أعـمـى بطـريق مـظـلـم / الحلقة الثانية عشر

                                        

                       د.عبدالرزاق محمد جعفر

          

                

سَــعُـدَ "صابر" وزوجته بنتيجة الحمل,.. لأنها قد تؤدي إلى إنهاء الحرب الباردة بين زوجته ووالديها، إلا أن الفرحة لم تدم ، فما أن علمت والدة "اليمامة" بالحمل, حتى استعرت الحرب من جديد،.. وفي أحد الأيام وبينما كان "صابر"عائداً إلى غرفته في الجامعة,.. وجد رسالة من زميل له, كان يستعمل تلك الغـرفة للمذاكرة أثناء غيابه ، يذكرفيها :

راجع مستشفى الولادة حالاً حيث ترقـد زوجتك,.. وان أمها تجبرها على الأجهاض!
جـُّنَ جنون "صابر" لذلك الخبر,وهرع مسرعاً إلى المستشفى، وما ان علم الحقيقة, حتى قابل مديرة المستشفى,.. ومنعها من اجراء الأجهاض دون موافقته وموافقة الزوجه,.. وحملها مسؤولية عملها، ودارت مناقشة بين "صابر",.. وبين المديرة أسـفـرت عن عدم إسقاط الجنين، بعد اطلاعها على ( دمغة ) عقد القران من المحكمة الشرعية في موسكو, .. اضافة لخوفها من تهديد "صابر" وتصميمه بأخبارالجهات الرسمية,.. حيث يمنع القانون السوفيتي اجهاض المرأة المتزوجة الا بعد الأذن كتابياً من الزوج, ويسمح بأجهاض العزباء, عندما يكون عمرالجنين لا يزيد عن ثلاثة اشهر!
الا ان الذي حدث مع زوجة "صابر",.. كان بخديعة من (أمها) لمديرة المستشفى .حيث ادعت الأم : ان ابنتها غير متزوجة  قانوناً,.. وقد غرر بها هذا (العربي), الأسود !,.. وهكذا تمكن "صابر" من إخراج زوجته من المستشفى وأنقذها من الأجهاض.
***
شـعر "صابر" بنشوة الأنتصارعلى والدة زوجته, ولم يحدس ما يُخبأه المسـتقبل له, واستعان بأمرأة عجوزلأعانة زوجته في اشهرالحمل الأخيرة,..وتفرغ هو لدراسـته مستثمراً وقته لأكمال ما تبقى من اطروحته بقسـم الكيمياء وفق الخطة التي وضعت لذلك الغرض!  
وفي 25 آب (اغسطس) شـعرت الزوجة بأعراض المخاض , وعلى الفورنقلها "صابر" الى مستشفى للولادة , وفي اليوم التالي, جاءه البشـيـرليعلمه بسلامة الزوجة ًوبمولود صبي ,.. فزال عنه التوتر وغمرته السعادة, وقابل مسؤول أدارة المستشفى شاكراً لهم حسن معاملتهم لزوجته,  ثم سُجلَ الجنين في جواز ســفـرالزوجة, وفق قوانين الدولة,... حيث  تنص على تسجيل الطفل في سجل الأم لحين بلوغه السادسة عشرة, ثم يُخير بين بقاء الأسم او تغييره !
***
مرَّت "بصابر" أيام عصيبة,وصار وقته مُشتتاً بين دراسـته والعناية بطفله وزوجته التي مازالت هي نفسها طفلة في سلوكها،... فقد كان يخرج صباح كل يوم ليسـتلم حصة طفله من الحليب وبقية المواد الغذائية من مركز خاص بالأطفال تكفيه لثلاثة وجبات مجاناً،.. ثم يعود ليجهزالفطورللزوجة التي مازالت متعبة منذ الولادة!
***
 جاهد "صابر"في توفيرالظروف الملائمة للطفل وللزوجة في غرفتة في الجامعة والتي لاتتسع الا لسكن فرد واحد, وأضافة الى ذلك وضعوا امامه مضايقات عديدة,أغربها,..  حينما داهمته (لجنة الأمن الجامعي),.. وهو نائم مع زوجته و طفله في غرفته ليلاً,..  بأدعاء مزيف من مجهول,.. أفترى بوجود صديقة تعيـش معه,.. وهذا مخالف لقانون السكن الجامعي !  

ُذعـرَ "صابر" من المفاجأة ومسـك اعصابه وعرض عليهم جواز سـفـره وشهادة الزواج, وتبين لهم زيف الأخبارية, وأعتذروا وكأن شـيأً لم يكن !
 لم يسامح "صابر" لجنة الأمن, لحـدسه انها مدبرة من قبل والد زوجته العسكري المتنفذ في الدولة, وطلب منهم احترام الضيف, وان بأمكانهم التحقق من صحة الأخبارية في النهارعندما تخرج الزوجة يومياً للتبضع والتسـكع برفقة طفلها في محيط الجامعة للتأكد من هويتها, .. وان اسلوبهم غيرمبرر, ولا يجوز لهم النزول الى هذا المستوى غيرالحضاري !
 ومن اجل وضع حـداً لمثل تلك الأستفزازات ,أضطر"صابر" بعد شـهرإلى وضع الطفل في دار للحضانة لقاء أجر زهيد، واستمرعلى هذه الحال لعـدة أشهـر، الا انه لاحظ ســوء معاملة الدار لطفله ،... فأضطر إلى استئجارغرفة عند عائلة روسية قرب الجامعة .
ظل "صابر", على حالته لعدة شـهور، لم يذق فيها طعم السعادة ، وسارت الأمور بين َمد وجَزر,.. وكانت تبرز بين الحين والآخرو مطبات لم يهتم بها,.. لأنه أعمى بطريق مظلم !
***
لم يرضخ "صابر" لسطوة والد زوجته, وتحدى كل معوقاته لبث بذرة الشك بينه وبين زوجته, ولذا وفرلها كل ما ماكانت تتمناه اي امرأة في روسـيا في ذلك العهد المتميز بالتقشف في الكماليات,.. وحتى المواد الغذائية الممتازة لا يمكن الحصول عليها  من المخازن الحكومة,  وتتوفر فقط في الأسواق الشعبية (الرينك), ألا أنها تباع بأضعاف سـعـرها المقنن !
أثرت تلك الظرف على صحة "صابر", الا انه لم يهمل دراسـته واستمر في ابحاثه بهمة مضاعفة, وفي احد المقابلات مع أسـتـا ذ ته, أعلمته بقرب موعد الدفاع عن اطروحته, ففرح ولكن الفرحة مادامت, حيث أن النتائج التي اراد ان يختم بها أبحاثه بينت أنها مغايرة لما كانت تنص عليها المصادر,..بشكل مريب ومؤثرعلى الباحثين من قبله, ولذا يجب التأني, وقد عزت  
الأسـتاذة, الأختلاف بين النتائج , لأحتمال تلوث الأدوات المستعملة بالمواد المشعة المستخدمة    في البحث, مثل الكوبلت (60) المشع بأشعة كاما !
***
لذا أصدرت رآسـة القسم أمراً بأغلاق المختبرلمدة شهر, وتنظيفه من اي غبارذري, واستبدال كافة الأدوات المستعملة والمواد الكيمياوية بأخرى جديدة, ونفذ ت الأوامر بمساعدة عمال متخصصين من قسـم الكيمياء الذرية في جامعة موسـكو!
وبـمرورالأيام ,.. ازداد "صابر" تحدياً لأثبات جدارته في بحثه الذي اصبح مثاراً للجدل والـشـك,.. واستمربتقديم نتائج بحثه في نهاية كل اسبوع لأستاذته, وشــعـر بـعـد عـدة تجارب برضى الأستاذة عـن نتائجه الجديدة ,.. وفي الحال طلبت منه اجراء تغيير في (خطة البحث)
(أي الـ proposal   ) الأصلية,... وبعد مرورعـدة أشـهـر, لـمـس "صابر" سـعادة اسـتاذ ته, حيث بدأت تسأله عن أحوال اهله في الوطن, وحياته الزوجية, فدبت عنده الشجاعة  واسـتغـل تلك الفرصة طالباً منها السماح له بالعمل في العطلة الصيفية لرغبته في انجاز البحث, والعودة لوطنه, .. فأبتـسـمـت الأسـتاذة وقالت له:
أنك على ما يبدو متعباً, ولا بـُدً من الراحة حتى نضمن صحة النتائج الباهرة لنجني ثمارها,
وعلى أية حال,..  تدفقت الدماء في عروق "صابر" وشـعت بـوجهه أشـراقة غابت عنه منذ تخلصه من "الياسمين", وهيامه بـ" اليمامة" !
واخيراً وبعد فترة وجيزة من الزمن, اوضحت الأستاذة سـبب شـكها في النتائج ومطالبة "صابر" باعادتها, ففرح لـسبب تغيير النتائج كان ناجماً عن تكوين مركب جديد للكوبلت !, ...
وهكذا هنأته الأستاذة لأكتشافه ذلك المركب الجديد للكوبلت بوجود (اليود والني أوكسيم), حيث سـيـزيد من قيمة أبحاثه والقـيمة العلمية لأطروحته !
    لمـس "صابر" تغيراً جوهرياً في أهتمام أستاذته به, بعد تأكدها من اكتشافه لذلك المركب الجديد،... وقد أعلنت الأستاذة عن ذلك أمام أجتماع في قـســم الكيمياء كان مخصصاً للأحتفال بنجاح غرزعَـلم الاِتحاد السوفيتي لأول مرة في التاريخ على سـطح الـقمر!...حيث قالت:
 ان مختبرنا فخور بأبحاث (المرشح صابر), حيث ثبت لنا اكتشافه ولأول مـرة مركباً جديداً للكوبلت له ميزات فريدة وغريبة !,.. فصفق الجميع , ووقف "صابر" يشكرالمهنئين,.. وكان من بينهم احد العراقيين , قام وهنأ "صابر", وقال له :ها يابه سـكتاوي!
***
هكذا مرَّت الأيام مـسرعة,.. وأصبح "صابر"على وشك الأنتهاء من الجزء العملي, فقد أعطيً الضوء الأخضرللبدء بكتابة القسم النظري لأطروحته، ووجد مساعدة من كافة زملاءه الروس الذين عمل بمعيتهم في نفـس المختبر طيلة السـنوات الخمسة الماضية,اضافة الى عون زوجته بتصحيح اللغة الروسية قبل طبع الأطروحة على الآلة الكاتبة, حيث لم يكن الكمبيوتر  معروفاً كما هو الآن,.. ويوجد منه واحداً في مكان سـري مخصصاً لأبحاث الفضاء التي تفوق فيها الأتحاد السوفيتي على امريكا في سـتينيات القرن الماضي.
 تم تحديد مناقشة أطروحة الدكتوراه في الخامس والعشرين من شهر حزيران 1966 وتمت المرافعة أمام لجنة أساتذة من مختلف الاختصاصات، وألقى "صابر" المحاضرة بجدارة حاز بموجبها على درجة جيد جداً، وصفق له الجميع لأجادته الشرح باللغة الروسية.
وبعد الانتهاء ,.. توجه معظم المدعـون الى مطعم الجامعة , حيث أعـدَ "صابر" وليمة عشاء بمساعدة صديقه (الراوي),والذي اشتهر كأمهرطباخ عراقي للأصدقاء في موسكو آنذاك  واشرف بنفسه على اعداد الأكلات العراقية للمدعوين من اساتذة القسم و من أصدقاء "صابر", وعَمَ الجميع الفرح,.. على انغام اغاني عربية وعراقية من التي يحبها الروس!   
التقطت خلال حقلة العشاء  تصاويراً عديدة بواسطة مصور خبير, حيث كان يعمل مصوراً في اهم جريدة آنذاك اسمها (برافدا)، وبعد أيام ادعى ذلك المصور(احتراق الفلم !), .. وهكذا أضاع ذلك الإنسان صورا لأجمل ذكريات "صابر" التي عاش بكنفها وهو أعمى البصيرة!,..
ولم يبق منها سوى الخيال، .. وخاصة عندما وقف الجميع على شـرف أستاذته,.. وهو يبادلها  العناق و يشكرها على النتائج التي تحققت له, وقد ذكرت الأستاذة أن ما كانت تفعله من وراء الكـواليـس كان للتأكد من صحة نتائج "صابر" قبل إعلانها عن أكتشاف المركب الجديد!
ومن الجدير بالذكر وبعد مرور سنين طويلة, اسـرله احد الصحفين من الذين عملوا في جريدة البرافدا, ان سلطة والد زوجته قد تمكنت من مصادرة تلك الصور,..  وكذلك تصاوير يوم زفاف ابنته ,.. حتى لا تكون عليه بينة اذا ما تعرض لأية مسائلة عن اي عمل في مجال تخصصه العسكري الذي يحتم عليه الأبتعاد عن اي علاقة مع اجنبي!  
استمر "صابر" بعد أيام بتقديم الوثائق اللازمة لإدارة الجامعة لكي يحصل على وثيقة التخرج أي ( شهادة الدكتوراه )، وقد استغرق ذلك وقتاً طويلاً، وبعدها بدأ باستخراج وثائق السفرلطفله ولزوجته أسـتغرق أكثرمن ثلاثة أشهر،... ولذا اضطربسببها لأرسال برقية إلى رئيس اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي , ورئيس الدولة آنـذاك (الرفيق برجنيف ), فقد شـعـر "صابر" أنّ والد زوجته هو السبب بالعرقلة , وبعد أيام أتصلوا به من قسم الأجانب ليعلموه بالموافقة على منح زوجته وطفله تأشيرة خروج والسـفـرمعه الى وطنه العراق !
***
يتبع في الحلقة / 13 مع محبتي لكل قراء الكاردينيا الغراء

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://www.algardenia.com/maqalat/13327-2014-10-30-19-55-10.html



  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

638 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع