فقراء المدن في العراق

                                                                                                                        

                                  د.سعد عبد الرزاق حسين

                

المقدمة:

ليس من السهل تحديد المصطلح الذي يشير الى الفئات التي تقطن المناطق الفقيرة في المدن الكبرى¡ وذلك لإختلاف الأشارات الى هذه الشريحة الأجتماعية عبر مراحل تاريخية عديدة.  فقد جرى الأنتباه لهذه الفئات بشكل واسع مع دخول بعض البلدان الأوربية المرحلة الصناعية في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر¡ وحتى هنا فأن دورها واهميتها أختلف بحسب البلدان التي أنجزت بطرقها الخاصة والفريدة احياناً مرحلتها الصناعية¡ وتبرز هذه الفروق خصوصاً بين أهم بلدين في القارة وهما بريطانيا وفرنسا.

ولم يكن في أطوار الرأسمالية الأولى من إستيعاب مدن يتجاوز عدد قاطنيها عدداً محدداً من السكان. فالمشكلة العتيدة التي استمرت لقرون عديدة منذ استقرار بعض المجتمعات الزراعية في أرض محددة بحدود القرن العاشر قبل الميلاد¡ كانت تتعلق بمشكلة تأمين الغذاء لسكان المدن الأولية التي كان يعتمد سكانها على المنتجات الزراعية القريبة من حولهم.  فليس اعتباطاً على سبيل المثال ان حدد افلاطون الحجم الأمثل لسكان المدينة (الدولة) بـ 5040 من المواطنيين فقط من دون العبيد.  رغم ان هذا العدد مهم لفلسفة الرياضيات في العهد الأغريقي حيث انه يقبل القسمة من كل الأعداد من 1 الى 10 من دون ان يبقى له باق كما يقبل القسمة من العدد 12 الذي كان له رمزاً دينياً واسطورياً لليونان القديمة¡ لكنه يدل ايضاً على ان عدد سكان المدينة شغل جميع فكر الفلاسفة والمفكرين لغاية العصر الصناعي.

لم تكن المدن ممكنة قبل اكتشاف الزراعة واستقرار الناس في المكان¡ قبلها كانت هناك جماعات هائمة يجمعها الصيد والقنص من أجل الحصول على غذائها.  ومنذ ذلك الحين كانت مشكلة العدد المناسب للجماعة من المسائل  المهمة التي تقرر بالتالي مسألة استمرارالجماعة وإمكانية بقائها¡ فلم يكن بالإمكان زيادة عدد أعضاء مثل هذه الجماعات عن العشرة او العشرين من الرجال والنساء¡ ولا يتم قبول اعضاء جدد بسبب ندرة مصادر الصيد وصعوبته.  فكانت تهيم في الارض من مكان الى أخر للحصول على غذائها.  كما لم يوجد بينهم اي نوع من تقسيم العمل¡ فلا وجود لزعيم او رئيس¡ ويتقاسمون ما يحصلون عليه بالتساوي¡ إذ ان اي نوع من عدم التساوي يعني موت بعض افرادها بسبب الجوع.  وربما عنى ماركس بمثل هذا النوع من التشكيلات الأجتماعية الأولية بالشيوعية البدائية.

ومع ظهور الزراعة واستقرار الناس في المكان لفترة قبل ان تبور الأرض الزراعية والتفتيش عن اخرى¡ وامكانية تراكم فائض الأنتاج الزراعي وحفظه لمواسم قادمة¡ اصبح من الضروري إجراء نوع من تقسيم العمل¡ بحيث اصبح بإمكان الجماعة التخلي عن بعض افرادها من العمل بإنتاج الغذاء لأعمال أكثر اهمية لبقاء الجماعة.  أولى الوظائف التي جرى تحريرها من الانتاج المباشر للغذاء كانت وظيفة الحارس او الحراس الذين يصدون هجمات الجماعات التي كانت تهاجم الجماعات الزراعية من اجل الحصول على فائضها الزراعي.  وهكذا كان لبناء مخازن للمحاصيل الزراعية الفائضة عن الحاجة وتسيج ارض الجماعة بأسوار محكمة وحراستها من المهام الأساسية للجماعات الزراعية الأولية.

وكانت مدن العصور الوسطى منظمة بشكل دقيق من حيث موقعها وعدد سكانها وترتيب خارطتها ودور سكن فئاتها المختلفة.  فمركز المدينة كان على العموم يتكون من باحة او ساحة تقع فيها الكنيسة وتحيط بها دور سكن الأغنياء وتحيط بعدها سكن الفئات الأقل ثروة ثم يتبعها سكن المهنيون والعمال الذين تحتاجهم المدينة.  وكان من المهم ان تكون المدينة مسورة ولها بوابات تغلق ليلاً، ويفضل ان تقع المدينة قرب منبع مائي نهري او بحري، بحيث يحيط بها الماء من ثلاثة اتجاهات، وذلك لأهميته من حيث الدفاع عن المدينة في زمن الحرب. كما ينبغي ان يكون خارج اسوار المدينة ارض زراعية خصبة تؤمن الغذاء لسكان المدينة.

وبقي الأهتمام بموقع المدينة وتقسيمها وتنظيمها واسوارها وعدد سكانها يشغل اهتمام قادة المدن واثريائها لغاية مطلع الثورة الصناعية الأوروبية في القرن الثامن عشر.  وبالرغم من ان النظام الأقطاعي الأوروبي كان يشجع الفلاحين في البقاء في الأرض وزراعتها سواء بالقوة ام عن طريق المغريات التي وصلت الى زيادة حصة الفلاحين من المحصول، ووصل الأمر في نهاية العهد الأقطاعي بأن تم دفع حصص الفلاحين نقداً.  لكنه من الناحية العملية لم تكن المدن على استعداد لقبول هجرة الفلاحين اليها قبل ظهورالمانيفكتورات ومن ثم المصانع الأولية لولم يتوفر المنتوج الكافي لغذاء المهاجرين الريفيين.  وهذا ما وفرته الثورة الزراعية التي سبقت الثورة الصناعية، من خلال استخدام اساليب وتكنولوجيات جديدة في العمل الزراعي، كما ساهمت التجارة مع ماوراء البحار والمستعمرات بتوفير الغذاء الكافي لتحرير الفلاحين من العمل الزراعي وانتقالهم للمدن الصناعية الجديدة.  وحتى المدن الصناعية الأولى كانت محددة بالمكان من حيث ان تكون قريبة من الأنهر او البحار، وذلك لإستخدامات الطاقة البخارية ولغرض سهولة نقل البضائع عبر الأنهر والبحار.

ولم تمر بلدان العالم الثالث بمثل هذه الأطوار التي عرفتها مدن أوروبا، فقد تمت هجرة سكان اريافها الى المدن في الربع الأول او الثاني من القرن العشرين، بسبب أغراءات المدن الجديدة من حيث توفرها على العمل وبسبب تدهور القطاع الزراعي بالمقارنة مع بقية القطاعات الاقتصادية، واكتظاضه بالسكان الذين اصبحوا يشكلون  فائضاً وعبئاً عليه.  أما مشكلة توفير الغذاء لمدن العالم الثالث، فقد عنت بها التجارة الخارجية التي اصبحت الآن مزدهرة بفضل السوق العالمية التي تزود بلدان العالم بكافة المنتجات ومنها الزراعية، طالما يتوفر النقد المطلوب. علماً ان أغلب بلدان العالم الثالث كانت قد تحولت الى بلدان زراعية مصدرة لمنتجاتها نتيجة لتقسيم العمل الدولي الذي وضعته بلدان المتروبول في فترة الأستعمار.

وهكذا ظهر دور "فقراء المدن" حديثاً في بلدان العالم الثالث مع ظاهرة التحضر الواسعة والسريعة التي بدأت منذ منتصف القرن الماضي والمقترنة بزيادة سكان المدن (الحضر) بفضل الهجرة الريفية الواسعة لها.  وحتى هنا فأن الدور الذي تلعبه هذه الفئات يختلف كلياً عن سلفها التي لعبته في البلدان الراسمالية¡ وذلك بسبب اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية المحيطة ببلدان العالم الثالث عن تلك التي شهدتها البلدان الرأسمالية¡ وأهمها ان بلدان العالم الثالث لم تمر بمرحلة الثورة الصناعية.  إلا ان في كلاهما ظهرت اهمية هذه الفئات في المراحل الانتقالية التي لم تتوفر فيها بعد الآليات التي تدمج فيها هذه الفئات بطبقات المجتمع الحديث (الحضر)،.وإذا كان ارتباط  فقراء المدن في البلدان المتقدمة مع الصناعة في مراحلها الأولية¡ فأن ارتباطها في بلدان العالم الثالث مع الهجرة الريفية الواسعة وجذب المدن لأهل الريف.

شهد العراق خلال العقود الستة الماضية, معدلات عالية من التحضر أو التمدين Urbanization بالمقارنة مع بلدان اخرى من العالم .  وتركت الهجرة الكثيفة من الريف الى المدن أثاراً وظواهر بليغة ومركبة: كمشكلة السكن وإكتظاظ المدن والازدحام وزيادة معدلات الجريمة وتردي الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم وغيرها.  كما كان لهذه الظاهرة اثراُ مميزاً على المستوى الثقافي حيث تراجع مضمون الحياة الحضرية الحديثة  لصالح قيم ومعايير الريف التقليدية والمتخلفة¡ او بكلام اخر تراجع ثقافات الطبقات الوسطى المدينية لصالح ثقافة فئات فقراء المدن ذات الاصول الريفية.  وسياسياً¡ ادت هذه الظاهرة الى  تهميش دور المواطن تجاه الدولة¡ حيث فقد امامها الكثير من حقوقه السياسية¡ وتحول الى "نفر" بين جموع غاضبة لا تفهم لغة اخرى غير العنف¡ وفرض عليهم الانتماء الى جماعات تدعو الى تحقيق اهدافها بالقوة. أن تكدس المهاجرين الريفيين في أحياء فقيرة تفتقد الى الخدمات الأساسية تحيط بالمدن الكبرى أو بالقرب من مركزها¡ جعلتهم يكونون ثقافة فرعية متميزة تختلف عن كلا الثقافتين المدينية والريفية إن صح التعبير.  واجتماعياً¡ لا تنتمي هذه الفئات الى احدى الطبقات الاساسية المتواجدة في المدن¡ بل تبقى مستقلة عنها¡ ذلك ان من اهم خصائص هذه الفئات هي طبيعتها الانتقالية¡ الغير مستقرة.

لا يشكل فقراء المدن طبقة بحد ذاتها بل انهم فئات اجتماعية من بقايا الطبقات الذين تغيرت مكانتهم في المجتمع¡ أغلبهم من فقراء الريف سواء من الفلاحون او العمال الزراعيون. وقد كان من المفترض ان تتحول هذه الفئات الى احدى الطبقات الحضرية¡ كالعمال او الفئات الوسطى من الموظفين او التجار الصغار او غيرهم. لكن هذه العملية تستغرق فترة طويلة لصعوبة دمج هذه الفئات في مجتمع المدينة¡ ولضبابية التركيب الطبقي في بلد مثل العراق. و ليس بالضرورة ان تكون هذه الفئات فقيرة¡ بمعنى انها لا تمتلك قوتها اليومي¡ بل ان من بينهم من يملك ثروات طائلة بحيث لا يمكن مطلقاً وصفهم بالفقر.  ان ما يجعلهم في منزلة واحدة تقريباً هو طريقتهم في كسبهم للمال والدخل بطرق ليست دائماً مشروعة¡ وتضم هذه الفئة ايضاً العاطلين عن العمل او الذين يرفضون العمل او العمال المؤقتون الذين يغيرون عملهم بحسب الحاجة والطلب¡  كما ان طريقة معيشتهم ومعايرهم الاجتماعية تختلف عن معيشة ومعايير أهل المدن.

وهناك اشارات واضحة الى وجود هذه الفئات في كل المراحل التي سبقت الرأسمالية الصناعية. فأفلاطون في "الجمهورية" كان قد أطلق عليها نعت "العالين الطفيليين "الشعب" الذي يطمح بالضرورة الى "الانتاج لأنهم جديرين به", فأن ذوي العلة يكونون "حشد من طموحات غير نافعة".  وقصد افلاطون بهذه الفئة العبيد والمرتزقة الأجانب "الرعاع السابحين في كل البحار".  ويخلص افلاطون الى ان ذوي العلة لا يندمجون في اي جسم سياسي سليم¡ بل ينبغي استئصالهم منه "انهم يهيجون النظام برمته مثل الصفراء والبلغم في الجسم¡ وينبغي على الطبيب الماهر والمشرع ان يحتاطوا منهم¡ مثل مربي النحل الحكيم الذي يحتاط من عضاتهم¡ وإذا مافعلوا ذلك¡ ينبغي التخلص منهم ومن خلاياهم".   وجاء مصطلح الحشد او الرعاع mob من الأصل اللاتيني mobile vulgus ناس العاديين المتمرديين أو المشاغبين.  وخلال مراحل تاريخية كبيرة قبل الراسمالية ظهرت هذه الفئات في المدن بين اوساط الفقراء والمتسولين والقوادين والمقامرين  واللصوص وقطاع الطرق والقتلة وغيرهم¡ إلا ان دورهم كان محدوداً بفعل ندرة حركة الناس جغرافياً¡ وصغر المدن واسوارها وتنظيمها المتقن وحذرها من المتطفلين والغرباء.  لكن الظروف التي جاءت بها الرأسمالية في اطوارها الأولى من ازدياد حجم سكان مدنها¡ وهجرة سكان الريف الواسعة لها¡ وإزدياد الفوارق بين دخول افرادها¡ وإفقار شرائح واسعة من سكانها¡ جعل هذه الفئات تلعب دوراً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً مميزاً.  ولم يكن من الممكن دراسة هذه الفئات¡ إلا بعد ان اصبحت ظاهرة متاصلة في الطور الأول من الراسمالية.  لكن التطور الرأسمالي اللاحق كان قد ادمج الجزء الأكبر منها¡ من خلال تحويلهم الى الطبقات الحديثة للمجتمع الصناعي¡ وعلى الخصوص الى الطبقة العاملة.

ظهر الأهتمام في دراسة دور "الفئات الهامشية” او “الرثة” في منتصف القرن التاسع عشر¡ عندما اصبح لهذه الفئات دوراً سياسياً مؤثراً في التغيير السياسي الذي عرفته المجتمعات الأوروبية في تلك المرحلة¡ خاصة فرنسا التي واجه تحولها نحو الصناعة مشاكل وتعقيدات متميزة.  ومما اعطى هذه الفئة امتيازاً يعود الى ان الصراع بين الطبقات والفئات والنخب السياسية الفرنسية الذي اخذ بسرعة قالباً راديكالياً حاداً¡ وكذلك بسبب وجود طبقة فلاحية كبيرة نسبياً. وربما تتمحور أغلب هذه الدراسات حول مفهوم "البروليتاريا الرثة" Lumpenproletariat  لماركس الذي حاول من خلاله تحليل الدور السياسي لهذه الفئات في الصراع الطبقي والموقف من الثورات التي عرفتها فرنسا خلال القرن التاسع عشر خاصة ثورة شباط 1848.  وهذا لا يعني بأن فلاسفة ومفكرين قبل ماركس كانوا قد اشاروا في كتاباتهم الى هذه الفئة.  هيغل في إطار مناقشته حول الثروة والفقر في كتابه "فلسفة الحق"، ßÇä ÞÏ Ãßد بأنه من الممكن لنوع معين من الجمهور من تهديد النظام السياسي والأجتماعي القائم¡ ويتكون هذا الجمهور من الجماعات الكسولة والهامشية ومن الأقليات.  وكتب بأن "الفقر في حد ذاته لا يحول الأنسان الى غوغاء¡ يظهر الغوغاء فقط عندما يرتبط  الفقر بإستعداد عقلي¡ مثل السخط الداخلي ضد الأغنياء وضد المجتمع وضد الحكومة¡..".    كما وردت الأشارات لهم في كتابات روسو وتوماس بين وسان سيمون وباكونين وغيرهم¡ ولدى بعضهم حصل خلط واضح بين مفاهيم "الشعب" و"الجمهور" و"الحشد" و"الرعاع" التي تداخلت لوصف هذه الفئات. فالمفكرين اليساريين المؤيدين للثورة اطلقوا عليهم نعوت ايجابية كالشعب او الجماهير.

أما الفئات التي يتشكل منها هذا النوع من "الجمهور" فقد تعددت اوصافه حسب مختلف المفكرين: المؤرخ هيبليت تاين Hippolyte Taine في كتابه "تكون فرنسا المعاصرة" يضم اليهم " الكسولين¡ والفاسقين¡ والمقامرين المحترفين¡ والمخادعين¡ والطفيليين¡ والمغامرين¡ والأشقياء¡ والمتمرسين في الرذيلة والجريمة¡ .. ودهماء المدن¡ .. والفلاحين الكارهين دفع رسوم الدخول¡ والمشردين¡ والمهربين¡ والهاربين من العدالة¡ والهائمين الأجانب¡ والسلابين¡ والمجرمين."  .  ويصفهم ماركس بـ"الفاسقين الفاسدين المشكوك من ايرادتهم وأصلهم¡.. والمخربين والمغامرين من اوساط البرجوازية¡ .. والمشردين¡ والجنود المسرحين من الخدمة¡ والسجناء السابقين¡ والكادحين الهاربين¡ والدجالين¡ والمشردين الهائمين¡ والنشالين¡ والغشاشين¡ والقيميين على بيوت الدعارة¡ والحمالين¡ والمتعلمين¡ والعازفين في الشوارع¡ وجامعي النفايات¡ وطاعني السكاكين¡ والعمال غير الماهرين¡ والمتسولين" .  والنتيجة المستخلصة من كل هذه المجاميع- حسب هايز- هي ان "الحشد هو مجموعة من الأفراد تعمل من اجل اهداف شريرة¡ تضم الفقراء والغير منتجين¡ مجموعة تشكل خطراً سياسياً رغم المركز الاجتماعي الهامشي لأعضائه.”

تواجه بلدان العالم الثالث اليوم مهمة صعبة تتعلق بدمج فئات فقراء المدن بسكان المدينة وبالتالي بالمجتمع الأوسع.  وتصبح هذه المهمة معقدة بسبب هلامية التطور الاقتصادي في هذه البلدان وعدم وجود آليات ناجعة لدمج هذه الفئات في المجتمع¡ فتبقى هذه الفئات مستقلة ومحافظة على تقاليدها وثقافتها الفرعية. وهكذا فأن العنف والجريمة اصبحت من صفات المدن القصديرية التي تعج بها بعض بلدان العالم الثالث.  و لخص تقرير لجنة "إدارة شؤون المجتمع العالمي" مشكلة التحضر في بلدان العالم الثالث بإعتبار ان معدلات التحضر لا تتناسب ومعدلات التصنيع والتمدن "فالمدن تجتذب السكان في مرحلة تسبق قدرتها الاقتصادية على توفير فرص العمل¡ والمساكن والصرف الصحي¡ والخدمات الاساسية الاخرى.  وهذا هو السبيل نحو التدهور الحضري¡ ومايعقبه من توترات اجتماعية وجرائم¡ وغيرها من المشكلات” .

الثقافة الريفية:

تتسم العلاقات الأجتماعية الريفية بطبيعتها الأولية الحميمية¡ والشخصية¡ والمباشرة¡ فيتعرف الريفي على اعضاء مجتمعه وجهاً لوجه وبأسمائهم وبإصولهم الاسرية والقبلية.  . ففي القرية والبلدة الصغيرة¡ يعرف كل الأشخاص بعضهم البعض الأخر بأسمه واصله وتاريخ عائلته وعشيرته¡ فلا مكان لأن تكون مجهول الهوية فيها كما هو الحال في المدن. وتعتبر هذه العلاقات إمتداد للعلاقات الأسرية القائمة بين الأشقاء وأولاد العم والأقرباء¡ التي تمتد لتضم القرية كلها ¡ واحياناً البلدة الصغيرة بأكملها.

ومما يسهل مثل هذه العلاقات¡ فأن مجتمع القرية لهو عبارة عن اسرة ممتدة او فرع من عشيرة¡ مما يسهل العلاقات بين افرادها¡ حيث يعرف الواحد منهم الأخر ومكانته في سلم مكانات المجتمع القروي. فإحترام الأب او  الجد أو الكبير في السن ومساعدة الجاروالحذر من الغريب كلها قضايا يتم تلقينها من جيل الى أخر من خلال التنشئة الأجتماعية المعمول بها في المجتمع الضغير¡ وبإختصار فأن كل فرد من أفراد المجتمع يكون له معرفة شخصية بالأخر¡ عارفاً بأصوله وعلاقاته ومزاجه وحكايات عما قام بها في الماضي والحاضر. ومما يساعد على ديمومة هذه العلاقات سيادة قيم ومعاير مشتركة وموروثة عبر الأجيال¡ كما يجمعهم نسق ديني او طائفي واحد.  وقد تصبح مثل هذه الجماعات المحلية مغلقة بحيث تتم من داخلها تلبية كل مستلزمات العيش وتربية الأبناء والحصول على القوت وكافة الأعمال المتعلقة بذلك من تربية الحيوان وجني المحاصل او الصيد  المشترك وغيرها¡ وبذلك يقل أو يصبح معدماً الأعتماد على أخرين من خارج الجماعة.

وتعتبر المعايير(Norms) السائدة بمثابه الدليل لأعضاء الجماعة المحلية في حياتهم اليومية¡ فتشير لهم بما هو مقبول أو غير مقبول اجتماعياً.  وتقدم المعايير والعادات والتقاليد المعارف الأساسية لما ينبغي ان يقوم به الفرد وهي دليله في حياته اليومية¡ وتعتبر مثل “قوانين اللعبة” للحياة اليومية الريفية. فلا يحتاج الفرد الى من يعلمه  التصرف بهذا الموقف أو ذاك¡ وهي بهذا تسهل العلاقات الاجتماعية السائدة¡  كما انها تفرض نفسها على الأفراد لضبطهم إجتماعياً من خلال مايعرف بالمجازاة (sanctions) سواء الأيجابية منها او السلبية¡ ويكفي ان يفهم الواحد من خلال إيماءات الأخرين بقبول هذا السلوك أو رفضه.  وتتضمن المعايير “القواعد المحددة لما هو صحيح او خطاً ولما هو سيء او جيد في إطار أوضاع محددة تتضمن العلاقات مع الأقران والاصدقاء أو مع غير- الأعضاء والخصوم” .  ويعتبر علماء الأجتماع المعايير بأنها الفهم اللاشكلي الذي يتحكم بسلوك الأفراد في المجتمع.

كما ان توزيع الأدوار والمكانات (roles-Status) داخل الجماعة المحلية محددة بشكل دقيق¡ فأدوار الأب والأبن وألأبنة وأبن العم والمعلم والتلميذ ومكانتهم محددة بشكل واضح¡ مما يسهل العلاقات الاجتماعية داخل الجماعة المحلية.  ويساعد توزيع السلطات (power) والنفوذ بين الجماعة سير عمل الجماعة لتحقيق أهدافها¡ فسلطة الأب ونفوذه تختلف عن سلطة الأبن أو زعيم القبيلة أو امام الجامع او غيرهم. ورغم التباين في السلطات داخل الجماعات الريفية¡ إلا انه يلاحظ تداخل في السلطات والمكانات¡ على عكس المدينة التي فيها تقسيم واضح للسلطات بحيث يمكن تمييز كل عنصر من عناصر السلطة.

وتتغلغل القيم (Values) “.. في الأفراد في شكل إتجاهات¡ ودوافع¡ وتطلعات¡ وتظهر في السلوك الظاهري الشعوري واللاشعوري” . تتسم قيم ثقافة الريف بالتسليم بالمقدر واليأس والشك والنقمة¡ وإزدراء العالم الخارجي والقدرة على الاستمرار والبقاء.  وترجع اصول هذه المواقف والقيم من طبيعة حياة الفلاح الذي ليست غايته الركض وراء الربح بقدر العيش والبقاء.  والبقاء هنا يعني إمكانية تجنب الكوارث الطبيعية والاجتماعية كالمواسم الزراعية السيئة والزوابع والعواصف والفيضان والامراض التي تصيب النبات والحيوان¡ وكذلك الحروب والحرائق والأوبئة والكوارث السياسية وغيرها.  ينظر الفلاح الى الحياة لا بإعتبارها مراحل متعاقبة من التقدم بل دورة متكررة من الفصول والأجيال والمهام المتشابهة.  فيصبح الهروب من عجلة الحياة المادية غاية المساعي البشرية¡ في مكان لا يحده زمان معين قائم على العيش المجرد.  ولا يتوقع الفلاح حياة اخرى غير حياة الكفاف أو الندرة التي يتنبأ بمسيرتها من خلال احتمالاتها¡ وتعتمد ستراتيجيته بالتالي على تقليل المخاطر التي تواجهه.  وهكذا تصبح التقاليد – الحكمة المتوارثة عبر الأجيال – افضل دليل له¡ واسلم ضمان لحياته.  فالتقاليد –الروتين والطقوس- تضمن افضل الفرص للنجاح¡ من خلال عمل الاشياء بالشكل الذي تعمل به دائماً أو بكلام اخر من خلال التجربة الموروثة.  لهذه الاسباب لا يتطلع الفلاح الى مستقبل افضل¡ فلا يتوقع بعالم افضل من ذلك الذي يعيش فيه¡ ولا يعتمد بالتالي على التغيير الذي يمكن ان يأتيه عن طريق ثورة اجتماعية أو إنقلاب علمي.

تدور قيم المجتمع الريفي حول الأرض والعائلة والقرابة والجيرة والقبيلة¡ وتعتبر الأسرة الوحدة الاجتماعية – الاقتصادية الأساسية في الريف¡ فمن خلالها يشبع الفرد حاجاتة الاساسية والثانوية ويكتسب منها مكانته ومنزلته الاجتماعية. وتتميز حياته بالتجانس¡ فيكاد يتشابه اعضاء مجتمعه من حيث المهنة والانتماء القبلي والديني والطائفي¡ وتضفي علاقات القرابة والجوار طابعاً تضامنياً تجعل من هذا الانتماء قيمة بحد ذاتها.  فالقروي لا يقبل الأخرين الذين يختلفون معه في الدين والثقافة والمهنة والأصول القبلية بسهولة.

لا يهتم الريفي بالوقت¡ إذ يكفيه معرفة أقسام النهار : الصباح والظهيرة والعصر والمساء¡ فيقوم بأعماله حسب ايقاعها. فربما يواعد زميل له للإلتقاء في مقهى القرية عصراً¡ لكن ليس من المهم تحديد ساعة معينة.  كذلك هو الحال مع الزمن¡ إذ تكفيه فصول السنة الأربعة لتنظيم مسار حياته¡ وربما مواسم بذر البذور والحصاد.

وتلعب الجيرة دوراً بارزاً في العلاقات الريفية¡ إذ تأخذ بعض من وظائف ودور الأسرة.  فالجيران يعرف بعضهم البعض ويلتقون يومياً¡ ويساعدون بعضهم¡ وغالباً ما تتم الزيجات بينهم¡ إذا لم يعترض أولاد العم على ذلك.

و الريفي بصفة عامة قليل الحركة (السفر الى أماكن أخرى)،ريعة وغيرها.

ومن الصعوبة اليوم بمكان الكلام عن وجود قرية تقليدية بالمعنى الكامل للكلمة¡ فنتيجة للتقدم الأقتصادي وتقدم المدن وجاذبيتها غيرت الكثير من معالم القرى والعلاقات الأجتماعية السائدة فيها بشكل تام.  وربما ان افضل وسيلة لشرح هذا الأمر من خلال الإشارة الى فكرة الأنثروبولوجي الأمريكي روبرت ردفيلد عن المتصل الريفي الحضري التي تتلخص بالتالي:

مجتمع ريفي مثالي ــــــــــــــــ مجتمع حضري مثالي

استعار ردفيلد فكرة النماذج المثالية لماكس ويبر وطبقها على المجتمعات الريفية والحضرية¡ مفترضاً بأنه لو كان هناك مجتمعاً ريفياً مثالياً بحيث ليس هناك مجتمعاً أكثر منه ريفية وأخر حضرياً مثالياً له نفس الخصائص بحيث ليس هناك مجتمعاً أكثر منه حضرياً¡ فأن كافة المجتمعات الريفية والحضرية ستقع على نقطة معينة من هذا المتصل.  واعطى الصفات التالية لكل منهما:

              

وتتلخص الفكرة بوجود تدرج بين مختلف المجتمعات المحلية التي قد تبدأ من القرية الصغيرة المعزولة الى القرية الأكبر الى البلدة الصغيرة فالمدينة الأكبر لتصل الى المدينة الكبرى. وهكذا يمكن وضع مختلف المجتمعات على نقطة معينة في هذا المتصل قد تكون قريبة من الريفي المثالي او الحضري المثالي.

يحصل التغيير الأجتماعي على القرى الصغيرة والمنعزلة بإشكال مختلفة¡ منها ماهو بسيط جداً¡ مثل فتح مدرسة لأول مرة¡ أو فتح شارع يوصل الى بلدة او مدينة قريبة¡ أو إستخدام وسائل الأتصال الجماهيري¡ مثل الراديو والتلفزيون والتلفون النقال وغيرها.

يصف دوغ سوندرس (Doug Saunders) قرية “لو كونغ لي”، مثال للقرية التقليدية من حيث إنها تبدو للغريب “راسخة¡ أزلية¡ خالية من الحركة والتغيير¡ ومعزولة عن بقية العالم. لأولئك الذين يلمحون مبانيها الواطئة والغير مرتبة من خلال نوافذ مركباتهم العابرة¡ تبدو القرية كمكان هادىء لجمال رقيق ومنتظم … بضعة حيوانات تتجول في حظائرها¡ اطفال يركضون على طول حافة الحقل¡ ودخان ضعيف وحزين يصعد من احدى مداخن احد اكواخها¡ ورجل عجوز يتجول في احراشها المرتفعة¡ حاملاً كيساً على ظهره.”   لكنه يعيد وصفها بعد التغيرات التي حصلت عليها بعد عام 1995 عندما صنفتها الدولة كأرض غير زراعية¡ ومن ثم ارتبطت بمدينة قريبة وتحولت من قرية زراعية الى مكان لمختلف النشاطات الاقتصادية والصناعات المكملة وغيرها¡ وأصبحت محل جذب لمئات الألوف من القرويين الذين تركوا قراهم من اجل فرص العمل في قرية لو كونغ لي. “اصبحت قرية لو كونغ لي للغريب كحي قذر ونتن ومزدحم بالسكان. أصبح الآن الطريق القديم للوادي شارعاً مزدحماً متدلية منه ركام المنازل الملقية بعجلة¡ وتبطن القذارة ممراتها التي تجاور حوانيت بيع التلفونات المحمولة¡ ومحلات القصابة¡ وعدد كبير من اواني القلي الصينية مملوءة بالفلفل المحمرحيث يتم تقديم الطعام على قارعة الطريق¡ ويسمع صياح بائعي الملابس¡ والأدوات وبكرات خيوط الغزل¡ وتنافر نغمات صراخ البائعيين المدوخة تسمع لكيلومترين في الممرات الخلفية…”  ويقارن احد الساكنين الجدد في القرية التي دخلتها معالم الحضرية المعيشة فيها مع قريته التي هاجر منها فيقول: “هنا¡ يمكنك ان تحول احفادك الى اشخاص ناجحين إذا وجدت الطريقة الصحيحة لكسب المعيشةـ في القرية يمكنك ان تعيش فيها فقط.”  

ويصف بريتون لويد التغير الذي اصاب المجمتعات التقليدية في افريقيا¡ حيث يكتب: “لا يزال البدوي من قبيلة الطوارق يسوق جماله في الصحراء الى داخل اسوار مدينة “كانوا” القديمة¡ ماراً في طريقه الى جانب المطار مشاهداً الطائرات النفاثة وكان قد قطع المسافة كلها في ساعات ثلاث.  وعلى بعد خمسمائة ميل الى الجنوب نرى صياد السمك من أبناء قييلة ايجو Ijoh في دلتا نهر النيجر يبسط على الأرض سلة صيده من الأسماك وهو على مرمى البصر من مصفاة تكرير البترول التي انشئت حديثاً¡ وتمضي السنون ومع كل عقد تتسع الهوة الفاصلة بين تكنولوجيا الماضي البسيطة وبين الأساليب التكنيكية الحديثة للأقتصاد المعاصر.  وإذا كان أبناء الطوارق يكادون يشعرون بأثر عصر النفاثات فإن صياد قبيلة إيجو يصلي داعياً الله أن  أبناءه يجد فرصة للعمل في مصفاة تكرير البترول.”

 يبدأ التغيير في حياة القرية ومجتمعها من خلال دخول المؤسسات الحضرية للقرية كالمدرسة والمستوصف والمؤسسة العسكرية والراديو والتلفزيون والهاتف¡ كذلك من خلال توفر شبكة مواصلات جيدة تمكن القروي من الوصول سريعاً الى المدينة¡ التي ستساعده على تلبية حاجاته الجديدة.  “يمكن للتغير الأجتماعي للجماعات الريفية ان يجري في أية لحظة¡ فهو عادة يكون موجه نحو جزء أو حتى غير موجه نحو الجزء. وفي كلا الحالتين يمكن ان يحصل التغيير من واحد  من العناصر او مجموعة من العناصر وفق مايلي: (1) تغير مختلف الأنساق الأجتماعية في المجتمع ذات الأهمية النسبية.  فالمدرسة¡ على سبيل المثال¡ يمكن لها ان تأخذ الوظائف التي كانت تقوم بها الكنيسة او الحرفة.  ويمكن للمصانع ان تأخذ بعض الوظائف التي كانت تقوم بها الأسرة.  (2) خلق نسق اجتماعي جديد.  تقديم خدمات زراعية¡ على سبيل المثال¡ يمكن ان تنظم في الريف¡ تلك التي لم توجد سابقاً.  (3) تغير بعض عناصر النسق وعلاقاتهم مع بعضهم البعض لغاية تكوينهم عناصر جديدة. وهكذا¡ يمكن تغير دور معلم المدرسة ليأخذ وظائف جديدة متعلقة بالمسؤولية تجاه الجماعة المحلية.  ان تشكل مجموعة من الأصدقاء اللاشكلين جماعة شكلية¡ من خلال تنظيمهم لتعاونية زراعية.”

ولا يقتصر التغيير بالمستويات الأجتماعية بل يتعداه الى التغيير الثقافي الذي يحصل في القيم والعلم والفلسفة والفن والأدب¡ الذي يلعب دوراً هاماً في تغيير إدراك الناس.  “ان تقديم نظرية المكروبات للناس الذين لم يكن لهم علماً بها سابقاً¡ ستعمل على تغيير نسقهم  الاجتماعي فيما يتعلق بالمرض وتجنب العدوى من الأمراض.”


الحياة الريفية في العراق

من الصعب الحديث عن نموذج ثقافي واحد مشترك لكل العراقيين، فإختلاف البيئات التي عاش فيها العراقيون تاريخياً تركت اثرها على ثقافتهم، وبالتالي يمكن الحديث عن نماذج او ثقافات عراقية، علماً ان بينها مشتركات عديدة.  فالعراقيون عاشوا في في البيئة البدوية والريفية والحضرية، وعملوا بالزراعة المعتمدة على الري، وعلى المطر، وعاشوا في الأهوار وفي جبال كردستان، ورعوا الماشية: ألأبل والأغنام، وصيد الأسماك، واشتغلوا في مختلف الحرف المدينية، وأختلفوا في القومية: العرب والكرد والتركمان وغيرهم، وتباينت اديانهم: الأسلام (السنة والشيعة) والمسيحية والصابئة والأزيدية وغيرها، كما تباينت لغتهم بين العربية والكردية  والتركمانية والأثورية وغيرها. كل هذه وغيرها من العوامل اثرت على تباين ثقافة العراقيين، وانعكست بشكل ما على نوع الأكل الذي يتناولونه وعلى ملابسهم وطراز سكنهم، وبالتالي على عاداتهم وقيمهم الأجتماعية. وبسبب الحياة المشتركة والأندماج بينهم فأن كثير من عوامل الأختلاف الثقافي قد أختفت.

أن استقرار البدو في الأرض ومن ثم زراعتها منذ نهاية القرن التاسع عشر، ساعد على تسرب القيم والعادات البدوية بين القبائل العربية التي استقرت في الزراعة، ولم تمر إلا فترة قصيرة نسبياً حتى بدأت الهجرة الريفية الى المدن، وبالتالي انتقلت القيم البدوية والريفية الى الحضر.  وبصورة عامة فأن أغلب القيم الأجتماعية تجد أصولها في التقاليد الأسلامية والقبائلية العربية، و بشكل اقل تقاليد الأثنيات المختلفة التي ترجع اصولها الى الحضارات القديمة في العراق، كما دخلت بشكل اقل القيم الحضرية لأهل المدن، فهناك فروق واضحة بين قيم البدو الرحل والناس المستقرين في الأرض والسكن ، أما القيم الغربية فقد دخلت مع دخول البريطانيين للعراق وتأثيرهم في الحياة العراقية بعد تأسيس الدولة العراقية في عام 1921.  ورغم وجود تناقض بين هذه الأصول، إلا إنها كونت ثقافات شبه متشابهة، نتيجة للعيش المشترك.

بشكل عام لا تفرق التقاليد الأسلامية بين الناس على اساس النسب او الثروة او المهنة أو المنزلة الأجتماعية أو الأصل الأتني، فالقرأن لا يفرق بين الناس إلا بالتقوى. فالناس يذهبون للصلاة في الجوامع بغض النظر عن منزلتهم وموقعهم الأجتماعي. “أن أهم تأثير للمساواتية الأسلامية هي وجودها في مجتمعات طبقية. حيث ان القبول بالنظام الأجتماعي لم يأتي من التعاليم الأسلامية، فأكثر العراقيين يقبلون بالنظام الأجتماعي كما هو مقدم اليهم، بطبقاته وسلم مراتبه.”  وتدعم قواعد السلوك الأسلامي التصرف بنزاهة وادب، وتنهي عن الأحتيال والغش والسرقة والأنحلال الجنسي، لكن هناك الكثيرين الذين لا يلتزمون بهذه القواعد.

تتركز التقاليد السائدة بين العشائر على أهمية نسب الجماعة وعلى افضلية العلاقات الأجتماعية القائمة على اساس القرابة.  وفي سياق هذه التقاليد تتأسس منزلة القائد أو رئيس العشيرة ومن خلالها يحدث التعاون الأقتصادي بين اعضاء الجماعة.  وتقيم العشائر نسب الجماعات من خلال تمسكهم بقيم تقليدية معينة، وتعتمد هذه على أصولهم القرابية، ويحدث مع ذلك أن تفقد الجماعة سمعتها، “فالسمعة الجيدة ترتبط عادة بالثروة والسلطة السياسية، بالرغم من ان تكون الأسرة المحترمة فقيرة، وسمعة الأسرة الغنية واطئة في حالة عدم إلتزامها بالقيم التقليدية. وربما تستعيد نفس الأسرة الغنية سمعتها الجيدة عبر الأجيال إذا ما إلتزمت بالقيم التقليدية، وطالما بقيت الأسرة الفقيرة ملتزمة بالقيم الأجتماعية، فإنها لن تفقد سمعتها الجيدة.  ويعتمد المبدأ الأساسي للقيم العشائرية على الشرف، المتشرب في الجماعة وبين أفرادها، إذ يحافظ الأفراد على شرف الجماعة من خلال التقيد بالقيم التقليديةـ أعمل حسناً وتجنب الأعمال الشائنة”.   ويلتزم رجل العشيرة بأن يكون محترماً من خلال إلتزامه بالدين والأيمان، ويحمي النساء ويحرص على شرفهن، وأن يكون شجاعاً وقوياً ورجولياً   وكريماً ومعتداً بنفسه وحكيماً وذكياً.  ويهتم بأن يكون موقراً في سلوكه ومحترم من الأخرين ومهذب معهم، وحريص على إخلاصه لنسب الجماعة واستعداده للدفاع عنها.

تعتمد الخاصية الأساسية للأسرة العراقية على الأرتباط بالأقارب وخاصة لدى الأسر الريفية، حيث غالباً ما يحوي المسكن الواحد على ثلاثة اجيال مرتبطة ببعض عن طريق النسابة: الجد والأبناء والأحفاد، وزوجات الأبناء وكذلك العمات والخالات وألأخوات الغير متزوجات وغيرهم من الأقرباء.  ويعتمد مركز الفرد ومكانته عل مركز اسرته في المجتمع، أكثر منها على إنجازاته الشخصية، فأغلب المكانات متوارثة أكثر منها مكتسبة.  وتنقل العائلة معايير وقيم السلوك السائدة الى اعضائها، وهناك جزاءات لمن يخالفها. وكثير من الأحيان تحدد العائلة نوع المهن التي يمتهنها أعضائها، خاصة الشباب منهم، كما تختار لهم شركائهم في الزواج.  للذكور مكانة متميزة في الأسرة العراقية، خصوصاً الريفية منها، فالذكر سواء كان اباً ام أخاً أم ابناً له الكلمة المطلقة، وقد يفرض رأيه على الأناث في الأسرة من حيث اختيار الشريك او التعليم او الزي او الخروج من الدار وغيرها. وأكبر الذكور عمراً في الأسرة يكون بمثابة رئيس الأسرة وله الكلمة الأخيرة في تقرير مسارها واختياراتها. لكن بالرغم من إتباع العائلة الريفية خط النسب الأبوي وهذا بالنسبة للذكور او للإناث في الأسرة، فالزوج يرتبط بأسرة والده، كما هو الأمر لزوجته التي تتبع اسرة والدها، لكن خط النسب الأموي هو الأخر له أهميته في كثير من الأسر العراقية، ربما نتيجة لعادة الزواج بين اولاد العم والخال. وقد يقتصر نسب ابوي واحد سائد في القرى الصغيرة، لكن في القرى الأكبر يمكن ان يكون اثنان او اكثر، وغالباً ما تسود بينهم المنافسة على الأعمال والزيجات والنفوذ على مجتمع القرية.

الزراعة والصيد
تلعب الزراعة والرعي والصيد دوراً اساسياً في بنية الأقتصاد التقليدي، ولفترة طويلة بقيت من بداية القرن الماضي ولغاية عقد الستينات تشكل الأيدي العاملة في الزراعة بحدود 75٪ من مجمل الأيدي العاملة في البلاد.  إلا ان مساهمة القطاع الزراعي من الدخل القومي كان يختلف بشكل كبير من سنة الى أخرى، بفعل عوامل المناخ وظروف الري والإحتلال البريطاني والحرب العالمية الثانية والمتغيرات السياسية وغيرها. ويبين الجدول (1) بأن نسبة دخل الزراعة من الناتج القومي الإجمالي وصل اعلى مستواه للسنوات 1911-1958 في سنة 1911، وذلك بنسبة 44.3٪، إذ حقق قيمة تعادل 731000 دينار عراقي، عندما كان العراق تحت الحكم العثماني، إلا أنه لم يتجاز نسبة 25٪ إلا في عام 1925، واعلى دخل بالدينار العراقي وصله عام 1950، إذ وصل ما يقارب الـ 4 مليون دينار. وبسبب الجفاف في عام 1963 فقد وصلت نسبة القطاع الزراعي من الناتج القومي 15٪، لكنه ارتفع الى 25٪  في عام1966 . “إن التدهور الواسع لإنتاج الحنطة والشعير، والتمر والقطن في عام 1963، يعزى غالباً الى قلة الأمطار.”  

لقد وزعت أغلب الأراضي الزراعية الواسعة في حوض دجلة- الفرات قبل الحرب العالمية الأولى على شيوخ العشائر، وقاموا بتأجيرها لابناء عشائرهم للعمل فيها، وحصلوا من خلالها، كما هو مألوف، على الحصة الأكبر من الناتج الزراعي، فأبقى هذا النظام على أدنى ظروف معيشية للأكثرية التي عملت في الأرض، مما قلل من حوافزالفلاحين على زيادة الأنتاج.  لقد عكست الإنتاجية الواطئة في الزراعة سوء الأستخدام الذي دام لقرون من إهمال الأراضي الزراعية، مما ساعد على تدهورها وحولها الى قاحلة.

في بداية الحكم الملكي في العراق ونتيجة لتسويات عديدة جرى توزيع للأراضي الزراعية على شيوخ العشائر وتجار المدن.  "وبصورة عامة فقد كانت الاراضي تزرع من قبل الفلاحون الأجراء الذين يستوفى منهم مالك الأرض حصة كبيرة مقابل ايجارها لهم.  وكان كثير من ملاك الأراضي يعيشون في المدن ولا يهتمون كثيراً بالأرض، في حين كان الفلاحون المستأجرون يفتقرون الى الطمأنينة بسبب عدم تملكهم للأرض، عدا عن كونهم فقراء جداً.  وعلى العموم فلم يكن لهم دافع قوي للعمل في الارض أو تحسين أساليب الزراعة لديهم.  وكانت الحراثة في غالبية اقسام العراق تتم بالطرق البدائية وأداتها خشبة توضع على رأسها قطعة حادة الرأس من الحديد وتسحبها الحيوانات، وكانت البذور تنثر باليد، وكان الحصاد يتم مثلما عليه في العصور القديمة.  ولكن بدأت بعص الآلات الزراعية تظهر وخاصة في المنطقة الديمية في الشمال وفي مناطق الري سيحياً ايضاً.  وفي أكثر الحالات كان نصف الأرض يترك بوراً ليستعيد خصوبته، ولم تكن الزراعة الصيفية مستمرة على


الدوام".   أما فيما يتعلق بتوزيع الحصص بين المالك والفلاح فكانت تختلف بحسب المنطقة وطبيعة الأرض سيحية او ديمية, كما تتأثر بقرب الارض من المدن وغيرها.  "وفي المناطق السيحية في وسط البلاد وجنوبها كان الفلاح يأخذ على وجه العموم، (إذا قام هو بتجهيز البذور) مابين ثلث الى نصف المحصول".  أما إذا كان الري أو السقي بواسطة المضخات, "فإن مالك المضخات يأخذ اعتياديا ًحوالي 20%, ويأخذ صاحب الأرض 40% وحتى الى حد 90% في الاراضي السيحية”.

وحصل فيما بعد بعض التقدم في تنظيم الري، ومراقبة الحشرات والنباتات الضارة، وزراعة بعض المحاصيل الجديدة، لكن فوائدها عادت بشكل كبير الى الجماعات الحضرية السياسية المتنفذة من السكان.  ولم تهتم هذه الجماعات ذات الدخل العالي في عمل التحسينات الأساسية التي كان يمكن لها ان تزيد الأنتاجية وتحسين معيشة الأكثرية الريفية.   “وتشير الأحصائيات الرسمية بأن النمو السنوي للأقتصاد العراقي كان معتدلاً حيث وصل الى 6.4٪ في العقد الذي ينتهي في عام 1963. وخلال نفس الفترة، حصلت إختلافات ملحوظة في نسب نمو قطاعات الأقتصاد، التي عكست توسع القطاع الصناعي وتذبذب الأنتاج الزراعي.  وكانت نسب النمو حسب القطاعات كالتالي: الزراعة، صفر؛ الأستخراج والمقالع، بضمنها استخراج النفط الخام، 8.4٪؛ التصنيع، بضمنه مصافي النفط، 11.5٪؛ البناء، 2.4٪؛ الماء والكهرباء، 16.7٪؛ النقل، والاتصال والتخزين، 6,0٪: الدفاع والأدارة العمومية، 10.5٪؛ وبقية الخدمات، 6.9٪”.   على الرغم من اكتظاظ الريف بالسكان إلا ان حصة الزراعة من الناتج القومي لم تتجاوز الـ 20٪ في بداية ومنتصف الستينات من القرن الماضي.  “والأكثر من ذلك، فأن حصة  مساهمة الزراعة من الناتج القومي كانت قد إنخفظت منذ بداية الخمسينيات والى منتصف الستينات، كنتيجة جوهرية لنمو القطاعات الاقتصادية الأخرى، ولفشل القطاع الزراعي في زيادة المحاصيل الزراعية.”

وفي هذا السياق جاء في ورقة الدكتور وليد خدوري نقلاً عن الأستاذ عادل عبد المهدي وزير النفط الحالي مايلي: “تميزت المرحلة الاولى بالاقتصاد الزراعي، وقد امتدت المرحلة منذ مطلع القرن العشرين والى الخمسينات منه. عاش اكثر من 75% من السكان خلال هذه الفترة في الارياف واعتمدوا على الزراعة والرعي. ساد خلال هذه الفترة نظام الملكيات الخاصة، او الاقطاعات الزراعية. ووسع الانجليز من سيطرة الملاك الفرديين على املاك العشائر باصدار سلسلة قوانين اهمها قانون التسوية لعام 1933 الذي اعتبر فيه شيخ العشيرة المالك الحقيقي للاراضي التي كانت تعتبر سابقا ملكا جماعيا لكل افراد العشيرة . "فتحول افراد العشائر من افراد متعاونين مع بقية افراد عشيرتهم ، نقول تحولوا الى مجرد فلاحين يعملون في ارض الشيوخ او الملاكين الكبار الذين بدأوا يشكلون جزءا مهما من الطبقة السياسية الحاكمة". ويضيف عبد المهدي، "رغم تلك العلاقات غير العادلة، الا ان الحياة الزراعية قد شهدت نموا مطردا سواء من حيث الانتاج او من حيث عمليات الاستصلاح . " فمصلحة الملاكين، كجزء من الطبقة الحاكمة، كانت تتجه لتشجيع شركات كري الانهر ومشاريع الري وبناء السدود وشبكة البزل .من الجدير بالذكر ان الاراضي الصالحة للزراعة شكلت في تلك الفترة حوالي 48 مليون دونم. لقد شكلت الزراعة والصيد والغابات نسبة 32.2 % من الدخل القومي العراقي في عام 1953، وانخفضت النسبة الى 20.6 % في عام 1961. فقد لعب تزايد الاعتماد على الواردات النفطية "في اعطاء الاهمية الاولى لهذا القطاع وليس للقطاعات الحقيقية التي ستشهد تراجعاً متزايداً”، بحسب عبد المهدي .

بالرغم من السهولة التي تم فيها استبعاد النخبة الحاكمة للعهد الملكي يوم 14 تموز 1958, فقد تطلب التخلص من طبقة ملاك الاراضي، التي كانت تمثل القوة السياسية الداعمة للنظام الملكي، جملة من الاجراءات السريعة تمثلت أداته الرئيسية في تشريع قانون الاصلاح الزراعي "ولذلك اسرعت حكومة الثورة، ولم تستكمل الشهر الثالث من عمرها بعد، الى إصدار قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958، وقد وضع على غرار القانون المصري رغم عدم وجود أوجه شبه بين انظمة الزراعة في البلدين”.

وقد ادى تطبيق القانون الإستيلاء على حوالي 75% من الاراضي الزراعية المملوكة.  وسمح القانون بتملك الفرد الواحد الف مشارة (تعادل 250 هكتاراً) في الأراضي السيحية (المروية) وضعف هذه المساحة في الأراضي الديمية (المطرية)، على ان تستولي الحكومة عما زاد عن هذين الحدين مقابل تعويض يدفع بسندات حكومية.  "كما نص القانون على وجوب توزيع المستولى عليها على الفلاحين بما لا يقل عن ثلاثين ولا يزيد عن خمسين مشارة في الاراضي السيحية، وعن ضعف هذه المساحة في الأراضي الديمية، على ان يسدد المالكون الجدد، اي الفلاحون (أو المنتفعون حسب تعبير القانون) أثمان ما يوزع عليهم من اراضي خلال عشرين عاماً”.

لا شك ان دوافع إصدار قانون الإصلاح الزراعي كانت سياسية أكثر منها إقتصادية، "فقد كان الهم الأكبر هو إزالة السلطة السياسية لأصحاب الأراضي وإزالة الظلم عن الفلاحين، وخاصة في الجنوب‘ إذ كان قاسم يهتم حقيقة بمساعدة الطبقات الفقيرة في البلاد".   لقد أزال الإصلاح الزراعي النفوذ السياسي لطبقة ملاك الأرض وسلطتهم على الفلاحين.  وبالرغم من إخفاق الإصلاح الزراعي في تحقيق زيادة في الانتاج الزراعي، إلا انه حرر الفلاح من العلاقات –الشبه اقطاعية التي كانت سائدة في الريف العراقي وبهذا تقوض النفوذ العشائري، إذ أن اغلبية كبار ملاك الأرض كانوا من رؤساء العشائر.  وساعدت هذه التغيرات في تعزيز مكانة الفلاحين وظهورهم كقوة سياسية جديدة، استخدمتها النخب السياسية الجديدة لمصالحها.


كانت الأوضاع المتعلقة بالزراعة في العراق من حيث عدم استقرارها أحد أهم الأسباب التي ادت الى الهجرة الريفية الى المدن الكبرى¡ إضافة الى ظهور قطاعات اقتصادية جديدة كالنفط والبناء والخدمات وغيرها التي زادت من إغراءات المدن في توفير العمالة لأعداد كبيرة من الريفيين.


ثقافة المدن العراقية:

تتميز ثقافة المدن بمتطلباتها العديدة من انماط سلوك وعلاقات اجتماعية محددة وقيم ورموز متميزة, وعدد كبير من الصلات والعلاقات الاجتماعية مع مختلف الناس من غير الأضطرار لإقامة علاقات شخصية معهم.  فأغلب العلاقات تتم من خلال الأدوار الاجتماعية التي تتجرد فيها الصفات الشخصية لصاحب هذا الدور أو ذاك.  وهكذا تنغمر صلات المجتمع الحضري بالعلاقات اللاشخصية والثانوية والشكلية.  ويهتم أهل المدن بالمنازل التي يسكنون فيها لأنها المكان الوحيد الذي يمضون فيه حياتهم الخاصة الحميمة¡ وممارسة علاقاتهم الأولية والشخصية في إطار أسرهم.  ويصرف أهل المدن الكثير من الجهد والأموال من اجل إختيار الحي المناسب لمركزهم الاجتماعي¡ وتأثيث منازلهم بالشكل الذي ينسجم وطبقتهم¡ والإهتمام بمظهرهم وملابسهم وزيهم ونظافة الأماكن التي يتواجدون فيها¡ وسلامة الأطعمة التي يتناولونها من الأمراض المعدية¡ وتوفر المياه المأمونة والصرف الصحي والوقاية من الامراض¡ وعدد كبير من الخدمات العامة وغيرها.  كما يهتم أهل المدن بالتعليم الذي يكتسبون منه مهنتهم التي تتيح لهم مستوى معيشي مناسب¡ وذلك لإعتماد المدن على المكانات المكتسبة وليس الموروثة.  كما يهتم أهل المدن بالإعلام ووسائل الاتصال وسرعة وصول المعلومات¡ وتوفر وسائل الترفية والثقافة وقضاء وقت الفراغ والسياحة وغيرها.  واكتسبت المدن هذه القيم والرموز من خلال متطلبات الأعمال التي تقوم بها والتي تعكس بالضرورة قيم الطبقات الوسطى المدينية.

أما فيما يخص ثقافة الفئات الوسطى في المدن العراقية فمن الصعب تبيان نمط واحد لثقافتهم وذلك للتغيرات التي شهدتها هذه الفئات خاصة بعد ثورة 14 تموز فالبداية جرت عند عزل كبار الملاك الذين استقروا في المدن الكبرى¡ خصوصاً بغداد¡عن طريق قانون الأصلاح الزراعي¡ كما جرى إبعاد كبار موظفي العهد الملكي¡ واثرت فيما بعد القوانين الأشتراكية والتأميم في عام 1964 على إستبعاد  الكثير من رجال القطاع الخاص و الأعمال.  أما في الفترة المزدهرة للإقتصاد العراقي نهاية السبعينات من القرن الماضي نتيجة لإرتفاع اسعار النفط¡ فان حكومة البعث انذاك كانت توزع المقاولات الفرعية على الجماعات الموالية لها¡ فظهرت فئة أثرت بسرعة فائقة¡ وهاجر فيما بعد الكثير منهم الى خارج العراق أبان الحرب العراقية - الأيرانية منذ مطلع الثمانينات.  وجاء الحصار الأقتصادي على العراق منذ عام 1991 ككارثة لكثير من فئات الطبقات الوسطى خصوصاً ذوي الدخل المحدود من موظفي الدولة بسبب تدهور قيمة الدينار العراقي.  أما روافد هذه الفئات فكانت تختلف بشكل ملفت للنظر¡ فرغم ان التقاليد الأسلامية والبدوية العشائرية كانت هي السائدة¡ إلا ان الكثير من هذه الفئات خاصة المتعلمة منها كانت تحاول تقليد بعض سمات الثقافة الغربية التي دخلت الى العراق¡ وأنتشرت في المدن الرئيسية.  

إن ضعف الفئات الوسطى على المستوين الاقتصادي والاجتماعي¡ خاصة فئة الصناعيين منهم¡ وإزدياد تأثيرات واردات الدولة من النفط على الخطط الاقتصادية للدولة الجديدة فاقم من تدخل الدولة المستمر في العملية الاقتصادية مما ضخم دور الدولة السياسي بشكل مضطرد في السنوات التي اعقبت ثورة تموز 1958.

أما فيما يخص ظهور المدن في العراق¡ فيذكر ستيفن لونكريك Stephan Longrigg  في كتابه الشهير عن تاريخ العراق الحديث "أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث" بان ظهور المدن والبلدات العراقية جاء على اسس بسيطة مبنية على ترتيب مسار القبائل في الماضي¡ خاصة البلدات والمدن الصغيرة.  "فالتناسق¡ الواضح جداً¡ في المسافات التي تفصل البلدات بعضها عن بعض يدل على ان أصل أكثر البلدات كانت منازل للقوافل.  ومنها ما كان قد نشأ في محلات عبور الأنهر التي كانت على الطرق الرئيسية.  ومنها ما هو ناشىء عن تجمع الناس حول قلعة في مركز عشائري¡ وهذه تشير الى قيادة أحد الشيوخ المنسبيين أو سخائه.  كما ان بلدات عدة كانت قد نشأت حول مزار أو عتبة مقدسة واتسعت بتوارد الزوار اليها.  وقد ساعدت الحاجة لسوق يباع فيها الصوف وثمار البستان والحبوب والجلود في عدة اماكن على تشييد الدكاكين والمناثر (مخازن الحبوب) مع جامع وحمام ومقهى.”

وبخصوص المدن العراقية الكبيرة¡ يكتب لونكريك عن البصرة في فترة الحكم العثماني مايلي: "فبصرة العصر الذي نصفه كانت البساتين والأرض الغامرة محاطة بسور من الرهص (طين البناء) مرمم ترميماً ناقصاً.  ولم يكن في ضاحيتها على شط العرب سوى قليل من البيوت.  وكانت البلدة نفسها ثغراً قليل الشأن غير عاطل يضم ما يقارب عشرة آلاف دار¡ كانت اغلبها اكواخاً من القصب يعيش اصحابها عيشة ذات صلة واهية بحياة المدينة.  كما كان عدد الأبنية الشاخصة تواجه النهر وتبعد بمسافة ميلين عن الشط¡ وبعد هذه المدة ببضع سنوات القاها رجل انكليزي (رالف فيتش 1583) وهو (اول انكليزي يزورها تقريباً) كتب (بلدة ذات تجارة عظيمة بالتوابل والآبازير والعقاقير التي تأتيها من هرمز وفيها ايضاً منثر (مخزن) كبير للقمح والرز¡ وينمو فيها التمر الذي يجهز لبابل وسائر انحاء البلاد والى هرمز وجميع اقسام الهند.)”

اما عن بقية المدن يكتب لونكريك: "وكانت الحلة على صبغتها في الوقت الحاضر سوقاً واسعة للعشائر ومركزاً لمبادلة منتجاتهم ومعقلاً من معاقل الحكومة.  أما بغداد هذا التاريخ فكانت (بلدة عظيمة بعض العظم لكنها آهلة جداً بالسكان.  وفيها حركة متسعة للغرباء بوقوعها على طريق ايران وتركيا وبلاد العرب.  فمنها كانت تخرج القوافل الى هذه الأماكن وغيرها).  وفيها جسر من الزوارق¡ (يصل الجهة الشرقية بالجهة الغربية من المدينة.  وقد سورًت الجهة الشرقية وحصنت بطريقة خاصة وبقي الكرخ بلا سور.  وكانت ابرز الأبنية فيها قصر الوالي وثكناته والحمامات العامة والجوامع والأسواق المسقفة.  اما بقية المدينة فكانت بيوتاً حقيرة قذرة ذات طبقة واحدة تسورها جدران بلا شبابيك فتحجزها عن الطرق الملتوية الضيقة.  وكان يجلب اليها التمر والرز من جنوبي العراق¡ والصوف من العشائر المتنقلة وراء الكلأ¡ والخشب من كردستان¡ والحبوب من الموصل.  وكانت تجلب البضائع من البصرة¡ وبضائع سواحل البحر الأبيض المتوسط من حلب عن طريق عانة¡ والبضائع الايرانية من كرمنشاه عن طريق خانقين. ولم تكن الثقافة معدومة بالمرة¡ وكان الأمن لا بأس به داخل السور¡ والحكومة منقلبة تلعب بها الأموال¡ والصناعة والحرف في أحط دركاتها¡ والجمل الدينية ترددها الأفواه دائماً وابداً.
وقد اعجب الرحالون بكركوك فوصفوها بأنها "مدينة جميلة رائعة" حيث كان النطق السائد بالتركية المفككة والكردية الشهرزورية.  وكانت القلعة فيها قوية بدفاعها ومسيطرة على مسالكها المبنية بالكلس في اساسها.  وكانت المحلات الواقعة في شرق المبزل الواسع غير مبنية حينئذ.  وكانت اربيل – المشابهة بكل وضوح لكركوك بطبيعة بنائها وعنصريتها- بعيدة عن قريبتها البلدة العربية (الموصل) بمقدار بعدها عن جيرانها البلدات الكردية.  ويقع بالقرب منها دير للنصارى (دير عينكاوة).  وكانت الموصل¡ العاصمة الطبيعية للجزيرة وقاعدة مدن كردستان الوسطى¡ تمتاز بكثرة مواد البناء من كلس وحجر وأخشاب.  وكانت اسوارها البارزة متداعية من الخارج لعدم اصلاحها وترميمها من الداخل.  وكانت تجارة المنتوجات الكردية المهمة –الجوز والزبيب والصمغ- بيد التجار الأكراد المتوطنين فيها.  وكانت التجارة ناشطة غير ان الزراعة كانت مهددة بالمحل والجراد باستمرار.  وقد غطت شدة المنازعات بين الطوائف النصرانية على المنازعات المزمنة بين الأسر في الموصل.”

وقد وصف المؤرخ عبد الرزاق الحسني مدينة بغداد عام 1948 بالشكل التالي: " كانت بغداد إِلى ربع قرن مضى، بلدة قليلة السكان، محدودة العمران، تنحصر بين سور قديم تهدّم معظمه ولم تبق إِلاَّ أبوابه، ولم يكن فيها ما يميّزها عن سائر المدن العراقية. أمّا اليوم فقد تغيّرت بغداد تغيّراً تاماً وأنشئ في أطرافها أحياء جديدة، فصارت تمتدّ من الأعظمية شمالاً إِلى الكرادة الشرقية جنوباً، ومن مرقد الشيخ عمر السهر وردي بالرصافة شرقاً إِلى جسر الخرّ بالكرح غرباً في مساحة لا تقلّ عن ستين كيلومتراً مربعاً. يمرّ بها دجلة فيشطرها إِلى شطرين يدعى الغربي منهما «الكرخ» ويسمى الثاني «الرصافة» وهو أكبر رقعة وأكثر عمراناً وازدحاماً، والاسمان قديمان معروفان، وقد أقيمت على عدوتيه في الجانبين المذكورين القصور العامرة والأنزال الحديثة والتنزهات الكثيرة وكذا الحدائق المليئة بالزهر العبق والورد العطر، وتقوم عليه «في حدود أمانة العاصمة» أربعة جسور، جسران حديديان وهما في قلب العاصمة، وآخران خشبيان يقومان على قوارب حديدية، أحدهما في الأعظمية، والآخر في الكرادة الشرقية”.
ويضيف الحسيني “وفي الرصافة ثلاثة شوارع رئيسية متوازية تقريباً، تقطع المدينة من شماليها إِلى جنوبيها، أولها شارع النهر وهو أقدمها إِلاَّ أنّه غير منتظم، وثانيها شارع الرشيد الذي بدأ الترك فتحه في الحرب العالمية الأولى وأتمّته السلطات البريطانية بعد احتلالها بغداد، وثالثها شارع الملك غازي الذي فتحته «أمانة العاصمة» عام 1936 م. وتتفرّع منها شوارع عريضة هي من الأهمية بمثابة الشرايين في تنظيم حركة المرور، وتتّصل بها شوارع عريضة واسعة تمتدّ بامتداد الأحياء الجديدة التي أنشئت خارج المدينة، وجميع هذه الشوارع مبلطة ومفروشة بالقار ومرصوفة جوانبها رصفاً جميلاً وعليها أشجار الزينة المختلفة وخلفها القصور والعمارات والدور والقُوَر، فإِذا جاءها الليل أنيرت بالمصابيح الكهربائية تكوّن فيها أشكالاً خلابة.
وأجمل الشوارع الخارجية في «الرصافة» شارع أبي نوّاس القائم على عدوة دجلة اليسرى وهو يمتدّ من «الباب الشرقي» حتى «الكرادة الشرقية» فتراه يعجّ في الأماسي والأصباح بالغيد الحسان والشبان الأماليد، وترى المقاهي والمنتزهات والمصطبات مكتظة بروّادها وقد توسطت الحدائق الزاهية، وكلّها تطلّ على دجلة حيث ينساب بأمواجه المتراقصة وقد طافت فوقه القوارب والطيور المائية، وانعكست عليه ظلال الأشجار المورقة فيخال الإِنسان أنّه يطالع كتاب «ألف ليلة وليلة» وكأنّه يعيش حقيقة ويحيى حياة «ألف ليلة وليلة» بسحرها ولذائذها ومجونها.
هذا في «الرصافة» أمّا «الكرخ» فيخترقه شارعان رئيسيّان يمتدّان من مطلع الجسرين الحديدين المذكورين إِلى خارج المدينة يسمّى أحدهما «شارع الملك فيصل» والثاني «شارع الأمير عبد الإِله» ويصل بينهما شوارع عرضية، لها ما لشوارع «الرصافة» العرضية من الأثر المحمود في تنظيم حركة المرور، وتتفرّع منهما شوارع رئيسيّة أخرى، تمتدّ بامتداد الأحياء الجديدة في «الكرخ» وشارع «الملك فيصل الأوّل» أوسع شوارع العاصمة وأعرضها على الإِطلاق، يحيط بكلّ بيت من البيوت القائمة على جانبيه سياج من الخضرة المنعشة وتتوسط ساحته حدائق منتظمة ومسوّرة، وتقطع الممرّات العامة في جنائن فيها من الورد والزهر ألوان فاتنة، ومن أشجار الزينة السامقة أنواع متعدّدة، وترى المقاهي والمصطبات ملأى يروادها، هذا يلعب النرد، وذاك يتجاذب أطراف الحديث، وآخرون قد أعيتهم أتعاب النهار، فجاءوا يروّضون أفكارهم وأجسادهم إِلى ساعة متأخرة من الليل، يغازلون القمر بأشعته مرة ويمتعون النظر بالأنوار الكهربائية مرّة أخرى.

وكانت المنازل في بغداد تبنى بالآجر متلاصقة مكشوفة على طراز قديم وأسلوب غير صحي أمّا الآن فإِنّ الأهلين يضيفون إِلى الآجرّ المذكور والسمنت وسائر المواد الإنشائيّة الحديثة ويحيطونها بالحدائق والساحات على أسلوب أنيق وطراز هندسي بديع، وعلى هذا أصبح لبغداد منظران لكل منهما جماله وسحره، ونعني بهما بغداد القديمة وبغداد الجديدة، أمّا بغداد القديمة فقد كانت منحصرة ضمن بقايا السور الذي ألمعنا إليه: دور عتيقة، وأزقة ضيقة وأسواق قديمة باليية. أمّا بغداد الجديدة، التي تتجلّى في أحيائها العصرية فهي صورة مصغرة ـ إِن لم تكن كاملة ـ لبعض الأحياء الحديثة في بيروت والقدس والقاهرة.: دور فسيحة تحيط بها الجنائن الغنّ، وشوارع عريضة تزينها الحدائق الجميلة، وأسواق عصرية حافلة بأنواع البضائع الأجنبية والوطنية. ومن العمارات التي يجدر ذكرها هنا، البلاط الملكي والمستشفى الملكي وبهو الأمانة وقاعة الملك فيصل ومقرّ وزارة الدفاع ودار البرلمان وبناية مجلس الوزراء وصرّح الحكومة القديم وأمانة العاصمة والمحاكم العدلية وعمارات المصارف الأجنبية ودور التمثيل والسينما والسفارات والمفوضيات والقنصليات العائدة للدول المختلفة وساحات سباق الخيل والمتاجر العديدة والفنادق الشهيرة والنوادي الفخمة والكليّات والمدارس على اختلاف أسمائها، ودور التهذيب على تباين درجاتها. أمّا المساجد والجوامع والأضرحة المقدّسة ذوات القباب المزخرفة بالقاشاني الملوّن والمنائر المرتفعة وكذلك الأديرة والكنس، فلي في بغداد ما يماثلها من المناظر فهي تخلب الألباب وتبهر الأبصار، وأمّا المباني الجديرة بالذكر في «الكرخ» فأشهرها المطار المدني الذي يعدّ من المطارات العالمية، وقصور الزهور والرحاب والأبيض الملكية، والسفارتان البريطانية والإِيرانية، ومحطّات قطار البصرة وقطار الموصل وما يتّصل بها من دوائر ومنازل ومصانع، ومحطّة الإِذاعة اللاسلكية، ودور المتمولين وأصحاب الثراء... إلخ.
وفي بغداد عدا ما تقدّم عدد لا يستهان به من المعامل والمصانع والمختبرات والمعسكرات والمؤسسات الخيرية والملاجئ الإِنسانية وغيرها، ويقصدها في كل عام الألوف المؤلفة من إِيران والهند والأفغان لزيارة العتبات المقدّسة، وكذلك تقصدها البعثات العلمية من بعض الأقطار الإِسلامية لتنتهل من منابع العلم في مدارسها، والبعثات الأثرية من سائر الأقطار الغربية للتنقيب عن الآثار القديمة المدفونة طي تربتها منذ أقدم العصور وتروّج التجارة في بغداد رواجاً كبيراً فهي عاصمة العراق ومقرّ هيآته التشريعية والتنفيذية، وملتقى طرق المواصلات البرية والجوية في الشرق الأوسط” .

أما عن منازل الأغنياء في بغداد، يصف موسى الشابندر المنزل الذي ولد فيه في بغداد (بداية القرن العشرين 1900) بالشكل التالي: "بيتنا القديم الذي ولدنا فيه هو في محلة جديد حسن باشا في زقاق يتصل بعقد الصخر (الآن شارع الجسر القديم أو شارع المأمون) ويسمى ذلك الشارع هكذا¡ لانه في تلك الأيام كان الشارع الوحيد المبلط بالصخر وربما ذلك الإهتمام آت من أن ذلك الشارع يتصل بالجسر الوحيد الذي يربط الصوبين.  ويسمى ذلك الشارع أو المحلة (دنكجية) نسبة الى محلات تهبيش الرز وهذه هي عبارة عن حوانيت فيها حفر وآلات خشبية بدائية ويقوم بعملية تهبيش الرز عمال من الاكراد الفيلية.
ينقسم بيتنا الى قسمين أو بالأحرى الى دارين كبيرين: الحرم والديوانخانة – أو الديوه خانة- يفصل الطريق الضيق بينهما على أنهما يتصلان بممرات تمتد فوق العقد تسمى (مابين) فهناك (مابين) يوصل الطَرمات وأخر يوصل السطوح بين الدارين.
هكذا كانت بيوت "الأكابر" في ذلك الزمن.  محلة جديد حسن باشا كانت تعتبر محلة "الاكابر والخاندانية" إذ ان اكثر سكانها كانوا من التجار وكبار الموظفين والعائلات القديمة المعروفة – فهنالك بيت طابو أغاسي حسن بك (والد أحمد مختار بابان – رئيس وزراء ووزير العدلية) وبيت شاكر افندي وبيت الجلبي وبيت شمس الدين أفندي الألوسي وبيت فؤاد افندي سنيه إلخ."
وفي مكان أخر "كان في دارنا القديمة سلمان متقابلان ينتهيان عند الحوش بفسحة صغيرة مربعة امام (بيت الحطب) وبيت الحطب هذا مخزن كبير مظلم ومرطب تلتجىء اليه القطط عند المطاردة."
وبخصوص العلاقات في المنزل فكان لكل طفل (بنت أو ولد) مربية تعتني به¡ واغلب اوقات الفراغ يقضيها الأولاد في الحرم المخصص للنساء يلعبون فيه نهاراً وليلاً.  أما الديوه خانة فكان يذهب اليها الذكور في عمر معين.  أحياناً يسمح لأبناء الاسرة باللعب في الطريق مع بقية الاولاد.  كما كان المنزل يحتوي غرفة الخدم التي كانت تسمى (القهوة جاغ).  "وهي غرفة صغيرة فيها موقد القهوة وفيها تستحضر الناركيلات وفيها يجلس الخدم – خدم البيت وخدم الضيوف. لأن كبار الضيوف كانوا يأتون وخادمهم يحمل فانوساً أمامهم.  وحملة الفوانيس هم عادة رؤساء الخدم أو الأغوات.”

ويصف الدكتور فخري قدوري منزل عائلته في عام 1932 بالشكل التالي: يقع المنزل "في بيت شرقي في منطقة مكتظة بالبيوت تدعى (سوق الجديد) بجانب الكرخ من العاصمة بغداد".  والبيت "رحب وقديم ولكنه لا يبدو قديماً".  "كان بيتنا الرحب بشكله المربع يقع في منطقة سكنية تتلاصق بيوتها من جوانب عدة وتترك بين مجموعاتها شوارع ضيقة وأزقة ملتوية¡ صاعدة ونازلة¡ فيما تبدو جدران بعض الدور قديمة جداً ذات ثقوب ونتوءات مقلقة تنذر بإنهيار مفاجىء في اي وقت". "كانت جهتان من واجهات بيتنا ملتصقتين مباشرة ببيوت اخرى¡ وتطل جهة ثالثة على شارع يبدو بنظر الاطفال عريضاً¡ فيما تقع الجهة الرابعة على زقاق ضيق لا يزيد عرضه عن متر واحد كثيراً¡ ويسبب للمارة مشاكل في أغلب الأحيان.  وجرت عادة الناس على تسمية الزقاق (دربونة) وجمعها (درابين)، (الدرب) أي الطريق".
"وبالسير من بيتنا شرقاً بإتجاه (سوق الجديد) ينتهي الشارع بشارع أخر رحب نسبياً تمتد عليه سكة التراموي في ذلك الزمن¡ المسمى (الكاري)،  .
" وتنتشر في تلك المنطقة بعض الدكاكين والمقاهي¡ ولا يبعد شاطىء دجلة سوى بضع عشرات الأمتار.  وكنا نسمي منطقة الشاطىء (الكودي)،  (الكاري). وكانت محلتنا السكنية وجوارها تضم مساجد يحرص الناس على الصلاة فيها ويرددون ذكرها مثل (جامع صندل) و(جامع عطا) و(جامع القمرية) و(جامع الست نفيسة)."  "وهكذا كانت منطقتنا السكنية تبدو وحدة مجتمعية متكاملة فيها كل شيء تقريباً¡ فيما كانت العاصمة بغداد كلها لا تتجاوز 300 الف نسمة في ذلك الحين."
"في العادة¡ كانت كل عائلة تسكن في دار خاصة بها¡ ولم تعرف بغداد آنذاك نظام العمارات والشقق السكنية بمفهومها الحديث. إلا ان السكن داخل الشقق وجد جذوره في بغداد منذ تلك الأيام الفائتة.  ففي البيت الشرقي الواحد قد تسكن أكثر من عائلة واحدة تجمع أفرادها صلات القرابة والرحم.  وجرت العادة ان تسكن العائلة في دار تملكها¡ وفي أحوال قليلة في دار تستأجرها.  كما لم يكن استثناء قيام عائلة بتأجير غرفة أو غرفتين من بيتها الواسع لعائلة أخرى أو أكثر."
"كان بيتنا يتألف من طابقين¡ في كل منهما غرف عديدة تطل على فناء رحب في الوسط¡ حيث يقابل الطابق الأول –كما يسميه البغداديون- الطابق الأرضي بمفهوم البناء الغربي.  ويتضمن هذا الطابق غرفة مفتوحة للجلوس وغرفتين للضيوف¡ واحدة للرجال والأخرى للنساء حيث لم تكن عادة ذلك الزمان تسمح بجلوس الرجال والنساء بصورة مختلطة خاصة إن لم تكن هناك صلة رحم بينهم.  ويضم الطابق كذلك غرفة للخزن وأخرى لحفظ المؤونة¡ الى جانب المطبخ والحمام والمرافق الصحية¡ ....، æíÖã ÇáØابق الثاني غرفاً عديدة مصفوفة الواحدة جنب الأخرى كطوق متكامل لم يترك مجالاً غير فتحة ضيقة لدرج السلم الذي سيدأ داخل البيت من الطابق الأرضي مروراً بالطابق الأول لينتهي بالسطح.  ويربط بين غرف الطابق الثاني ممر ضيق مكشوف يحاذي الغرف من جهة الفناء ويطل على الحوش عبر حاجز ثابت محكم معمول من خشب وقضبان معدنية¡ يسميه البغداديون (محجر)،  (حجر) اي منع وحرم.  ويعلو بيتنا سطح مستو¡ كحالة جميع البيوت الشرقية¡ مخصص للنوم في ايام الصيف الطويل .... وكان لدارنا قبو واسع¡ يطلق عليه البغداديون (سرداب) – كلمة فارسية¡ وهو شائع في بيوت ذلك الزمان."   و"ما كان يضفي على بيتنا جمالاً وجود (نافورة ماء)،”

حجم ظاهرة التحضر في العراق:

يعتبر العراق من البلدان التي شهدت مستويات عالية من التحضر, فقد جاوزت معدلاتها في العراق معدلات البلدان النامية .  لم تتجاوز نسبة السكان الحضريين 25% في عام 1930، 70% تقريباً في عام 1995.   وحسب تقديرات السكان لعام 2011،   22993771 من مجموع السكان 33330512 اي بنسبة 69% .

وعاش العراقيون في ثلاث بيئات إجتماعية مختلفة هي: البيئة البدوية والريفية والحضرية¡ إلا ان استقرار البدو في الزراعة ومغريات جذبهم من قبل بلدان الخليج الحدودية من خلال المال والمركز الاجتماعي وفرص العمل كانت قد عملت في عملية تلاشي البدو وشبه إنعدامهم في العراق¡ فقد شكل البدو 5% من مجموع السكان في عام 1930، .

وأخذت ظاهرة التحضر ابعاداً مؤثرة منذ منتصف القرن الماضي¡ فقد ذكر المستر فينيلون¡ كبير إحصائي الدولة العراقية في عام 1957 مايلي: "ظهر الآن نوع جديد من عدم الإستقرار الذي بدأ يؤثر في المجتمعات الريفية¡ وهو النزوح من الريف الى المدن¡ وفي كل لواء تقريباً هناك إتجاه في ان تكبر المدن الرئيسية على حساب القرى" .  وقدرت الهجرة الواسعة من الريف الى المدن بين عامي 1947-1957 بحوالي "نصف مليون شخص تركوا الألوية التي ولدوا فيها الى ألوية أخرى”، 200 الف مهاجر اي بنسبة 40% من مجموع المهاجريين والبصرة 28 الف مهاجر بنسبة 5.6%.  واغلب المهاجريين من العمارة (ميسان) حيث تركها في هذه الفترة 96 الف مهاجر ذهب منهم 68 الف الى بغداد و18 الف الى البصرة, "وفقدت الألوية الجنوبية الستة مجتمعة (الكوت والحلة وكربلاء والديوانية والعمارة والناصرية) مامجموعه 169 الف نسمة¡ .." .  وبلغ عدد المهاجرين الريفيين الى بغداد وحدها للسنوات الممتدة بين اعوام 1957-1965 حوالي 210 الف نسمة¡ بزيادة قدرها 23 الف نسمة عن العقد السابق¡ وأستمر النزوح من ألوية الكوت والديوانية والبصرة¡ بدلاً من الناصرية والعمارة . وبلغ مجمل عدد المهاجرين بين المحافظات في إحصاء 1977 حوالي 1,7 مليون مهاجر يشكلون 14% من مجموع السكان, وفي إحصاء عام 1987 بلغ مجمل عدد المهاجرين 2 مليون مهاجر بما يعادل 12% من مجموع السكان . وكانت الهجرة تتم في شكل موجات¡ تزداد قوتها في بعض السنين وتقل في أخرى.  وشهدت سنوات 1970-1990 إنخفاظاً في معدلات الهجرة الريفية الى المدن, بالمقارنة مع سنوات 1950-1970, فقد انخفظت النسبة الى 29%, بعد ان كانت قد بلغت 54% .

لقد اتجهت موجات الهجرة الريفية الكبرى نحو العاصمة بغداد¡ فقد جرى تركيز سكاني فيها على حساب بقية المدن العراقية¡ وساعدت السياسات التنموية في بداية السبعينات في عملية الجذب نحو العاصمة, التي توفرت فيها فرص العمل والتعليم والترفيه والتسلية وغيرها¡ وهكذا اصبحت بغداد تضم ربع سكان العراق تقريباً.

لقد اصبحت بغداد واحدة من اكبر 85 مدينة في العالم وان مرتبتها ضمن هذا المعيار هو المرتبة الثامنة والاربعون, كما فاق حجم سكانها سكان بقية المدن العراقية, مما جعلها تدخل ضمن مفهوم المدينة الأولى الذي يشير الى تركز التحضر في مدينة واحدة مهيمنة على بقية المدن والبلدات.

وتعود اسباب الهجرة الريفية للمدن خلال الخمسينيات من القرن الماضي الى سوء الأحوال المعاشية وتعسف ملاك الأرض.  ويفسر حنا بطاطو الأسباب التي اصبح فيها الشيعة أغلبية سكان بغداد في السبعينات من القرن الماضي¡ بعد ان كانوا لا يتجاوزون خمس سكانها في العشرينات¡ ويعتبرها بأنها "ثمرة الهجرة الهائلة للفلاحين من ابناء العشائر في الريف¡ بفعل عوامل عديدة بينها جاذبية الحياة في المدينة¡ وعظمة الفارق في دخل المدينة عن دخل فلاح الريف¡ والطابع القمعي لنظام الشيوخ في لوائي الكوت والعمارة الشيعيين¡ وجفاف النهيرات المتفرعة عن دجلة نتيجة التطور العاصف لنظام السحب بالمضخات في مناطق الكوت وبغداد" .

وفي مسح إجتماعي عن اسباب الهجرة من الريف الى المدن جرى في بغداد في منتصف الخمسينيات لعينة من المهاجرين, اظهرت نتائج المسح بأن السبب في الهجرة "هو سوء الأحوال في الأرياف لا جاذبية المدن.  فكانت الأسباب التي بينوها هي الجوع وتعسف مالك الأرض وتلف المحصول بسبب الفيضان ..الخ¡ وعلى الرغم من إنخفاض دخل هؤلاء المهاجرين (40% من الذين جرت مقابلتهم يحصلون على اقل من 90 ديناراً سنوياً)، أنهم أحسن حالاً وأحسن سكناً وأحسن غذاءاً مما كانوا عليه قبلاً” .

وفي وصف للأحياء الفقيرة في أوائل الخمسينات "وكانت الدور النموذجية لغالبية السكان هي اكواخ من الطين او القصب ذوات غرفة او غرفتين لا نوافذ لها ويحيط بها حائط من الطين ايضاً¡ يتوسطه باب كبير¡ ولا تحوي من الأثاث إلا بعض البطانيات واللحفان التي تغطي جميع افراد العائلة في الشتاء إذ يتكومون معاً على الأرض في الليل¡ وهناك نوع من المهود للأطفال وصندوق من الخشب لجميع الحاجيات الضرورية وجرة ماء من الطين¡ وقدران اثنان للطبخ¡ وتعيش العائلة عامة في ساحة خلف الحائط¡ وفي هذه المنطقة تنجز الأعمال البيتية, ويعيش معهم الدجاج وربما عنزة إذا اسعفهم الحظ لتملك واحدة.

وقد كان الطعام الرئيسي هو الخبز الذي تخبزه نساؤهم في تنور من الطين وقد يضاف اليه الشاي¡ كما قد يضاف اليه اللحم أحياناً والخضروات والرز والتمر.  ويختلف المقدار بإختلاف المنطقة¡ فاللحم والخضراوات اكثر استهلاكاً في المدن منه في المناطق الريفية¡ ولو ان بعض المناطق الريفية تعتبر اللحم إضافة مهمة الى الخبز¡ وعلى العموم فإن معدل من يحتويهم الدار الصغير الواحد هم 4-5 أشخاص في كل غرفة.  لكن المعدل العام لكثافة السكان كانت 2،75% للغرفة الواحدة¡...".


وحتى بعد ثورة 14 تموز 1958 وصدور قانون الأصلاح الزراعي والظروف التي رافقت تطبيقه, فأن الهجرة الريفية للمدن لم تتوقف¡ بل انها ازدادت عن الفترات السابقة.  ففي رسالة غير منشورة لأثيل الجومرد مقدمة الى مؤتمر التطوير في جامعة لندن في كانون الأول من عام 1976 جاء فيها: ".., وقد دفع عدم الإستقرار السياسي والتباطؤ في تنفيذ القانون (قانون الإصلاح الزراعي) وإضطراب النظام الإجتماعي في المناطق الريفية الى الهجرة من جديد.  ولكنها كانت هذه المرة (اي الهجرة) دون ما خوف من أحد بعد أن اختفت السلطة التي كانت تمسكه (الفلاح) الى ارضه¡ إضافة الى أن وعود الحكومة الى سكان الصرائف في ضواحي المدن بتحسين أحوال معيشتها جذيت الى تلك الضواحي اعداداً جسيمة من الفلاحين المهاجرين من قراهم." .

وادت التغييرات التي جابهت البنى الزراعية والتقليدية في الريف وعجزها عن توفير مستلزمات الحياة لإعداد كبيرة من الريفيين الى هجرتهم للمدن وخاصة المدن الكبرى.  وشكل إفتقار المناطق الريفية لفرص العمل المناسبة والثروة وتنوع السلع والخدمات مقارنة بالمدن¡ وتدني الانتاج الزراعي وسوء المواسم الزراعية وغيرها اسباباً إضافية للهجرة.  وأنخفظت نسبة مساهمة القطاع الزراعي من الناتج المحلي الإجمالي من 57% عام 1947 الى 12% في عام 1987.  "يظهر التمييز وعدم التكافؤ بجلاء ووضوح أكثر بين سكان الريف وسكان الحضر وتشمل مظاهر عدم التكافؤ مختلف جوانب الحياة.  فحصة الفرد الواحد من سكان الأرياف من الخدمات العامة في التعليم والصحة¡ لا تعادل سوى نحو نصف متوسط نصيب الفرد من سكان المناطق الحضرية.  وتشتد مظاهر الحرمان خطورة بالنسبة للخدمات الأخرى كالماء والكهرباء والصرف الصحي ووسائل الترفيه¡ حيث تصل نسبة السكان المحرومين من هذه الخدمات في المناطق الريفية الى نحو 90% في كثير من الدول النامية.  ومن ناحية أخرى وبسبب نمو ظاهرة التحضر بوتائر سريعة جداً واقتصارها على مظهرها الكمي (الجغرافي – الديمغرافي) فأن مظاهر عدم التكافؤ بين الريف والحضر قد إزدادت خطورة حيث تتم عملية التحضر في الدول النامية ومنها العراق وفق النموذج البدائي بدل النموذج القاعدي كما هو الآن في الدول المتقدمة.  وهكذا لم تعد مظاهر عدم التكافؤ في الفرص مقتصرة على الأرياف بمفهومها التقليدي بل امتدت لتشمل المدن الكبرى مثل بغداد والبصرة حيث تمثل اطراف هذه المدن مراكز جذب لسكان الأرياف النازحين بفعل عوامل الطرد وليس بفعل عوامل الجذب وبسبب النموذج السائد للتحضر في الدول التي شهدت اطراف مدنها الكبرى ظاهرة (الترييف) بدلاً من ظاهرة التمدين.  لقد عكست هذه الظواهر اثارها السلبية على سكان المدن والمناطق الحضرية والتي شهدت زيادة في عدد سكانها بمعدلات فاقت معدلات زيادة الخدمات العامة المقدمة اليها” .

الأوضاع الأجتماعية والأقتصادية والثقافية لفقراء المدن:
أن الاشخاص الذين يعيشون في يسر ومرتبطين بعمل ما لا يهاجرون.  فأغلب الاشخاص الذين هاجروا من مكان الى أخر قاموا بذلك نتيجة معاناتهم المعيشية في اماكنهم الاصلية¡ ويهاجرون في سبيل تحسين اوضاعهم الاقتصادية.  وغالباً ما يهاجر الذكور في عمر العمل أولاً¡ ومن ثم يستدعون عوائلهم.  وبالرغم من أن حياة الناس في المدن كانت افضل من الريف¡ إلا انه في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي كانوا قلة من السكان لا تزيد على 20 في المئة "يعيشون في مستوى يمكن ان يوصف بالمستوى الصحي أو المريح¡ في حين أن قلة قليلة جداً كانت تتمتع بجميع الكماليات والأدوات الفنية المتاحة" . وكان توفر الكهرباء والمياه المأمونة على سبيل المثال لا يتجاوز 50 في المئة فقط. وكانت حياة فقراء المدن تتلخص في ان غالبيتهم يسكنون في "أكواخ من الطين أو القصب ذوات غرفة أو غرفتين لا نوافذ لها ويحيط بها حائط من الطين ايضاً¡ يتوسطه باب كبير¡ ولا تحوى من الأثاث إلا بعض البطانيات واللحفان التي تغطي جميع أفراد العائلة في الشتاء¡ إذ يتكومون معاً على الأرض في الليل¡ وهناك نوع من المهود للأطفال وصندوق من الخشب لجميع الحاجيات الضرورية وجرة ماء من الطين¡ وقدران إثنان للطبخ¡ وتعيش العائلة عامة في ساحة خلف حائط¡ وفي تلك المنطقة تنجز الأعمال البيتية¡ ويعيش معهم الدجاج وربما عنزة إذا اسعفهم الحظ لتملك واحدة.  وقد كان الطعام الرئيسي هو الخبز الذي تخبزه نسائهم في تنور من الطين وقد يضاف اليه الشاي¡ كما قد يضاف اليه اللحم احياناً والخضروات والرز والتمر" .

وفي عدد من المسوح الميدانية التي جرت بين عامي 1961 و1962، .  فبلغ أجر عمال الطابوق الذين كان أغلبهم من المهاجرين من المحافظات الجنوبية الى بغداد 429 فلساً في اليوم للعامل الماهر و 300 فلساً في اليوم للعامل غير الماهر.  "ولم يكن ماء الشرب متوافراً لهم¡ وحين يصبح ماء النهر بالغ الملوحة في بعض المواسم كانوا يضطرون لشراء علب الماء من الباعة المتجولين بمعدل عشرة فلوس للعلبة ذات الأربع غالونات ولكن الطعام كان كافياً وإن كانت تقل فيه عناصر الكالسيوم والفيتامينات وكان إستهلاكهم من البروتين الحيواني قليلاً ولكنه يكثر في غذاء القادمين من الأهوار في الجنوب¡ الذين اعتادوا على أكل السمك بكثرة. وكانت الأسرة تتناول ثلاث وجبات في اليوم  في مواسمه والخضروات ومنها البصل والخيار والطماطم في الغذاء¡ أما وجبة المساء فتتكون من الخبز والمرق (ويتكون من عصير الطماطم مع البصل والدهن) ثم الشاي والسكر¡ وفي بعض الأحيان الرز ايضاً¡ ولكن نادراً ما يأكلون اللحم¡ ومع هذا فقد كانت هناك حالات فقر الدم والتي ربما كان سببها فقدان الدم الناتج عن وجود بعض الطفيليات في الأمعاء" .  وكشفت دراسة أخرى عن ميزانية الأسرة في مدينة بغداد في عام 1962 عن "زيادة ملحوظة في المصروف الشهري للعوائل الساكنة في البيوت أو الصرائف على حد سواء.  وكانت النسبة المئوية من الدخل المصروفة على الأكل أقل من مثيلتها في عام 1954، ... وان مايصرف على اللحوم والأسماك قد زاد ولكن على حساب ما يصرف على القمح" .

وقد تحسنت أوضاع المعيشة بالنسبة لكافة فئات الشعب العراقي في منتصف السبعينات من القرن الماضي نتيجة للزيادات الكبرى في اسعار النفط¡ رافقتها تنمية اقتصادية عرفت بـ"التنمية الانفجارية" التي لم تدوم طويلاً نتيجة دخول العراق في مسلسل من حروب وإنتكاسات وعقوبات دولية وحصار اقتصادي أدت الى إفقار الطبقات الوسطى. "ولكن فترة التنمية الحقيقية لم تدم أكثر من عقد واحد. فسرعان ما تعرض العراق الى إنتكاسات عنيفة عطلت عجلة التنمية.  وقد شمل هذا التراجع جميع نواحي الحياة بما فيها النواحي السكانية ليس فقط النوعية والهيكلية منها بل حتى الكمية وفي وتيرة النمو السكاني بالذات”

من الناحية السوسيولوجية فأن إستقرار طلائع المهاجرين الريفيين الأوائل في اربعينيات وخمسينيات القرن الماضي على اطراف المدن وخاصة العاصمة بغداد¡ كان البداية لصراع ثقافتين ونمطين متمايزين من طرق التفكير والمعيشة.  وعلى خلاف مابدا في البداية من ان نتيجة الصراع ستحسم لا محالة لصالح نمط المعيشة الحضري¡ فأن العكس تماماً هو الذي حصل¡ إذ لم تستطع ثقافة المدينة الصمود امام ضغوط الريف المتواصلة.  فلم تكن لدى المدينة العراقية الآليات التي تملكتها المدن الاوروبية آبان الثورة الصناعية في دمج أهل الريف اجتماعياً بأهل المدن.  فبالرغم من توفر بعض القطاعات الحديثة في المدن العراقية كالتعليم والجيش والبيروقراطية والحرف والصناعات إلا انها لم تستطيع الصمود امام جحافل المهاجرين الريفيين.  وبينما كان المهاجر الريفي ينبهر بمدينة بغداد وأنورها وعاداتها وصخبها ورهبتها وغربتها قبل خمس أو ستة عقود¡ يجدها خلفه المهاجرالجديد بانه وصل الى بيته¡ إذ يجد فيها اقربائه وعاداته ولهجته واغانيه المفضلة.  وحولت الهجرة الريفية أحياء عديدة من بغداد الى مستعمرات ريفية. لقد عطلت الهجرة الريفية المتواصلة بالتالي حياة المدينة الحضرية وتراجعت ثقافتها امام ثقافة الريف وقيمه.  فأهل الريف يحافظون على علاقاتهم العشائرية وقراهم الاصلية من خلال تشكيل مجتمعات قروية متكيفة ضمن المدينة.

تتميز الثقافة الفرعية للمهاجرين الريفيين للمدن بكثير من الملامح الأساسية لثقافة الريف¡ لكنها تختلف عنها تبعاً للظروف التي يواجهها المهاجرون في المدن.  إن أولى المسائل التي يواجهها المهاجر الريفي الى المدينة هو تعرضه لبيئة اجتماعية جديدة¡ مختلفة إختلافاً كبيراً عن بيئته الريفية. تفرض عليه الحذر من العلاقات الاجتماعية السائدة في المدينة¡ والتي يجدها غريبة عن عاداته وقيمه ومعاييره.  فالإيقاع اليومي للمدينة متنوع وسريع بالمقارنة مع الريف¡ ولا يعتمد على متغيرات الطقس ولا على تعاقب الفصول الاربعة أو الليل بالنهار. وأهم نقطة تثير الريفي القادم للمدينة هو اللاتجانس الذي تتميز به المدن¡ فالغنى والفقر¡ والأحياء الميسورة والاخرى الفقيرة¡ والتنوع الواسع للمهن والوظائف¡ وتعدد الأصول الاجتماعية والثقافية¡ تضارب العادات والقيم¡ ودور المرأة في حياة المدينة وغيرها.
 
وفي غياب آلية تعمل على دمج المهاجرين الريفيين في حياة المدينة¡ يتعلق الريفي بتقاليده التي ورثها عن الريف ويتقرب من الاشخاص القريبين منه من ذوي الاصول الريفية والعشائرية¡ يقوي معهم علاقاته ويجعلهم جماعته التي ينتمي اليها.  وفي الوقت الذي يجد فيه الريفي بأنه غير مرغوب في المدينة¡ ولا يجد العمل الذي يجعل عيشه مستقراً¡ يعادي المدينة ورموزها¡ خصوصاً طبقاتها الوسطى وثقافتها¡ منتظراً الفرصة للإنقضاض عليها.

يتحرك المهاجر في بيئة ثقافية رمزية معقدة ذات طابع غريزي وعفوي لا عقلاني¡  لها ارتباط بالفلكلور الريفي¡ تأله رمز معين غالباً مايكون زعيم قوي منقذ¡ ولا يهم ان كان هذا الرمز شخصية حقيقية أو اسطورية أو دينية.  ومهما كان فهم المهاجر للدين بسيطأً¡ إلا أن الدين يلعب دوراً بارزاً في ثقافته¡ لتضمنه العديد من الرموز المقدسة. ويزداد تعلق المهاجر بالديانة كلما ازدادات عليه حالات الاحباط التي يواجهها في المدينة.  كما تتلائم سيكولوجية هذه الفئات مع الفكر الديني¡ إذ يصبح فيه الجميع متساون في المرتبة والمكانة الاجتماعية¡ حتى يكاد ان يصبحوا غير مختلفين من حيث الجنس والملكية.

لم يكن المجتمع العراقي مجتمعاً موحداً عند تأسيس الدولة العراقية في عام 1921.  ففي داخل البيئات الاجتماعية الثلاث المعروفة: البداوة والريف والحضر كانت المجتمعات المحلية تختلف احداها عن الأخرى إختلافاً محسوساً. وكانت المحلية سواء منسوبة الى قبيلة أو عشيرة أو قومية أو طائفة أو دين أو بلدة أو محلة أو منطقة جغرافية أو غيرها هي السمة الأساسية التي كانت تلون مختلف المجتمعات والتجمعات.  واختلفت هذه المجتمعات المحلية فيما بينها من حيث اللغة واللهجات والأصول والإنتماء الديني والطائفي والقيم والمعايير وغيرها.  وبسبب عدم وجود وسائل كفيلة بدمج هذه المحليات في كيان واحد¡ قامت الدولة العراقية الفتية بهذه المهمة¡  فوضعت الأسس الكفيلة بتكوين مجتمع عراقي موحد وهي المهمة التي لم تكتمل لحد اليوم¡ من خلال استخدام وسائل مثل: الدستور والقوانين والتعليم والجيش والسوق والسجون وغيرها تمكنت من دمج العديد من المجتمعات المحلية.  وكان لبقاء قوانين خاصة بالعشائر(المنازعات العشائرية) لحين إلغائها بعد ثورة 14 تموز1958،   وقد كتب حنا بطاطو بشأن عملية إندماج الشيعة في العراق مايلي: "حين نشأت الدولة الحديثة في العراق عام 1921, لم يكن الشيعة يؤلفون كياناً وثيق التماسك من البشر. ورغم انهم كانوا يمتازون بعدد من الخصائص المشتركة¡ فقد كانوا منقسمين¡ شأن غيرهم من سكان العراق¡ الى عدة جماعات متمايزة¡ قائمة بذاتها.  وفي إطار حالات عديدة¡ لم يكونوا يعتبرون انفسهم كشيعة أولاً¡ فالولاء الأول والأقوى كان للقبيلة والعشيرة.  ويصح هذا بشكل خاص على الحال في القرى والسلف" .
شكل (4) خارطة مدينة بغداد وتظهر فيها مدينة الثورة (الصدر)

 ولغاية اليوم فأن العلاقات العشائرية والعائلية تلعب دوراً هاماً في الحياة الاجتماعية لأحياء فقراء المدن.  ففي مدينة الصدر أكبر أحياء بغداد لاتزال العلاقات مع المحافظة التي نزحوا منها (محافظة العمارة بالدرجة الرئيسية) مستمرة بشكل ملحوظ¡ ويفيد أحد سكنة مدينة الصدر مثلاً أن "من الصعب بمكان ان تجد شخصاً يعيش بمدينة الصدر وليس لديه علاقات مع المحافظة التي نزح منها أو نزح أهله منها.  كثيراً ماتتم الزيجات مع الاقرباء الساكنين في المحافظة الأصلية.  كل الجماعات التي هاجرت اقامت علاقات مع اقربائها او عشيرتها من المحافظة التي تمت منها الهجرة.  ومن الأمور السائدة ان يقول لك احدهم بأن عليه ان يذهب الى البيت بسبب ان لديهم زيارة من العمارة أو انه سيسافر لها لغرض زيارة الأهل هناك.  
اما العزاء فله طقوس اخرى¡ فإذا حصلت وفاة فأن الجنازة لا يتم مراسيم دفنها قبل ان يحضر الأهل من العمارة¡ وإذا حصل ان تم دفن الجنازة من دون علم الأهل في العمارة فأن هذا يؤدي الى زعل وخصام يدوم احياناً سنوات طويلة قبل ان تسوى الأمور بينهم مرة أخرى. وهناك نوع آخر من الصلات بين الاقرباء في العمارة واقربائهم في مدينة الصدر تتعلق بمرض احدهم في العمارة ويحتاج الى مراجعة اطباء بغداد.  فحصل ان قدم مريض من عائلتنا وبقي معنا في الدار لمدة اربعة اشهر¡ بحيث ضجرنا من وجوده بيننا¡ لكن الترابط العشائري يفرض علينا العناية به وفتح بيوتنا امامه.  وقد يكون هذا الشخص بعيداً من حيث القرابة¡ مثل احد ابناء العمومة من جهة الأب¡ وطبعاً تتخلل اقامة هذا الزائر زيارات من ذويه للإطمئنان عليه. اما العلاقة مع شيوخ العشيرة¡ فقد كان اغلب الشيوخ من الأقطاعيين المستقرين في المحافظة الأصلية¡ وعندما هاجر افراد العشيرة الى المدن وخاصة بغداد فإنهم قدموا إليها من دون شيوخهم¡ ولا تزال بعض العشائر في مدينة الصدر من دون شيوخها¡ لكنهم ما ان يحتاجوا الى قضية متعلقة بالعشيرة كالفصل او دفع الدية او غيرها فإنهم يقومون بإستدعاء الشيخ للقدوم الى المدينة وحل المشكل المعني.  وغالباً ما هاجر شيوخ العشيرة الى المدن ايضاً¡ فيقومون بحل مشاكل العشيرة في نفس المكان.  ولا تتميز مساكنهم عن الاخرين لكنهم يبنون مضيف مهما كلف ذلك من مضايقة الاسرة.  ومن الضروري ان يقدم الناس يومياً منذ الصباح الى مضيف الشيخ¡ واغلب هؤلاء الذين يحضرون مضيف الشيخ هم من كبار السن والعاطلين عن العمل. وهؤلاء يذهبون لشرب القهوة وتدخين السجائر¡ ومن المحتمل ان يدعوهم الشيخ على العشاء في المناسبات. احياناً يقضون سهرة ليلية تتخللها قراءة الشعر من قبل احد الشعراء¡ كما يلتقون بمناسبات العزاء على الحسين أو في مسألة حل احدى المشاكل المتعلقة بأفراد العشيرة.

اما قضايا الثار في مدينة الصدر فهي تشبه مثيلها في الريف تماماً¡ فحين  يقتل شخص أخر من عشيرة اخرى¡ يختفي القاتل فتتم مهاجمة بيته وحرقه أو يتم قتل احد من افراد عشيرته.  ما ان يقتل احد افراد العشيرة حتى تقوم العشيرة الأخرى التي قتل احد افرادها بقتل شخص من العشيرة المسببة¡ وقد يستمر مسلسل القتل لفترة طويلة الى ان يتدخل طرف ثالث يطلب في البداية هدنة تدعى "عطوة", كأن يطلبوا 10 ايام عطوة¡ احياناً لا تقبل العشيرة المتضررة بالعطوة¡ لكن إذا كان الطرف الثالث احد الشيوخ المعروفين او السادة¡ انذاك توافق العشيرة المتضررة على العطوة من اجل خاطر السيد.  تبدأ آنئذ إجراءات الفصل¡ التي تتضمن بالسؤال عن المسبب واسباب الحادث ويتم بعدها الفصل بمبلغ معين.  وغالباً ما تترحل العائلة التي ينتمي اليها القاتل من المنطقة¡ لأن بقاءها قد يتسبب بقتل ابنها الذي قام بالقتل."   ولاتزال اسماء الأحياء داخل مدينة الصدر بأسماء العوائل والعشائر التي استقرت في اماكن متجاورة " وهكذا اصبح في مدينة الصدر شوارع باسماء العوائل التي تقطنها كفرع الكيظان او فرع الجعب وكل ساكني قطاع 55 هم من ربيعة (ربيعي من العمارة).  فمثلاً ان عائلتنا حصلت على اراضي في الكيارة¡ وكان احد الاقرباء قد حصل في (الثورة-داخل) بقام بتبديلها مع شخص اخر من الكيارة الذي يريد الانتقال الى (الثورة – داخل) وهكذا.”

الجوانب السياسية لفقراء المدن

لا تنسجم الخلفية الثقافية للمهاجرين مع مجتمع المدينة السياسي¡ خاصة تلك المتعلقة بالأصول الديمقراطية مثل التعددية السياسية والانتخابات والتعبير عن الرأي الأخر وغيرها. ولقد اضعفت الهجرة الريفية مجتمعات المدن السياسية حيث غمرتها بأفواج من "الجماهير" الغير واعية سياسياً¡ فغيرت الكثير من أهداف المنظمات السياسية. كما ان السلطات والأحزاب الحاكمة أو المتنفذة قادت جماهير المهاجرين لتحقيق اهدافها الضيقة.  إن احدى مميزات فئة المهاجرين من الناحية السياسية هي استعدادها للإنقياد وراء الحركات المتنفذة أو الشخصيات الكرازماتية¡ فيكفي ذكر يضعة كلمات أو القيام بإيماءات معينة حتى تفقد جموع هذه الفئات إتزانها وتتحول الى حشود فعالة مستعدة لتدمير كل ماهو امامها.  فهناك دائماً "كلمة" أو "صورة" أو "رمز" لها مفعول "كلمة السر" تسري بين جموع هذه الفئات وتنتشر بينهم بسرعة مذهلة¡ فتصبح دليلهم في إجلاء الغموض عن الاوضاع الاستثنائية أو الغير عادية المحيطة بهم. "لبعض الألفاظ والجمل سلطان لا يضعفه العقل ولا يؤثر فيه الدليل.  الفاظ وجمل ينطقها المتكلم خاشعاً امام الجماعات فلا تكاد تخرج من فمه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين وتعنو الوجوه لها إحتراماً ويعتقد كثيرين ان فيها قوة آلهية" .   

لقد لعبت فئات فقراء المدن دوراً مميزاً في الاحداث السياسية بهذا القدر او ذاك التي واجهت العراق منذ نهاية العقد الخامس من القرن الماضي¡ لكنها اصبحت فعالة للغاية بعد احتلال العراق في 2003. ولا تنضم فئات المهاجرين الى عالم السياسة من خلال العمليات السياسية المنظمة¡ المعتمدة على الاقناع والحوار والتنظيم السياسي الحديث والتدرج في تحقيق الاهداف وغيرها¡ بل عن طريق جانبي يتسم بالعفوية وبتأثير العواطف واللاعقلانية على الفعل السياسي¡ وهو مايطلق عليه بـ"السلوك الجمعي”. وليس القصد هنا بأن السلوك الجمعي مقتصرعلى فقراء المدن¡ بل يمكن ان يتعرض له كل افراد المجتمع إذا ما واجهوا أوضاعاً استثنائية. فحريق في بناية يخلق حالة من الذعر لكل من وجد في داخلها¡ ولا يفرق ان كان الشخص غنياً او فقيراً¡ ذكراً او انثى.

وينشط السلوك الجمعي collective behavior عند اجتماع عدد كبير من الناس في مكان واحد¡ يواجهون فيها ظروفاً إستثنائية غير عادية . ويشبه السلوك الجمعي السلوك المنظم من حيث تضمنه تفاعل مجموعة من الناس سوياً¡ لكنه يختلف عنه بعفويته واوضاعه المتغيرة بإستمرار¡ مما يصعب أو يقلل إمكانية التنبؤ به. وإذا كان سلوك الافراد المنظم محدد بجملة من الضوابط والآليات كالقيم والمعايير والدوافع وغيرها¡ فأن السلوك الجمعي هو الأخر محدد بضوابط مماثلة.  ويتمثل التباين بين السلوكين في ان السلوك المنظم هو سلوك يومي متكرر يواجه فيه الفرد اوضاعاً مألوفة متكررة¡ اما السلوك الجمعي فيقوم في ظل اوضاعاً استثنائية غير عادية وغير متكررة.  فيظهر سلوك الناس الجمعي "لحصول خطأ ما في بيئتهم الأجتماعية.  فالناس يفزعون¡ مثلاً¡ لمواجهتهم بعض الأخطار الشديدة.  وينغمسون في حالات من الحماس والإهتياج والبدع بسبب الضجر مما يدور حولهم.  ويقومون بالشغب لمواجهتهم أوضاعاً من الحرمان الحاد كإرتفاع الأسعار التضخمي.  وينضمون الى الحركات الثورية والإصلاحية لمعاناتهم من اوضاعهم الاجتماعية السائدة" .  وينشط السلوك الجمعي في فترات التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية¡ ويزداد فعالية في اوقات الأزمات عندما يضعف الثبات الاجتماعي أو عند إختلال النظام المعياري normative order في المجتمع أو عند عجز البنية الأجتماعية عن إستيعاب التغييرات الجديدة.

أتسم الدور السياسي للمهاجرين الريفيين بأهمية بالغة بعد سقوط النظام السابق في نيسان 2003، .فمنذ الأيام الأولى لسقوط النظام اعلنت جماهير واسعة من شباب مدينة الصدر ولائها الى الزعيم الشيعي مقتدى الصدر¡ وانظموا الى تشكيلات "جيش المهدي" التي حاربت الأمريكان في عام 2004  2005، وساهموا في فوز قائمة “الائتلاف” في كلا الانتخابين¡ كما إنخرطوا بقوة في الحرب الطائفية التي اندلعت في عام 2006. وهكذا لم يستجب الصدريين للخطاب السياسي المدني والسلمي¡ بقدر استجابتهم للرموز الدينية والطائفية¡ والمساهمة في القتال في الحرب الطائفية.

وحول طبيعة الحركة الصدرية¡ جاء في تقرير مجموعة الأزمات الدولية: “تعكس الحركة الصدرية حالة الأحباط والطموح الذي أصاب قطاعاً هاماً من الشعب العراقي¡ الذي اراد ان يجد مخرجاً اما سلمياً¡ عن طريق السياسة¡ أو عنيفاً من خلال الصراع المسلح.”  وجاء في مكان أخر: “وتبقى الحركة الصدرية¡ بجانب الصعوبات الحالية التي تواجهها¡ حصينة¡ فهي حركة جماهيرية شعبية من الشباب الشيعي الفقير والمحروم.”

وبخصوص الجانب السلمي والسياسي (الأنتخابي) للحركة الصدرية فقد تميز بالتالي:
1- لايتم تصويتهم للقائمة الانتخابية على اساس البرنامج الانتخابي بل على مايشير اليه زعيمهم الملهم¡ أو رجال الدين أو الحوزة العلمية وغيرها.
2- تعتبر المشاركة في الانتخابات بمثابة واجب او طقس ديني ينبغي القيام به بفعالية كبيرة.
3- يتصرفون في أوقات السلم كما يتصرف الرعيل المسلح في فترة الهدنة بين معركتين.
4- لديهم مقدرة كبيرة على تجنيد النساء والأميين للمشاركة في الانتخابات بشكل فعال.

وحسب تقرير مجموعة الأزمات الدولية فأن مصدر قوة الصدريين هي المناطق الشيعية الفقيرة “التي ساهمت اسرهم في الهجرة الريفية في النصف الأول من القرن العشرين¡ واستقرت في مدينة الصدر¡ وكذلك في مناطق مثل الشعلة والوشاش¡ وهما منطقتين في الجانب الغربي من نهر دجلة.”
كما اصبح الاختطاف والحصول على الفدية مصدر دخل مهم لكثير من الفقراء الذين انخرطوا في المليشيات العاملة في هذه الأحياء.  أخبرت احدى العوائل مجموعة الأزمات الدولية قصتها مع احدى المليشيات حيث “ اتصل بهم مختطفي ابنهم¡ وقالوا لهم  بأنهم يسلمون ابنهم مقابل عشرة الآف دولار¡ بشرط ان يأتيهم الأب بالفدية بسيارته في مكان تم الأتفاق عليه. وقام الأب بما تم الأتفاق عليه. فأختفى الأب مع السيارة ومبلغ الفدية.”   وفي مقابلة مع “احد الشبان المثقفين” من القريبين للحركة الصدرية: “رغم الغارات والأعتقالات المستمرة للقوات الأمريكية¡ استطاع جيش المهدي من تقوية دوره ونفوذه¡ غالباً بفضل المصادر الغير محدودة لدخل الحركة. فقد تم الأستيلاء على عدد من ممتلكات السنة¡ من ضمنها دور سكنية وفلل ومخازن تعود الى برجوازية بغداد الذين تملكوها منذ ايام الأمبراطورية العثمانية.  فقامت مكاتب الحركة الصدرية بإدارة و تأجير هذه الممتلكات¡ وبهذا حصلت على ثروة ضخمة.”  وفي مقابلة مع أخر “ان مشكلة جيش المهدي تكمن في ان افراده غير منضبطين وغير متعلمين.  جيراني كان شخصاً عادياً قبل ان ينضم الى جيش المهدي.  اصبح اليوم يقود سيارته في محلتنا ترافقه ثلاثة او اربعة سيارات حراسة.  لقد اصبح طاغيةـ صغيرلانه حصل على نفوذ واسع.”

 وفقدت الحركة الصدرية الكثير من شعبيتها نتيجة للعنف الذي مارسته¡ مما دعى السيد مقتدى الصدر من مراجعة دور الحركة وتنظيمها “ لقد اصبح الصدريين ضحية نجاحهم.  فحركتهم التي اصبحت غنية بسرعة وازدادت عضويتها واتسع نشاطها¡ وادى ذلك الى إتساع الفساد¡ وضعف التماسك الداخلي وتراجع الشعبية. كما تعمقت الإنشقاقات داخل الحركة¡ وتكاثرت الجماعات المنشقة- غالباً أكثر بقليل من ثلة من المجرمين. وكنتيجة لذلك اتسع الشعور المعادي للصدريين¡ حتى بين أنصار مقتدى من الشيعة.”

ولم يقاتل الصدريين الجماعات السنية فحسب بل انهم قاتلوا في كربلاء في آب 2007 مناصري المجلس الأعلى الأسلامي الشيعي (فيلق بدر )، لقتل ونهب وغيرها.  أن إعادة ترتيب الحركة الصدرية على اسس أخرى اكثر سلمية وسياسية لم تعجب بعض القيادات في جيش المهدي التي انشقت عنه¡ ولاتزال تمارس العنف كمليشيات مسلحة.
الخاتمة:
أن المشكلة التي يواجهها العراق تتعلق بإخفاقه في بناء دولة حديثة ومتوازنة، إذ بينت الأحداث منذ عام ٢٠٠٣ بأن بناء دولة حديثة ليس من المسائل السهلة والأكيدة.  فكل التأكيدات التي جاء بها الدستور الدائم لعام ٢٠٠٥ -على نواقصه ـ  جرى تجاوزها من قبل السلطة، تلبية لمصالح ذاتية وآنية، وتعصب طائفي لا مبرر له سوى الأعتقاد بأنه السبيل المضمون للبقاء في السلطة. والمسألة لا تتعلق بالنظام السياسي فحسب بل بالتركيبة الاجتماعية للمجتمع العراقي التي لازالت غير مواتية لمتطلبات الدولة الحديثة، ويمكن تلخيص ذلك بما يلي:

١- لازال المواطن - الناخب غير ناضج في إختيار حكامه عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، مما تفقد مسألة إختيار الحكام (التي تعتبر احدى اهم مقومات الدول الحديثة) أهميتها عندما ينتخب المواطن على اساس الطائفة والعشيرة والجماعة المحلية، وهي كلها تراكيب اجتماعية ماقبل الدولة والمجتمع الحديث. وأصبحت الأنتخابات شكلاً من اشكال تعداد السكان، فكل  مجموعة اثنية او طائفية تنتخب ممثليها فقط، بغض النظر عن كفائتهم وقدرتهم على ادارة الدولة. وشرائح هامة من الناخبين تنتخب جماعات لا تمثلها ولا ترعى مصالحها، خصوصاً النساء اللواتي ينتخبن الجماعات والقوائم التي تقف ضد مصالحهن، بسبب هيمنة الذكور في الأسرة والمجتمع عليهن سواء كان أباً أو زوجاً او أخاً.
٢-  ضرورة إحتكار الدولة للسلاح من خلال مؤسساتها القمعية كالجيش وقوات الأمن، ومنع كل الجماعات والمليشيات المسلحة التي تعمل في الساحة العراقية.  وفرض الخدمة العسكرية الألزامية ولو لفترة قصيرة، وذلك من أجل ان تمثل مؤسسات الدولة القمعية تركيبة الشعب العراقي.
٣- ان اعتماد فئات اجتماعية واسعة على البنى التقليدية ما قبل الحديثة مثل العشيرة والقبيلة والعائلة والطائفة والمرجعيات الدينية بسبب غياب الدولة الحديثة ساعد على تغيير الخارطة السياسية لصالح منظمات لا تؤمن بالعملية الديمقراطية وبالتطور السلمي للبلاد.
٤-ان التهميش الذي اصاب الفئة الاجتماعية الأكثر اهتماماً ببناء دولة حديثة في العراق وهي الطبقات الوسطى بسبب الحصار والعقوبات الاقتصادية التي خضع لها العراق اثرت سلباً على مسار بناء الدولة الحديثة.
٥- تعتمد النخب السياسية في العراق على الكارزما الشخصية أكثر منها على القيادة العقلانية -حسب تعابير ماكس ويبر.  فالقائد السياسي يحاول جهده بالظهور بمظهر البطل الذي لديه قدرات خارقة لا يملكها المواطن العادي. وللأسف فان الكثير من الشرائح الشعبية، خاصة فقراء المدن تغريها مثل هذه الشخصيات، وتكون مستعدة للخضوع لها والعمل تحت هيمنتها.  والعجيب ان الكثير قيادات المعارضة تفقد توازنها عندما تستلم السلطة وتقلد نمط القيادات التي سبقتها بسرعة مذهلة.
٦- تميل النخب الحاكمة (السلطة التنفيذية) الى التنصل من مراقبة السلطة التشريعية (مجلس النواب)  التي اقرها الدستور.  فالحاكم لا يخطىء ابداً، وتكون له اليد الطولى في تسيير امور الدولة وشؤونها، وبسرعة مثيرة يحول الهزيمة الى نصر مبين، والفشل الى نجاح باهر.  كما يتيح له هذا الهروب من المراقبة والى تعيين من يحلو له من الاقرباء والاصدقاء الموالين  في اعلى مناصب الدولة على حساب الكفاءة والتخصص، وبهذا يجري الأستغناء عن الكادر والكفاءات التي يمكنها من تحقيق تنمية حقيقية في البلاد.
٧- وتفقد المؤسسة القضائية استقلاليتها تحت تهديد الحاكم ومتطلباته. وهكذا وبشكل مذهل وسريع يتم الحكم على المعارضين وتبرئة المفسدين القريبين من دوائر الحاكم. فمن دون قضاء مستقل وعادل يساوي بين جميع المواطنين يصبح من الصعب بناء دولة حديثة ويفتح الباب بهذا الشكل او ذاك للتجاوز على حرية المواطنين وحقوقهم وبالتالي ممارسة العنف والتعذيب ضدهم.
٨- أن ابرز معلم من معالم الدول الحديثة وجود منظمات وجمعيات تفصل بين السلطة والمواطن وهي بغالبيتها ترعى مصالح اعضائها من بطش السلطة وتعسفها وتعرف بمنظمات المجتمع المدني.  فيتم عرقلة وإختزال عمل هذه المنظمات عن طريق خلق مختلف الصعوبات امام تأسيسها بحجج مختلفة.  فمن دون وجود حرية في تأسيس منظمات المجتمع المدني وعملها لصالح المواطنين يصعب تأسيس دولة حديثة.
٩- ابتلى العراق بالفساد الحكومي الذي انتشر في اغلب او جميع مرافق الدولة، واصبح اقوى واكثر تنظيماً من مؤسسات الدولة نفسها.  يعيق الفساد الحكومي تحقيق التنمية الحقيقية التي تحتاجها هذه البلدان، كما هو اسلوب غير عادل لتوزيع ثروات البلاد، فغالباً ماتستفيد منه تلك الدوائر المحيطة بالحاكم وزبانيته.  ومن السهولة بمكان ان يتم القضاء على هذه الظاهرة، إذا ماتم تفعيل مؤسسات الدولة الحديثة.
١٠- رغم الميزانيات الهائلة التي حصل عليها العراق نتيجة لإرتفاع سعر النفط المصدر، إلا ان الدولة لم تتمكن من تقديم الخدمات الاساسية للمواطن كالتعليم والصحة والسكن والماء والكهرباء و توفير فرص العمل.  ولا تقوم الدول الحديثة من دون اعتبار بأن المواطن واحتياجاته هو مركز اهتمامها.
١١- زجت السلطة العراقية الدين والطائفة في قضايا السياسة والحكم بالشكل الذي لا يخدم الدين ولا الدولة.  فمن خلال هذا المزج تتم التفرقة بين المواطنين على اساس الدين الأنتماء الطائفي.  فمن دون فصل الدين عن الدولة لا يمكن بناء مؤسسات الدولة الحديثة.

سيعتمد مستقبل العراق كثيراً على إمكانيات تغيير أوضاع المهاجرين الريفيين الى المدن العراقية¡ وخاصة العاصمة بغداد التي تضم اكبر عدد منهم.  وينبغي تغيير اوضاعهم من خلال تحسين بيئتهم ومعيشتهم وتعليمهم وحصولهم على فرص العمل. ان ترك هذه الفئات لنفوذ القوى التي لا تؤمن بالسلام الاجتماعي¡ سيؤثر سلباُ على مستقبل البلاد وتطورها.  أن حل مشكلة المناطق الفقيرة في المدن لا بد وان يمر بتحقيق مايلي:

1.    تغيير البنية العمرانية للأحياء التي يسكنها المهاجرون الريفيون وذلك بهدف القضاء على الإكتضاض السكاني التي تعاني منه هذه المناطق¡ من خلال وضع مخططات لمساكن شعبية تتوافق وظيفياً مع الأوضاع الاجتماعية لهذه الفئات.  كما ينبغي تيسير الخدمات الاساسية كالصحة والكهرباء والماء وغيرها¡ بالإضافة الى ضرورة ان تحتوي مناطقهم على عدد معقول من الحدائق والفسح.
2.      الأهتمام بدمج فئات المهاجرين ببقية الفئات الاجتماعية في المدن الكبرى من خلال توفير مستوى مرموق من الحالة المعيشية يتم من خلاله القضاء على البطالة وخاصة بين الشباب ورفع مستويات الأجور بالشكل الذي يوفر لهم حياة رغيدة.
3.    الأهتمام برفع مستوى فقراء المدن من النواحي المعاشية والإجتماعية والثقافية والتعليمية¡ كما ينبغي الأهتمام بالبيئة المحيطة بالمناطق الفقيرة في المدن وتغيرها بشكل معقول ولائق.
4.    الأهتمام بالنساء المهاجرات من الريف من خلال رفع مستويات تعليمهن وثقافتهن ودمجهن بسوق العمل وتمكينهن من تبوء المراكز الوظيفية المناسبة.
5.    الأهتمام بمنظمات المجتمع المدني المتعلقة بهذه المناطق واعطاء دوراً هاماً لها في حماية مصالح اعضاءها بمعزل عن تدخلات الدولة.
6.    الأهتمام بالشباب والطلبة من اسر المهاجرين الريفيين¡ من خلال تحسين مستوى اداء الجامعات العراقية من النواحي العلمية والمعرفية¡ وكذلك زج الشباب منهم في النشاطات الثقافية والرياضية من خلال تشجيع فتح نوادي خاصة بهم تهتم بقضاء وقت فراغهم وتسليتهم.  

((أنتهى))



أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

815 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع