"سمفونية طرق ونقش النحاس في سوق الصفافير في طريقه للإندثار"

  

"سمفونية طرق ونقش النحاس في سوق الصفافير في طريقه للإندثار"

 

  

     

بغداد المنصور وبيت الحكمة وحاضرة أيام سومر وبابل ونيوى والعصر التليد، بغداد لا شيء عليها اغلى من اسمها المغنى في مقاماته بترديد لحن بغداد، بغداد التي الهمت الكتاب والباحثين للكتابة عنها، بغداد وهي شامخة،  تبوأت المكانة التاريخية والحضارية خلال مجدها العباسي، تغنى بها ابو طيفور العباسي وكتابه"بغداد"، وابو الخطيب البغدادي وكتابه"تأريخ بغداد"، والقوطي وكتابه"الحوادث الجامعة" وفيها ما يقول:(ان شهرة بغداد في صناعة النحاس كانت تملأ الآفاق)، وابو الحيان التوحيدي وكتابه"الرسالة البغداديه"، وهو البغدادي فيلسوف الادباء واديب الفلاسفة ذو النشأة والصبا والكهولة والشيخوخة ، المفعم بالروح البغدادية والعلق الوجداني الذي لاحدود له بمدينته بغداد، يحدثنا في ما استحضره عنها ولها من عبارات الوجد والانشاد التي قال فيها شعراً او نثراً، ووصف طيب مناخها وجمال طبيعتها ومافيها من العمران والمباني والقصور والمساجد والحارات والشوارع الذي يذكر منها ما يتجاوز الثلاثين سوقا بين جانبي الكرخ والرصافه، ويعكس ماوصلت اليه بغداد واهلها من الخلق والرقي، والسلوك الحضاري الباهر، وفي العصر الحديث «بغداد كما عرفتها» لأمين المميز، و«بغداد» لمصطفى جواد ومحمد مكية و«خارطة بغداد» لمصطفى جواد وأحمد سوسة، وكان آخرها «بغداد» لناجي جواد الساعاتي، منطلقاً من ذكرياته الشخصية والعائلية بحدود المحلة والمجالس،

    

غير ان كتاب «بغداد في العشرينات» لعباس البغدادي جاء مفصلاً لمحلاتها ومجالسها وطرقها ودور الترفيه والمكتبات والأسواق، الى جسورها ومجانينها وشقاواتها، كان كتاباً معلوماتياً كتب بلغة بسيطة بعيداً عن الاسلوب الأدبي والروائي، واحمد عبد الستار الجواري، والآلوسي، والروائي عبد الرحمن منيف، والدكتور ساسون سوميخ وكتابه "بغداد أمس"، وهنالك الكثير..

     

عندما بنى المدرسة المستنصرية الخليقة المستنصر بالله، كما شيد اسواق عدة، واول سوق كان سوق الوراقين ويطلق عليه الان سوق السراي وبعدها سوق الخفافين الذي يصنعون فيه الخفاف

 

وسوق البرازين والفزازين وسوق صفارين ثم سوق العطارين الذي يسمى الان بالشورجة واخرها سوق السمانة الدهانة وقد شبت هذه الاسواق على اساس الحرفة،

           

ولهذا تميزت بغداد باسواقها المتعددة، حيث تشكل الاسواق القديمة المغطاة أحد ابرز معالم بغداد القديمة لما تحتويه من تنوع في معالمها، اضافة الى معالمها الدينية والتاريخية البارزة الاخرى، تفوح منها رائحة التأريخ وتتنفس في رئتها روح الماضي الحضاري، وهي مرآة متعددة الواجهات للحياة الاجتماعية والاقتصادية، حيث تتجمع هذه التحف النادرة في بقعة صغيرة من الارض تستطيع ان  تجوبها في فترة واحدة قصيرة دون الشعور بالملل، فيها متعة لناظريها كانها لوحة متنوعة الاشكال، لكن اثرها سيدوم طويلا في النفس التواقة الى كل ما هو غريب ونادر ولا يكون الا في هذه الزوايا، تشم منها روائح الماضي، كأنك عدت مئات الأعوام إلى الوراء، ورحت تتجول داخل كتاب للتاريخ، أو مسلسل يحكي عن بغداد القديمة، فكثير من الصناعات لا تراها  في هذه الاسواق، وحتى وجوه البشر المختلفة لا تلتقي بها مجتمعة الا في هذه الاماكن، التي كانت تتسم بمساحات شيدت لأغراض الصنعة والحرفة والتجارة وخصصت كل واحدة منها لبيع سلعة معينة، وبعضها يبيع السلع التي يجلبها التجار من الهند وتركيا واوربا وغيرها، ومن ثمارها تجذب السياح وتخطف أبصارهم.

        

في قلب بغداد وعلى مقربة من الجامعة المستنصرية الفاصل بينه وبين نهر دجلة يقع سوق الصفافير نسبة للصفر"النحاس"، ويمتد السوق بطول خمسمائة متر وبعرض يبدأ باربعة امتار حتى منتصفها ثم يتوسع تدريجياً حتى يصل الى سبعة امتار وينتهي بباب ارتفاعه ثلاث امتار، وهو اصغر من باب المتفرع من شارع الرشيد الذي يبلغ عرضه مترين ونصف المتر وبارتفاع خمسة امتار، ويعد من أهم الأسواق القديمة وأشهرها في بغداد، بصناعة الاواني المنزلية واباريق الشاي والاكواب والكاسات والملاعق والصواني واطارات الصور والفوانيس والأيقونات النحاسية لحضارة بابل وسامراء والمدرسة المستنصرية، والسيوف والخناجر والدلال العربية والمباخر والنقش عليها، هذه المهنة متوارثه منذ القدم، فلقد برع السومريون منذ بداية  4000 ق في التعامل مع القصدير والنحاس وخليطهما البرونز، وهم الذين بدأوا يصنعون النحاس لصناعة الأدوات والسيوف والأوان،

 

وهذا السوق بني مع المدرسة المستنصرية كورشة تابعة لها لسد احتياجات مطابخ المدرسة من معدات ومستلزمات من أواني وقدور كبيرة وصغيرة وصحون وملاعق وكافة احتياجات المطابخ وكل الذين كانوا يعملون في ذلك الوقت قريبون من السوق من حيث السكن ومنهم عوائل تحمل نفس اللقب، في حينها كانت سرايا الخيالة تأتي بخيولها إلى هنا، وتقطع بها السوق ذهاباً وإيابا لتعتاد الخيول على على الضوضاء واصوات طرق المعادن العالية، فلا تنفر ولا تجفل أثناء المعارك، حيث الطلقات والأصوات الضاجة، وصليل السيوف، تأسرك أصوات المطارق التي تسقط على الصفائح النحاسية لترسم لوحاتٍ جميلةً بألوان الشمس، اصوات طرقات الحرفيين تشبه الموسيقى العسكرية ترافقها اصوات العصافير على سقوف السوق، دليلك إلى سوق الصفافير، قرقعةٌ وضجيجٌ لا ينقطعان، لكنها ناتجةٌ عن مهارة لافتةٍ، وبطرقات الحرفيين المهرة يتحول معدن النحاس الخام إلى تحف فنية مختلفة الأشكال والألوان، فيتلون النحاس بين أحمر وأصفر والنحاس المغطس، بعض من البغداديين كانوا يفضلون أبواب النحاس الملونة لمداخل بيوتاتهم معتقدين انها تطرد النحس،

 

ثم صارت سمة بيوت الأثرياء، وقد تصنع الأبواب من الخشب المحفور ثم تؤطر بالنحاس، كما تتم صيانة الأواني النحاسية القديمة وتلميعها لتستعيد بريقها، تخطف العين عندما تقع عليها، فلا تستطيع أن تقاوم جمالها وبريقها ولمعانها، ولا تملك إلا أن تتقدم نحوها معلنًا شراءك لها مهما كان سعرها لتضعها كقطعة ديكور في منزلك تحمل رائحة الماضي العتيق،

  

   زوجة الرئيس الفرنسي جاك شيراك في سوق الصفافير

وهو مقصد للسياح العرب والاجانب الذين كانوا يحرصون على زيارته واقتناء كنوزه النحاسية وهذا دليل جمال ودقة مقتنياته، ومنها انتقلت هذه الحرفة او فن الطرق على النحاس وتطويعه والنقش عليه من العراق الى مصر عن طريق احد الولاة الاتراك وبعدها نقلت الى دول اجنبية.

         

كثير من زوار سوق الصفافير يتناواون الطعام عند ابو حقي ومطعمه العتيد الذي يقدم "تبسي الباذنجان" و"الباميا المطبوخة بلحم الدوش الدهين" والتمن العنبر بالدهن الحر، اما الذين تهوبهم الناركيلة فيتوجهون الى مقهى الخفافين احد اقدم مقاهي بغداد، او العراق، على الاطلاق، وحسب الشيخ جلال الحنفي مؤرخ بغداد، فان مقهى الخفافين بني مع بناء المدرسة المستنصرية في عهد الخليفة العباسي المستنصر بالله عام1222.

  
ولسوق الصفافير أمثال تضرب لكثرة الضجيج والصخب، ومنها طرفة سياسية: "صرخة وضايعة بسوق الصفافير"هذا المثل الذي أطلقه أهل بغداد على من يأتي إلى هذا السوق ويمارس هوايته في التعبير عن شيء يضايقه ويغضبه أو على حدث ما سواء أكان سياسياً أم غيره، ضجة وصيحة وصراخ الشخص من وضعه والذي لم يأخذ من ذلك السوق إلا تلك الصرخة التي ذهبت سدى ولم يسمعها أحد.
ثمة حكاية تروى عن العلامة اللغوي الكبير ومكتشف علم العروض الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي كان يسكن البصرة، وفي زيارة منه لهذا السوق في بغداد، لفت انتباهه ان لكل ضربة مطرقة ايقاع معين، ومنها وضع الفراهيدي أروع نظريات الشعر العربي ونظم أبدع موازينه، ويذكر أن البحور التي وضعها الفراهيدي وصل ععدها الى 15 بحرا استفاد منها الشعراء في نظم قصائدهم، ثم جاء احد تلامذة الفراهيدي ليضع البحر 16 ليصبح هذا عددها المعروف عبر التاريخ، ومن المفارقات التي لا تنسى، أن الأوزان الشعرية تحضر في ذاكرة الشعراء كلما وجدوا أنفسهم في احد اسواق الصفافير.

             

في ما مضى من الزمن حيث تصنع اغلب الادوات والحاجات المنزلية من مواد النحاس او الفافون فلا يكاد اي منزل بغدادي يخلوا من قدر النحاس او الطشت واواني الطبخ والسماور وادوات الاستحمام، وكان تجهيز بيت العرسان من تلك الحاجيات النحاسية.
زارت العراق جماعة من "الرحالين" و"المستشرقين" الذين دونوا مؤلفات في صفته وفي شؤون سكانه واحواله الطبيعية والاجتماعية والتأريخية وقد زار بغداد منذ قديم العصور رحالون كثيرون فيهم الرحالة الشرقي والغربي وفيهم المسلم والمسيحي واليهودي وفيهم من كان ينتمي الى اديان اخرى، وتتفاوت الغايات والاغراض التي جاءوا من اجلها ولكنهم جميعا يلتقون عند بؤرة واحدة هي التعريف ببغداد وبأهل بغداد وبأحوال بغداد الاجتماعية والاقتصادية، كما صدر عام 2003عن بيت الحكمة العراقي في بغداد صدر كتاب (بغداد في كتابات الرحالة العرب والاجانب من القرن التاسع الى القرن الخامس عشر الميلادي) تأليف الدكتور عبد الجبار ناجي وحسين داخل البهادلي، لقد وصف الرحالة والمستشرقين الذين زاروا بغداد ودونوا كل شيء عنها في مؤلفاتهم وهم على سبيل المثال: البلاذري واليعقوبي وابن الفقيد الهمذاني وابن رسته وسهراب (ابن سرابيون) والاصطخري وابن حقول والمقدسي البشاري  والشريف الادريسي وبنامين التطلي وابن جبير وياقوت الحموي البغدادي والقزويني وابي الفداء وابن بطوطة والحميري وسيزار فيدريمي، وديلافاليه الذي تزوج البغدادية معاني جويريدة، وباسفيك دوبروفنس، وسيستياني، وفيستسيو، والاب دومنيك سيستيني، وفيلبي، وهناك الآخرين.
الكثير من قادة الدول العالم كانوا حين يأتون إلى بغداد يحرصون على التجول بين درابين هذا السوق لشراء بعض التحف لحضارة العراق واطر اللوحات المنقوشة والدلال الحمر والسيوف والمبخر والخناجر، منهم رئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي، والرئيس الفرنسي جاك شيراك، والرئيس الإسباني خافيير سولانا، والملك فهد بن عبد العزيز، والشيخ زايد بن نهيان،

  

والشاعر الحاصل على نوبل طاغور الذي دعاه الملك فيصل الأول لزيارة بغداد عام 1931، والعديد من رجالات الفن والرياضيين وغيرهم الكثير.
كثير من مقتنيات مبدعي سوق الصفافير وثيقة سفر حين طافت مصوغات السوق انحاء العالم،عن طريق اهدأءها من قبل مسؤؤولي الدولة في زياراتهم الرسمية، او عن طريق سفاراتها المنتشرة بالعالم او عن طريق التجار والمسافرين وحتى الطلبة في دراساتهم خارج البلد.
اخذت الكثير من العوائل العراقية واصحاب المطاعم والفنادق منذ ما يقارب الاربعين عاماً يتماشون وثقافة المعروض المطعم بالدعاية العالمية للمنتجات الجديدة من البلاستيك والألمنيوم  والتيفال والفولاذ المقاوم للصدأ (الستانلس ستيل) في مجال مستلزمات البيوت والمطاعم والفنادق ورخصها مقارنة بارتفاع اسعار النحاس واخذوا بأقتنائها، ومنذ ما يقارب العشر سنوات بدأت تغزو الاسواق البضاعة الصينية، اصبحت مكانة النحاس وتطويعه والطرق والنقش عليه مكلفة، لتصبح وتتحول إلى قطعة من التراث لا يشتريها إلا الأغنياء وهاوي التحف.
كثير من المعالم، والعديد من المهن التراثية، وهي لا تختلف كثيرا عن حال البلاد هذه الأيام، بدأت تتقلص وتصمت فيها اصوات ضربات الحرفيين لم يخطر في بال أي مواطن عراقي أن يأتي اليوم الذي يقترب فيه سوق "الصفافير" احدى أهم وما كانوا يبدعونه على النحاس تدريجيا مهددة بالأندثار، في ظل وضع امني مضطرب في بغداد والمناطق المحيطة بالسوق وغياب الاستقرار، وزيادة بدل ايجارات المحال ومنافسة البضائع الصينية والتركية، كل ذلك بشكل وما ادت اليه من اجبار لعدد كبير من اصحاب المحلات فيه على اغلاق متاجرهم وورشهم خوفا ونأيا بالنفس عن الاخطار التي كانت تتربص بالجميع، اضافة بتوقف السياح والزوار الاجانب والعرب عن زيارة العراق، وارتفاع اسعار النحاس مقارنة مع اسعار البضائع المستوردة والآتية من الصين والهند وتركيا، وزيادة بدل ايجارات المحال، والأهمال من قبل الحكومة، فخسرت السوق بذلك ابنائها من اصحاب الحرفة بما يمثلونه من رموز وسمات واعمدة اساسية يقوم عليها السوق وياخذ منها عنوانه وسر ديمومته، كل ذلك أدى إلى انحسار الحرفيين والمحلات، ومع الأسف اذاً قاربت مهنة الصفارين في طريقها الى الانقراض وبات مهددا بالاندثار، وحينها لا يبقى منها سوى الاسم واللقب، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

753 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع