قضية الأرمن.. ومواقف العرب

                               

                         خالد الحروب

لأسباب مبدئية وبراغماتية كان معظم المواقف العربية في الربع الأول من القرن العشرين،سواء لمفكرين أو سياسيين، إلى جانب الأرمن،وتعاطفت مع مأساتهم.

والأسباب المبدئية كانت نتيجة هول أخبار المأساة، وما تناقله الفارون الأرمن وصولًا إلى بلاد الشام والعراق. والأسباب البراغماتية ارتبطت بتصاعد النقمة العربية على سياسة «التتريك» وعجرفة سياسيي «تركيا الفتاة» و«حزب الاتحاد والترقي» وسيطرتهم الفعلية على الحكم والسياسة في إسطنبول، على رغم بقاء الإطار الشكلي للخلافة العثمانية. وكان الحس العروبي والقومي في تزايد مستمر، والرفض لسياسات الاستبداد والجبر التركي متواصلاً، وكانت مجازر جمال باشا السفاح في بلاد الشام ما تزال تغذي تلك النقمة والوعي الاستقلالي العربي المرافق لها. وعلى هذه الخلفية يمكننا فهم التضامن العربي مع قضية الأرمن، وهو تضامن تجاوز نطاقه العروبيين والقوميين ليشمل بعض مفكري النهضة الإسلاميين، مثل محمد رشيد رضا، صاحب ومؤسس مجلة «المنار» الشهيرة. وعلى ذلك يمكن القول إن مجموعتي الأسباب، المبدئية والبراغماتية، اختلطتا معاً، وصار كثيرون من استقلاليي العرب يرون في البطش بالأرمن الصورة ذاتها للبطش التركي بالعرب، ويرون في مطالب الأرمن بالإصلاح والحكم الذاتي وتحقيق العدالة ذات المطالب التي يناضلون من أجلها. وفي عقود لاحقة من القرن العشرين وحتى الآن تماوجت المواقف العربية ودخلت عليها الأدلجة الإسلاموية.
وفي السطور التالية اقتباسات مُعلمة لبعض مواقف وتصريحات مفكرين وسياسيين عرب في الربع الأول من القرن العشرين، وهي واردة وبتوسع إضافي في كتاب جديد صدر حديثاً للباحثة الأرمنية نورا أريسيان بعنوان «100 عام على الإبادة الأرمنية: 100 شهادة عربية». الشهادة الأولى للشريف الحسين بن علي، وهي في بيان له صادر عن الديوان الهاشمي سنة 1917 وجهه إلى بعض شيوخ أمراء قبائل بلاد الشام يوصيهم فيه خيراً بالأرمن القادمين إلى ديارهم هرباً من بطش الأتراك بهم، ويقول فيه: «...أما بعد فقد صدرت الأحرف الأولى من أم القرى بتاريخ 18 رجب 1336. نحمد الله الذي لا إله إلا هو إليكم ثم نصلي على نبيه وآله وصحبه وسلم... وإن المرغوب بتحريره المحافظة على كل من تخلف بأطرافكم وجهاتكم وبين عشائركم من الطائفة اليعقوبية الأرمنية تساعدونهم على كل أمورهم، وتحافظون عليهم كما تحافظون على أنفسكم وأموالكم وأبنائكم، وتسهلون كل ما يحتاجون إليه في ظعنهم وإقامتهم، فإنهم أهل ذمة المسلمين والذين قال فيهم صلوات الله عليه وسلامه من أخذ عليهم عقال بعير كنت خصمه يوم القيامة، وهذا من أهم ما ننتظره من شيمكم وهممكم...».
أما الشهادة الثانية فهي للكاتب والمؤرخ فائز الغصين (1968-1883)، وهو محامٍ ومؤرخ سوري، وسكرتير الأمير فيصل بن الحسين، ويعتبره كثيرون أهم من أرخ شهادات الناجيين ممن وصولوا إلى البلاد العربية، وهو ينتقد هنا ادعاءات الحكومة العثمانية بنفي ما قامت به ضد الأرمن: «هذا هو بيان الحكومة العثمانية الرسمي بحق الأرمن، أما قرارها الخفي فهو أن تؤلف طوابير لأجل معاونة أفراد الدرك على قتل الأرمن، وأن يقتلوا عن بكرة أبيهم. وقد جمع الرجال والنساء وأرسلهم مع كتائب من الجند، وهذه قتلت كثيراً من رجالهم، وأما النساء فلا تسل عما جرى لهن فإن الأعراض أصبحت مُباحة للجند العثماني والأطفال ماتوا من العطش والجوع».
والشهادة الثالثة للمفكر والمؤرخ السوري الشهير محمد كرد علي (1953 -1876)، الذي خص الأرمن بكتابات واهتمام خاص أيضاً، ويقول: «...نعم لقي الأرمن من الكثرة الغامرة ما عرف به العربي من كرم النفس ورعاية الغريب، فعدوا الشام وطنهم الثاني ومنهم من اغتنى في أرضنا بكده وجده فما حسدناهم ولا مننا عليهم، وشعب ذكي من مثل الشعب الأرمني لا يسعه أن يُنكر الجميل، والأرمني مهما كان من التباين بين حضارتنا هو شرقي ويفاخر مثلنا بشرقيته».
والشهادة الأخيرة التي نختم بها هذه المقالة هي لمحمد رشيد رضا، أحد رواد ومفكري النهضة، ومؤسس مجلة «المنار» (1935- 1865)، ويقول فيها: «...ليس من ينكر أن الأرمن شعب نشيط مقدام سائر في طريق الارتقاء الأدبي والاقتصادي والاجتماعي، والإنسان محب لوطنه بطبعه، فهم يحبون أن يكون مستوى ارتقاء وطنهم من حكومتهم الشيء الذي هو من حق كل أمة على حكومتها، وهو الدفاع عنها في الخارج وتقرير الأمن والعدل وإيجاد الوسائل التي تسهل على الشعب سبل الارتقاء في الداخل. هذا حق للأمة على حكومتها في كل زمان ومكان، وهذا ما يطلبه الأرمن من الحكومة العثمانية... يقولون على رؤوس الأشهاد إنهم يريدون أن يبقوا معنا ولا يطالبون منا إلا ما يحق لكل أمة أن تطلبه من حكوماتها، وهو الدفاع عنها في الخارج ومنحها العدل والأمن وتمهيد سبل الارتقاء لها. كثر الله خير الأرمن».
استقبل العرب الأرمن بكرمهم وأفسحوا لهم بيوتهم وصاروا بعد قرن من الزمن جزءاً من النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي للمنطقة، ورآهم عبدالرحمن منيف تكويناً عضوياً فيها لا يكتمل جمال التعدد المجتمعي إلا بهم، وذاك كله صفحة بيضاء من صفحات مجتمعات هذه المنطقة التي تفاخرت بتسامحها وتعايشها، قبل أن تهبط عليها ظلمات التطرف و«الداعشية» والطائفية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

995 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع