الدكتور خالد الجادر....الطائر المهاجر

     

             الدكتور خالد الجادر....الطائر المهاجر

 

     

        

      

ولد الفنان خالد الجادر في بغداد عام 1924 ، وفي عام 1938 ـ 1939 أنهى المرحلة المتوسطة في المدرسة الشرقية ، وفي تلك المرحلة وتحديداً في عام 1937 أصدر الأديب اللغوي أحمد حسين المهداوي في المدرسة الشرقية مجلة خطية كان اسمها مجلة (النبع )وكان رسامها المرحوم خالد الجادر ، وكانت بداية رسومه بالحبر الصيني والقصبة.. وخلال نفس المرحلة انخرط الجادر ضمن أعضاء جمعية الضاد القومية في المدرسة الشرقية المتوسطة
وفي 30 آذار 1939 شارك الجادر في مظاهرات الفتوة والجوالة من أجل سوريا وفلسطين
وفي عام 1940 ـ 1941 تخرج في الإعدادية المركزية ببغداد ، والتحق بعد ذلك في معهد الفنون الجميلة ، وكذلك بكلية الحقوق تحقيقاً لرغبة والدته ، وخلال فترة دراسته للفنون تأثر بأستاذه فائق حسن.. وبعد أن أكمل دراسته في المعهد عام 1946 واصل دراسته وتخرج في كلية الحقوق ببغداد عام 1947
 وكان طيلة تلك الفترة يلجأ إلى الحيلة كي يكمل طريق الرسم.. فكان في الصباح يخرج حاملاً بيده حقيبة كالتي يحملها المحامون ليخدع بها والدته لتظن انه ذاهب لإحدى المحاكم ، في حين كان يذهب إلى الثانوية الأعظمية التي عين فيها عام 1947 لتدريس مادة الرسم

بعد تخرّجه في كلّية الحقوق ، ومعهد الفنون الجميلة ، تقرر في العام 1948 إيفاده لدراسة الفن في باريس ، حيث دخل المدرسة العليا للفنون الجميلة (البوزار ) ، وأثناء دراسته تأثر ببعض أساتذته وببعض فناني المدرسة الانطباعية الحديثة..وكان هذا التأثر مختلطاً بإعجابه وإكباره لما أنتجه الرسامون العظام.. وأثناء دراسته بالبوزار فاز الجادر بالعديد من الجوائز مثل: (جائزة مسابقة العضوية عام 1951 ، وفوزه بمسابقة لوفران بدرجة امتياز عام 1952 ، والجائزة الأولى في مسابقة لوفران عام 1953 ، وكذلك فوزه بالامتياز الأول في مرسم البوزار عام 1953 ، وحصوله على الجائزة الأولى في قسم الرسم من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة عام 1953  ، كما أنتخب عضواً في صالون باريس
   

وفي العام 1954 تخرج في البوزار وحصل على درجة الدكتوراه وكان موضوعها ( المخطوطات العراقية المصورة من فترة القرون الوسطى والمحفوظة في المكتبة الوطنية بباريس)  ، وملخص محتويات الرسالة يتضمن في التقدمة (  عرضا تاريخيا للعصر العباسي 750 ـ 1258 م)  ، ثم الخطوط العريضة الخاصة بالواقع الاقتصادي والازدهار المتميز للواقع الثقافي ومنها دوافع الاهتمام بتصوير المخطوطات
     

وفي القسم الثاني من التقدمة بحث في مشكلة تحريم الأشكال المصورة في التشريع الإسلامي ومشكلة تحرج رسم الأشخاص كانت ذات تأثير كبير على تطور فن رسم الأشكال والأشخاص وأدى إلى أن ينمو باتجاه الفن الزخرفي واستمر أثر ذلك حتى التاريخ المعاصر.
يقول الجادر في رسالته: .. لم يكن هنالك تحريماً للتصوير في التشريع الإسلامي
وأضيف هنا برهاناً جديداً إلى جانب البراهين العديدة التي جاء علماء ومتخصصين من الذين انكبوا على دراسة مشكلة تحرج التصوير في الإسلام. وبرهاني هذا يتوضح في اكتشاف محراب في بغداد من العصر العباسي وهو مشغول من الحجر وعلى جوانبه منحوتات بارزة تمثل محرابين يحمل كل منهم سيفاً
   

                مع الفنانة القديرة بتول الفكيكي

العودة إلى الوطن بعد عودته في العام 1954 إلى العراق ، تم تعيينه مدرساً في كلية الملكة عالية ، كما قام بتدريس الرسم وتاريخ الفن في جامعة بغداد ، وفي العام 1955 أقام خالد الجادر أول معرض شخصي له ضم 126 عملاً فنياً وعرض هذه المجموعة على قاعة معهد الفنون الجميلة ببغداد
          

وشملت هذه المجموعة على 46 تخطيطاً فضلاً عن 80 لوحة مرسومة بالزيت وقد تناول الجادر على مسطحات لوحاته تلك ، مشاهد من فرنسا وجبال سويسرا وسواحل البحار ومواقع تاريخية وموضوعات تظهر عالم الريف والطبيعة والعمال وكذلك مواضيع اجتماعية..
يشير هذا المعرض بأن د. خالد الجادر قد توصل إلى صياغة لغته الفنية الخاصة واكتسب مفرداته التعبيرية خلال دراسته في باريس وإصراره على إيجاد أسلوبه الخاص


                 

ثمّ عيّن في العام 1959 عميداً لمعهد الفنون الجميلة ، وأفاد خلال تلك المرحلة العديد من تلامذته عندما أشرف على مرسمي كلية الملكة عالية ودار المعلمين العالية بالإضافة إلى ذلك رعى معارض سنوية لطلبة تلك المؤسستين ، وبهذا الصدد قالت عنه زاهدة إبراهيم:( .. إن خالد الجادر الذي حمل بحق ووعي قداسة وطنه وآلام شعبه العراقي ، كان واعياً بما يتركه المبدع من تأثير في صياغة عقول الآخرين)
        

في العام 1961 أصبح الجادر أول عميد لأكاديمية الفنون الجميلة في بغداد ، وما بين عامي 1965 ـ 1966 عاش في برلين ، رسم خلالها موضوعات متنوعة من الطبيعة وسواحل البحر والبشر.. وخلال إقامته أنجز العديد من البحوث والمقالات.
ما بين 1966 و 1969 تعاقد بشكل شخصي مع جامعة الرياض لتدريس التاريخ.. وكان الجادر في هذه المرحلة مهتما بالتراث الشعبي القديم والطراز المعماري التي تحمله البيوت القديمة والقلاع التي تشمخ في الفضاء..

وبائعات التوابل والبدويات في بيوت الشعر - كانت هذه من موضوعات خالد الجادر في معرضه الذي أقيم في جامعة الرياض عام ,1969
عام 1970 قفل الفنان عائداً إلى وطنه ، وبعد عام أقام الجادر معرضه الشخصي الثالث ، وهو المعرض الأول الذي يقيمه بعد غياب طويل في الغربة ، وتضمن المعرض مشاهد كان قد رسمها خالد الجادر في باريس وبرلين والرياض على جانب مشاهد من جنوب العراق وشماله
بعد تلك المسيرة التي قطعها خالد الجادر ، طالباً وأستاذاً وعميداً ومؤسساً لأكاديمية الفنون ، تم انتخابه في عام 1971 نقيباً للفنانين العراقيين ، وقد حظيت جهود الجادر باهتمام وتقدير مختلف الأوساط الفنية ، كما كانت جهوده بارزة في المعرض العربي الأول للفنون التشكيلية وكذلك في المؤتمر التشكيلي العربي الأول في بغداد الذي انعقد عام 1973 والذي انبثق عنه اتحاد الفنانين التشكيلين العرب ، وكان الجادر أمين سر هذا الاتحاد الذي ضم اثنتي عشر دولة عربية وكان من ضمن فعالياته تنظيم أول بينالي عربي عام ,1973

في عام 1972 أعلن العراق تأميم ثروته النفطية التي اغتصبت طوال أكثر من نصف قرن
وهنا كان خالد الجادر في طليعة الفنانين الذين وقفوا إلى جانب قضية شعبهم ، فأبدع"لوحة التأميم"حيث ضمنها رموزاً استلهمها من حضارات وادي الرافدين السومرية والآشورية والعباسية وحضارة الحضر ، وتمثل اللوحة ، الفيلسوف السومري دودو واقفاً تحية لقرار التأميم. أما ظهور الأسد في العمل فهو رمزاً للقوة والتحدي ، فيما أشار الجادر لازدهار الحضارة العباسية وحضارة الحضر برمز الملوية والصولجان والنسر
وبهذا الصدد يقول خالد الجادر: الفن الخالد هو المستمد من شعور الشعب ، من شعور الملايين. فليس من السهولة أن يضمحل وينهار  انه يحتاج إلى زمن بعيد ، وحتى في هذه الحالة فهو يبقى كمرحلة مهمة في تاريخ الأمة
   

غربة أخرى في العام 1980 غادر الجادر بغداد إلى الرباط - المغرب للعمل في مجال التدريس ، حيث أوكل له مهمة تدريس مادة الحضارة العربية الإسلامية في المعهد العالي للصحافة في الرباط ، ومن الرباط انطلق الجادر باتجاه مدن المغرب ، فزار فاس ومكناس والدار البيضاء وتطوان وغيرها من المدن المغربية ، وقد شهدت تلك المدن جانبا من نشاطاته في التعريف بالفن العراقي وفن الواسطي وأثره على الكثير من المدارس الفنية العراقية والعربية.. واهتم الجادر أثناء وجوده بالمغرب بدراسة حياة الشعب المغربي على الطبيعة للإلمام بعاداته وتقاليده.. وكان كثيراً ما يتجول في الأسواق والمناطق الشعبية ليرسم الناس والأحياء وخاصة في المناطق القديمة من المدن المغربية..
          

وكان أكثر ما ياستهويه رسم حركة الناس في الأسواق والقيصريات والأبنية والأزقة الضيقة القديمة التي تشير إلى ماض عريق ما يزال يحمل ملامح الحضارة الأندلسية
     

وقد تمكن الجادر في نهاية عام 1983 من رسم ما يقارب 500  لوحة تمثل مختلف جوانب الحياة المغربية.. وتعتبر مجموعة أعماله الفنية التي أنجزها في المغرب وعرضها في الرباط ومراكش ، من أهم أعماله من حيث تميزها والتركيز فيها على القيمة التشكيلية من منطلق وظيفتها التعبيرية
على صالة المعهد الثقافي الفرنسي ببغداد عام 1972 وكان الدكتور الجادر من ضمن الحاضرين وكان حسين الهلالي ضيفه في تلك الليلة التي ضمت كل من الفنان الراحل قتيبة الشيخ نوري والشاعر الراحل بلند الحيدري ، وكان الحديث منصبا على الأزمة القلبية التي حدثت له وكان قلقا بعض الشيء ، قال له حسين الهلالي : لماذا هذا القلق يا دكتور الأزمة أصبح لا وجود لها بفضل الله سبحانه وتعالى فرد خالد
لا تهمني هذه الأزمة والإنسان معرض لذلك ولا بد من نهاية ومصائر البشر بيد الله ولكم أنا صاحب رسالة فنية وأحمل هم هذه الرسالة التي أوصلت البعض منها هنا وهناك في الغرب والشرق في برلين وباريس وفي بلدي العراق وفي البلاد العربية وفي السعودية بالذات وأخشى من هذا القلب أن يتوقف وأنا بعد لم أكمل هذه الرسالة
            
أخيرا توفي خالد الجادر في المستشفى العسكري في مدينة الرياض بعد إجراء عملية جراحية له في القلب في يوم الجمعة 2 ـ 12 ـ م1988 ، ونقل جثمانه إلى العراق يوم الثلاثاء 6 ـ 12 ـ 2008 ، ودفن في مقبرة العائلة بمرقد الإمام الغزالي في بغداد ، بعد أن قدم للحركة التشكيلية العراقية والعربية الكثير خلال حياته التي ستظل آثارها حية في النفس والذاكرة
وخالد فنان شرقي لا يمكن أن تتصف روحيته وتكوينه بصفات الفنان الغربي ، انه يرسم الأشياء من الباطن ويتحد معها بروحه .

يقول زكي نجيب محمود : ( يخيل اليك الفنان إذا ما صور حصانا أو طائرا أو فراشة أو نهرا قد تحول هو نفسه الى هذه الأشياء التي يرسمها فهو لا يرسمها من ظواهرها كما تبدو لعين الإنسان المنتفع بها بل يتحد معها بروحه ليرسمها من الباطن ، فينفذ الى صميم ما يتصدى لتصويره )  وهكذا نجد خالد الجادر يدخل في معركة مع اللوحة ولا يخرج خاسرا أو يقف محايدا مطلقا وإنما يندمج روحيا مع اللوحة بكل ما تحمله الروح من صفات ويخرج الموضوع المطروح يحمل ميزات خاصة بالفنان الجادر ويبلور أسلوبه ( التعبيرية الغنائية ) ذات المضامين الواقعية المستندة على فكره ومعتقداته التي يؤمن بها بوضوح الرؤيا للشكل المشخص . لذا نراه يركز على الأنسان كونه عنصرا أساسيا في اللوحة ويجعل له رمزا تعويضا في الطبيعة ورغم تفاؤله فهناك هالة من الحزن والأسى تعلو وجهه لذلك نراه لا يستقر في مكان ولا يهدأ ، يريد أن يبدد الحزن والأسى الداخلي ، لذلك نراه يلجأ الى اللوحة المتسارعة ضرباتها اللونية الميالة بألوانها الى الرمادي والبني والأزرق ولون الفخار وهذان اللونان يخففان من غلواء لون البني والرمادي والتي هي في الحقيقة امتصاص لحزن وأسى خالد ولفترة ما
ويتحدث الجادر عن تجربته وموقفه من عصره ومجتمعه فيقول : ( … أنني أحد شواهد العصر أراقب ما هو موجود حولي من طبيعة وشواهد كما أني كثير السفر وتستهويني المشاهد الريفية والآثار وقد نقلت الآثار المعروفة بشكل تعبيري وتأملي ..حيث أتأمل الخط واللون والأنشاء التصويري أي أدخل الفكر الى المشهد أيضا …وأن لوحاتي لا تنتمي الى المدرسة الأنطباعية وإنما هي نظرة تعبيرية …أنها مدرسة خاصة فلي اسلوبي )


ما قاله عنه فنانين كانوا عن قرب منه ومن تجربته

  
 
                الفنان شاكر حسن آل سعيد
ويقول الفنان شاكر حسن آل سعيد : ( من الناحية الأدائية خالد تجربة عمره الفني كأستاذ بارع في وضع السطوح اللونية وواقعيته في ذلك تستند على تجاربه الأولى منذ أربعينيات هذا القرن ( العشرين ) فهو الى جانب تمسكه بأميته التقنية كمهاره لـ(فنان أكاديمي) يحتفظ بمنشورة اللوني ، وهو يمثل هذا الاحتفاظ يظل مخلصا الى تربة حضارته حضارة الرافدين القديمة والإسلامية حيث الألوان نصف البراقة من فضل الشمس البراقة )

                                      
 
                             جبرا ابراهيم جبرا
يقول جبرا ابراهيم جبرا : ( وأذا راح الفنانون يبحثون عن أسلوب يصلهم من ناحية بأرضهم وترابهم ويصلهم في الوقت نفسه بالأساليب المتطورة في العالم ، أنصرف خالد الجادر الى بحثه بتكنيك انطباعي يستخدمه في تصوير واقع الناس وواقع الطبيعة لا سيما في الريف ، ضربات فرشاة كبيرة وألوان يغلب عليها الأزرق والرمادي يحاول بها النزول بالمرئيات الفسيحة الى خلاصتها الأخيرة المعبرة عن مشاهد فسيحة وهو يراها في حركة يرفض أن يقولها في تكوين معين غير الذي تنتهي اليه سيولة الحركة نفسها في رسومات تلقائية نادرا ما نراه في أعمال الآخرين الذين يورثون سيطرة الشكل المدروس وتبدو
هذه التلقائية على اجملها في تخطيطاته السوداء الجياشة بخطوطها العريضة )
   

              الفنانة القديرة وداد الأورفلي
اما الفنانة القديرة  وداد الأورفلي وهي  تحكي قصص الأزمنة والأماكن ومحطات الفن في كتابها ( سوالف ) حيث تقول:
وانا في الكلية سمعت ان هناك مرسما يفتح بعد الظهر في الكلية، يشرف عليه الدكتور خالد الجادر. طبعا فرحت كثيرا لهذا وذهبت الى الدكتور خالد فرحب بي. كنت وقتها أرسم على اسطوانات. جمعت ما عندي من اسطوانات وذهبت بها الى الاستاذ الجادر، وبفرح قدمتها له وانا أقول: أستاذ أنا ارسم. رفع رأسه ونظر الى الاسطوانات، كما نظر إلي نظرة تشاءمت منها. وفجأة رأيته يمسك الاسطوانات الواحدة تلو الاخرى، يكسرها ويرميها في سلة المهملات وأنا مندهشة واقول وهو يواصل التكسير: لماذا يا أستاذ؟ لماذا تكسرها ؟
وعدت الى البيت وانا أبكي وقررت أن لا أذهب للمرسم ابدا. لاحظ والدي عدم ذهابي الى الكلية فبادرني بالسؤال عن سبب ذلك. فقلت له: استاذ الرسم كسر كل لوحاتي. بادرني بالقول: عليك الذهاب الى الكلية غدا والتوجه الى الدكتور خالد والاعتذار منه. قلت محتجة وانا ابكي: لماذا أعتذر له وقد كسر كل أسطواناتي التي تعبت برسمها ؟؟. فقال بحكمته (التي شكلت انعطافا حادا في حياتي) : تذكري يا أبنتي (أمشي وراء اللي يبـﭼيك ولا تمشي ورا اللي يضحكك)، ثم اضاف: هذا الرجل يريد لك الخير وسترين صدق قولي لاحقا. بالرغم من ثقل الأمر على نفسي، الا اني التزمت برأي والدي واعتذرت للأستاذ الجادر الذي بادرني بالقول: أين أنت ؟ فكررت الاعتذار له فيما سألني أن كنت قد أشتريت عدة الرسم من أصباغ. فأجبت بنعم فدعاني الى المرسم أنذاك. قال لي بالحرف الواحد: إذا كنت تريدين التقدم، أتبعي خطواتي والتزمي بما أقوله لك وأتركي الرسم بدون توجيه مني.
كنت أراقبه بعناية وهو يرسم ويفسر لنا كل خطوة من الرسم. كان الصف يضم 20 طالبة. والمتميزات بفن الرسم كنا أنا ونعمة محمود حكمت وعذراء العزاوي (وكانت معيدة في الكلية ) وناثرة الكتاب. أهتم بنا ورعانا رعاية جيدة. لقد قلب هذا الاستاذ حياتي رأسا على عقب.
وأنا بمرسم الدكتور خالد الجادر في كلية الملكة عالية ببغداد أقامت جمعية الفنانين معرضاً في النادي الاولمبي عام 1956 وشارك فيه العديد من الفنانين. وكنت واحدة منهم، إذ شاركت بلوحتين. وقد أفتتحه جلالة الملك فيصل الثاني الذي منحوه لقب عضو شرف في جمعية الفنانين أذ كان جلالته يدرس الرسم على يد الرائد حافظ الدروبي. ثم أقيم معرض الفن التشكيلي في نادي المنصور عام 1957 وأيضا برعاية جلالة الملك فيصل الثاني وشارك فيه كبار الفنانين من أساتذة معهد الفنون الجميلة منهم فايق حسن وأكرم شكري واسماعيل الشيخلي وعطا صبري وزيد صالح وعيسى حنا والدكتور نوري مصطفى بهجت والدكتور خالد الجادر والدكتور خالد القصاب وغيرهم من الاساتذة الكبار. وطلب الدكتور خالد الجادر من تلاميذه، وانا واحدة منهم، ومعي عذارء العزاوي وناثرة الكتاب ونعمة محمود حكمت، ان نشارك بالمعرض، وبالفعل قدمت 5 لوحات، ولكن اللجنه اختارت لوحتين فقط من كل فنان ورفضت بقية الاعمال

  

                                            الفنان منير العبيدي

ويستذكر الفنان منير العبيدي بمقال في الذكرى الـ20 لرحيل خالد الجادر بعنوان ( من الممكن أن أكون رساما ) يقول:
  حين زرت المرسم الحر الذي كان تحت إشراف خالد الجادر وألقيت التحية عليه في خريف العام 1969 كانت تلك أول مرة ألتقيه فيها، رويت له اني اعرف أعماله وخصوصا العديد من التخطيطات التي تتصدر الصفحة الأولى من صحيفة 14 تموز فقلل من شأنها قائلا انها تخطيطات سريعة.
سيكون بوسعي لاحقا أن اطلع على نوع آخر من التخطيطات لخالد الجادر ولكنني مع ذلك لا أجد إلا أن أعبر عن إعجابي بتخطيطاته المبسطة التي يستخدم فيها خطا واحدا فقط، على أنني سأعرض بتفصيل لاحق وجهة نظري بتخطيطات خالد الجادر.
 قدمت نفسي رساما بعد أن كنت قد حصلت على العديد من المكافئات في الابتدائية والإعدادية فسألني أن اجلب له بعضا من أعمالي كي يراها. في يوم لاحق كنت أزوره ومعي بضعة لوحات كانت أحداها زيتية أعتز بها كثيرا تمثل حياة ساكنة بموضوع عراقيٍ أثير مرتبط بتقليد شاي العصر الذي كان يمثل طقسا عراقيا، لم يكن هذا الطقس يتعلق بمجرد شرب قدح من السائل الداكن والدافئ المحلى بالسكر ولكنه كان علاقة اجتماعية ودفء أسري يعكسان علاقات ذاك الزمان واسترخاء الأسرة العراقية حتى أن شاكر السماوي قد كتب في إحدى قصائده مادحا: " يا شاي العصر وأطعم.... يا خبز بيت ".
كان المشهد يمثل إبريقا وغلاية وقدح شاي. كنت قد عملت كثيرا على إظهار إلتماعات مادة الألمنيوم للغلاية وإظهار الخزف المزين بالورود لإبريق الشاي كما عملت على محاكاة لون الشاي في القدح الصغير حتى الملعقة الصغيرة المذهبة المغمورة في الشاي وطيات الشرشف. كان الموضوع حميميا وجذابا لكل عراقي لا يلقي بالا، كما سأفهم لاحقا، للتقنيات وتحديثاتها فقد كانت اللوحة مرسومة كليا بروح أكاديمية كنت فيها مفتونا بالمحاكاة.
عدا هذه اللوحة كنت قد جلبت معي مشهدا يمثل نهر ديالى من منظور علوي، وعملا آخر هو لوحة بألوان التيمبرا (أو البوستر) لمنطقة تسمى المنتريس في (بهرز)، ضوء الشمس فيها يسقط من الأعلى مذهبا حافات جدران البيوت الطينية وسطوحها، الدخان بلونه الحليبي المزرق يتصاعد من التنانير حيث تعمل النسوة في تحضير الخبز، والنخيل يؤطر البيوت في يوم ربيعي طري مشمس، هذا الموتيف سأرسمه عدة مرات لاحقة باساليب مختلفة.
أستبعد الجادر لوحة الطبيعة الساكنة التي تمثل تحضير الشاي العراقي دون أن يلقي لها بالا، وانتقل إلى المشهد الذي يمثل نهر ديالى ونصحني أن اقلل من الالوان الحارة والتفاصيل في الجزء البعيد في اللوحة الذي يقارب الافق من اجل تعزيز البعد الثالث واعطاء المشاهد شعورا بالعمق، أما اللوحة الأخرى فرأي أن شجرة جافة غير ضرورية للمشهد، نصحني أن اعمل بهذه التعديلات فورا ثم أضاف: انت من الممكن أن تكون رساما

  

                            الدكتور علي القاسمي
وعن آخر ايامه يرويها الدكتور علي القاسمي وعلاقة القارب بالمرحوم دكتور خالد الجادر:

لا أذكر متى رأيتُ ذلك القارَب أوَّل مرَّة هناك. فمنذ أن سكنتُ في هذه الدارة المطلَّة على هذا الشاطئ المنعزل، وهو في تلك البقعة من الخليج وحيدًا لفتَ نظري أوَّلَ مرَّة
ظننتُه أوَّلَ الأمر قارَبَ صيد، بَيدَ أنّ ذلك الشاطئ يخلو من الصيّادين، ولم أَرَ إنسانًا يقترب منه، كما أنّه لم يبرح مكانه، على ما أذكر. وقلتُ في نفسي لعلَّه قارَبٌ للنزهة أرساه أحدهم هناك ليتنزَّه به في أيام العطل. غير أنّني، على كثرة جلوسي في شرفة الدارة المطلّة على البحر، لم أشاهد شخصًا ركب ذلك القارَب أو اقترب منه.
وبمرور الوقت، اعتدتُ على رؤية القارَب،لقد لفتَ انتباهي إلى القارب، أوَّل مرَّةٍ، صديقي الرسّام خالد أو بالأَحرى سلوكُه الغريب. لقد اقترح خالد قبل سنتيْن أن يشاركني السكن في هذه الدارة،  نزولاً عند نصيحة طبيبه الذي شرح له أنَّ هواء البحر النقي سيقلّل  من أزمات الربو الذي كان يعانيه، وبأنَّ الفضاء الواسع سيتيح له التمشِّي واستنشاق الهواء ما يخفّف من مرض انسداد الشرايين في قلبه. وتلقيتُ اقتراحه بالقبول، إذ فكّرت أنَّ سكنه معي في الدارة سيخفِّف من حدَّة وحدتي، إضافة إلى ما يربط بيننا من أواصر المودَّة منذ سنواتٍ طويلة.
كان خالد قليل الكلام، يمضي معظم وقته في شرفة الدارة، وهو يطيل التأمُّل، أو النظر إلى البحر، أو يطالع في كتابٍ، أو يحرِّك فرشاته بضرباتٍ متأنيةٍ صغيرةٍ على قطعة قماش مثبّتة على حامل الرسم. وكانت تغلب على رسومه مناظرُ البحر  والشاطئ والأمواج والغيوم، ومعظم ألوانها داكنة وتخلو مناظره من الشمس. قال لي ذات يوم:
ـ سأرسم ذلك القارَب قبل أن يرحل.
 قلتُ له:
ـ إنّه دائمًا هناك، وأنا أتطلَّع إلى رؤية رسمك له.
وراحت الأيام والأسابيع والشهور تنفلت دون أن يرسم خالد ذلك القارَب.
كان خالد كثيرًا ما يجلس في الشرفة، ويطيل التأمُّل أكثر مما يرسم أو يقرأ ظننتُه أوَّل الأمر يتأمَّل البحر، أو يسرّح نظره في أمواجه، أو يتطلّع إلى غروب الشمس، أو يتابع حركة الغيوم في السماء ولكن بدا لي فيما بعد كما لو كان يحدِّق في القارَب، كأنَّ عينيْه شُدّتا إليه بأسلاك غير مرئيّة، أو كما لو كان يفكِّر في أمرٍ يقلقه ويملأ نفسه بالخوف. وقلتُ في نفسي لعلّه يتوجَّس الموت بسبب عمره المتقدّم وحالته الصحية الصعبة وسخرتُ من تخوّفاته في نفسي، لأنّني أعتقد تمامًا بالقضاء والقدر
لم يحدّثني خالد عن القارب كثيرًا، ما عدا إشارته إلى نيَّته في رسمه، لذا لم أسأله عن سبب تحديقه فيه، فقد أكون واهمًا. إضافة إلى أنّه كان قليل الكلام كثير التفكير، وكنتُ أخشى أن أقطع عليه سلسلة أفكاره.
وذات يوم انتهى خالد من رسم منظرٍ تبدو فيه صخور الخليج الذي يرسو فيه القارب ساعة اصطدام الأمواج بها، فتتطاير قطراتها وتتحوَّل إلى ستارة هرميّة من حبيبات بيضاء، ولكنّ القارَب لم يظهر في تلك اللوحة. وعندما فرغ من وضع اللمسات الأخيرة على تلك اللوحة، علّقها على الجدار وجرَّني برفق إلى الخلف قليلاً، وهو يتأمّل اللوحة ويقول لي:
ـ ما رأيك فيها؟
قلتُ بنبرةٍ حاولتُ أن تبدو مخلصة وطبيعيّة:
ـ رائعةٌ حقًّا، ولكن يعوزها القارَب.
فصمتَ ولم يعلّق بشيء فلم أتابع الحديث في الموضوع.
وذات يوم أتمّ خالد لوحةً تبدو فيها غيوم سوداء كثيفة متتابعة تتحرّك بسرعة نحو الخليج، كما لو كانت طائراتٍ حربيّةً مخيفةً تنقضُّ واحدةً تلو الأخرى على السيف الصخريّ القريب من الشاطئ، تمامًا على البقعة التي يرسو فيها ذلك القارب وصُمِّم المنظور بحيث يبدو كأن الناظر إلى اللوحة يقبع تحت ذلك الهجوم القادم من السماء ولكن القارَب نفسه لم يظهر في تلك اللوحة وضعَ خالد اللوحة على الطاولة متكئة على الجدار، وقال:
ـ هل تبدو حركة المنظور واضحة؟
ـ حركة الغيوم والأمواج واضحةٌ تمامًا، كما لو كان الناظر في عين العاصفة.  ولكنك نسيتَ القارَب.
تردَّد قليلاً قبل أن يقول:
ـ سأرسمه ذات يوم.
كان خالد يشعر، بين آونةٍ وأخرى، ببوادر أزمةٍ قلبيّةٍ: أَلَمٌ في الصدر سرعان ما ينتشر إلى الفك والكتف اليسرى، ارتفاعٌ في خفقان القلب، صعوبةٌ في التنفّس؛ فيسرع إلى تناول قرص من دوائه، والاستلقاء على ظهره في الأريكة الموجودة في الشرفة، وأُسرعُ أنا إلى الاتصال هاتفيًّا بطبيبه ليوافينا، ثمُّ آخذ بتدليك صدره بلطف.
مررتُ ذات يوم بالقرب منه، وهو مستلقٍ على الأريكة في الشرفة ، وكان يحدّق في  البحر ولم يحسّ بوجودي بالقرب منه، فسمعته يقول كمن يخاطب أحدًا أو يناجي نفسه:
ـ” سأرحل يوم ترحل، أو ترحل يوم أرحل! “.
ظننتُ، بادئ الأمر، أنّه يخاطبني، ولكنَّه حينما أردف قائلاً:
ـ “ ولا فائدة من رسمك. سيرحل الأصل وتبقى الصورة”،
فتبيَّن لي أنّه كان يخاطب القارب.
انسحبت بهدوء دون أن يشعر بوجودي، وقلتُ في نفسي: لا بدّ أنَّه يحسُّ باقتراب الموت، ما يجعله فريسةً سهلةً للوساوس، فيعلّق حياته على وجود القارب في الخليج.
وفكرتُ أنا الآخر في وسيلة تضمن بقاء القارَب في الخليج ليتبرعم الأمل في نفس صديقي خالد، فدوام النبض في القلب رهين بنبض الأمل في النفس. لم أعرف ما أفعل لأضمن بقاء القارَب راسيًا في الخليج. فالقارَب هناك ولا أعرف له صاحبًا، كما أنّي لا أجيد الرقم على الماء.
مرّت شهورٌ على هذا الوضع. وذات صباح تأخّر خالد في النهوض من فراشه، فقد أكملتُ إعداد الفطور ولم يلتحق بي كعادته فوضعتُ الصينية على الطاولة في الشرفة وذهبت إلى غرفته كان في فراشه ساكنًا لم أسمع  تنفسه اقتربت منه، وضعتُ يدي على معصمه كان باردًا بصورة مريعة لا بُدّ أنّه فارق الحياة على إثر أزمة قلبيّة داهمتْه في الليل، دون أن أتمكّن من نجدته أو حتّى مساندته في اللحظات الأخيرة كان يتحاشى مضايقة الآخرين، وقد غادر هذه الدنيا دون أن يزعج أحدًا.
ووجدتُني انتزع نفسي من براثن الحزن والدهشة، لأُسرع بصورةٍ تلقائيّةٍ إلى الشرفة وأُلقي نظرة على الخليج، فلم أرَ القارب هناك. لقد رحل القارب أذهلني اختفاء القارب، وأدخل شيئًا من التوجُّس في قلبي.
وفي المساء عندما عدتُ من مراسيم الدفن في المقبرة، كان قارَبٌ هناك في مكانه المعتاد

رحمك الله برحمته الواسعة يا دكتور خالد الجادر....من كانت
روحه كطائر مهاجر اختار القارب كجناح


المصادر -
- مقالة الاستاذ غـازي انـعـيـم 20 عاماً على رحيله : الفنان العراقي خـالد الجادر .. الحاضر في المشهد التشكيلي
- مقالة الاستاذ منير العبيدي في الذكرى الـ20 لرحيل خالد الجادر
- مقالة الاستاذ حسين الهلالي في الحوار المتمدن
- مقالة الدكتور علي القاسمي

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

761 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع