عندما يُكبّلنا الحزن!

                                             

                                 زينب حفني

جميعنا على مدار حياتنا نتعرّض للوقوع في آبار الفجيعة مراراً وتكراراً، ونعتقد في كل مرّة بأننا على وشك الغرق، ونحس بأننا فقدنا القدرة على التنفّس، وأن أرواحنا تنسحب منّا وأنها ستكون الواقعة الأخيرة. لكننا بعد فترة نلتقط أنفاسنا، وننفض عن أجسادنا المبلل آثار الوجع، ونمسح دموعنا، ونستأنف مسيرة حياتنا من جديد.

الحزن عندما يتملكنا، نُصبح مقيدين داخل أسواره العالية، ونُصبح شبه مغيّبين عمّا يدور من حولنا كأننا فقدنا بوليصة المكان والزمان! وقد شعرتُ بهذا الإحساس القاسي يوم وفاة والدي الذي كان لي السند والمأوى. اعتقدت حينها بأن المصائب قد أولتني ظهرها، لكنها عادت متخفيّة لتسلب منّي أمّي، أعز مخلوق عندي بعد سنوات من معاناة المرض.

هل أحبابنا حقّاً يموتون بمجرّد أن نواري أجسادهم تحت الثرى، أم يبقوا بأرواحهم معنا؟ هل الموت يعني أن من رحل من أحبائنا عن دنيانا، بأنه غاب عن ذاكرتنا إلى الأبد؟ كنتُ قد قرأتُ مقالاً مُعبّراً للزميل أنس زاهد كتبه بعد وفاة والده قائلاً في عبارة منه: «الموت الحقيقي قد يدرك الأحياء الذين ما زالوا يشاطروننا وجودنا في صيغته المشروطة بقوانين الزمان والمكان وكل العناصر والقوانين الأخرى التي يتشكّل منها وجودنا الدنيوي. أما من نطلق عليهم أمواتًا فهم لا يموتون إلا ليمارسوا داخلنا حضورًا مختلفًا قد يكون أكثر تأثيراً من حضورهم السابق وقت أن كانت أجسادهم تنبض بالحياة التي نعرفها في صيغتها البدائية.. أعني الحياة الدنيا».

جميعنا يحرص على أن نترك وراءنا صوراً جميلة تجمعنا بأبنائنا وأحبابنا كي يتذكرونا بها عندما نرحل، فليس هناك أجمل من أن يستعيد الإنسان منّا شريط ذكرياته مع أناس أحببناهم وأحبونا، لكن الشوق للأحبة الذين غادرونا هي أكبر من حالة الموت نفسها. وفي هذا يقول الكاتب ثامر شاكر: «مُشكلة الموت في ذلك الاشتياق الذي يُلقيه في طريقنا فنتعثّر، في ذلك الحنين الذي يُحيطنا من كل صوب فيُغرقنا وحدنا بلا طوق نجاة وسط أمواجه الثائرة.. ومن ذا الذي يقدر أن ينجو من دوّامات الحنين القاتلة؟».

بالرغم من مرور أيام قليلة على رحيل أمّي، إلا أن صورتها الجميلة التي كانت عليها أيام شبابها قبل أن يحفر الزمن بمعموله على معالم وجهها وجسدها، ومشاهد ذكرياتي الحلوة معها، قد بدأت تطفو على سطح ذاكرتي وتمر كشريط أمام ناظري.

كانت أمّي تخاف علي أكثر من إخوتي، ليس لأنني المفضلة عندها، وإنما لإدراكها طبيعة عملي وكثرة الجدل الحاصل حول كتاباتي! كنتُ دوماً أضيق بنصائحها حول وجوب أخذ الحذر فيما أكتبه، وألمح القلق في عينيها كلما شددتُ رحالي للمشاركة في ندوة أو مؤتمر، قائلة لي بنبرة جزعة: «لن تستطيعي إصلاح الكون». لكنني ورثت العناد والتصميم وقوة العزيمة منها، وكنتُ أقول لها علناً «أنا صورة منك في قدرتك على مقاومة ضربات الأيام، فلا تلوميني».

عندما لامست شفتيَّ جبين أُمِّي البارد الذي كانت تفوح منه رائحة الموت قبل أن تذهب لمثواها الأخير، أدركت أنني مهما سكبت من أحبار على الورق للتعبير عن هذه اللحظة المؤلمة التي عشتها، لن أفلح بتصويرها في مجلدات، كونها لحظة يلتحم فيها الموت مع الحياة، وقنوط الوداع مع يقين اللقاء مهما طال أمد الفراق.

لقد جاهدتُ حتّى أكتب كلمة في حقّها، فقد كانت مخلوقاً استثنائيّاً. وشعرتُ عندما أمسكتُ بقلمي بأنني عاجزة عن الكتابة عنها، لكنني موقنة بأن أحباءنا وإن رحلت أجسادهم عن دنيانا، لا يموتون بل ستظلُّ صورتهم محفورة في قلوبنا لآخر نفس في أعمارنا.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1058 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع