العلم والعنصرية في أميركا

                                                   

                                منار الشوربجي

ولع الأميركيين بعلم بلادهم، ظاهرة لافتة، وهي تختلف كثيراً عن علاقة الشعوب الأخرى بأعلام بلادها. فأنت إذا زرت الولايات المتحدة الأميركية، تجد العلم الأميركي في كل مكان. فهو ليس فقط مرفوعاً فوق البنايات الحكومية وأمام الهيئات الرسمية، وإنما تجده أيضاً في المنازل والحدائق الخاصة، وعلى مكاتب الأميركيين في العيادات والأعمال الخاصة، ناهيك عن القمصان والسيارات والدراجات، وغير ذلك الكثير.

وأنت لا تجد الظاهرة نفسها إذا ما زرت بريطانيا أو إيطاليا مثلاً. ثم إن فرنسا ترمز لنفسها ببرج إيفل، ومصر ترمز لنفسها بالأهرامات. أما الأميركيون، فنادرا ما يرمزون لبلادهم بغير العلم.

والسبب وراء ذلك، باختصار، هو أن الأميركي يقوم بتعريف نفسه سياسياً، والهوية الأميركية في جوهرها هوية سياسية. فلأن الأميركيين شعب من المهاجرين، فإن الهوية لا تقوم على التاريخ الواحد أو الثقافة الواحدة، وإنما هي هوية تخلقها الدولة الأميركية لأبنائها عبر الجنسية. ولك عزيزي القارئ، أن تتأكد من الطابع السياسي للهوية الأميركية.

فاسأل أميركياً، ما الذي يعنيه له كونه أميركياً. فهو، في الغالبية الساحقة من الحالات، سيجيب عن سؤالك بالحديث عن مفاهيم يفخر بها، كلها سياسية، فسيحدثك مثلاً عن الحرية والديمقراطية والفردية والتعددية. وسيقول لك إن الأميركي هو من يؤمن بتلك المفاهيم ويتمتع بها. ومسألة الهوية السياسية تلك مسألة جوهرية في فهم الثقافة السياسية الأميركية.

تذكرت كل ذلك، وأنا أتابع الجدل الذي دار حول التخلص من العلم الكونفدرالي. فبعد الجريمة البشعة التي ارتكبها شاب عنصري أبيض داخل كنيسة للسود، وراح ضحيتها تسعة أشخاص في ولاية ساوث كارولاينا، عاد الجدل حول العلم، بعد أن تبين أن ذلك الشاب له عدة صور يحمل فيها العلم الكونفدرالي، الذي كان لا يزال يرفرف في الولاية..

مثلما يرفرف في ولايات جنوبية أخرى، رغم رمزيته العنصرية المقيتة التي تعود للحرب الأهلية الأميركية. فالعلم الكونفدرالي، هو العلم الذي رفعته ولايات الجنوب، وأعلنت الانفصال عن ولايات الشمال، عندما أراد إبراهام لينكولن إلغاء العبودية.

وقد تزعمت الحركة الانفصالية، بالمناسبة، ولاية ساوث كارولاينا، التي وقعت فيها جريمة الكنيسة السوداء منذ أسبوع، وتضامنت معها ولايات تكساس ولويزيانا وجورجيا وألاباما وفلوريدا ومسيسيبى. ثم انضمت لهم لاحقاً أربع ولايات أخرى، أركنسا وفيرجينيا ونورث كارولينا وتنسي. أما ولايتا كنتاكى وميزوري، فكانتا مع استمرار العبودية..

وإن لم تنضما رسمياً للاتحاد الكونفدرالي. وقد أدى ذلك لاندلاع الحرب الأهلية بين ولايات الشمال التي كانت مع الوحدة وإلغاء العبودية، والولايات التي فضلت الانفصال على إلغاء العبودية. وقد انهزمت الولايات التي رفعت العلم الكونفدرالي، وتوحدت البلاد...

وألغيت العبودية، لتبدأ مرحلة جديدة سميت «إعادة البناء». لكن ما هي إلا سنوات قليلة، حتى عادت ولايات الجنوب لسابق عهدها، وتفننت في إصدار قوانين أفرغت تحرير السود من محتواه، وأرست الفصل العنصري، وحرمت السود عملياً من التصويت. وعادت الكثير من ولايات الجنوب لرفع علم الكونفدرالية، رغم رمزيته القبيحة، إلى جانب العلم الأميركي، الذي هو علم الفيدرالية.

ومن ينتبه لأعلام الكثير من ولايات الجنوب، يجد أن بعضها حتى اليوم شديد الشبه بالعلم الكونفدرالي، الذي هو عبارة عن حرف إكس بالإنجليزية، لونه أزرق على خلفية حمراء، ومُطَعّم بالنجوم البيضاء. فأنت تجد في أعلام بعض الولايات، مثل أركنسا وفلوريدا وألاباما، واحداً أو اثنين من تلك الرموز بالألوان ذاتها..

بينما تجدها كلها في بعضها الآخر، مثل علم ولاية مسيسيبي، الذي يقع العلم الكونفدرالي في أعلى اليسار منه، وعلم ولاية جورجيا، الذي هو نفسه العلم الكونفدرالي، ولكن يتوسطه ختم الولاية. والكثير من هذه الولايات، صدرت بها قوانين سارية حتى الآن، تحظر إهانة العلم الكونفدرالي!

ورغم أن السود طالبوا طويلاً بوقف استعمال علم الكونفدرالية في كل ولايات الجنوب، إلا أن العلم لا يزال «حياً»، ويباع على نطاق واسع، حتى إن كلاً من أمازون وولمارت، أعلنتا، فقط بعد جريمة الكنيسة الأسبوع الماضي، سحب أي بضاعة يزينها ذلك العلم من السوق! وبينما ظل السود وأنصار الحرية والمساواة يقولون إن ذلك العلم رمز بغيض، أصر الآخرون على أن رفع ذلك العلم، لا علاقة له بالعنصرية، وإنما هو مجرد رمز «تاريخي»..

ويذكر أبناء ولايات الجنوب بذويهم الذين قتلوا في الحرب الأهلية. وظل الكثيرون في الإعلام الأميركي، وبالذات على يمين الساحة السياسية الأميركية، يتعاملون مع الموضوع، باعتبار أن فيه «وجهتي نظر». ورغم أنني من أولئك الذين يؤمنون بأن العنصرية البغيضة ليست «وجهة نظر»، إلا أن حجة أنصار العلم الكونفدرالي، تدحضها ببساطة، طبيعة الهوية الأميركية، التي هي، كما أسلفت في أول المقال، هوية سياسية.

والعلم، أي علم، هو رمز سياسي بالدرجة الأولى. ولا يمكن لشعب هويته سياسية بالأساس، أن يرفع بعض أبنائه أي علم، دون أن تكون رمزيته السياسية حاضرة في إدراكهم طوال الوقت. ولم تكن تلك المسألة تحتاج للعثور على صور القاتل الأبيض، وهو يمسك بالعلم الكونفدرالي لإدراك ذلك!

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1022 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع