أعـمـى بطـريق مـظـلـم / الحلقة الثامنة

                                           

                         د.عبدالرزاق محمد جعفر

      

         أعمى بطريق مظلم / الحلقة الثامنة

            

في الحلقة السابقة شرح لنا "صابر" المحنة التي تعرض لها في الحدود البولونية, بسبب أنتهاء صلاحية فيزته, واعادته الى برلين الشرقية !, وكيف ساعده الجندي السوفيتي في محطة القطار,والعناية به, لحين حضور مندوب عن السفارة الروسية ببرلين, ونقله الى فندق راق في المدينة ,..

وبعد اسبوعين, عاد ذلك الشاب الروسي حاملا جواز ســفـر "صابر", بعد أن أكمل كافة التأشيرات المطلوبة، وطلب منه مرافقته للتوجه الى محطة القطارالمتوجه نحو موسكو,.. وما أن وصلا حتى أتما كل الإجراءات الرسمية ,.. ثم ودع "صابر" مُضيفه ودخل مقطورته,.. وراح يلوح بيده لذلك الإنسان الذي أعتنى به لمجرد أنه طالب علم يدرس في وطنه !,.. وبعد لحظات,.. بدأ القطار بالتحرك,..وتناغمت دقات قلب "صابر" مع أزدياد سرعتة !  

    

وصل "صابر" الى موسـكو بعد ثلاثة أيام , ووجد لفيفاً من الزملاء باستقابله, حيث علموا بكل ما حصل له عن طريق قسـم الأجانب في جامعة موسـكو!, وفي اليوم التالي صباحاً عرج  على قسم الأجانب في الجامعة وأبلغهم بما حدث له في الحدود البولونية ، وقدم  للمسؤل رسالة خطية الى سـفـارة الأتحاد السوفيتي في برلين, يـثمـن فيها موقف الجندي الروسي في محطة قطاربرلين والخدمة التي قدمها له مندوب السـفـارة الروسـيـة في المانيا الديمـقـراطية (سابقاً).

وبعد مرور اكثر من  شهر لم يشعر"صابر" بأي نقص براتبه، ولما راجع قسم الحسابات في الجامعة لمعرفة سبب عدم قطع ما بذمته لسفارة الأتحاد السوفيتي في برلين، قيل له :  
 أن كل ما صرف عليه, أعتبر "هدية من سفارة الأتحاد السوفيتي!",... فشـكـر "صابر" محدثه,.. وأرسل بطاقة شكر للسفارة السوفيتية في برلين الشرقية..

    

في شباط (فبراير) سنة 1963، اتيحت "لصابر" فرصة لزيارة الأهل في العراق في عطلة نصف السنة,..وغادر مطار موسكو الدولي على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية "ايروفلوت"،...وبعد طيران دام حوالي الثلاثة ساعات, حطت الطائرة ارض مطار بغداد،... وتهيأ الركاب للنزول من الطائرة, وما ان ترجل صابر حتى هبً الأهل والأصدقاء يرحبون به بحرارة على الطريقة الشعبية في جنوب العراق ,وبعد أيام سافر الى (الشطرة) , للسـلام على والديه واخوانه ومحبيه، ونصحه بعض الزملاء بعدم  المكوث هنا طويلاً, لأن الجوالسياسي في بغداد وبعض المحافظات بات ملبداً بالغيوم !  
وبعد ان غادرالأقارب الديوانية (غرفة الأستقبال), مساءاً, اختلى احد اقارب صابر به وأعلمه بما فعله جهاز الأمن مع المثقفين من غيرالموالين للنظام الجديد حيث اتهموا بشتى التهم ,... مثل " الشيوعية ً" او" الرجعية", او النصرية !

   
      
في مطلع عام 1963  بـدأت تلوح في الأفق سحب قاتمة ضَّد سياسة الزعيم عبدالكريم قاسم رئيس الوزراء آنذاك , ونشطت المعارضة بقيادة الأحزاب القومية, وحتى التقدمية والمرجعية الدينية في النجف الأشرف , كما أعلن طلبة جامعة بغداد الإضراب ,... وعَمَّتْ مظاهرات في بغداد ومدن اخرى مطالبة بتغييرمسار الثورة والإطاحة بعبد الكريم قاسم ونظامه ،... وانقسـم الشعب بين مؤيد ومعارض, واندلعت الاغتيالات السياسية في عدة مدن عراقية,.. وخاصة في مدينة الموصل، ادت الى تفاقم النزاعات السياسية بين الأحزاب والتنظيمات النقابية المؤيدة والمعادية لثورة الرابع عشر من  تموز.
أزدادت  تلك الحالة شراسة بين القوى المتصارعة عندما اسـتيقظت الأحزاب التقدمية بعد سبات طويل , وسـاهمت مع احزابً مختلفة لتأييد نظام عبدالكريم قاسم , وقادت المظاهرات المؤيدة للنظام,.. رافعة  شعار: " أتحاد فدرالي ,.. صداقة سـوفيتيه, وسـبع ملايين تريد حزب الشـيوعي بالحكم",( حيث كان تعداد النفوس آنذاك سبعة ملايين)!,.. كما بزغت بشكل علني تكتلات اخرى معارضة,.. رافعة شعار" وحده...وحده ,..ياسـلام",...

  

اي انها تطالب ان يتبنى  نائب رئيس الوزراء عبدالسلام عارف اعلان الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية,.. التي تكونت من الوحدة بين مصـر وسوريا . وعلى اية حال,.. باتت المؤشرات السياسية على الساحة الداخلية والخارجية , على وشـك الأعلان عن سقوط نظام قاسم في اي لحظة, وصار لزاماً على "صابر" العودة الى دراسته في موسـكو ,  ولذا بدأ بتهيأة كل شيئ لأتمام معاملة  السفر!
حجز "صابر" تذكرة سفرعلى الخطوط الجوية الأمريكية " بان أمريكان" القادمة من طهران والمتوجهة إلى ميونيخ عن طريق بغداد,حيث من المفروض وصولها الى مطار بغداد عند الساعة التاسعة صباحاً من يوم الثامن من شباط (فبراير), سنة 1963, ألا أن مديرشركة الطيران التي اشترى منها "صابر" تذكرة السفـر, قال له :
من المحتمل عدم وصول الطائرة الأمريكية " البان أمريكان " غـداً , أو يتأخر وصولها عن موعدها المقرر الى بغداد,... ولذا سـنـنـقـلكم على متن طائرة أخرى!
لم يًعرَّ "صابر" أهـمـية لكلام ذلك المدير, واعتبره أمراً اعتيادياً،.. وعلى اية حال فقد تأهب بصحبة اخاه للتوجه للمطار الدولي في بغداد / سابقاً (المثنى) / حالياً, وما ان وصلا الى قاعة المغادرة حتى اكملا كافة الأجراءات المتعلقة بالسفر, ووقف في "الطابور" لأجل وزن الحقائب وما هي الا لحظات حتى سـَمعَ كل من هو في المطار دوي متفجرات وطائرة صغيرة تحوم فوق وزارة الدفاع الواقعة في باب المعظم مقابل بناية المطار, وتبيّن فيما بعد ان ما يدور في الأفق شيئاً مختلفاً, فحتى الساعة التاسعة من ذلك اليوم لم يُعلن عن وصول الطائرة الأمريكية, وسمع  من راديوالمطارصوت اذاعة بغداد معلناً عن مقتل عبدالكريم قاسم , ومنع السفر!

       


                         مطار بغداد / القديم


وهكذا, دبَّت الفوضى داخل المطار وتوقفت معاملة استلام تذاكرالسفر, وصدرالأمر بأخلاء قاعة الأستقبال من المسافرين , وعاد "صابر" مع أخيه إلى داره في بغداد ، ولاحظا وهما في طريق العودة كيف كانت الطائرة تقصف وزارة الدفاع التي كانت المقرالرسمي للزعيم قاسم,  قائد ثورة 14 تموز 1958 ورئيس الوزراء ووزير الدفاع !
وما أن وصل "صابر" الى دار أخيه, حتى سـمع من اذاعة بغداد عدة بيانات تعلن اندلاع ثورة الرابع عشر من رمضان ( ثورة الثامن من شباط )لإسقاط نظام عبدالكريم قاسم ,  بقيادة عبد السلام عارف, والذي كان المساعد الأول لعبد الكريم قاسم ووزيراً للداخلية,...الى ان دبً الخلاف بينهما, وحكم عليه بالإعدام في محكمة الشعب برآسة العقيد المهداوي,.. ثم عفا عنه الزعيم عبدالكريم قاسم,..وغادر العراق إلى المملكة العربية السعودية للعمرة ، ودارت الأيام,  واستلم خصمه (عبد السلام) الراية !
***
وفي يوم التالي ( السبت), تبين أن عبد الكريم قاسم وجماعته ما زالوا في وزارة الدفاع، ولذا طلب من (الزعيم عبد الكريم) , التنازل عن الحكم وتمت الموافقة, ونقل وكافة المقربين في نظامه  إلى دار الإذاعة لكي يذيع بياناً يعلن فيه تنحيه عن السلطة ، إلا أن احد الضباط المعادين لقاسم وسياسته دخل البهو المكتض بمعظم رجال ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ورشقهم برشاشته وأرداهم قتلى ، وتلي بعد ذلك بياناً أعلن فيه نهاية (نظام قاسم)!
***                                  
بعد ثلاثة أسابيع من اعتكاف "صابر" في دار اخيه بما يشبه الأقامة الأجبارية , سمع بياناً حكومياً من الأذاعة الوطنية يجيزللعراقي الـسفرالى خارج العراق بشرط أن يثبت عدم ارتباطه  بأية علاقة مع االنظام القاسمي اومتهم بأية جناية, بشهادة من مديرية الأمن العامة في بغداد !
وفي الحال ,.. توجه "صابر" إلى مقرعمل عمه التاجر في الشورجة وطلب منه المساعـدة للحصول على موافقة مديرية الأمن على سـفره لأكمال دراسته ،.. فنادى العم على احد عماله, وطلب منه تسليم  جواز سـفـر"صابر" الى السيد (.......), ليستخرج  من الأمن شهادة بعدم الأنتماء لأي حزب,... والترخيص له بالسفرلخارج العراق!, وبعد أقل من ساعتين جاء الرجل  والبشرى تعلو وجهه ,.. وجواز السفر بيده وسلمه "لصابر",... وقد اكمل الموافقة على سفره!

                    

وفي ليلة السفر أقام أخوه دعوة على شرفه في مقهى (شريف وحداد), في بداية جـســر الأحرار من جهة الرصافة، وكان ملتقى الطبقة المثقفة ورجال الدولة، وكانت سـهـرة ممتعة... ولكن (الحلو ما يكملش), كما يقال بالمثل المصري!

    


                        منطقة حافظ القاضي  

 فأثناء الشرب والأكل، لاحظ "صابر" بالقرب منه شخصا يعرفه عندما كان مديراً لثانوية الشطرة ،..حيث كان متـهـماً بسلوك غير لائق فأضطر "صابر", لـرفع الموضوع الى مدير معارف مركز اللواء في الناصرية, فأرسل لجنة للتحقيق وفي اول جلسـة انهارالمتهم ,... ثم اعترف, ... فاصدرت اللجنه قراراً بنقله الى ثانوية أخرى,.. وأن  تخوف" صابر"منه يعود لعدم رغبته بالتصادم معه في ذلك الوقت الحرج, ويتعرقل سفره في صباح الغد الى موســـكو!  

                              
يتبع في الحلقة التاسعة ..
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابعة:

http://www.algardenia.com/maqalat/12860-2014-10-02-09-19-43.html

 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

767 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع