رواية - حفل رئاسي - شهوة تعذيب

   

                         شهوة تعذيب

    

  

المتعة بالوجود معاً لن تدوم سوى أسبوع واحد، صدرت الأوامر المنقولة الى چاسب تواً، بالعودة الى الزنزانات السابقة، ثلاثة أفراد في واحدة، كما هو الحال من قبل، الملابس التي يرتدونها أو بقاياها تمزقت، لأنها لم تبدل طوال السنة الأولى التي انتهت منذ أيام، ولم يسمح بغسلها إلا مرة واحدة، جاءت قبل يوم من انتهاء نعمة التواجد معاً في قاعة واحدة، فاضطروا الى تركها في الحمام بعد اكتشاف تفسخها، عند مرور الماء عليها، بينهم طارق وسرمد وحليم وعزام، واكتفوا بما تبقى منها في شتاء حل قارصاً في برده، وحل معه في المكان، لامع الذي رقيَّ الى رتبة عقيد، حلول شؤم، شبهه سرمد عندما رآه، بطائر البوم، لأنه لا يحضر الا ومعه الجديد، في فن التعذيب، وجديده هذه المرة، سحب البطانية الوحيدة من كل سجين، وكذلك ما تبقى من الملابس التي تغطي قسم من الأجسام الهزيلة، صاح من مكانه القريب:

لا داعي لفراش تستخدمونه غطاء.
الأمر صريح، لقد أتلفت أجسامكم العفنة، هذه البطاطين، وأصابتها بالجرب.
لقد مزقتم ملابسكم عمداً، لم تحافظوا عليها، كم أنتم مبذرين، اجمعوها أسمال عفنة، لتُحرق في الحال، عودوا الى الطبيعة، مثلما جئتم من فروج أمهاتكم عراة.
أبقوا هكذا عراة.
تجولوا عراة.
قفوا في الطوابير وفي صفوف التعداد عراة.
ناموا على الأرض كذلك عراة.
أنتصب لامع، مزهواً بأوامره مثل ديك رومي يلاحق أنثاه. استمر في اصدارها، واثقاً من حسن التنفيذ، منبها الى ضرورة رش الأرضية بالماء، قبل الوقت المحدد للنوم، في الساعة التاسعة مساءً، على أن تغمر تماماً ليلتي الخميس والجمعة من كل أسبوع، ثم أعطى المجال الى چاسب ليكمل بالقول:
هيا ليجلب كل واحد منكم أسماله الى المحرقة هنا، سنبدأ احتفالا خاصاً من دونها. إحتفالنا اليوم يتأسس على، التحرك بوضع العمى.
وبمجرد لفظ كلمة العمى، تحرك الحارس وجلب قطع أقمشة، عصب بها عيونهم، ومن بعدها شكل دائرة ترويض، يدخلها الواحد بعد الآخر رتلاً مفرداً، تهوى الهراوات على الداخل، مرة على الرؤوس وأخرى على الأكتاف، وثالثة على المؤخرات.
يتعالى الصراخ والانين وطلبات الرحمة من الخالق، وتختلط زفرات اليأس مع شتائم الجلادين وتهديداتهم، فتكّون الغريزة الانسانية للبقاء، دائرة لا يرى الواحد فيها زميله.
في هذه الدائرة المغلقة، يدخل الجميع في بعضهم بعضاً، يحاول الواحد ادخال رأسه في الآخر، فتتكدس الرؤوس وسط دائرة من الأجساد المكورة.
تَعثّرَ رمزي في حركته، فجاء رأسه، قريباً من رأس حامد، كانت عضلات وجهه الحنطي، متشنجة صلبة مثل خام الحديد، حاجباه منفرجتان، كونتا فسحة أكثر مما هي في الأصل، وكانت شفتاه ترتجفان مثل صبي يختض داخله، عند سماعه قصة عذاب القبر أول مرة، صوته كان خشناً، بنبرات سمعها حامد وحده، عندما قال:
أنا خائف، أرتجف هلعاً، لا أكاد أسيطر على نفسي.
أتخيل أشياء سيعملونها بنا، في وضع التعري.
وماذا سيعملون، وهل بقيت نجاسة لم يعملوها، قال حامد.
أحس أنني طفل ألتمس من يحميني في هذه الساعة، أتمنى الموت قبل أن يفعلوا بنا، ما أتخيل سيفعلونه.
ظل متشنجاً، وكلامه يتدفق بصوت المرعوب، يكرر قوله، أنا خائف، فأجابه حامد، أنا مثلك خائف، أحس الارض من تحت قدميَّ مجبولة بالذعر، والهواء الذي أستنشقه في هذه اللحظة، مبلل برائحة المكر، وأتلمس مزيداً من الشر آتٍ في الطريق. ومع هذا، آليت على نفسي، أن لا أنهزم أمامه رعاع، مذعورون من رفاقهم، اطمئن "أبا أحمد"، علينا أن لا نخاف قدرنا المكتوب؟.
وفي المقابل، غط چاسب وياسين والحراس الآخرين، في نوبة ضحك سفيه، على منظر لا يثير في النفوس الا الأسى والاكتئاب.
ضحكٌ لم يخفف من وقع الضرب.
ها هم يضربون ويضحكون، ومن يحاول التخلص من هذا الضرب، يصطدم بصاحبه، يصيح ألماً، فيتلقى ضرباً أقسى بألم أشد، ومعه بصق في الوجه وشتم فاضح.
آخر مشهد لهذه النوبة من التعذيب بالتعري الأعمى لهذا اليوم، ظهر فيه الجلادون متعبين من الضحك والضرب، شبعوا شهوتهم من الضرب والضحك، وظهر استغلال المعاقبون بالضرب فسحة التعب والشبع، للخلاص المسموح فراراً باتجاه الحمامات لاهثين، مثل خراف الأضاحي في طريق الذبح.
أما الجلادون فما زالوا يضحكون، حتى اتمام تناول وجبة طعام اضافية، سعياً للحصول على طاقة تكفي لإتمام نوبة تعذيب أخرى، في حال التعري قبل الذهاب الى النوم في الزنازين، التي جعل الغمر كل واحدة منها أشبه بحوض ماء راكد، يقترب من حدود الانجماد، وجعل نزلائها باقين في وضع الحركة، طوال الليل تفاديا للانجماد، وجعل الجلادين يمارسون، هكذا أنواع من التعذيب العاري المصحوب، بالشتم والضحك، طقساً من طقوسهم اليومية.
لقد استمر الحال هكذا طويل.
نسيَّ الجميع موضوع اللبس وأصوله.
غادروا عالم القيم الإنسانية، وضرورات التستر ومتعة الدفء، في الأجواء الباردة، وكأن الواحد يعيش في أدغال أفريقيا، ينتمي الى أحد قبائلها البدائية، تلك التي عاشت حياة عارية قبل آلاف السنين، أو الى عالم يقترب من العصر الحجري.
إن السجانون والحراس، والآتون من الجهاز مشرفين على مشروع الترويض، هم حقاً وحوش، لا يمتوا الى البشرية بصلة من قريب أو بعيد، لأنهم وبعد أن أكملوا البرنامج الخاص بالتعري، وعادوا لتنفيذ برامج أخرى، كانوا يرجعون اليه بين الحين والآخر تبعاً الى المزاج.
كانت آخر رجعة لهم في الشتاء الفائت، عندما حضر چاسب في أحد لياليه التي اقتربت الحرارة فيها من الصفر، يرافقه أبو حديدة مخمورين، أيقظوا جميع النزلاء في هذا القاطع اللعين، كانت الساعة الثالثة صباحاً، طلبا خلع الملابس، والبقاء في وضع التعري داخل الممر عراة، لأمر هام كما كانوا يقولون.
الأمر الهام شهوة تعذيب، قفزت الى مخيلتهما بعد الانتشاء بقنينة ويسكي، جلبها لهم ياسين من أسواق بغداد المركزية.
كان الجو قارص البرودة.
أسنان الجميع تصطك ارتجافاً.
چاسب وزميله أبو حديدة، يضحكان بقهقهة منفرة.
يشيران الى سرمد وعزام، الذهاب باتجاه المطبخ وجلب الثلج الموجود هناك، ثم تكسيره قطعاً صغيرة ووضعها في حوض الماء البلاستيكي، وطلبا منهما أخذ الماء المثلج من الحوض في هذا الإناء، وسكبه على رؤوس المتآمرين القذرين، كما كان يقول بملء فم تفوح منه رائحة الويسكي بشكل واضح.
وهم يصدرون الأوامر الغريبة، دخلا في نوبة ضحك هستيري، لا يستطيعان التغلب عليها. في اثنائها أشار جاسب الى سرمد وعزام، في أن يسكبا الماء على رأسيهما أولاً، سجينان حقيران، لينتعشا، وينعشا هؤلاء الغبران.
كان كل كأس ماء بارد يسكب على الرأس، يعادل في ألمه عصاً من عصي چاسب الغليظة.
لقد استمرت دورة التعذيب بالماء البارد الى الفجر، وقبل نفاذ مفعول الكحول من عقلهما المخدر، أصدر چاسب أمراً الى حقي للاستلقاء على بطنه في الممر عارياً، وطلب من إسماعيل الذي يشاركه الزنزانة الرقم (9) أن ينام فوقه، كذلك عارياً في منظر منفر، وأصدر أمراً الى باقي العراة، بالوقوف حولهم في دائرة يصفقون، كأنهم يشجعون لاعبين في حلبة صراع رومانية، مطلوب إماتة أحدهم، في منظر غريب لم يمت فيه طرف، ولم ينتصر فيه طرف، بقيّ فيه الطرفان يذرفان الدمع، وفوقهم چاسب مستمر في طلبه اجراء بعض الحركات بنشاط أقوى، كأنه مُخرج سينمائي يدفع اثنين من الممثلين في مشهد جنس حي، ليتفاعلان معه بواقعية، وكان الجمع لم يتوقف عن التصفيق ولم تبخل عيونهم بذرف الدموع بغزارة.
ختم چاسب ومعه أبو حديدة المشهد بإيقاع ضرب متتال، من قضيب الحديد، على وقعه كادت الأجساد تتجمد، مذبوحة من برودة الماء، واعتصار ألم الحديد النازل، فبات وقع الضربة الآتية على الجلد المنكمش، مثل وخز ابرة جراح مبتدأ دون تخدير في عمود فقري يعاني الانزلاق.
لقد كشف هذا الفعل الشاذ هوسهم... هم جبلوا كبيرهم وصغيرهم على الهوس بأنواع السلوك الشاذ.
انهم يفعلون هذا بالحث أحياناً، وبالإيحاء أحياناً أخرى، يتلقون أوامر الرذيلة من الأعلى فالأعلى.
سلسلة عبيد وعبيد العبيد، متصلة بالصنم الأكبر هبل.
هبل هذا كبيرهم، مهندس جهاز الرعب الأوحد، لم يتوان في أية لحظة من تصفية أي من الذين يشك بهم أعداءً، بيديه الريفيتين.
لقد كشفت سننه في أوامر التعذيب شخصيته المختلة، وإن بذل جهداً:
لتغطيتها برداء الرحمة في سياقات حيات يومية مليئة بالقسوة.
وتغطية أفكاره الشاذة بحزمة مبادئ بانت كريهة.
هو وهم ومن سايرهم، لا يوجد بينهم انسان يمتلك الحدود الدنيا من الرحمة، تراهم يستعرضون قوة الحمقى، عند حصر ضحاياهم في زوايا الضعف، يمارسون أبشع أنواع التعذيب، يلجؤون الى العدائية المقيتة، كمن يُدفع اليها مضروب بألف مداس على مؤخرة رأسه الفارغ.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/38933-2019-02-05-22-47-38.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

998 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع