ظاهرة البرشة والريـال! ظاهرة دخيلة في المجتمع تحتاج تحليلاً سوسيولوجياً

                                   

                     د.أكرم المشهداني

      
لم يكن المجتمع العراقي يعرف ظاهرة الهوس الكروي للبرشة والريــال، حيث لم يكن لها وجود قبل 2003،فقد اعتاد المجتمع العراقي أن الجماهير العراقية الرياضية الشبابية متوزعة بين الفرق الجماهيرية العراقية العريقة الشهيرة:

الشرطة، الزوراء، الطلبة، الجوية، وصارت تطلق لقباً مميزا لكل واحد منها: فالشرطة صار قيثارة خضراء، والزوراء النوارس، والطلبة هو الأنيق أو العريق، والجوية هم النسور .....، وكذا بقية فرق ونوادي المحافظات، وكان كل شخص هاوٍ لكرة القدم ومتابعتها،  ان يختار الفريق الذي يشجعه ويحبه إما من خلال التأثر بأقرانه أو اخوانه، أو من خلال التأثير الاعلامي، او من خلال ارتباطه بأحد لاعبي الفريق أو أكثر، قرابةً أو زميلا او من ابناء محلته.. الى غير ذلك من الأسباب. واتذكر بهذا الصدد صديقاً كرخياً من سلك الشرطة في الستينات كان مشهوراً بين اقرانه  بتشجيع  فريق (المصلحة) رغم كونه شرطياً في النجدة، ووصل خبر الأمر إلى مُديره الوظيفي (مدير الشرطة التابع له) فنادى عليه ووبَّخه وهدَّده بالعقاب ان شوهد ثانية في الملعب وهو يشجع (المصلحة)!! لكن كل تهديدات المدير، لم تفت في عضده ولم تجعله يختار غير (فريق المصلحة) معشوقاً.. وثمة قصص أخرى مشابهة، وكانت آفة القمار قد تغلغلت في سباقات كرة القدم عندما تم الغاء سباقات الخيل (الريسز) فترة ما، فاتجه مدمنو الرهان من ساحات سباقات الخيل الى سوح ملاعب كرة القدم، وكان لذلك تأثير في توجهات الناس نحو فريق معين.. مع العلم وفي الواقع أن المراهنين ليسوا من عشاق فريق بالذات إنما هم يشجعون فريقا ما في لعبة ما، لكن في اليوم التالي يشجعون الفريق الآخر حين يتلاقى الفريقان..
المهم أن حمى التشجيع تطورت في البلد ثم تأسست روابط المشجعين فصار للزوراء رابطة وللشرطة رابطة.. ولاشك ان تدخل اشخاص مؤثرين سياسياً او رسميا في لعبة كرة القدم وتحيّزهم لفريق معين دون غيره بما فيهم القيادات الرياضية التي يُفترض بها أن تكون محايدة، الا انها فقدت الحياد وصار هناك تأثير واضح على اختيار الجمهور للفريق الذي يشجعه ويحبه. لكن على العموم كان الجمهور العراقي منصرفا للفرق الوطنية فقط،  ولم يكن هناك من يشجع فريقا اجنبيا ضد فريق أجنبي آخر.. حيث لم تكن هناك فضائيات ولا ستلايت ولا وسائل تواصل اجتماعي، فالمصدر الوحيد لمعرفة اخبار الفرق الاجنبية كان برنامج (الرياضة في اسبوع) للأستاذ مؤيد البدري (شافاه الله وأطال في عمره)  الذي كان برنامجه الاسبوعي يحتكر الحقيبة الاخبارية الدولية التي تصل بالطائرة!...
اما بعد 2003 وبعد ان دخلت الفضائيات والانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي، وبعد ان تدهورت مستويات الرياضة المحلية ولم تعد جاذبة للجمهور، صار الجمهور يتوجه نحو الفرق العالمية وبالأخص برشلونة وريـال مدريد ومانشستر يونايتد وغيرها من الفرق الاوربية الكبرى حيث باتت جداول مباريات في متناول المواطن العراقي وصار بث مبارياتها متاحاً لحظة انطلاق المباراة.. فتحولت الجماهير من تشجيع الفرق العراقية الى التشجيع والتعصب للفرق الاوروبية، فانقسم العراقيون بين (ريالي) نسبة الى ريـال مدريد أو (برشي) نسبة إلى برشلونة.. وهو امر غريب على المجتمع العراقي لم يألفه من قبل. ولاشك ان عوامل كثيرة دفعت لهذا التحول في اتجاهات الحماس والتشجيع الكروي بين الشباب العراقي ذكرنا بعضها، والبعض الآخر هي حالة الملل والقهر والكربة التي يعيشها المواطن العراقي وبالأخص الشاب العراقي، نتيجة الاخفاقات السياسية والامنية والاقتصادية والمعيشية وحالة البطالة التي سادت البلاد مما أدت الى قتل الطموح والأمل بين الشباب في تحسن احوال المجتمع، فانقسم الشباب الى مشجعين للريـال ومشجعين للبرشة وسط حالة (هوس) عجيب تذكرنا بانقسام الشعب المصري بين (أهلاوي) و (زملكاوي).. وصارت المقاهي تشهد خصومات ومناكفات وصراعات بين الشباب المتحمسين لهذا الفريق او ذاك، بل تحولت فيما بعد الى انفراد كل مقهى بمشجعي فريق واحد حتى لا تحصل شجارات ومعارك اثناء مشاهدة المباريات..  بل أن كثيرا من الأشخاص صاروا يتجنبون المقاهي التي تعج بالمشجعين غير المتجانسين عمريا ولا اجتماعيا يجمعهم الهوس الكروي، يرتشفون الناركيلة والشاي، وربما امور اخرى، منهم من يرتدي التراكسوت ومنهم من يرتدي الشورت او الجينز.. في جلسات غريبة، تثير الريبة.. نقاشات حادة وصراخ وحين تسأل احدهم هل تعرف اين تقع برشلونة او مدريد واين يقيم اعضاء الفريق وماهي ارتباطاتهم، عن الفريقين ولاعبيهم القابعين خلف البحر الابيض المتوسط في ارقى الفلل والعمارات والاندية وسعر احدهم يوازي بل يتجاوز ما تخصصه وزارة التخطيط والمالية لمحافظة من محافظات العراق.
ظاهرة اجتماعية لا يمكن فصلها عن عموم الظواهر المستحدثة في المجتمع العراقي بعد الاحتلال، وفي ظل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتأزمة في البلاد والتي زادت من اغتراب الشباب، ودفعتهم لتلمس التعويض عن تلك الأزمات بمظهريات غريبة مستحدثة منها ظاهرة البرشة والريــال!
الدكتور أكرم المشهداني

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

828 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع