ماذا بعد تقرير التعذيب الأميركي؟

                                         

                        د. منار الشوربجي


في مقال لي في هذا المكان في مارس الماضي، سألت؛ هل تعيش أميركا أجواء أوائل السبعينيات؟ وكانت مناسبة السؤال تتعلق بتقرير التعذيب الذي كانت تعده وقتها لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، وخروج المعركة بين اللجنة الرقابية وبين الجهة موضوع الرقابة، أي وكالة المخابرات المركزية، للعلن.

وهو نفسه التقرير الذي صدر أخيراً، عن مجلس الشيوخ الأميركي، وفضح التعذيب في سجون تابعة للمخابرات المركزية خارج الأرض الأميركية، فهو نتاج معركة طويلة استغرقت أعواماً.

فلجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ، المنوط بها دستورياً الرقابة على أجهزة الاستخبارات، كانت قد وافقت بالتصويت عام 2009 على فتح تحقيق موسع بشأن البرنامج الذي أنشأه بوش الابن عام 2002 وتولته وكالة المخابرات المركزية، لاعتقال مشتبه فيهم ونقلهم لسجون خارج الأرض الأميركية وتعذيبهم.

ومنذ ذلك التاريخ، ظلت اللجنة تسعى للحصول على المعلومات اللازمة للقيام بعملها، وسط عرقلة مستمرة من جانب وكالة المخابرات المركزية.

وقد ظلت المعركة بين الطرفين، اللجنة برئاسة السيناتور ديان فاينستين والوكالة برئاسة جون برينان، تدار خلف الأبواب المغلقة، إلى أن خرجت للعلن في مارس من العام الحالي، حين وقفت السيناتور فاينستين في قاعة مجلس الشيوخ، واتهمت وكالة المخابرات علناً بالتجسس على الجهاز الفني التابع للجنتها الذي يقوم بإعداد التقرير.

وقد واجه جون برينان الاتهام بالكثير من الغطرسة وقليل من الكياسة، حيث وصف الاتهامات بـ«السخيفة» وبأن لا أساس لها، وراح يتهم الجهاز الفني للجنة مجلس الشيوخ بالحصول بشكل غير قانوني على تقرير سري، يدين الوكالة.

وقد تتابعت فصول المعركة خلال الأشهر الماضية، وكان من أهمها اضطرار برينان للاعتذار لفاينستين ولجنتها، بعد أن أثبت تحقيق داخلي أجرته الوكالة، أن التجسس على لجنة مجلس الشيوخ قد حدث بالفعل.

لكن الاعتذار لم يهدئ الأجواء، خصوصاً بعدما صار التقرير الذي أعدته اللجنة معداً للنشر، إذ دخل الطرفان معركة جديدة بشأن نشر التقرير، ثم تلتها معركة بشأن ما الذي ينبغي حذفه قبل النشر، كان البيت الأبيض أحد أطرافها، إذ صار هو المفاوض الرئيسي للجنة بشأن الواجب حذفه من التقرير.

وقد أدت كل تلك المعارك إلى تأخير نشر التقرير مرة بعد أخرى، إلى أن أصرت رئيسة اللجنة على نشره في ديسمبر الحالي، رغم محاولات البيت الأبيض لإثنائها عن عزمها. والسؤال الأهم الذي يطرحه التقرير، لا يتعلق بتفاصيله بقدر ما يتعلق بالخطوة التالية لنشره.

فرغم أن التقرير انطوى على تفاصيل مروعة بشأن التعذيب، إلا أن ممارسة الأجهزة الأميركية للتعذيب ليست في ذاتها خبراً جديداً، فمنذ أن انفجرت فضيحة أبوغريب عام 2004، يعلم القاصي والداني أن فظائع ارتكبت على يد الأميركان بعد الحادي عشر من سبتمبر.

ومن هنا، فإن السؤال مرة أخرى هو؛ هل الولايات المتحدة فعلاً في أجواء شبيهة بالسبعينيات؟ والإجابة في تقديري بالنفي، على الأقل في المستقبل المنظور.

ففي السبعينيات، وبعد أن كانت فضيحة ووترغيت قد كشفت عن تجاوزات عدة لأجهزة الأمن والاستخبارات الأميركية، منها قيامها بسلسلة اغتيالات لزعماء أجانب والتنصت على عدد كبير من المعارضين الأميركيين، تشكلت في الكونغرس لجنة برئاسة السيناتور فرانك تشيرش، وهي اللجنة التي بحثت في كل تلك التجاوزات، ونتج عنها في النهاية ليس فقط صدور تقرير، وإنما إصدار قرار تنفيذي بحظر الاغتيالات، ثم صدور قانون الاستخبارات الأجنبية المعروف اختصاراً باسم «فايزا».

ولعل أهم ما أسفرت عنه أعمال اللجنة، كان إنشاء لجان الرقابة على الاستخبارات في مجلسي الشيوخ والنواب، منوطة بها الرقابة على تلك الأجهزة.

لكن الموقف ربما سيتوقف عند حد نشر التقرير ولا شيء بعده. فبادئ ذي بدء، فإن لجنة الاستخبارات التي أصدرت التقرير، كانت قد حددت لنفسها منذ البداية مهمة قصرتها على فحص أداء وكالة المخابرات المركزية، دون أن يمتد ذلك ليشمل الأوامر التي تلقتها الوكالة من رموز إدارة بوش في ذلك الوقت.

ومن ثم فإن تقرير اللجنة ذاته، لا يتطرق من قريب ولا من بعيد لحدود المسؤولية خارج نطاق مسؤولي وكالة المخابرات نفسها. أكثر من ذلك، ظلت هناك منذ البداية مقاومة شديدة من جانب إدارة أوباما لفتح تحقيقات بناء على ما جاء في التقرير. حتى التحقيق الذي أجرته وزارة العدل بخصوص مقتل اثنين من المعتقلين، انتهى إلى رفض الوزارة توجيه اتهامات لأحد.

والبيت الأبيض كان قد رفض، وفق ما جاء في صحيفة «ماكلاتشي» في أغسطس الماضي، إطلاع لجنة الكونغرس على أكثر من 9400 وثيقة طلبتها الأخيرة لاستكمال تقريرها، ولا يعرف أحد كنه تلك الوثائق.

ولا يقل أهمية عن ذلك، أن تقرير اللجنة صدر باسم الديمقراطيين فيها فقط، حيث كان الجمهوريون قد انسحبوا مبكراً من إعداد التقرير، بحجة قيام وزارة العدل بإجراء تحقيق مماثل. وبتولي الجمهوريين زعامة مجلس الشيوخ في يناير المقبل، فالأرجح أن يتم تغيير الموضوع والدفع بالتقرير لغياهب النسيان.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1191 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع