التعليم المعاصر وإشكالية التنازع القيمي

                                                     

                             د.محمد عيّاش الكبيسي

مع بداية كل عام دراسي تكون هناك فرصة جيدة لمناقشة المناهج التعليمية خاصة مع وجود شعور عام أننا بحاجة إلى تطوير هذه المناهج على كل المستويات، خاصة مع وجود تراجع ملحوظ في مستوى المخرج التعليمي لا يتناسب مع التطور الهائل في (التكنولوجيا التعليمية) والتكلفة الباهظة التي تتحملها العملية التعليمية من ميزانية الدولة أو من ميزانية الأفراد.

الجانب المعني أكثر بقياس مستوى التقدم أو التراجع إنما هو الجانب القيمي، ذاك لأن القيم إنما هي المعايير الموثوقة التي نستطيع أن نحاكم إليها كل النشاطات والسلوكيات البشرية على اختلاف مجالاتها وتخصصاتها، وهذا هو المدلول الأساس لمادة (قوم) التي اشتق منها (التقويم) بمعنييه (التقدير) و(التعديل)، وهما معنيان متلازمان، فالتعديل الصحيح لا يكون إلا بعد تقدير سليم، أما الذين يتحدثون عن القيم باعتبارها مقولات وعظية وأخلاقية عائمة فهذا تحريف لدلالاتها وتعطيل لوظائفها.
قبل سنوات وفي ندوة علمية متخصصة لمراجعة مناهج التعليم كنت أطرح بعض الأسئلة (المحرجة) مثل: لو كان عندي في مادة الفقه اختبار عن أركان الصلاة فأجاب الطالب عن تسعة من عشرة بمعنى أنه نسي ركنا أو أكثر، فما تقديره وفق السلم المعتاد؟ إنه يحصل على تقدير (ممتاز) مع أن صلاته وفق إجابته هذه باطلة، هذا يعني في مجمل العملية أننا يمكن أن نمنح شهادة امتياز في الفقه لطالب لا يحسن الصلاة! ذاك لأن (صحة الصلاة) لم تعد قيمة معتمدة حتى في التعليم الشرعي! بل إن أساتذة الشريعة ملزمون بمنح درجة النجاح للطالب الذي تكون إجاباته صحيحة في ورقة الامتحان ولو كانوا على يقين بأنه مجاهر بتركه للصلاة وكل الواجبات الشرعية!
كان مدير الندوة -وهو حقيقة أستاذ فاضل- يعتذر عن كل هذا بقوله: يا دكتور هذه السلوكيات الشخصية غير قابلة للقياس!
إذا كانت (الصلاة) غير قابلة للقياس فماذا نقول عن (السلوكيات) الأخرى كالصدق والأمانة والإخلاص والإتقان؟ ومعنى أنها (غير قابلة للقياس) أنها لا تدخل في سلم التقويم ولا في شروط النجاح، وبالتالي فإنها عمليا لا تكون جزءا من (العملية التربوية) إلا على سبيل المواعظ والنصائح!
بينما كانت هذه القيم حاضرة في تراثنا التربوي بشكل لا نتخيل معه وجود طالب واحد يشذ عنها، فإذا قلت: هذا تلميذ أبي حنيفة أو الشافعي أو البخاري أو أحمد فإن هذه تزكية شاملة لا يختلف عليها اثنان، وهذه التزكية لا تنحصر في أروقة الدراسة وقاعات التعلم، بل المجتمع كله يعرف هذا الميزان ويستعمله في تقويم الأشخاص والأفكار والسلوكيات، ومن هنا ظهر مصطلح (تلقته الأمة بالقبول). وقدرة المدارس الأصيلة تلك على تخريج أولئك العلماء بتلك الشروط والمواصفات كانت تستند على (فلسفة تعليمية) و(منظومة قيمية تقويمية) متكاملة ومتوازنة بحيث لا تسمح بحصول حالة من الشذوذ أو الاختراق.
أما التعليم المعاصر فمن الواضح أنه قد حصر مسؤوليته في دائرة (المعرفة) وما يتصل بها، ومع ما في هذا من تراجع لا يخفى وخلل عام قد يعود على المعرفة نفسها فإن هناك خللا آخر قد يحول دون الوصول إلى أهداف هذا التعليم المعلنة والتي تدور في الغالب حول (سوق العمل)، فالطالب اليوم لا ينظر إلى التعليم إلا أنه محطة عبور نحو الوظيفة ومصدر الرزق، والجامعات أيضا تراعي ذلك وتحاول أن تتماهى مع هذا التوجه لأنها بذلك تستطيع أن تكسب عددا أكبر من الطلاب وتحقق حضورا جيدا في المجتمع، لكنها قد تقع في غير ما تتمناه حينما تكون أدوات التقويم عندها لا تنسجم مع مواصفات السوق، ولنأخذ هذا النموذج من التعليم الديني بالذات:
تعد وزارات الأوقاف المكان الأنسب للعمل بالنسبة لخريجي الجامعات والكليات الإسلامية، وهذه الوزارات لها شروطها ومتطلباتها الخاصة في التوظيف، والتي قد تتفق أو تختلف مع متطلبات التخرج في الجامعة، فالأوقاف يهمها فكر الطالب وعقيدته وسمعته وقدرته على إدارة المسجد وكسب قلوب المصلين، ولا يمكنها أن تكتفي بشهادته العلمية التي اكتسبها من خلال ورقة الامتحان وبعض الأنشطة الصفية، وهذه الشروط في الحقيقة ليست شروط الأوقاف فقط بل شروط المجتمع كذلك، فالمجتمع يلاحظ ويدقق في سلوكيات الأئمة والخطباء أكثر بكثير من انتباهه لمستوياتهم العلمية، وحينما تكون الجامعة غير قادرة على إعداد الطالب بهذه المواصفات فإنه من المتوقع أن يواجه متاعب وعقبات كبيرة تحول بينه وبين التوظيف، والوزارات أو المؤسسات الأخرى أيضا لها شروطها ومتطلباتها والتي تتناسب مع طبيعة عملها، وحتى الإنسان البسيط تراه يسأل عن (السمعة) و(الثقة) سواء ذهب إلى الطبيب أو المحامي أو المقاول، ولا يكتفي بالشهادات المعلقة على الجدران.
إن ذهاب الناس للعلاج في المستشفيات الأوروبية ليس لأن الأطباء هناك يمتلكون شهادات أعلى من أطبائنا، ولا لأن مستوى الخدمات أرقى مما في مستشفياتنا، لكنها (الثقة) التي اكتسبها الأوروبيون من خلال دقة المعلومة، ودقة الموعد، ومستوى المتابعة والإتقان، كما أن البناية التي تراها في شوارع روما أو لندن أو باريس والتي قد يكون مضى عليها قرن من الزمان لكنك لا تفرق بينها وبين البنايات الجديدة إلا من خلال الرقم الذي يثبت تاريخ الإنشاء ربما لم يكن الذي أشرف على إنشائها يمتلك معلومات هندسية أكثر مما يمتلكها مهندسونا اليوم.
المشكلة حقيقة ليست في مستوى المعلومات ولا في طرائق توصيلها أو تلقيها، المشكلة أعمق وأوسع بكثير..

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1021 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع