بناء الإنسان قبل الأسوار

                                    

                       د.علي محمد فخرو*


يذكر المرحوم المفكر المغربي المهدي المنجرة هذه الطرفة المغموسة في عسل الحكمة: «عندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان، بنوا سور الصين العظيم لاعتقادهم بأن لا أحد سيستطيع تسلق علوه الشاهق. لكن خلال المئة سنة الأولى التي أعقبت بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات، بدون حاجة لتسلق أو اختراق السور، إذ كان الغزاة يكتفون بدفع الرشوة للحراس الذين كانوا يفتحون لهم الأبواب فيدخلون. حكمة الطرفة أن الصينيين انشغلوا ببناء السور العظيم ونسوا بناء الحارس.

يقابل ويماثل تلك التجربة الصينية القديمة ما تمارسه أنظمة الحكم العربية في أزمنتنا الحالية،إنها تصرف سنويا البلايين من الدولارات لشراء الأسلحة وتكديسها حتى تصدأ، ولاستيراد بضائع الترف والتسلية والعبث على حساب التنمية الاقتصادية الذاتية، بينما تبخل وتتراجع بشأن كل ما يبني الإنسان من تعليم وصحة وثقافة وحماية اجتماعية ودعم لبيئة الفكر والإبداع في مجتمعاتها.
قضية الأمن العربي لن تحل إلا من خلال بناء الإنسان الحارس العربي، وليس من خلال بناء أسوار الجيوش وتوقيع معاهدات الصداقة والحماية مع الأجنبي والتنسيق الأمني مع هذه الجهة الاستخبارية أو تلك. من أجل بناء ذلك الإنسان لا بد من وجود بناة مهيئين وقادرين بالفعل وفي الواقع للقيام بتلك المهمة. في الأسرة هناك الضرورة للأم المتمتعة بكامل متطلبات الكرامة الإنسانية والمساواة في كل الحقوق الإنسانية بالرجل الأب، والمهيئة تعليما وثقافة إلى أعلى المستويات الممكنة. في الحضانة والمدرسة والجامعة هناك الحاجة للمعلم الممتهن المثقف المحترم المقدر المكتفي معيشيا في صورة لائقة، والمتفرغ ذهنيا لعملية التنشئة والتعليم وبناء طاقات الإبداع البالغة التعقيد.
في المجتمع هناك الحاجة الوجودية للمثقف والعالم والإعلامي المفكر الملتزم بقضايا نهوض أمته، المبدع المتحرر من قيود ومحددات سلطات القمع والتسلط والمراقبة المريضة، وغير المحارب في عمله وعائلته ومعيشته من أجل تدجينه وإخضاعه وإغوائه، ومن ثم عرضه في أسواق النخاسة للبيع والشراء.
من دون تهيئة هؤلاء وقيامهم بمهماتهم وتجنيبهم كل أنواع الضغط والتجويع والتسلط، باسم أي ذريعة مهما كانت، فان عملية بناء الإنسان العربي لن تكون ممكنة وسنعيش مع الحارس المقصر المرتشي الخائن لأحلام أمته، ولن تفيدنا الأسوار التي نعتقد أنها ستحمينا.
نحن نريد تلك الأم وذلك المعلم وأمثال أولئك المثقفين ليس فقط من أجل حماية الإنسان العربي من آثار ثقافة التخلف والانغلاق والاجترار التي رانت عبر القرون على مجتمعات وطن العرب كله، ولكن أيضا من أجل حمايته من الآثار السلبية الكثيرة في الثقافة العولمية المعاصرة، التي تعمل ليل نهار لنشرها وترسيخها في العالم كله، قوى وأدوات ومرتزقة الرأسمالية الليبرالية الجديدة التي اجتاحت وهيمنت على العالم عبر العقود الأربعة الماضية.
فمن جهة ركزت ثقافة الاقتصاد الجديد، من أجل تبرير احتقارها لمبدأي المساواة والتعاضد الاجتماعي، على استقلال الفرد المطلق، ملك نفسه، المحارب من أجل نفسه، الغارق في الاستهلاك النهم المتعاظم لكل منتج مادي ولكل صرعة غريزية في عوالم المتعة، المنبهر بانقلاب مجتمعه إلى عبارة عن سلسلة من الأسواق الحرة المتنافسة الخاضعة فقط لمنطق وتوجهات اقتصاد السوق وآلته المحركة لتوسعاته وتقلباته ومغامراته، آلة التطوير التكنولوجي الذي لا يهدأ. إنه الإنسان الاقتصادي الجديد الذي يتنعم ويأكل ويشرب من خيرات الاقتصاد، بعيدا عن السياسة والثقافة والمعتقدات والأفكار.
من جهة اخرى ركزت ثقافة الإعلام وشتى صنوف أنواع التواصل على ما سماه المؤلف الإسباني فيسنت فردو في كتابه «نمط العالم» بالثقافة من أجل الأطفال، تلك الثقافة التي تتصف بالبساطة والبراءة والسطحية والتركيز على الحسيات والرغبات غير المسؤولة وغير الناضجة، التي تتوجه إلى الطفل القابع في داخل الكثيرين من الشباب واليافعين. إنها ثقافة أنتجت الهوس بالألعاب الرياضية وأبطالها، وإدمان كتب الخيال والأساطير، والإقبال على برامج التلفزيون البالغة السطحية والسخف، والابتعاد عن كل ما هو سياسي والتزام اجتماعي مسؤول. بهذا أصبح عالمنا عالم الخيال، والعمل تسلية، وأصبحت الحياة عبارة عن لعبة لا ارتباط لها مع الواقع.
لذلك يطالب المئات من الكتاب والمفكرين في الغرب بضرورة مواجهة تلك الثقافة قبل فوات الأوان، وقبل أن يصبح الشاب الغربي كائنا يدور حول نفسه ولا غير نفسه. مسؤوليتنا في بلاد العرب إذن مضاعفة، إذ عليها أن تواجه إشكالات ثقافتنا وإشكالات ثقافة العولمة التي في جوهرها ثقافة الغرب الرأسمالي النيوليبرالي.
هذه المهمة المزدوجة لبناء الإنسان العربي لايمكن أن توجد عند أمة مجزأة، خاضعة لأشكال من النفوذ الأجنبي، غارقة في ماضيها على حساب حاضرها، غارقة في مشاكل اقتصادية وسياسية لا حصر لها ولا عد.
من أجل بناء حارس أمين غير مرتش لا بد من حدوث تغييرات كبرى في حياة هذه الأمة، وإلا فالغزو سيستمر.

* طبيب وكاتب بحريني

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

886 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع