أعـمـى بطـريق مـظـلـم / الحلقة السابعة

                                       

                      د.عبدالرزاق محمد جعفر

             

     

                أعمى بطريق مظلم/ الحلقة السابعة

عاد "صابر"الى موسكو, بعد أنتهاء أجازته السنوية التي أمضاها في قطار الصداقة, فقبع  في سكنه موشحاً بالحزن على فرصة ضيعها, لفقدانه تلك الصبية التي تعرف عليها في مقهى مصيف "مخاجكاله",.. حيث كانت منطوية على نفسها وموشحة بالخمار الأسود ! فما العمل؟,..أنتهى الآن كل شيء, وبات موشحاً برداء الحزن المُفعم بالآلام,.. لفقدانه فرصة لا  ولن تتكرر,.. وحاول التظاهر بالمرح,..مكوناً علائق طيبة مع طلبة الجامعة ، ولكنه لم يوفق,.. وصار يتسلى بأغاني سيدة الطرب وموحدة العرب ,..أم كلثوم ويردد بصمت وبصوت حزين:

ربـمـا تـجـمـعـنـا اقـدارنـا          ذات يـوم بـعـد ما عـزً اللـقـاء
فـأذا انـكـر,.. خـلٌ خـلـهُ           وتـلاقــيـنـا لـقـاءَ ,.. الـغربـاء
ومضـى كـل الـى غايـتـه          لا تـقـل شـأنـا فـأن الحـظ شـاء

                  

تذكر"صابر", أن الزمن كفيل بطمس آلام السنين،.. فالمشكلة كالجبل, كلما أبتعدت عنه صَغر و تلاشى!, ثم أنشـدَ : يافؤادي لا تسل أين الهوى = كان صرحاً من خيالي فهوى!

                               

كون "صابر" زمالات جديدة ، وصار سكنه ملتقى للعراقيين عندما يأتي المساء,في معظم أيام الأسبوع، عدا عطلة نهاية الأسبوع يقضيها في مشاهدة فلم سينمائي ,او تمثيلية في بمسـرح  "البلشوي تياتر , أي المسرح الكبير", والذي يعتبر من أشهرالمسارح العالمية, شيد في العصر القيصري,وأضيفت له تحسينات رائعة في العهود التالية, ولغاية يومنا هذا مازال في الصدارة!

   

كون "صابر" علاقات سـطحية مع بعض الطالبات الروسيات, وفي يوم ما قالت له أحداهن: ان العرب يعتبرون اي فتاة ترتبط بصداقة "حميمة" معهم ,..على أنها عاهرة !,..فأستغرب من هذا الأفك وقال لها : لكل بلد عاداته التي يتمسك بها، فأنت في مجتمع مفتوح لا يعير أهتماماً لعلاقتك بالذكور،... أما في مجتمعنا، فإن الأمر يختلف، لأن هناك قوانين شرعية تحكم سلوك الفرد في المجتمع ولا يمكن مخالفتها مطلقا لأنها منزلة من السماء ومدونة في القرآن الكريم، ولا يبيح ديننا أي خلوة بين الجنسين قبل إعلان الزواج الشرعي،فاساس الزواج هو الأشهار!

    

رغب "صابر" في صيف 1962 بزيارة الدول الأوربية ، وشارك مع بعض الزملاء ًالسفر إلى لندن عاصمة إنكلترا بحراً، فتوجهوا بالقطار إلى " لينين كراد " أي مدينة لينين، والتي كانت عاصمة العهد القيصري ,وتعتبرالمدينة الثانية بعد أن أصبحت موسكو عاصمة الأتحاد السوفيتي بعد ثورة أكتوبر 1917 , إلا أنها حافظت على طابعها المعماري للقرن التاسع عشر، كما أن موقعها الجغرافي وقربها من القطب الشمالي,كساها حلة ممتعة للغاية، حيث يبدأ (النهار), في الصيف بالزيادة و(الليل) بالتقلص، حتى يصبح طول الغروب عدة دقائق, وتسمى تلك الظاهرة بـ (بيلي نوج), أي (الليل الأبيض) أنه منظرخلاب لظاهرة تحدث مرة في السنة !   

   
رَكبَ "صابر" ورفاقه ولأول مرة باخرة روسية,كانت أشبه بـ " قصر" شــيدَ في القرن التاسع عشر وزُيّنَ بطريقة حديثة تبهرالناظرله, وما أن يضع الراكب قدمه على سـُلم الباخرة, حتى يجد صفاً من المضيفات الروسيات الجميلات يبتسمن له,.. وأذا ما طلب المسافر أعانة, فسوف تهرع أحداهن ملبية الطلب, ومترنحة بمشيتها وكأنها أحدى بطات بحيرة البجع! فيتفجر البركان الخامل بأحشاء السائل و يدندن مقطع من أغنية كاظم الساهر :

سلمتك بيد الله,.. يا محملني أذية
يا ريت ما شفتك وش جابك عليّه

                           

أمـضى "صابر" ورفاقه في تلك الباخرة أربعة ليالي ، ممتمة ،..ومن أروعها ما حدث في مساء الليلة الأخيرة,.. حيث  كان صابر ورفاقه على ظهرالباخرة, وما أن بان ميناء لندن من على بُعد حتى لاحظوا اعداداً كثيرة لمخازن "النفط",..المستورد من حقول النفط العراقية, وراحوا يرقصون بهستريا ويصرخون بالروسي (أَيتَّه ناشا نفتً!!)  أي أن ما تشاهدونه أمامكم يا ركاب هو مخازن لنفطنا المنهوب,والناس من حولهم في ذهول,لم يستوعبوا صراخ الشباب!

        

خيَّمتْ الكآبة على "صابر" ورفاقه عندما وصلوا لندن وتجولوا بأشهر شوارعـها الموسـوم بـ "أكسفورد" الذي يضَّمَ بين جانبيه أجمل مخازن الكماليات في العالم ،.. والتي تبهرالمتسـوق,  ومن المحال اذا ما دخلها الزبون أن يغادرها من دون شـراء شيئ ما,  وقد كسبت تلك البضائع شهرة عالمية لجودة صناعتها، إضافة لأخلاق الباعة الأنكليزالمهذبة والذي لا ينكره بـشرحتى لو كان من أشد أعداء الحكومة البريطانية !
مضـى أسبوعاً على وجود "صابر" ورفاقه في لندن , لذا قرروا العودة إلى موسكوعن طريق القطار مروراً بألمانيا ، وقد كانت سفرة ممتعة حتى وصول القطارإلى الحدود البولنيه.

   

نبه "صابر" جميع رفاقه لتدقيق تاريخ انتهاء " الفيزة " وفرح الجميع لعدم سقوط فيزتهم، إلا أن سـوء الحظ جعل القطار يتأخرعن موعد دخوله للأراضي البولونية ، بسبب عطل فني, ودخل متأخراً الى اول محطة حدودية بولونية عند الساعة الثانية صباحاً,... وهذا يعني عملياً تأخر دخول القطارً يوماً واحداً عن موعده المقرر !
 دخل جندي الحدود للتفتيش عن صلاحية جوازات سفرالركاب ، فلاحظ نهاية صلاحية فيزة "صابر" لمدة يوم واحد وطلب من "صابر" النزول معه لتصحيح الفيزة حيث اعتبرت فيزته بما يسمى (اكسباير) أي أنها "ساقطه" فضَجَّ رفاق صابر بالضحك,.. فهو الذي نبههم بضرورة التأكد من صحة  صلاحية فيزتهم,..إلا أن "حظه " المنحوس ,أستفاق من سباته !
انزعج الجندي من الضحك, متصوراً أنه هو المقصود, لعم نطقه اللهجة الروسية, وتكلمها كأي اجنبي يتكلم اللغة العربية,..ولذا اخذ جواز سـفـر"صابر", وامره بعصبية بالنزول بمعيته  إلى مقرالمفرزة العسكرية في محطة القطار, فأذعَّنَ "صابر" للأمر, وما أن َهبَط َومسـَّت قدمه أرض المحطة,.. حتى أعطى الجندي أوامره للقطاربالتحرك ، وراح رفاق صابر يصرخون، والتفت نحوهم وهو في ذهول تام , حيث لم يكن مرتدياً غير القميص والبنطلون والشـبشـب , وليس في جيبه اية عملة البته ,.. وتبادل معهم الصراخ،..  وبدأ القطار بالأبتعاد,وقاد الجندي "صابراً", إلى مقر الأدارة العسكرية, وطلب منه الجلوس على مسطبة قرب الباب الرئيس!,
فذعن "صابر" للأمر وجلـس ,..  ثم دخل ذلك الجندي مزهواً في مقر المفرزة العسكرية  وبيده جواز سفر"صابر",.. ولم يطل ثانية ,..و لا أي أحد من المسؤلين حتى الصباح!

                     

وفي الصباح بدأ الموظفون في محطة القطار البولونية بالوصول لعملهم, وشاهد صابر من ضمنهم ذلك الجندي اللعين,.. فتبعه وراح يكلمه بالروسي وهو (إمطنـَّشْ) أي لا يسمع ولا يتكلم,... ثم أشـرَ بيده إلى "صابر" لكي يتبعه ، ودخل معه إلى ضابط برتبة كبيرة, وسلمه جوازسفر  "صابر", وراح  الضابط يدقق به, ... ثم كتب عليه بعض الكلمات وسلمه للجندي, وأمره أن يفود " صابراً ",.. نحو قطارعلى وشك  مغادرته المحطه, و لا يسلمه الجواز حتى يصعد القطار, وهكذا تم كل شيئ وفق أوامر العسكري, وأســتلـم "صابر" جوازه من الجندي البولوني , وصعد إلى القطار, وبعد لحظات بدأ القطار بالتحرك, ففرح " صابر" لأنتهاء تلك المشكلة, وتألم لا بسبب جهله لقوانين (الفيزة)،..  بل للحظ الذي جعل القطار يتأخر تلك الليلة.
جلـس "صابر" على أحد المقاعد الفارغة في عربة القطار، لاعناً حظه المنحوس , ثم راح يجتر الذكريات,.. وأخذته سُـنة من النوم ولم يشـعـر إلا والقطار متوقف في المحطة !

        

ترجل صابر و وجد نفسه من جديد في محطة (برلين الشرقية), عاصمة  المانيا الديمقراطية سابقاً، فذهل لهذه المفاجأة ، فقد كان يظن غير ذلك،... ولم يخطر بباله أن سلطة الحدود البولونية سـتنتقم منه وتعيده الى برلين ثانية !
 أخذ "صابر" ينظر بوجوه الناس وهو مهموم، فمنذ الأمـس وهو بدون طعام ولم يذق طعم النوم طيلة الليلة المنصرمة، فكاد أن يسقط من التعب إلى أن وقعت عينه على جندي روسي، وركز "صابر" نظره على العلامة الموضوعة على قبعة الجندي" المطرقة والمنجل"، فتقدم نحوه وكلمه باللغة الروسية، فرحب الجندي "بصابر"واستمع بكل أدب لقصته، ثم قاده إلى مركزالأنضباط العسكري الروسي في الطابق الثاني في المحطة ، وبعد استراحة قليلة، طلب الجندي من "صابر" أن يرقد على سرير في غرفة مجاورة ، فرمى "صابر" نفسه وغط في نوم عميق، ولا يدري كم مضى من الوقت، حتى وجد الجندي واقفاً بجانبه وبصحبته شـاب وسيم بملابس مدنية زاهية، وبادر بالسلام على صابر واستمع إلى قصتة, ثم طلب منه التوجه معه فطاوع "صابر" الأمر ونهض بمعية ذلك الرجل الروسي بسيارته الدبلوماسية، وبعد فترة توقفت السيارة أمام مخزن راق للملابس الجاهزة، ثم  طلب الرجل من "صابر" أن يختار لنفسه أي شيء يرغبه من الملابس الداخلية وبدلة كاملة،... وهكذا ارتدى "صابر" ملابساً أنيقة,  ودفع الموظف الروسي ثمنها ،.. ثم اقتاد بعد ذلك ضيفه إلى فندق ممتاز وتكلم مع الأستعلامات باللغة الألمانية، وبعد أن استلم المفتاح ووقع على ورقة خاصة، التفت إلى "صابر" وحدثه بالروسية، حيث اخبره بضرورة الإقامة بهذا الفندق لحين تسوية التأشيرة (الفيزة), ثم سلمه ظرفاً بعض النقود, ... وأبى "صابر" استلامه، إلا أن الشاب الروسي أكد "لصابر" أن هذه النقود وجميع ما صرف عليه هو دين بذمته سوف يستقطع من راتبه عند عودته إلى موسكو!
شكرصابر مُضيفه ، وودعه على أمل اللقاء معه بعد أيام، وتوجه نحو غرفته،..فقد اقام صابربذلك الفندق عدة أيام الى ان اكتملت فيزته, وسأدون ما حدث في الحلقة /8 مع محبتي
للراغبين الأطلاع على الحلقة السادسة:

http://www.algardenia.com/maqalat/12801-2014-09-28-16-15-15.html

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

590 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع