الاستثمار في رأس المال البشري المُبدِع

                                         

                      علاء الدين الأعرجي

مفكر عراقي متخصص في أزمة التخلف الحضاري في الوطن العربي، مقيم في نيويورك

الاستثمار في رأس المال البشري المُبدِع هل فشلنا فيه أيضاً؟

مفكر عراقي متخصص في أزمة التخلف الحضاري في الوطن العربي، مقيم في نيويورك

"التنميةُ الإنسانيَّة هي تَنميةُ الناس،
ومن أجل الناس، ومن قِبَلِ الناس"
هذا ما أكَّدهُ تقريرُ التنميةِ الإنسانيَّةِ العربيَّة لعام 2002، الذي أصدرته الأمم المتحدة؛ ونحن نؤيده في ذلك، إذْ نلاحظ أنَّ تقدُّمَ الأُمَم يُقاسُ تاريخيًّا، وخصوصًا اليوم، بتقدُّم أبنائِها. فالإنسانُ أعظمُ رأسِ مالٍ بالنسبة لأيَّةِ أُمَّة. فقد أكَّدتْ جميع المؤسَّساتُ الاقتصادية والماليَّة الدوليَّة ، أنَّ العاملَ الحاسمَ في التقدُّم هو الاستثمارُ الكثيفُ في البشر، أو ما يُسمَّى بناءَ رأس المال البشريّ، أو توفيرَ المواردِ البشريَّة الملائمةِ كمًّا كافياً ونوعًا عالياً. وتأتي في المقام الثاني بعدَها المواردُ الطبيعيَّة، مثلُ المياهِ والأرض وثمارها الظاهرة، وثرواتها الباطنة، بدليلِ أنَّ جميعَ هذه الموارِد ستكون عاطلةً أو مُعطَّلة، إذا لم يتمكَّن الإنسانُ المتعلِّم والمتنوِّر، بقُدراته المبدِعة، من استخدامِها وتحويلِها إلى سِلَعٍ وخدماتٍ ضرورية أو مفيدةٍ تُساهم في عمليَّةِ التنمية، أو تعمل على تَسريعِها في ذلك المجتمع أو غيرهِ من المجتمعات. وبدليلٍ ثانٍ، يجب الاعتراف به، مَفادُه أنَّ الأمَّة العربيَّة، مثلاً، تملكُ ثرواتٍ هائلةً من المواردِ الطبيعيَّة الكامنة منذ آلاف السنين غير المكتشَفَة وغير المستثمَرة، أي كانت عاطلة. ثمَّ اكتُـشِفَت واستُـثمِرَت، ليس من جانبنا، بل  من جانبِ "الآخَر"، الذي قامَ من خلال قُدراتهِ البشريَّة المتنوِّرة والعالِمة أوَّلاً، وبواسطةِ تلك الثرواتِ النفطيَّةِ للبلدانِ العربيَّة الرخيصة، ثانيًا، بتفجير ثورتهِ الصناعيَّةِ الثانية وثورتهِ المعلوماتيَّة الأُولى، دون أن يكونَ للعربِ أي دورٍ فيها؛ بل ظلَّت البلدانُ العربيَّة في مؤخَّرة بلدانِ العالَم، على الرُغم من كل ذلك، كما تقولُ تقاريرُ التنمية الإنسانيَّة للأمم المتحدة. أي ظلت:
كالعيسِ في البيداءِ   يَقتـُـلها  الظما     والماءُ  فوقَ  ظهورِها   مَحْمُولُ     
وبدليلٍ ثالثٍ هو أنَّ أُمَمًا متقدِّمة، مثل كوريا الجنوبيَّة وماليزيا وسنغافورة وتايلند، التي سميت  بلدان النمور الآسيويَّة، كان مُعظمُها أكثرَ تخلُّفًا من البلدانِ العربيَّةِ في مُنتصف القرن الماضي، كما أنها تَفتقرُ إلى مُعظم الثرواتِ الطبيعيَّةِ تقريبًا، وخصوصًا مَصادر الطاقة، وبالرغم من ذلك تمكَّنت، بفضلِ الاستثمار في الرأسمال البشري،  وخصوصًا بواسطةِ استحداث قُدراتِ جيلٍ جديدٍ من أبنائها خضعَ لتعليمٍ مكثّــف ومُتقدِّم؛ تمكنت من بناءِ صناعةٍ عصريةٍ مُتقدِّمة، بل أصبحتْ تُنافسُ أكبرَ الدول الغربيَّةِ تقدُّمًا. فسنغافورة مثلاً لا تمتلكُ أيَّة مواردَ طبيعيَّة. ومع ذلك تُشير نتائجُ الدراساتِ المقارَنة إلى أنَّه خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة عقود، أصبح مُعدَّلُ نموِّ الإنتاجيَّة الكليَّة لعناصِر الإنتاج هي الأعلى في سنغافورة، يَليها تايلانْد ثمَّ ماليزيا .
 الإنسان يصنع الحضارة فتكافئه
من جهةٍ أُخرى، في الوقتِ الذي يَصنعُ الإنسانُ الحضارةَ عن طريقِ التـنمية، يُشكِّلُ هو نفسُه هدَفها الأسمى، لأنَّها تُحقِّقُ له رفاهيةَ العَيشِ والحياةَ الكريمة، وترفعُ بالتالي مُستوى مُجتمعِه الحضاريَّ بين الأُمم، فيُصبح له مكانةٌ يُعتدُّ بها؛ كما حصلَ لليابان والهند اللتَين أصبحتا مُرشَّحتين لدُخول مجلس الأمن كعُضوَين دائمَين. كذلك تَصونُه من تحدِّياتِ الآخَر "الأكبر"، الذي يستغلُّ الضعيفَ ويحترمُ القويّ. فنحن ما نزالُ نعيشُ في عَالَمِ الغَابِ القديم الذي يأكل فيه القويُّ الضعيفَ، ربَّما أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى؛ لأنَّ قوَّةَ القويِّ تضاعفتْ ملايينَ المرَّاتِ عن السابق، نتيجةً للتقدُّم الاقتصاديِّ وتطوُّر وسائطِ الإعلام والاتِّصال وتَسارُع التطوُّر الهائل في تكنولوجيا السلاح، وتقدُّم وسائل الإبادةِ الجماعيَّة السريعةِ والحاسمة.  
وهكذا تقومُ إذاً علاقةٌ جدليَّةٌ وثيقةٌ و عميقة،ٌ متبادلةٌ ومتشابكةٌ، في الوطن العربي، بين هذه العناصِر الثلاثة: الإنسان، التربية، التنمية، وبالتالي الحضارة والتقدُّم، فالقوة المادية والمعنوية، الاقتصادية والعسكرية ولاسيما الردعية، القادرة على مواجهة بل مجابهة الآخر، المدجج ليس فقط بأسلحة العلم والمعرفة، بل بالقوة العسكرية الماحقة، التي يهددنا بها بل يستخدمها، بشكل مباشر،(إسرائيل مثلاً أغارت عدة مرات على عدد  من البلدان العربية، وحققت أهدافها العدوانية، بدون أية مقاومة أو رادع)،أو غير مباشر( إذ كانت تلك  الغارات بمثابة رسائل للبلدان العربية الأخرى، أن مصيركم سيكون مشابهاً، فتأدبوا!!).
 الوطن العربي من أكثر البلدان تخلفاً
وخلافاً لما أنجزته بلدان النمور الآسيوية، فقد  حصل العكس تماماً في  الوطنِ العربيِّ.  ففي الوقتِ الذي تتمتَّعُ فيه الأمَّةُ العربيَّةُ بالثرواتِ الطبيعيَّةِ من أراضٍ شاسعةٍ ومياهٍ وفيرةٍ في الشمال، وكنوزٍ نفطيَّةٍ عظيمة، ومواردَ بشريَّةٍ هائلة، في مختلف أجزائها تقريبًا، فشلتْ، هيّ نفسها، في عمليَّةِ التنميةِ فشلاً ذريعًا، بدليلِ ما أعلنَته تقاريرُ برنامَج الأُمم المتَّحدة الإنمائيِّ التي أثبتَت أنَّها أصبحَتْ تمثِّل واحدةً من أكثرِ المناطقِ في العالَمِ تخلُّفًا، حتَّى بالمقارنةِ مع البلدان الناميةِ الأُخرى أو الفقيرة المحرومةِ من أيٍّ من الثرواتِ الطبيعيَّة.
لماذا حصلَ ذلك؟ لأنَّنا قصَّرنا في أُمورٍ كثيرة، تحدَّثنا عن بعضها في  دراساتنا المنشورة سابقاً؛ ومنها على سبيل المثال: لم نأخذْ بناصيةِ العِلم والتكنولوجيا مُنذ البداية، ولأنَّنا لم نخلقْ قاعدةً تربويَّةً رصينةً لأولادِنا، وتمسَّكنا بقُشورِ تُراثِنا وتَركنا أصولَه التي تَدعو إلى أخذِ الحكمةِ من أيِّ وعاءٍ خرَجت. وكلُّ ذلك لأنَّنا خضعنا لعقلِنا المجتمعيِّ الذي تبلْوَر بوجهٍ خاصٍّ خلال الفترةِ المظلِمة. كما خضَعنا لوليدِه غير الشرعيّ: عقلِنا المُنفعِل، الذي يُمثِّلُ العقلَ المجتمعيَّ المتخلِّف. يَقول علي أسعد وَطفة، من جامعةِ الكوَيت: "العقلُ العربيُّ اليوم، وبفعلِ الصَيروراتِ التربويَّةِ المستمرَّة والفِعلِ الاستلابيِّ الدائم، أصبحَ بطبيعتهِ مُناهِضًا لكلِّ أفكارِ التقدُّم، ومُمتنِعًا، وبصورةٍ ذاتيَّة، على المفاهيمِ العقلانيَّةِ والتنويريَّةِ والتقدميَّة."(من كتابه" بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي")
 نعم، هناك عامل مساعد خارجي مهم آخر أدى إلى فشلنا في الأخذ بناصية العلم والمعرفة. وأقصد به قيام إسرائيل بتصفية جميع العقول التي يمكن أن تساهم في نهضة هذه الأمة. وقد استغلت إسرائيل انفراط حبل الأمن بعد سقوط بغداد منذ عام 2003، فقامت بتصفية  ما يقدر بـ   720  عالماً عراقياً حسب بعض التقارير( انظر تقرير الدكتور إسماعيل جليلي إلى مؤتمر مدريد الدولي حول اغتيال الأكاديميين العراقيين، في 23-24 نيسان 2006 وقد فصّل فيه جرائم الموساد ضد العلماء العراقيين). لذلك يجب على الحكومة العراقية المطالبة  بدماء هؤلاء العلماء وفي جميع المحافل الدولية، بما فيها الأمم المتحدة واليونسكو، وحماية الجيل الجديد منهم وتوفير الظروف اللازمة لعملهم.
(هذا المقال جزء من مقدمة كتابي الجديد تحت عنوان"   الاستثمار في رأس  المال البشري؛ لماذا فشلنا فيه  ؟").

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

813 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع