مُسلمات ومسلمون أرمن خدموا الخلافة العربية والمسلمين

                                               

الدكتور ألكسندر كشيشيان

عضو اتحاد الكتاب العرب

رئيس تحرير "كتاب عاديات حلب السنوي للآثار"

لمحة تاريخية مقتضبة حول العلاقات العربية-الأرمنية التاريخية

إنْ عدنا إلى بواطنِ التاريخ ودخلنا بين دفتي أمهاتِ الكتب التاريخية العربية والأرمنية واستخلصنا تفصيلاتِ العلاقات العربية-الأرمنية التاريخية فإنني أجزم أنه سيكون بوسعنا تجهيزُ موسوعةٍ من ستةِ مجلدات كبيرة على أقلَ تقدير. تمتد جذور هذه العلاقات إلى قرون مديدة جداً تصل إلى حوالي 2,000 عاماً لأن هذين الشعبين عاشا منذ الأزل في منطقة جغرافية واحدة طوال هذه السنين وتحديداً في الشرق الأوسط. كانت العلاقات السياسية والفكرية والثقافية مميزة بين الطرفين قبل ظهور الإسلام وبعده وكان أول لقاء قصير بينهما ضمن الإمبراطورية الواسعة التي أقامها الملك ديكران الكبير من القفقاس حتى فلسطين بين الأعوام 84-66 ق.م. لكن العلاقات المميزة كانت في عصور الخلافتين العربيتين الأموية والعباسية طوال 200 سنة بين القرنين السابع والتاسع ثم مع ممالكَ عربية أو إسلامية بعد انشطار الخلافة العباسية في القرن الثالث عشر الميلادي.

خلّف مؤرخو الشعبين دراساتٍ قيمة جداً عن حياة هذين الجارين نذكر منهم البلاذري والطبري والمسعودي وابن الأثير والمقريزي وأبو الفداء وغيرَهم العديدين ومن علماء الجغرافيا والرحالة ابن الفقيه والاصطخري وابن حوكل وابن بطوطة والمقدسي وياقوت الحموي وسواهم الذين دوّنوا مشاهداتِهم حول حياة أرمينيا الكبرى وكيليكيا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. بدورهم قدم مؤرخون أرمن قروسطيون مثل سيبيوس وغيفوند وهوفهانّس تراسخاناكيردتسي وطوماس أردزروني واستيبانوس أصوغيك وفارطان الشرقي معلومات لا تعوض حول تاريخ العرب على وجه الخصوص والشرق الأوسط عامة.

اهتم العرب بدراسات علماء الأرمن ومؤرخيهم بعد الفتح العربي لأرمينيا بين عامي 640-650م ومن ثمرة هذه الاهتمامات ترجمة كتاب "تاريخ الأرمن" لأكاتانكيغوس. كذلك كتب المسعودي بشكل مفصل في كتابه "مروج الذهب ومعدن الجوهر" حول الملحمة الأرمنية الشهيرة "آرا وشاميرام". وكان الأرمن بدورهم شديدي الاهتمام بالشعر والأدب العربيين فاعتبروه عن حق من جواهر الأدب العالمي فكتب الفيلسوف والمفكر الأرمني من القرن الحادي عشر الميلادي كريكور ماكيستروس معرباً عن إعجابه الشديد بشعر المتنبي. كذلك، عرَف الأرمن بدورهم قصة "ألف ليلة وليلة" بشكل جيد منذ القديم لأن جو الكتاب وأحاسيسه لم يكن غريباً عنهم.

امتدت العلاقات العربية-الأرمنية لتشمل حقل الطب والجراحة. عندما كانت أوروبا في ظلام علمي دامس، كان العرب والأرمن متقدمين ومتفوقين في هذين المجالين بين القرنين الحادي عشر والخامس عشر كان هناك تعاون كبير بين الأطباء الأرمن والعرب وخاصة في مملكة كيليكيا الأرمنية حيث كان بعض الأطباء العرب يعملون في مستشفياتها جنباً إلى جنب مع زملاء لهم من الأرمن. لقد أدى وجودُ مدرسة للتشريح في كيليكيا في وقت كان تشريح جثة الإنسان محظوراً في جميع أنحاء أوروبا والإمبراطورية العربية شرعاً إلى ترحال أطباء عربَ وغيرِهم العديدين لدراسة تشريح جسم الإنسان عملياً في كيليكيا. ولا يسعني هنا إلا أن أذكر الطبيب السوري الشهير أبو سعيد وعلاقاته العلمية-الطبية مع ألمع طبيب أرمني في زمانه في كيليكيا وتحديداً مخيتار هيراتسي. علينا الإشارة هنا أيضاً إلى أنه كان لأبي سعيد كتاباً بعنوان "تشريح الإنسان" يُدرّس في أرمينيا في القرون الوسطى إلا أن النسخة العربية لهذا الكتاب فُقدت مع الأسف لكن هناك عدةَ نسخ مترجمة إلى الأرمنية تقبع في دار مخطوطات العاصمة الأرمنية يريفان فنأمل من جامعة حلب ومن معهد  التراث العلمي العربي في هذه المناسبة الاهتمام بالأمر للحصول على نسخة منها لإغناء مكتبة المعهد.

امتد التعاون العربي-الأرمني ليشمل المجالات السياسية والعسكرية وتمثّل ذلك باكراً عندما خرج مروان بن محمد حاكم أرمينيا العسكري في عام 737م، الذي تبوأ عرش الخلافة لاحقاً، في حملة ضد الخزر يعاونه الأمير آشود بقراتوني بفرقته من الفرسان عدد أفرادها 15,000 فطردا المغيرين خلف حدود الخلافة العربية. أيضاً، مع استقلال أرمينيا عن الدولة العربية في عام 885م وإقامة الدولة الأرمنية كان الخليفة المعتمد أولَ من اعترف بالدولة الوليدة فأرسل إلى الملك آشود بقرادوني تاجاً ذهبياً مرصعاً بالحجارة الكريمة عربوناً للصداقة والاحترام المتبادل. استمر هذا التعاون السياسي والعسكري بين الطرفين حوالي قرنين ونيف رغم بعض الهزات والخلافات. وكانت العلاقات الأرمنية-العربية متطورة ووثيقة جداً إلى حد أن مئات العسكريين والسياسيين الأرمن كانوا يعملون في بلاط الخلافة والجيش العربي. وخير مثال على ذلك أن الخليفة هارون الرشيد أرسل وفداً إلى القيصر كارلوس الكبير عام 803م وكان الوفد العربي الملكي يحوي اثنا عشر مستشاراً أرمنياً في الشؤون العسكرية والسياسية.

يتحدث التاريخ العربي بفخر واعتزاز جمّين عن القائد العربي علي بن يحي الأرمني الذي حارب البيزنطيين وانتصر عليهم وكان القائد العام لأهم منطقة عسكرية في الإمبراطورية العربية التي تدعى بـ "الثغور الشامية" التي كانت تمتد من مدينة أنطاكيا حتى شمالي العراق بطول ينوف عن 1,000 كم. كذلك يُعتبر حسام الدين لوزون من القادة الأرمن الذين تبوأوا أعلى المراتب في قيادة الأسطول الحربي العربي. ويُعتبر فسطاط بن وهرام من مؤسسي مدينة القاهرة.

احتل الأرمن مراتب سياسية وعسكرية عالية جداَ وخاصة أيام الخلفاء الفاطميين ومحمد علي باشا ولكن الفارق أن الذين خدموا دولة محمد علي ظلوا على دين أجدادهم بينما أسلم الذين دخلوا في خدمة الفاطميين بين الأعوام 969-1171م. نذكر من هؤلاء الأرمن المسلمين أشهر القادة قاطبة بدراً الجمالي. تقلد بدر الجمالي مناصب عدة: كان حاكم مدينة دمشق في بادئ الأمر ثم عُين حاكماً عسكرياً لمنطقة عكا ثم أميرالاً أول للبحرية المصرية. يقول المؤرخ العربي ابن خليكان في كتابه "وفيات الأعيان": حينما عمت الفوضى والضعف حكم المستنصر دعى الخليفة بدراً الجمالي لإخماد الفتنة في مصر فجاء على رأس جيش جميع أفراده من الجنود الأرمن يصل عددهم إلى 30,000 ودخل القاهرة عام 1074م وأخمد الفتنة بيد من حديد وعم السلام في ربوع مصر. وعرفاناً منه، أغدق المستنصر على بدر الجمالي مناصب عديدة منها الوزير الأول ثم أمير الجيوش وقاضي القضاة. يقول المؤرخ العربي الآخر ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ": أصبح بدر الجمالي الحاكم الفعلي لمصر واحتفظ بسلطاته حتى مماته سنة 1094م". ويذكر فيليب حتي بدوره أن فترة حكم بدر الجمالي وابنه الأفضل يمكن مقارنتها بالفترة الأسكندرانية من الناحية العمرانية والثقافية.

ساد ظلام دامس بعد هذه النهضة الرائعة والتعاون المشترك بين الشعبين العربي والأرمني لسقوط هذه البلدان تحت نير الاستعمار التركي-العثماني واستمر التأخر الحضاري بتسارع شديد طوال حكمهم التعسفي. وبسبب هذه السياسة هاجرت أعداد كبيرة من جموع الأرمن إلى البلدان العربية كمصر وسوريا ولبنان وفلسطين والسودان. وكان العرب منذ القديم متعاطفين مع النازحين الأرمن فمنحوهم حريات واسعة في فتح المدارس وتدريس اللغة الأرمنية بحرية وعبادة دينهم فأخلص الأرمن لهم لقاء ذلك وقدموا جهوداً كبيرة في إنعاش البلاد في شتى أوجهها. اشترك الأرمن بنشاط كبير في بناء دولة محمد علي باشا وتبوأ بعضهم مواقع سيادية في دولته القوية مثل نوبار توباريان باشا في منصب رئيس وزراء مصر مدة 20 سنة متواصلة وبوغوص يوسوفيان وأرتين جراكيان وأراكيل نوباريان كوزراء خارجية وغيرُهم العديدون.

كذلك اشترك أرمن في الحياة السياسية في لبنان وسوريا أيضاً وكان كربيت داووديان أول متصرف للبنان ونائب السلطان العثماني بعد الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1860 الذي قرّب وجهات نظر الفرقاء المتقاتلين في عهده واهتم بنهضة البلاد الاقتصادية. تشكلت متصرفية جبل  لبنان عام 1861 وظلت على هذا الوضع حتى عام 1914 حكم لبنان أثناءها 8 متصرفين 4 منهم من الأرمن آخرهم هوفهانّس قيومجيان باشا.

كان هدف الأرمن والعرب المشترك أثناء الحرب العالمية الأولى التخلص من الحكم التركي الذي طال 400 سنة إلا أن هذا التعاون بين الشعبين لم يكن مستحباً من قبل الترويكا الأتراك المجرمين جمال وطلعت وأنور فاستغل هؤلاء الاتحاديون من أصل اليهود الدونمة ظروف الحرب الكونية الأولى واتجهوا إلى ضرب العرب والأرمن معاً وتحولوا إلى سفاحي هذين الشعبين الأكثر تحضراً منهم. يقول المؤرخ العربي أمين سعيد في كتابه المعنون "الثورات العربية في القرن العشرين": بعد استلام الأتراك الاتحاديين الحكم حاولوا إنهاء الحركتين القوميتين العربية والأرمنية في سوريا ولبنان والعراق والحجاز وأرمينيا التاريخية بشكل جذري عبر تعليق مشانق الأحرار والمفكرين العرب في دمشق وبيروت وزحلة وسواها وذبحوا 1,5 مليوناً من الأرمن بأبشع الطرق وحشية على جميع الطرقات نحو المشرق العربي" (نهاية كلام المؤرخ) على طول طريق أسميها أنا جهنم دانتيه تمتد في سوريا من قرية قطمة الحدودية حتى منبج والباب وحلب ودير حافر ومسكنة ودبسي فرج ودبسي عفنان والرقة ودير الزور والشدادة حتى الموصل شمالي بلاد النهرين وأضحت أراضي سوريا العريقة أكبرَ مقبرة أرمنية في العالم دُفن في ترابها الطاهر أكثر من نصف مليون شهيداً قضوا بأكثر الطرق وحشية لا يعرف التاريخ مثيلاً لها بدءاً من 24 نيسان عام 1915. أما الباقون على الحياة في حلب فقد كان عددهم يصل إلى 120 ألفاً عندما كان عدد سكان حلب لا يتجاوز 300 ألفاً وقاموا على أرجلهم بعد فاقة وعوز شديدين وخرجوا من أكواخهم المبنية من طين وتنك بسبب كدهم ليل-نهار ومساعدة الدولة السورية والسكان المحليين من مسلمين ومسيحيين وجمعيات خيرية أرمنية في المهاجر في جميع أصقاع المسكونة ومنظمات الإغاثة العالمية وتجنسوا كسوريين في عام 1924 وأخلصوا بدورهم إلى البلدان التي منحتهم المأوى والكرامة وردوا الجميل بعشرات الأضعاف في الصناعات والمهن والبناء والرياضة والفنون والموسيقى وغيرها الكثير الكثير متمتعين بكامل حقوق المواطنة كأي فرد في البلاد.        

مسلمات أرمنيات مرموقات

بدر الدجى

كانت إحدى الأسيرات في دار حريم الخليفة العباسي المقتدر التي تحوي سرايا عديدة من جميع الملل. بعد إعتاقها من الأسر، مَنحت بدر الدجى الخليفة العربي ابناً وخليفةَ المستقبل القائم بأمر الله ورعته حتى النهاية. تؤكد المصادر العربية على أن بدر الدجى كانت إحدى أذكى نساء الخليفة المقتدر وعاشت حياة مديدة حتى الـ 90 من عمرها. ويؤكد المؤرخ العربي جمال الدين بن تغري بردي في مؤلفه "النجوم الزاهرة" أن تأبينها جرى بحفاوة بالغة واحترام كبيرين. وكان ابنها الخليفة القائم بأمر الله وأحفادها الأمراء والأشراف من رجال الدولة يسيرون خلف نعشها إلى مثواها الأخير والوجوم يلف الجميع ترحماً على إخلاصها للعائلة والدولة.

قرة العين

كانت أسيرة أرمنية أيضاً تمتاز بجمالها الاستثنائي وشعرها الأشهب. جُلبت إلى قصر الخليفة القائم بأمر الله بصحبة أسيرات أرمنيات عديدات كخادمة خاصة لبدر الدجى أمِ الخليفة. لاحظت بدر الدجى أخلاق قرة العين وتهذيبَها العاليين فقرّبتها من ابنها الخليفة واقترن بها لأنه كان قد فقد ولده وولي عهده الوحيد قبل بضعة أشهر ولم يتجاوز السابعة من عمره. وكانت سعادة العائلة كبيرة عندما منحت قرة العين الخلافة ولداً ذكراً فعَلَت منزلتُها في الخلافة وبين الشعب فقامت الجموع بمظاهرات ابتهاج في شوارع المدن وانتشر الخبر السعيد في جميع أصقاع الخلافة. مُنح الطفل لقب "عدة الدين" إلا أن هذه الفرحة لم تدم طويلاً بسبب احتلال السلاجقة-الأتراك مدينة السلام بغداد في عام 1058م فتنكّرت الأم وولدُها بثياب الشحاذين المهلهلة وكانا يبيتان في جامع مختلف كل ليلة بعيداً عن أعين الجواسيس وهما في عوز شديد وبحاجة إلى كسرة خبز يابسة. إلا أن الفرج لم يتأخر بسبب مقتل القائد التركي الحارث أرسلان البساسيري فقفلا راجعين إلى بغداد. ظلت قرة العين على الحياة سنوات طويلة وشهدت صعود ابنها عدة الدين وحفيدها المستظهر بالله وحفيد ابنها المسترشد بالله على عرش الخلافة وتوفيت هانئة النفس في عام 512 هـ ودُفنت في مقبرة الخلافة الملكية في الرصافة قرب مدفن الإمام أبي حنيفة الذي يُعتبر، كما نعلم، أحد المؤسسين الأربعة لمدارس دينية-شرعية. يذكر ابن الأثير في مؤلفه "الكامل في التاريخ": كانت قرة العين شخصية محسنة تساعد الفقراء وحجت ثلاث مرات إلى أم القرى.

 شجرة الدر

يذكر المؤرخ العربي أبو الفداء في كتابه "المختصر في تاريخ البشر" أن الملك الصالح إسماعيل بن أتابك الموصل بدر الدين لولو الأرمني أعتق شجرة الدر، وكانت إحدى نساء بيت حريمه، ورفعها إلى منزلة الملكة بسبب إنجاب ولده خليل. إلا أن الطفل، مع الأسف، توفي في ريعان شبابه. يؤكد أبو الفداء عن أصل شجرة الدر الأرمني. وبما أن الجموع لم تكن تتصور أن تحكمها إمرأة في تلك الأزمان البعيدة، اضطرت شجرة الدر على الاقتران من القائد المملوكي-التركي المعز أيبك الجاشنقر الذي كان أحد قواد زوجها المخلصين. لكن، وعندما علمت شجرة الدر عن خطبة زوجها من ابنة سلطان الموصل بدر الدين لولو الأرمني محاولة منه للتقرب من البلاط العباسي، قامت بخنقه في حمام القصر بمساعدة خدمها بضربه بالقباقيب إلا أنها قُتلت بدورها من قبل ضباط أيبك.

مسلمون أرمن مشهورون

الشيخ عبد الله بن يونس الأرمني

ذكر المؤرخ العربي ابن كُثير في مؤلفه "البداية والنهاية" أن الشيخ عبد الله الأرمني أسلم على يد الشيخ عبد الله يونيني وأمضى جميع سنوات حياته ناسكاً في الجبال والوديان والصحارى وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب. أمضى الشيخ عبد الله سنواتِه الأخيرة في دمشق ودُفن على جبل قاسيون عام 631 هـ=1223م. ويُقال أن والدته كانت قابلة زوجة الخليفة.

 

علي بن يحي الأرمني

كما ذكرنا، كان أحد الضباط القادة الرئيسيين في جيش الخلافة العربية أثناء الحروب العربية-البيزنطية الطاحنة التي استمرت 300 سنة. كان من القادة العرب الذين أُسندت إليهم مهمة الذود عن أخطر الدفاعات وتحديداً عن الحدود العربية-البيزنطية أو ما يدعى بـ "الثغور الشامية". لم يكن علي بن يحي الأرمني عسكرياً ذائع الصيت فحسب، بل كان شخصية محنكة وذات تجربة كبيرة في الحياة السياسية أيضاً. لذلك، عُين حاكماً على مصر مرتين. كتب المؤرخ تغري بردي التالي حوله: "كان أميراً مقداماً وباسلاً ومحنكاً وضليعاً في العمليات الحربية وزعيماً سياسياً محبوباً وهو من أصل أرمني". كانت فترة حكمه في مصر سنة 226 هـ. وبناء على توكيد المؤرخ ذاته: "وصل علي إلى مدينة الفسطاط وظل في الثُكنة حسب تقاليد الأمراء وبادر إلى إصلاح أمور البلاد وضبط العصاة والخارجين على القانون".

عندما رأى الخليفة الواثق بالله حنكتَه وملكاتِه العسكرية الرفيعة، دعاه إلى بغداد في عام 234 هـ =848م وأسند إليه مهمة إيقاف اجتياح الجيوش البيزنطية على الحدود الشمالية من الخلافة فقام علي بالواجب أحسن قيام. عُين علي ثانية حاكماً على مصر ولكن لمدة قصيرة في هذه المرة لا تتعدى سنة وثلاثة أشهر لأن الخليفة في بغداد قام بتعيينه حاكماً عاماً على مقاطعة آذربيجان وولاية أرمينيا سنة 248 هـ=862-863م إلا أنه استشهد كبطل في إحدى المعارك التي خاضها ضد الجيش البيزنطي. وكانت "ولاية أرمينيا العربية" مشكلة من أرمينيا التاريخية الواسعة وآذربيجان الإيرانية وآران وجيورجيا الشرقية ومنطقة ما بين النهرين الشمالية. ذكر الطبري أن علياً عُيّن حاكماً في هذه المقاطعات الهامة جداً للخلافة في شهر رمضان كنائب للخليفة. كما اقترح هذا القائد على الخليفة منح أمير أرمينيا آشود بقرادوني لقب "أمير أمراء أرمينيا". ذكر المؤرخان الطبري واليعقوبي أن يحيى انهى حياته شهيداً لنصرة الخلافة العربية في معاركه التي خاضها ضد بيزنطة.

 

أتابك وسلطان الموصل بدر الدين بن عبد الله لولو الأرمني

نقرأ في تاريخ مدينة الموصل في القرن 13م حول شخصية مغامرة استثنائية تمتاز بالصعود السريع على سلم الحياة من عبد مأسور إلى عامل بلاط ومستشار وولي أمر وملك بصلاحيات مطلقة وحكم مدة طويلة 45 سنة دون انقطاع بعد وفاة السلطان نور الدين زنكي. اشتراه السلطان السلجوقي نور الدين أرسلانشاه بن عز الدين مسعودي 1192-1210م من خياط موصلي وبفضل ذكائه الخارق صعد على أعلى المناصب السياسية في الدولة. وبناء على مؤلَّف المؤرخ العربي خير الدين الزركلي "قاموس الأعلام" عاش لولو بين عامي 1174-1259م ويُعتقد أنه من أخلاط في باسفرجان في أرمينيا التاريخية. وبدوره، أكد مؤرخ عربي آخر هو شمس الدين الذهبي في كتابه "دول الإسلام" عن وفاة لولو في عام 657 هـ=1258م عن 80 عاماً وبوفاته زالت مملكة الموصل ويصفه بهذه التعبيرات: "السلطان والملك والمقدام والديبلوماسي والعالم كان مستبداً بعض الشيء ولم يكن تقياً جداً". ويتحدث تغري بردي عن لولو على الشكل التالي: "كان بدر الدين بن عبد الله لولو رقيق القلب وأقوى الملوك طوال تاريخ مملكة الموصل وكان صاحب همة ونشاط كبيرين وعلى دراية بتفصيلات الأحداث والوقائع وكان يستقبل الوفود الأجنبية والسياسيين بديبلوماسية عالية ويهتم بظروف الشعب الحياتية ولا يغض الطرف عن أبسط التفصيلات وكان يخصص مبالغ ضخمة لتعيين القضاة العادلين وشبكة واسعة من المخبرين لحسن إدارة الدولة". قام لولو بتوسيع حدود مملكته بعد احتلال مناطق ما بين النهرين مهدداً حتى مدينة حلب. تحدث المؤرخ العربي الإمام المحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل عمر بن كثير القرشي الدمشقي المتوفي عام 774 هـ =1372م عن لولو أيضاً قائلاً: "عندما احتل خان المغول هولاغو عاصمة العباسيين بغداد، اتجه إليه بدر الدين بن عبد الله لولو الأرمني مصطحباً معه هدايا ثمينة جداً بغرض استمالته. استقبل الخان الأتابك العجوز باحترام جم وديبلوماسية كبيرة. وبعد هذه الحادثة بسنة، وريت جثة بدر الدين في مدفنه في مسجد البدرية المسمى باسمه والحزن يلف قلوب أفراد الشعب البسطاء لأنه كان شخصاً محبوباً وكريماً وعادلاً جداً".

كان السلطان بدر الدين يشجع المفكرين والشعراء والكتّاب ويمنحهم هدايا مالية سخية جداً تصل إلى 1,000 دينار ذهبي في بعض الأحيان. وكان لولو يهدي محج علي بن أبي طالب فانوساً من الذهب الخالص في كل سنة. ويؤكد العالم الأثري العراقي سعيد ديونجي في دراسة له في كتاب "سومر" السنوي لعام 1968 أن معظم الآثار الإسلامية الجميلة الباهرة في الموصل اليوم كالمساجد والمدافن والمدارس وسواها تعود إلى عهد لولو.

خلّده ابن الأثير، وكان مؤرخ البلاط، في موسوعته "الكامل في التاريخ" المشكلة من تسعة 9 مجلدات كبيرة. يذكر المؤلف في مقدمته أن هذه مجلدات "أمر بتحضيرها العالم والرحيم وصاحب الانتصارات والمدافع عن العدل بدر الدين بن عبد الله لولو الأرمني ليحفظ الله مُلكَه طويلاً".

من الشيق أن نعلم أيضاً أن لولو ضرب نقوده الذهبية من الدنانير في الموصل وما بين النهرين حيث نجد اسمه والكتابة العربية التالية عليها:

              الوجه الأول                                         الوجه الثاني

لولو                                                  الإمام

محمد رسول الله                                     لا إله إلا الله

صلى الله عليه                                       وحده لا شريك له

بدر الدنيا                                           المعتصم بالله

والدين أتابك                                        أمير المؤمنين

محمد رسول الله أرسله                             بسم الله ضرب هذا

بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله        الدينار بالموصل سنة خمس وأربعين وستماية ولو كره المشركون                                لله الأمر من قبل ومن بعد           

                                                   ويومئذ يفرح المسلمون بنصر الله

ضُرب الدينار في الموصل في عام 645 هـ=1247م في خلافة المعتصم ويزن 6,30 غراماً ويصل قطره إلى 28 مم.

بعد وفاة بدر الدين بن عبد الله لولو خلفه في الحكم ابنه البِكر الملك الصالح إسماعيل في الموصل وابنه الآخر المجاهد إسماعيل في منطقة ما بين النهرين وابنه الصغير المظفر علي في سنجار.

 

بدر الجمالي

كان بدر الجمالي من الأرمن الذين استقروا في مصر وخدموا الخلافة الفاطمية ووضعوا سيوفهم تحت خدمة خلفائها. وكانت السلطة الفاطمية في ذلك الوقت تمتد من مصر إلى فلسطين والبلدان العربية المشرقية والمغرب العربي ولا تتبع إلى الخلافة العباسية في بغداد إلا ظاهرياً.

يؤكد المؤرخ العربي أبو علي حمزة بن القلانسي أن بدراً الجمالي "الأمير وتاج الأمراء المظفرين وقائد الجيوش وكرامة الإمارة والمخلص للدولة" وصل إلى دمشق عام 455 هـ=1063م بأمر الخليفة المستنصر بالله وعُين حاكماً لها. أذكر هنا أن في دمشق حتى يومنا شارع عريض باسم بدر الجمالي يقع على الجهة الغربية من فندق أمية. يشهد مؤرخ عربي مرموق آخر هو سبط بن الجوزي أن عهد بدر الجمالي كان مضطرباً ومتوتراً جداً بسبب الحركات الداخلية والصراعات بين الأمراء وانقسام الدمشقيين إلى معسكرين: أحدهما إلى جانبه والثاني مع الموالين للشريف الطاهر بن أبي الجوني. أمر بدر الجمالي بالقبض على غريمه وقام بإغراقه في مياه نهر بردى مما سبب استياءً عظيماً لدى السكان. فقام الخليفة الفاطمي المستنصر بالله بدعوته إلى مصر بسبب وهن الدولة وسلطته والحركات المعادية له وكثرة الغزوات اللصوصية وغياب الأمن لإعادة الهدوء والسلام إلى ربوع أرض الكنانة. وصل بدر الجمالي إلى مصر في مثل هذه الأوضاع الخطيرة غير المستقرة ومنحه الخليفة سلطات لا حدود لها فأخمد جميع المظاهر غير القانونية بيد من حديد ووسائل دموية جداً ولم ينجُ حتى ولده الأوحد من العقاب لأنه كان قد أبرز راية العصيان ضد الدولة. وبعد فرض الأمان والأمن في ربوع البلاد، ركّز كامل جهودِه على إعادة بناء الاقتصاد الوطني فخفف الضرائب والخراج على الفلاحين وأعاد تشييد القرى المهدمة وشيد السدود والأقنية والجسور وأفسح مجالاً لرؤوس الأموال الخارجية والداخلية كي تعمل بحرية وبدون إعاقة. كان وصول بدر الجمالي طالعاً سعيداً حقيقياً لمصر وفرصة سانحة لإجراء إصلاحات جذرية فمنحه الخليفة الفاطمي لقب "أمير الجيوش" وعينه قائداً عاماً للجيوش الفاطمية. باشر بدر الجمالي نشاطه في مصر بقتل جميع الضباط الأتراك العصاة أثناء مأدبة أقامها وكانت غالبية عناصر جيشه من المحاربين الأرمن الأشداء الذين وصل عددهم إلى 30,000 جندي وضابط جيدي التدريب ومسلحين بأحدث الأسلحة حسب معايير ذلك العصر ويقطنون في ضاحية الحسينية في مدينة القاهرة. تصاعدت قوة بدر الجمالي ومكانته إلى درجة إسناد الخليفة إليه امتياز تعيين حتى ممثلي السلطات الدينية والقضائية وحكام المحافظات. توفي بدر الجمالي عام 487 هـ= 1094م في مصر في السنة ذاتها لوفاة الخليفة الفاطمي.

من الأوابد الأثرية التي ظلت حية حتى تاريخنا وتعود بقدمها إلى عصر بدر الجمالي البوابات الثلاث الكبيرة لسور مدينة القاهرة القديمة وتحديداُ "باب زويلة" و"باب النصر" و"باب الفتوح" التي بناها مهندسون حربيون أرمن وصلوا خصيصاً من أرمينيا إلى القاهرة وتُعتبر نماذج رائعة لفن العمارة الفاطمية الكلاسيكية. وهناك أيضاً "مسجد البدرية" المكرّس لأمير الجيوش في حي المقطّم في القاهرة. دام حكم بدر الجمالي 21 سنة وبضعة أشهر بين الأعوام 466-487 هـ.

 

الأفضل سيف الإسلام

بعد وفاة بدر الجمالي، عين الخليفة المستنصر الأفضل أبا القاسم بن بدر الجمالي حاكماً للبلاد وقائداً لجيوشها مانحاً إياه لقب "الأفضل سيف الإسلام" وبعد بضعة أشهر توفي الخليفة. ورغم أحقية ابن الخليفة في الصعود على العرش، إلا أن الأفضل، وبسبب قوة مواقعه العسكرية والسياسية، رفع ابن شقيقته الفتي على عرش الخلافة الفاطمية باسم "المستعلي بالله" لتعزيز هيمنته على جميع مفاصل الحكم وسلمه في الوقت ذاته ولي العهد الثائر فقام الخليفة الشاب بقتله. إلا أن المستعلي لم يعش طويلاً وتوفي في عام 495 هـ= 1100م فعيّن الأفضل سيف الإسلام ابن الخليفة المتوفي صاحب الخمس سنوات من العمر خليفةً على العرش الفاطمي مانحاً إياه لقب "الآمر بأحكام الله" وطلب من الشعب التصديق على هذا الاختيار. ومنذ هذه البرهة تحيّن الأفضل سيف الإسلام الفرصة المناسبة كي يحكم البلاد فعلياً بعد تسليم الخليفة-الطفل إلى رعاية نساء  البلاط. وعندما شبّ الخليفة الآمر بأحكام الله، حاول قتل الأفضل سيف الإسلام بسبب دسائس بعض أشراف القصر إلا أن ابن عمه تصدى له مؤكداً على أن الأفضل ووالده كانا من أخلص العاملين وأصدقهم وناضلا من أجل أمن البلاد وتطورها فترة 50 سنة متواصلة. وخلا ذلك، فإنهما يحظيان على حب جميع أطياف طبقات الشعب المصري البسيطة واحترامها لذلك، فإن اغتياله يمكن أن يحرض على اضطرابات داخلية عظيمة. ورغم كون الأفضل سيف الإسلام شخصاً يقظاً جداً وصاحب شخصية قوية ويلجأ إلى الجيش وأسلحته الحديثة، إلا أنه مع ذلك اغتيل غدراً من قبل أبي عبد الله محمد البطائحي والموالين له في اليوم الأخير من شهر رمضان سنة 515 هـ أثناء مروره من على جسر بعد ضربه بالسيوف والخناجر" بناء على تأكيد ابن القلانسي. لنذكر أيضاً، أن الأفضل سيف الإسلام كان إنساناً خيّراً ومحسناً يوزع شخصياً مساعدات شتى على الفقراء والجنود. جرت مراسيم دفن رسمية كبيرة له في صباح اليوم التالي بعد غسل جثته وتكفينه. توفي الأفضل في سن الـ 57 حسب المؤرخ ابن الأثير.

كان الأفضل سيف الإسلام محباً للعلم والفنون وكانت مكتبته تحوي نصف مليون مجلداً وكان يساعد الشعراء والكتاب والعلماء الذين كرّسوا له قصائد مدح عديدة. وللشاعر العربي ابن الخضر العسقلاني قصيدة طويلة في مدحه.

كتب المؤرخ العربي ابن الميسّر بدوره حول الأفضل سيف الإسلام الكلمات التالية: "كان الأفضل سيف الإسلام يضاهي أسلافَه بعدله وسيرته الحسنة. وكان الحاكم الأول الذي منع جباية الضريبة على إرث المتوفين أو الاستيلاء على قسم منه. لقد ازدهرت الحياة الزراعية في عهده إلى درجة لم يبق شير واحد من الأرض لزراعته. لذلك، يمكن اعتبار سنوات حكمه من سنوات مصر السعيدة". حكم الأفضل سيف الإسلام 28,5 سنة بين 487-515 هـ.

 

أحمد بن الأفضل

كان الموالون للأفضل سيف الإسلام يعلمون جيداً أن الخليفة الآمر بأحكام الله هو رأس المؤامرة ومدبرِها الرئيسي فقاموا بطعنه مرات عديدة بالخناجر والسيوف وقتله أثناء عبوره لأحد جسور نهر النيل في القاهرة وتوفي إثرها عام 524 هـ=1129م وهو لم يتجاوز عامه الـ 34. ولم ينسَ هؤلاء اغتيال قاتل الأفضل سيف الإسلام أبي عبد الله محمد البطائحي أيضاً.

وللخروج من هذه الحال المتوترة، اتفق أشراف الخلافة الفاطمية تسليم العرش إلى أبي المأمون عبد المجيد بن محمد بن المستنصر ومنحوه لقب "الحافظ لدين الله" وإسناد رئاسة الوزارة وقيادة الجيوش إلى أحمد بن الأفضل فمنحه الخليفة لقب "الأكمل أمير الجيوش". وبما أن الخليفة كان يافعاً، حدّ الأكمل أمير الجيوش من حركته وصادر ثروات قصر الخليفة تعويضاً على سرقة ثروة جده ووالده وفرض ذكر اسمه في جميع مساجد مصر عوضاً عن الخليفة وخاصة وقت صلاة الجمعة بالكلمات التالية: "ناصر، إمام الحق وهادي القضاة إلى الشرع وشرع الحق واعتماده ومولى النعم ورافع الجور عن الأمم ومالك فضيلتي السيف والقلم". قُتل أحمد بن الأفضل بالسيف بمؤامرة الخليفة الحافظ لدين الله أثناء اللعب بالكرة وجيء برأسه المنفصل عن جسده إلى القاهرة برهاناً ثم وضع الخليفة يده على ثروته. حكم أحمد بن الأفضل سنة واحدة وشهران فقط بين عامي 524-526 هـ.

 

السعيد أبو الفتح يانس الأرمني

كتب المؤرخ العربي الدكتور محمد حمدي المناوي عنه في مؤلفه ما يلي: "كان يانس أسير باديس الأرمني جد الوزير عباس الذي أهداه للأفضل قائد الجيوش. وبفضل ذكائه الخارق وبسالته الكبيرة، ترقى إلى أعلى درجات السلطة كرئيس وزراء وقائد الجيوش الفاطمية ومُنح لقب "أبو الفتوح ناصر الجيوش وسيف الإسلام". كان السعيد أبو الفتح نشيطاً فوق التصور وقوياً ومخيفاً وبعيدَ الأفق وعميقَ الفكر فهدأت أحوال البلاد المضطربة في عهده وتعززت مواقع الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله. إلا أن تلك الأيام السعيدة لم تستمر بينهما فقام الخليفة بقتله بدس السم في طعامه. لم يستمر حكم السعيد أبو الفتح يانس سوى سنة واحدة تقريباً وتوفي في عام 525 هـ.

 

طلائع بن رزيك

لم يمضِ على قتل أمير الجيوش أحمد الأفضل سوى 19 سنة عندما وصلت البلاد والسلطة إلى حافة الهاوية بسبب الصراعات على السلطة داخل البلاط واغتيال أمراء وضباط قادة وشخصيات سياسية كبيرة عديدة أو سجنهم أو نفيهم. ابتسم القدر لمصر ثانية عندما ظهر الأمير طلائع بن رزيك الذي كان حاكم مصر العليا وأسوان في هذا الوقت يتصف ببسالته وعدله الكبيرين. بعث إليه قاضي مدينة القاهرة أبو المعالي عبد العزيز بن الحباب رسالة على شكل قصيدة مشيراً إلى أوضاع الخلافة المتردية المصيرية واغتيال الخليفة. فأسرع طلائع بن رزيك على رأس قواته الرافعة الرايات السوداء وعلّق شَعر النساء المرسل من العاصمة على رؤوس الحراب الطويلة كإشارة لتلبية طلب نساء البلاط ومساعدتهن وقتل المجرمين. وبعد وصوله إلى القاهرة، دفع رزيك فدية كبيرة لصليبيي سوريا لتسليم الناصر قاتل الخليفة الظافر فقام هؤلاء بوضعه في قفص من حديد وإرساله إلى رازيك الذي سلمه إلى نساء البلاط اللواتي قمن بقتله بعد تعذيبه بقسوة ثم قاموا بدق المسامير في جثته وتعليقه على بوابة زويلة حول سور مدينة القاهرة القديمة. ركّز طلائع بن رزيك بعدئذ كامل السلطة بين يديه بعد تبوئه لمنصبي رئيس الوزراء والقائد العام لجيوش الخلافة الفاطمية لأن الخليفة كان لا يزال طفلاً. مُنح أمير الجيوش لقب "الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك". يؤكد المؤرخون العرب عن أصله الأرمني وأنه ولد في أرمينيا التاريخية في عام 495 هـ ومنذ صغره درس العلوم والفنون واعتنق الإسلام. وبعد عودته إلى القاهرة من أسوان فرض الأمن والاستقرار في البلاد وأخضع المؤامرات بيد من حديد فمُنح لقب "السيد الأجل الملك الصالح ناصر الأمة كاشف الغمة أمير الجيوش سيف الإسلام غياث الأنام وهادي دعاة المؤمنين أبو الغارات طلائع بن رزيك الفائزي كافل القضاة". حكم طلائع الدولة الفاطمية كأي ملك مطلق الصلاحية وترك رعاية الخليفة القاصر لعمته وكان يمضي أمسياته مع العشرات من رجال العلم والأدباء وكان بدوره يقرض الشعر ويلقي قصائده على مسمع هؤلاء وكانت موضوعاتها تدور عن الحب والشعور الإنساني السامي بشكل عام.

رشت عمة الخليفة بعض العسكريين والسياسيين بـ 50,000 ديناراً ذهبياً وحاولت قتل طلائع بن رزيك إلا أنها فشلت فقام باعتقالها مع المتآمرين وأعدمهم جميعاً. وبعد وفاة الخليفة في عام 555 هـ=1160م، رفع طلائع بن رزيك محمد بن يوسف بن الخليفة الحافظ بالله على العرش ومنحه لقب "العاضد لدين الله". ثم تقرّب طلائع من العاضد، الذي كان في الحادية عشرة من عمره، وزوّجه من ابنته مما سبّب سخطاً كبيراً لعائلة الخلفاء وأشراف البلاط وكانت العاقبة التآمر عليه من قبل الموالين لعمة الخليفة الصغيرة وقتله بالسيوف والخناجر غدراً وجرح ابنه رزيك. لم يتوفَّ طلائع مباشرة، لذلك، طلب من الخليفة الطفل تسليم عمته له وأمر بقتلها وقبل وفاته طلب من الخليفة تعيين ابنه رزيك في منصب رئيس الوزراء ومنحه لقب "مجد الإسلام الملك العادل" وبعد بضع ساعات لفظ طلائع أنفاسه الأخيرة.

خصص المؤرخون العرب صفحات رائعة عن الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك لأنه كان قد أعلن "الجهاد المقدس" ضد الصليبيين واستولى على أسطولهم الحربي في عام 550 هـ. حكم طلائع بن رزيك مدة 7 سنوات في الأعوام 549-556 هـ.

 

رزيك بن طلائع

بعد التئام جراحه، اتجه رزيك بن طلائع إلى بلاط الخليفة العاضد لدين الله الذي أجلسه على كرسي رئاسة الوزراء ثم قام بقتل جميع مَن اشترك في مؤامرة اغتيال والده بناء على معلومات الخليفة وعمه سيف الدين حسين بن الملك الصالح طلائع. يشهد المؤرخ تغري بردي أن رزيك بن طلائع حكم البلاد مدة 1,5 سنة فقط بكل حزم وحصل على محبة الشعب المصري واحترامه لأنه كان قد باشر في تخفيف همومه المادية والحياتية. وكانت مواقع رزيك بن طلائع راسخة لأن معظم أفراد قواته كانوا من الضباط والجنود الأرمن الأشداء تحت إمرة قائد عربي. مع ذلك، لم يستمر هدوء الأحوال السياسية طويلاً فدب الخلاف بينه وبين الأمير شاوور بن مجير السعدي الذي كان أحد الحكام المعينين من قبل الخليفة في إحدى مقاطعات البلاد بدون استشارة أمير الجيوش فكانت العاقبة، إزاحته عن منصبه من قبل رزيك بن طلائع. إلا أن الأمير شاوور قام بتجهيز جيش كبير وبعد دحر جيش رزيك قام بأسره مع شقيقه جلال الإسلام وأمر بسجنهما. حاول رزيك الفرار من معتقله فقام شاوور بقتله للحيلولة دون ظهور عواقب مستقبلية وأبقى على حياة شقيقه. حكم رزيك بن طلائع مدة سنة واحدة وأربعة أشهر بين 556-558 هـ.

 

هناك مسلمات ومسلمون أرمن عديدون جداً لكن في المرتبة الثانية من حيث الأهمية كانت لهم أدوار محددة في حياة العرب المسلمين وحكامهم وخلفائهم نذكر منهم على سبيل المثال:

ـ ست المُلك ابنة الوزير بدر الجمالي كانت زوجة الخليفة المستعلي 1094-1120م.

ـ ابنة الوزير طلائع بن رازيك كانت زوجة الخليفة الفاطمي العاضد 1160-1171م.

ـ القائد واردان الأرمني، كان أحد قواد عمر بن العاص وفاتح مصر وواليها وهو حامل لوائه الذي سُمي باسمه (سوق وردان) بالفسطاط عاصمة مصر التي بناها الفاتح العربي. وبلدة وردان لا زالت موجودة وتقع غربي فرع النيل الغربي أي فرع رشيد بعد رأس الدلتا ويُنسب إليها اليوم كثير من المصريين. أسند الخليفة الراشدي عثمان بن عفان إليه منصب جابي خراج مصر لاحقاً.

ـ الوالي آشوط بن حمزة الأرمني 847-868م، الحاكم العربي في مقاطعة باسفرجان الأرمنية.

ـ الكاتب الأوحد، هو ابن بدر الجمالي الشهير وشقيق الأفضل أبي القاسم شاهنشاه تبوأ مراكز إدارية وعسكرية في الديار المصرية في القرن 11م.

ـ الوزير أبو القاسم شاهنشاه 1066-1121م، هو أحمد بن بدر الجمالي الملقب بـ "الملك الأفضل" ولد في عكا وخلف أباه بدراً في إمارة الجيوش العربية وكان مثل أبيه داهية دهياء وحسن الإدارة فنقم عليه الخليفة بأحكام الله فأرسل مَن قتله قرب داره في القاهرة.

ـ جعفر المظفّر 1120م، هو أبو محمد نائب وزير وابن بدر الجمالي وشقيق الملك الأفضل أبي القاسم شاهنشاه كان رئيس ديوان أخيه وناب عنه عدة مرات عند غيابه عن القاهرة. قتله أحد خدامه عام 1120م وكان يُلقب بألقاب عديدة مثل "الناصر العظيم" و"المظفر القوي" و"سيف الإسلام" و"شرف الإنسان" و"ناصر الدين" و"صديق أمير المؤمنين" و"عظمة الإسلام" و"مجد الناس" وغيرها.

ـ الكاتب دُرّي الأرمني، هو شهاب الدولة فقد كان مملوكاً أرمنياً في خدمة أحد أبناء بدر الجمالي الأرمني وأصبح ناظر الكسوة في عهد الخليفة الفاطمي الحافظ. توفي عام 1138م.

ـ الأمير عزيز الدولة، عينه الخليفة الفاطمي بأمر الله حاكماً على قلعة حلب ومنحه لقب أمير الأمراء لكنه تحالف مع حاكم أنطاكية اليوناني وأعلن استقلاله عن الدولة الفاطمية وامتنع عن دفع الجزية لها وضرب نقوداً باسمه ولكنه سرعان ما تحالف مع الخليفة الظاهر فعينه على حلب فترك إمرة القلعة إلى قائد يُدعى بدر الذي بدوره سارع إلى قتل عزيز الدولة في عام 1023م

ـ الوزير هُزار في القرن 12م، استوزره الإمام الحافظ الفاطمي عام 1130م إلا أن الجيش ثار عليه فخلعه.

 

ومن مشايخ المساجد وعلماء الدين والفقهاء الأرمن المسلمين:

ـ إبراهيم بن سويد الأرمني، فقيه ومحدث حنبلي من تلامذة الإمام أحمد بن حنبل. ترك بغداد  ورحل إلى بيروت وأقام بها إلى أن توفي. انفرد بها بالحديث عن شيخه الإمام أحمد بن حنبل وسمع بدمشق هشام بن عمار وأخذ عنه أبو العباس محمد بن سليمان الأصبهاني وأبو سعد ميسرة بن علي القزويني.

ـ إبراهيم بن عبد الله بن يونس الأرمني، الملقب بـ "الشيخ الصالح" أحد أكبر زهاد عصره. توفي في دمشق نحو عام 692 هـ.

ـ أحمد بن عبد الله بن يونس الأرمني، محدث عاش في مكة وكان حياً قبل سنة 450 هـ.

ـ أرسلان بن عبد الله الأرمني (أبو محمد) مولى السيدة ابنة الخليفة المقتفي. كتب عنه بن النجار" قائلاً: كان شيخاً متديناً حسن الطريقة مليح الوجه طيب الأخلاق". توفي في عام 625 هـ ودُفن في مقابر الوردية غربي بغداد.

ـ بشارة بن عبد الله الأرمني، محدث عاش في النصف الأول من القرن 7 هـ وكان عبداً لبدر الدين الكاتب مولى شبل الدولة. سمع الكندي وغيره وحدث عنهم وكان خطاطاً جيداً أسند إليه مولاه النظر في أوقافه وجعله كواحد من أبنائه. توفي في ليلة النصف من رمضان سنة 655 هـ.

ـ بهادر بن عبد الله الأرمني، المعروف بمولى ابن السند. محدث ثقة سمع من جماعة منهم أبو العباس المرداوي وحدث عنه وعن غيره وسمع منه ابن حجر العسقلاني بدمشق.

ـ راجية الأرمنية (أم محمد) عتيقة عبد اللطيف بن الشيخ أبي النجيب السهروردي إحدى المتصوفات اللوائي تتلمذن على السهروردي. سمعت وحدثت عن أبي الوقت وابن البطي وروت عنهما وعن شيخها السهروردي ببغداد وإربيل وكانت إمرأة صالحة توفيت في إربيل في جمادي الأول عام 622 هـ.

ـ رشا بن عبد الله الأرمني الخالدي (أبو الحسن) المعروف بغلام الخالدين. كان غلاماً أرمنياً لأبي عثمان سعيد وأبي بكر محمد الخالديين الشاعرين ببغداد. ربياه وعلماه وأدباه وكان يخدمهما ويكتب عنهما. ولما توفيا اشتغل بتجارة البز (الحرير) ثم اتصل بأبي القاسم عبد العزيز بن يوسف وزير بهاء الدولة البويهي وخدمه في الكتابة له فتولى النظر في خاصته وداره. وبعد القبض على عبد العزيز بن يوسف عاد إلى الموصل ثم استقر في بغداد وكان أديباً شاعراً. أورد الصفدي له بعض شعره. توفي ببغداد سنة 403 هـ.

ـ سلم بن بندار بن الحسين النشوي الأرمني (أبو سعيد)، فقيه ومحدث ثقة ينتمي إلى مدينة نشوى (ناخيتشيفان) وهي قصبة في إقليم البسفرجان بأرمينيا. قدم بغداد وتتلمذ بها على يد محمد بن سفيان بن سعيد ومحمد بن علي بن أبي الحديد المصري وبكر بن أحمد التنيسي ومحمد بن عمر الدمشقي وأخذ عنه أبو الحسن بن رزقويه.

ـ صافي بن عبد الله الأرمني (أبو الحسن)، عتيق قاضي القضاة أبو عبد اللهج الشهرستاني. سمع الفقيه نصر بن إبراهيم الزاهد قال عنه ابن العساكر وكتب عنه وكان خيّراً مواظباً على الصلوات في الجماعات وكثير التنقل. توفي يوم الأحد رابع عشر شهر ربيع الأول سنة 538 هـ ودفن بباب الصغير بدمشق.

ـ ظفر بن إيراهيم الحربي المعروف بابن الأرمني (أبو السعود)، فقيه ومحدث بغدادي أخذ عنه أحمد بن أبي الخير سلامة شيخ الإمام الذهبي وأثبت الذهبي إجازة شيخه على يديه وروى عنه ابن النجار وتوفي ببغداد.

ـ عبد الله بن يونس الأرمني، زاهد ومتصوف وورع توفي في دمشق ودفن على سفح قاسيون سنة 631 هـ. قال عنه ابن كُثير: هو أحد العُباد الزُهاد الذين جابوا البلاد وسكنوا البراري والجبال والوهاد واجتمعوا بالأقطاب وممن كانت له الأحوال والمكاشفات والمجاهدات والسياحات في سائر النواحي والجهات".

ـ عبد الرحمن بن يحيى الأرمني، محدث وفقيه أخذ عن سفيان بن عيينة حتى عرف بصاحب سفيان بن عيينة لشدة التصاقه به.

ـ عبد السلام بن إبراهيم بن محمد الأندلسي ثم البغدادي المعروف بابن الأرمني، فقيه ومحدث يظهر من اسمه أن مولده كان ببلاد الأندلس ثم انتقل لاحقاً إلى بغداد وأقام بمحلة الحربية كما يتضح من اسمه ونسبته ومن المحتمل ينحدر من صلب أحد الرقيق الأرمن.

ـ علاء الدين سنقر بن عبد الله الزيني الأرمني (أبو سعيد) ولد سنة 618 هـ جُلب إلى حلب نحو سنة 624 هـ واشتراه قاضي حلب زين الدين بن الأستاد. سمع من الموفق عبد اللطيف البغدادي وعز الدين بن الأثير وابن شداد بهاء الدين وابن روزبه وسمع من ابن الزبيدي بدمشق وسمع ببغداد من الأنجب الحمامي وعبد اللطيف بن القبيطي وسمع بمصر من عبد الرحيم بن طُفيل وعُمّر وتفرد وروى الكثير وخرج له كل من الشيخ شمس الدين وأبو عمرو بن مشيخة وتوفي بحلب سنة 706 هـ.

ـ عيسى بن مالك بن شمر الأرمني (أبو عبد الله)، أحد العلماء الأرمن المسلمين. ترجع أصوله إلى طبقة النبلاء الأرمن ذكره ياقوت الحموي في معرض ذكره لطبقة أحرار الأرمن فسافر إلى مصر والمغرب.

ـ قراطاش بن عبد الله الأرمني (أبو عبد الله)، الملقب بالزعيمي الأرمني البغدادي مولى زعيم الدين أبي الفضل يحيى بن عبد الله بن محمد بن جعفر. قال عنه الصفدي: تربى في النعمة والحشمة وكان خصيصاً بمولاه عزيزاً عنده ثم انقطع بعد وفاة مولاه إلى الخلوة وصحب الصوفية وجاور بسقاية الراضي بجامع المنصور وبقي بها إلى حين وفاه ملازماً للخلوة ودوام العبادة وظهرت آثار الصلاح عليه وسمع من أبي بكر بن الشاروق المقري. توفي ببغداد سنة 606 هـ.

ـ محمد بن يحي الأرمني، محدث وفقيه عاش في القاهرة قرابة القرن 7 هـ وله ذكر في تاج العروس للزبيدي .

ـ محمد بن يوسف بن أيوب الأرمني، شاعر وراوية ورد ذكره في "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لأبي الحاتم البستي.

ـ مريم الأرمنية، طالبة علم كانت تعيش بالقاهرة نحو عام 661 هـ ورد اسمها في نص سماع مشيخة محمد الرازي المعروف بابن الحطاب.

ـ نوشتكين بن عبد الله الأرمني، صاحب تاريخ دمشق أخذ عن عبد الله الغثوي وأفاد منه ابن عساكر وغيره العديدون.

 

 

من أعلام الأرمن في مصر المملوكية

محمد بن عبد الرزاق الأرمني المعروف بنقيب الجيوش

ولد بين عامي 1402-1404م في القاهرة بناء على تغري بردي وشمس الدين عندما كان والده عبد الرزاق أحد أمراء الحُجّاب في بلاط الناصر فرج بن برقوق الذي تولى رئاسة الوزارة لـ 3 مرات. تلقى محمد تعليماً دينياً وترقى في وظائف الدولة حتى أصبح والي دمنهور وهي إحدى الوحدات الثمانية في البلاد والذي يتبوأ هذا المنصب كان يُمنح رتبة "أمير طبلخانة" أي بيت الطبل الذي يُطلق على فرقة الموسيقى العسكرية. وقد أكد على ذلك تغري بردي والسخاوي في كتابه "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع". وكان محمد بن عبد الرزاق يرأس أيضاً 1,000 فارساً. عُزل عن المنصب بعد وفاة برسباي وعاد إلى وظائف الدولة في بداية سلطنة الملك الظاهر جقمق عام 1438م واستلم ولاية دمياط. عزله السلطان بعد 6 أشهر وأعاد تعيينه بصفة نقيب الجيش وأكد تغري بردي على ذلك في كتابه "المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي" قائلاً: قدم إلى القاهرة ودام بها إلى أن ولّي نقابة الجيش في أوائل الدولة الظاهرية جقمق..". وكرر السخاوي التأكيد ذاته. بيّن تقي الدين مقريزي قيمة هذا المنصب قائلاً: كانت هذه الرتبة من المناصب المهمة في الدولة التركية الجليلة يسهر على عرض الجنود ومعه يمشي النقباء وإذا طلب السلطان أو نائبه أو حاجب الحجاب أميراً أو جندياً، كان هو المخاطَب في الإرسال...وهو أيضاً الذي يمشي بالحراسة السلطانية في الموكب حالة السرحة (أي خروج السلطان للنزهة) وفي مدة السفر". إن المتأمل لمهام نقيب الجيش التي أثبتها المقريزي يمكن له أن يستنبط أن المهام كانت خليطاً من مهام كل من مدير شؤون الضباط ورئيس شؤون الأفراد وقائد الحرس الملكي بما يعادل الحرس الجمهوري حالياً. بسبب اعتلائه لجميع هذه المناصب المتنفذة دبت الغيرة في أنفس الجوار فانتشرت الشائعات حوله شأنه في ذلك شأن عشرات كبار المسؤولين في دولة المماليك فقام السلطان بحبسه في قلعة القاهرة وصادر أمواله ثم نُفي إلى قطيا في مصر أو القدس حسب آخرين لكن ساحته بُرئت ولم يلبث كثيراً حتى قفل راجعاً إلى القاهرة وعُين في منصبه السابق ثانية وظل فيه حتى آخر حياته حسب تأكيد المؤرخ السخاوي.      

 

من أعلام الأرمن في الإمبراطورية العثمانية

 

المعمارباشي سنان (1490-1588)

 دخل الأتراك إلى منطقة الشرق الأوسط بعد دحر الجيوش البيزنطية في معركة مانزيكرد عام 1071م واحتلال أرمينيا التاريخية.

المعمار سنان من عباقرة الفن الهندسي عبر التاريخ الطويل للبشرية فقد ترك أعمالاً عديدة تشهد كل منها بالأصالة والمعرفة العميقة والذوق الفني إلى جانب إضافة أشكال جديدة إلى فن العمارة. قيل عنه الكثير الكثير منها:

ـ دائرة المعارف الإسلامية:"يعتبر سنان واحداً من أعظم المعماريين الذين ظهروا عبر العصور التاريخية كلها".

ـ في مؤلفه "الحضارة الإسلامية" أكد بارتولد: "لم تكن أعمال سنان أقل شأناً من الناحية الفنية عن الأعمال المعمارية الأوروبية في عصر النهضة".

 ـ أكد بابنكر في بحث له "أن سنان هو ميكائيل أنجلو العثمانيين".

ـ البروفيسور الألماني كلوك في جامعة فيينا:" يتفوق سنان على ميكائيل أنجلو فنياً الذي هو أكبر اسم فني في الحضارة الأوروبية".

ـ يصفه المؤرخ التركي أحمد رفيق كالآتي: "لقد بلغ حب الأمة العثمانية لسنان حداً جعلها تمنحه لقب "سنان الكبير رائد معمار العالم".

ولد المعمار سنان في قرية أغرناص الأرمنية من أعمال القيصرية في 9 أيار عام 1490 من أبوين أرمنيين وتوفي في اسطنبول في 8 حزيران عام 1588 وعاش حوالي قرناً كاملاً أمضى منها 50 عاماً كمعمار البلاط العثماني بين عامي 1539-1588. وكان سنان شغوفاً بشق قنوات المياه في الحدائق وبناء الأكواخ والحظائر منذ نعومة أظفاره. وعلى الرغم من محاولات الأتراك طمس هوية سنان الأصلية وإضفاء الغمامة على منبته عمداً أو جهالة فإن المعمار ذاته يؤكد في "السيرة الذاتية": أنه درس في مدرسة للمسيحيين  Ajemi  Oghlanlar في ريعان شبابه في اسطنبول عام 1502 ثم تخرج من الكلية العسكرية كضابط في القوات الإنكشارية ثم اعتنق الإسلام وهو في 23 من العمر. قام السلطان سليم الثاني بتهجير أرمن مدينة القيصرية جماعياً إلى قبرص عام 1573 لكنه استثنى عائلة "كبير معماريي البلاط العثماني" من ذلك. أكدت الموسوعة التركية Tűrk Tarihi Enjumeyi Majmuasi  في عدديها حزيران عام 1930 وأيار عام 1931 هذه المعلومات.

ذاعت شهرة سنان في الجيش كمهندس للجسور والتحصينات والمنشآت العسكرية وأتيحت له الفرصة، وهو يرافق الحملات العسكرية العثمانية في الشرق والغرب، للاطلاع على فن العمارة الأرمنية والبيزنطية والسلجوقية والإيرانية وغيرها وكان ضمن صفوف الجيش عند دخوله عاصمة الصفويين تبريز وعند اجتياحه واحتلاله لحلب ودمشق في عام 1516 وصولاً حتى القاهرة وتأمل طرز هذه المواقع المعمارية من عربية ومسيحية ومملوكية وفرعونية. وتابع سنان مسيرة التثقيف الذاتي المعماري والفني مع اجتياحات الجيش العثماني المظفرة في أوروبا وتعرّف على الأوابد اليونانية والمجرية ووصل مع اسطول خير الدين برباروسا حتى إيطاليا. جاء سنان مع الجيش إلى العراق أيضاً وتعرف على أوابدها القديمة ومواقع بغداد. خدم سنان كمعمارباشي خاص للقصر طوال حياته المديدة خمسة سلاطين عثمانيين هم بايازيد الثاني وسليم الأول وسليمان القانوني وسليم الثاني ومراد الثالث.

في مخطوط "تذكرة الأبنية" وهو كتاب أملاه سنان على صديقه النقاش ساعي مصطفى جلبي جدول لأعماله التي بلغت 441 آبدة موزعة على مختلف أصقاع الدولة العثمانية الواسعة. وتشهد أعماله هذه العديدة على معرفة عميقة بأسرار فن الهندسة وذوقه الرفيع بسبب إضافة عناصر عديدة من فنون هندسة الشعوب المجاورة الأكثر تقدماً وحضارة من الأتراك-العثمانيين وخاصة أن العمارة العثمانية كانت في طور التشكل في هذه القرون وما بعدها. ومن ميزات سنان الكبيرة أيضاً الابتعاد عن الابتذال والتكرار والتصنّع والتقليد فكان يستخدم جميع العناصر المعمارية بأدق تفصيلاتها بشكل عضوي. يؤكد أستاذ الفن التركي جلال أسعد أن سنان اهتم بالأشكال الخارجية للأبنية عكس المهندس البيزنطي. ومن الجوامع التي قام ببنائها في اسطنبول وأروعها وأدقها تقانة وفناً جامع صقوللو محمد باشا وجامع رستم باشا وجامع شهزاده وجامع السليمانية.

أما في البلدان العربية فقد شيد سنان جوامع ومنشآت خيرية منها جامع خسرو باشا أو الخسروية مقابل الباب الرئيسي لقلعة حلب وجامع ومطعم السلطان سليمان في دمشق ومطعم خيري وجامع خاصكي سلطان ومدرسة وحمام السلطان سليمان في مكة المكرمة إلى جانب ترميم قباب الحرم المكي وأخيراً بنى مطعم خاصكي سلطان الخيري في المدينة المنورة وغيرها. أقدم جدولاً شبه كامل عن الأوبد التي قام ببنائها في الدول العربية:

مكة المكرمة:جامع-1، مدرسة-1، دار القراء-2، رباط خيل بعين ماء-1، مطعم خيري-1.

المدينة المنورة: مطعم خيري-1

القدس الشريف: جامع-1، مدرسة-1، مطعم خيري-1.

البصرة: جامع-.1

دمشق: جامع-1(التكية السليمانية من عام 1554)، مدرسة-1.

حلب: جامع-1(الخسروية)، خارج حلب: قصر-1، ضريح-1، تكية-1. لكنها اندثرت.

طريق باياس: جامع-1، مدرسة-1، حمام-1.

لكن معظم الأوابد التي قام سنان ببنائها تركزت في تركيا وهي على الشكل التالي: 81 جامعاً كبيراً و50 مسجداً صغيراً و55 مدرسة و19 مدفناً وسبع 7 مكتبات و14 عمارة و3 مستشفيات و8 جسور و5 أقنية و17 خاناً و31 قصراً و35 حماماً وغيرها.

هناك العديد من الأوابد الدينية والدنيوية التي قام ببنائها سنان في البوسنة-هرسك وأوكرانيا ومقدونيا وغيرها.

يعد مجمّع السليمية من أشهر الأعمال المعمارية في عهد السلطان سليمان القانوني بل وفي التاريخ العثماني كله لأنه يمثّل أكثر مراحل فن العمارة العثمانية تطوراً. بناه سنان عام 1557 واختار لبنائه ربوة تتحكم بالخليج الذهبي والبسفور. ويتألف المجمّع من جامع ومدرسة ومطعم وسواها وهي الكلية الثانية المشيدة في اسطنبول بعد الكلية التي ابتناها السلطان محمد الفاتح لجامعه.

أما في جامع السليمانية فقد استخدم سنان نظام القبة المركزية (انطلاقاً من الكنائس الأرمنية) واثنتين من أنصاف القباب. ويبلغ ارتفاع قبة جامع السليمانية 53م أي بزيادة 6 أمتار عن قبة كنيسة آياصوفيا البيزنطية التي حولها الأتراك إلى جامع وقاموا بطمس فريسكاتها الملونة البديعة بطلائها بالكلس الأبيض. ويبلغ قطر قبة جامع السليمانية 25,5م. ركز سنان في هذا الجامع على جميع أساليب عصره في هندسة البناء وبشكل خاص على عوامل انعكاس الصوت ونظام التهوية بحيث تتم بسرعة وسهولة. وضع سنان أربعَ مآذن في كل زاوية من زوايا الجامع مشيراً ومؤكداً على أن سليمان القانوني كان رابع سلطان عثماني منذ احتلال القسطنطينية. وفي الوقت ذاته شيد سنان عشرَ شرفات على هذه المآذن معلناً أن السلطان كان في الوقت ذاته عاشرُ سلاطين بني عثمان منذ عثمان مؤسس الدولة العثمانية. أقام سنان هذه المآذن بارتفاعات مختلفة بقصد إضفاء شكل هرمي على الجامع. وتحتوي كلية السليمانية على أقسام عدة وهي مدرسة عليا لتدريس الطب وأربع مدارس وكتّاب للصبيان ومدرسة للملازمين ودار للحديث وحمام ومستشفى ودار للضيافة ومطبخ ودار للقراء وتدريس القرآن الكريم وضريح السلطان سليمان وضريح حرمه وعين ماء وسبيل ونهاية ضريح المعمار سنان.

لم يحصر سنان نشاطه في البناء فقط بل خرّج جيلاً كاملاً من المعماريين المرموقين أكملوا ما بدأه وزادوا عليها وانتشروا في العالم الإسلامي منهم مثلاً المعمار يوسف الذي دعاه بابور شاه في الهند لبناء أوابد عظيمة في دلهي وأكرا. استمرت مدرسة سنان في العمارة العثمانية حتى الربع الأول من القرن 18 عندما وصلت تأثيرات حركة النهضة الأوروبية إلى البلاد العثمانية وسيطرت على الحياة الفنية فيها فتبوأت عائلة باليان الأرمنية بعده منصب "معمار باشي" البلاط العثماني مدة 200 سنة دون انقطاع بين القرنين الثامن عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر. ومن أهم الأوابد التي خلفتها هذه العائلة قصر دولما باهجيه مفخرة الأتراك والعالم.

توفي سنان عام 1588 في سن المئة تقريباً وخلفه في منصبه المعمار داوود آغا. أرّخ صديقه النقاش ساعي مصطفى جلبي تاريخ وفاته قائلاً: "مات سنان معلم المعماريين في هذا الزمان فاحسنوا إلى روحه أيها الكهول والشبان بقراءة الفاتحة".

هكذا، يسدل الستار عن شخصيات أرمنية مسلمة من سياسيين وعسكريين وفقهاء الدين الإسلامي ومعماريين ودورهم المرموق ونشاطهم الكبير وصيتهم الحسن ويتحدث عنهم التاريخ العربي والإسلامي باحترام جم.

 المصادر المستخدمة

(1) جمال الدين بن تغري بردي، النجوم الزاهرة، الجزء 5.

(2) المختصر في تاريخ البشر، تاريخ أبي الفداء، دار المعرفة، بيروت، المجلد 3.

(3) شمس الدين الذهبي، دول الإسلام، القاهرة، 1974.

(4) خير الدين الزركلي، قاموس الأعلام.

(5) الإمام الحافظ، البداية والنهاية، مطبعة السعادة، مصر، المجلد 13.

(6) سعيد الديونجي، مجلة سومر، بغداد، العدد 24، ص 171-181.

(7) ابن الأثير، الكامل في التاريخ.

(8) محمد شاكر الحسيني، العملة الإسلامية في العهد الأتابكي، بغداد، 1966.

(9) الدكتور محمد حمدي المناوي، الوزراء والوزارة في العهد الفاطمي.

(10) أديب السيد، أرمينية في التاريخ العربي، حلب، 1972.

(11) بيرج صبّاغيان، نقود الأتابك بدر الدين لولو، مجلة "نور أبريل" للجمعية الخيرية العمومية الأرمنية، حلب، باللغة الأرمنية.                       

 (12) Dr. Rice, The Brasses of Badr-Din Lulu, Bulletin of the School of Oriental  Studies 127 and African Studies, XIII, 1950،p.633.

(13) Islamic Art Chambers Encyclopedia، Vol.7, p.765.

(14) Ghalib Edhem, Monnais Turkomanes.

 (15) الأب سهيل قاشا، أعلام الأرمن في الدولة العربية الإسلامية. نشرة الأرمن الكاثوليك في حلب، العددان 1 و2 2001.

(16) أحمد عدوي، العلماء الأرمن المسلمون ودورهم في الحياة العلمية في الإسلام، القاهرة، الملحق العربي لمجلة "أريف" الأرمنية، كانون الثاني 2007.

(17) "الموسوعة الأرمنية السوفياتية" المجلد 10.

(18) مجلة "العربي" الكويتية.عدد 271-1981. د.محمد حرب.

 

 

 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1081 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع