فَأنْتَ الَّذي تَبني وَغَيْرُكَ يَهْدِمُ

كانت الفترة من عام ١٩٤٣ إلى عام ١٩٧٠ فترة جدبٍ من حياته , فلم ينظمّ خِلالها إلاّ قصائد تعدّ على أصابع اليد وأبيات متفرقة قليلة
كانت الفترة أعلاه فترة كفاح في الحياة , لم يخطر بباله يوما أن يصبح شاعراً , ولم يلجأ إلى نظم الشعر في ذلك العهد إلا تسلّياً
كانت قصيدته عام ١٩٧٠ ( مناجاة النفس ) هي أوّل الغيث , وكان أول الغيث قطراَ امتد من سنة ١٩٧٠ إلى سنة ١٩٧٧ وهي الفترة التي زادت على ثماني سنوات من عمره , لم ينظم خلالها إلا قصائد قليلة وأبياتاً متفرّقة, تسلّياً بكتابة الشعر و نوعاً إلى البراعة في تصوير الأفكار و حبّاً لجمال الفنّ الشعري
وأخيراً انهمر الغيث في ١٩٧٧عندما نظم ١٦ بيتاً من قصيدة ( تحية إلى ضرغام ) و مطلعها

ضرغامُ يا ولدَ القصيِدِ      والعِلْمِ و الأدبِ الحميدِ

ترى هل إبنه ضرغام كان من يمسك سحاب الشعر ما أن نطق والده بقصيدة له حتى انهمر سيل الشعر ليروي صحارى العطش و يخضّر واحات من عطاء اثرى الشعر العمودي  بقوافيه و بحوره بجميل الوعظ وحكمة و بلاغة الدروس والعبر
تراه يخص كل حرف بقصائد يبدأ مطلعها من حرف الهمزة الى حرف الياء , علاوة على الشرح و معاني المفردات المدرجة اسفل الصفحة وكأنه بهذا معجم لغوي تحت يمينك يرشدك لما استعصى فهمه , حجم ما تم أدراجه و شرحه ينبأ بأنه عمل ضخم استغرق سنيناً طويلة ليكتمل و يكمل هدفه بإيصال الفائدة المرجوة منه كاملة لا ينقص منها شيء
يبقى قراءة ديوان (من الهمزة إلى الياء) هذا السفر الضخم الذي يروي عن الحياة تجاربها بأبيات منظومة في كل بحور الشعر الستة عشر كمنهج للدراسة والتعّلم و تشمل أنواع القوافي في جميع حروف الهجاء و بمختلف مواضيع الحياة , منها موضوع المرأة حيث أنصفها في كل القصائد و مجدها لمنزلة تليق بها ومثالاً على ذلك حين يقول
فإلى النَّسَاء تَحِيَّة ُ مَنْ مُدنفً          يَرْجُو  لَهُنَّ الخْيرَ كالشَجَرَاتِ
هُنَّ الجذُوُرُ علَى المَدَى و جُذُوعُهَا     نَحْنُ الرَّجَالُ عَلى خُطَى دَرَجَاتِ
وفُرُوعُهَا جِيلٍ جَديدُ نَاهِضُ           مَنْ أنْجُمٍ زُهْرٍ و مِنْ زَهَرَاتِ
سَلِمَتْ فُرُوعُ بعدكُنَّ و بَعْدنَا          و سَما بِها شَجَرُ على بَذَراتِ
و يروي حكم الحياة و مواعظها على لسان من مر بكل ما في الحياة من افراح واتراح و كأنه يعطيك درساً مجانياً عن الحياة .
هل في الضلالة قول نصح ينفع      وهل الأصم إذا يخاطب يسمع
دنيا غرور أهلها في غفلة          أعمتهم أهوائهم والمطمع
حتى في تقربه لله الواحد الأحد بزهده و صلاته و دعائه يكشف لنا عن مكنونات نفسه النقية الصادقة بلا تزلف ولا  رياء .......
آمنت بالله إلهاماً فقيضَ لي             قريحةً مزجت شعر الهدى بدمي
وقد بدأت اجيد النظم في شعري       ولم أكن ابلغ العشرين في حلمي
جعلت كل بحور الشعر بحر هدى        يفيض بالنصح والارشاد كالديم
انا الذي تُبصر الاجيال موهبتي          ونستقي أعظم الاقلام من قلمي
من يغترف من ينابيع الهدى فطناً            فلا يعود على ما نال بالندم


اذا ما تصفحت ديوانه ستجده  يتربع بشعره على منصة ان يكون ( أباً للجميع ) وبهذا اجده قد حل لنا لغز كلمة الأهداء حينما كتب ( الى الأجيال بعدي ) .....نعم كل جيل سيأتي وعينه عليك يا ( أبا ضرغام ) بأن تكون له أباً ناصحاً حنوناً واعظاً مربياً ........فإن لك يا أبا ضرغام و يا أبا ضياء في كل قارئ إبناً أو إبنة
يبقى أن اضيف بأنه قد رُشِح َديوان المراني لجائزة اليونسكو للآداب حال صدوره في دبي و استغرق إصداره بهذا الحجم أكثر من ٩ أشهر وأصبح الديوان موضوعاً لأطروحة دكتوراة في الآداب للطالبة ( عزّة أحمد ) في جامعة لال نهرو في الهند

إليكم قرائنا الاعزاء رابط القناة الفضائية العراقية لآخر لقاء أجرته معه قبل رحيله

نم قرير العين يا أبا ضرغام ....يا طائر الشعر ....من قصت الغربة أجنحته .... وبقى قلبه و لسانه غريب دار يلهج بأسم العراق ....  وكما قال الطبيب الشاعر ( ريكان إبراهيم )  في الجواهري
سلامًا
يومَ مُتَّ غرِيبَ دارٍ
وأوصتْ فيكَ
بغدادٌ دمشْقَا

في أمان الله

  

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

761 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع