النبات والكينونة: تجليات الهوية

                                                          

                                      مثنى مكي محمد

لا ريب أن علاقة الانسان بالنبات علاقة ضاربة في القدم، فالنبات بارتباط تواجده ببقعة جغرافية ما ساعد على استقرار الانسان ونشوء الحضارات البشرية بما وفره من شعور بالأمن الغذائي وديمومة الحياة إضافة الى استخداماته لأغراض علاجية. وهذا هو الدور النفعي للنبات.

الا أن هناك أيضا جوانب يلهمها النبات مما يدعو للتأمل والتفكر. ولعل أول ما يلفت الانتباه قصة الشجرة المحرمة (أو شجرة المعرفة) التي أكل منها آدم وحواء والتي كانت سبباً في إخراجهما من الجنة ونزولهما الى الأرض. فهنا نرى أول إشارة الى تأثير طارد يمارسه النبات على الانسان.

يقولُ الخالق جلَّ وعلا: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام:99(. يقرن النص الكريم "كل شيء" بالنبات. و هو ما أخرجته الأرضُ من زرعٍ وشجرٍ. وفي سورة نوح (17- 18) نقرأ الآية: ( والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً ).
فالنصين القرآنيين يقرنان الانسان بالنبات، فكل شيء خُلق من ماء، والأرض (التراب) هي المادة الخام. والتنوع في الخلق النباتي واختلاف أشكاله وأحواله آية تكشف للمتأمل المؤمن شيئاً عن الخلق والخالق على حد سواء.
زرعتُ في ربيع العام الماضي بذرة مانجو. و كنت أعرف أن نبتة المانجو لن يشتد عودها في ربيع قصير يليه صيف قاسٍ بلهيبه الحرّاق، ومع ذلك زرعتها.  وفي هذا العام، اطلقت العنان لزراعة نباتاتٍ مستوردة ادركت أنها لن تعيش لفترة تتجاوز ربيعنا القصير، على الرغم من العناية الخاصة التي تتطلبها في مناخ لا يشابه مناخها الأصلي. فليست العبرة دائما بالنجاح في مساعينا. انما قد يكون الفعل بحد ذاته هو الهدف، بغض النظر عن جدواه.  وحده الصبار عاش في حديقتنا. لا احب شكله ولا ابره المؤذية، لكنه يفرض، مع ذلك، احترامه على من يتعايش معه.
النباتات افضل اشكال الحياة. فهي لا تسبب الالم الكبير عند موتها، فهي رفيق صامت. أفضل بكثير من ذلك القط الذي هجرنا في يوم من ايام فبراير!
وقد يرتبط في الذهن صورة نباتٍ ما بصورة شخص، فتختزل الصورة، بما يرتبط بها من انطباعات، هوية الفرد الآخر. فالمشمش الذي اعتدت على قطفه وتناوله في بستان جدي الراحل يذكرني بحلو المعشر، وان كرهت الباذنجان، الذي اعتاد العراقيون على تناوله في زمن الحصار حتى سموه بـ "وحش المقلاة"، فاني أجد صورته تذكرني بفرد يماثله شكلاً وطعماً. مثلما قد تشعرني رؤية أحدهم بذلك التقلص في فمي عندما أتناول حبة حصرم حامضة. وبالطبع فان هنالك دائماً من هو كرقية حمراء حلوة و باردة في صيفٍ لاهب. وقد فطن الأدباء لهذا الأمر، فتركوا من النصوص ما يحفل بالعنب والرمان والكرز والنرجس!
وان أردت التناغم مع العالم المحيط فليس لك أن تكره الدغل في حديقتك. اذ ليس للإنسان أن يعيش في منطقة بيضاء تماماً أو سوداء تماماً. الرمادي هو لون الحقيقة. وهناك أكثر من أربعين ظلا للرمادي (وفي رواية سبعين). وتتماهى حدود المنطقة الرمادية بتدرجاتها مع بعضها البعض. وهذه التدرجات انما هي بدائل عن طرفي النقيض (الأبيض أو الأسود) لتستوعب تعددية الظروف والطاقات. والله وحده هو الفيصل الحكم.

فكلنا، على اختلاف ألواننا وأشكالنا، أبناء هذه الأرض، منها خُلقنا واليها نعود. ويبقى أن نتأمل المقولة التي ترى أنه "على الرغم من أن الطماطم فاكهه، الا أنه من الحكمة عدم استخدامها في سلطة الفواكه".

مثنى مكي محمد
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

899 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع