رواية - حفل رئاسي - برامج تعذيب مقننة

       


               برامج تعذيب مقننة

  

       

يقترب الشهر الأول من نهايته. بدأت لهجة الحراس وضباط الخفر بالتبدل، ظهر چاسب في الصورة وقد تحجرت في عينيه نظرة مخيفة. أطلق صافرة بنفس طويل، كمن يُحَكّمُ بين فريقين يلعبان كرة الركبي بانفعال شديد، لوحَ بعصاه الغليظة وقال، تجمعوا أولاد الزنا، هنا أمامي في الحال

نعتهم هكذا بعبارة أشرت، بداية عهد من السباب المقذع.
نحن لسنا أولاد زنا، قالها الدليمي حامد، بلغة اليائس من الحياة، فأقترب منه چاسب.
سأله: من أنت؟.
أجابه أنا حامد الدليمي.
اخرس، أنت الرقم "12" سجين قذر، هل نسيت أنك هنا مجرد رقم؟. ثم التفت صوب الآخرين، ذكرهم ثانية بأنهم مجرد أرقام، وحذرهم بالقول، أن من يجيب عند مناداته بغير الرقم، سيرى جهنم في هذه الدنيا قبل الآخرة.
كان هذا الرد ايذانا بلحظة، لم ير فيها حامد سوى السيقان التي انهالت عليه ركلاً، وقد سدت رؤيا الابصار بالأسود الغامق. شعر بعينيه قد وقعتا في عتمة، لا نهاية لها، وإن انفتحتا على وسعهما مقتاً، وأحس عقله متجه دون سيطرة منه، الى الاستجارة بمن ينقذه من وَبال هذا الهم القاتل، وعبث اللا معقول.
صار كرة تتقاذفها الأرجل بفضاضة، حتى سقط يتلوى، وكأنه ألقيَّ من على سطح بناء يرتفع ثلاثة طوابق.
حرك ذراعه اليمنى بصعوبة واضحة.
حاول فتح عينيه من دون جدوى، كأن شيئاً أخاط جفونها التي تهدلت الى أسفل. كانت العصا الأخيرة للضابط چاسب، قد دقت سيخاً حديدياً، أخترقه من فوق هامته، محدثاً نزفاً شديداً صاحبه ألم ضاغط، مثل ظل لا يفارقه، مد سمومه من أعلى رأسه، الى أسفل البطن، امتداداً شبيهاً بتمدد الحرباء في الجو الخانق. هكذا استمر الى قاع القدمين، بوقع بات مضاعفاً عند أطراف الأصابع، فأقعده في مكانه، لم يعد قادراً على القيام منه، ولا المشي بعيداً عنه، فتأرجح جسده في لجة الألم المتواصل، والعجز عن الحركة الذي أحدثه الضرب المتوالي. وعندما فشل في محاولة النهوض مثل مصاب بالشلل، نادى چاسب على الرقم "20"، أن يسحبه من هذا المكان، وأن يلقي به في باب المرحاض، ليكون عتبةً يعبر من فوقها، الذاهبون الى قضاء حاجياتهم يوماً كاملاً.
حاول حليم سحبه، لكنه فشل في إتمام المهمة، فللسيد حامد جسم خشن، ووزن يزيد عن الثمانين كيلوغراماً، وإن نقص أكثر من ثلاثين خلال شهر واحد، فطلب راجياً السماح لأحد أن يساعده، فنادى چاسب على الرقم "17" لتقديم المساعدة في سحل من اسماه ابن الزنا.
بدأت عملية السحل من اليدين لجسم هامد لا حركة فيه، وساقان يتأرجحان يميناً وشمالاً، دون سيطرة من صاحبهما، حتى المكان المحدد أمام باب المرحاض.
لاحقَ سرمد بدن حامد الممزق ركلاً بعينين مثل الجمر، عند سحله الى المكان المحدد، وكيف يرمى بهذه القسوة. تبادل النظرات السريعة مع زملائه، سكان هذه القاعة، الذين رُصوا وإياه واقفين في ركنها الأيمن، لا يجرؤ أحدهم على التنفس، بينهم طارق الذي فَهِمَ نية سرمد للتدخل بالكلام، فشده من وسطه، إشارة الى الاكتفاء بتبادل النظرات.
هكذا يبقى الرقم "12" اللعين، ابن الحرام الى يوم الغد في نفس المكان، ليتربى من جديد. هذا درسه الأول، بل درسكم جميعاً إن كنتم تفهمون، قالها چاسب موجهاً كلامه لعموم النزلاء سكنة هذا القاطع، الذين غطوا في سبات من السكون، مستفيدين من درس أول، لا يمكن محو آثاره المرعبة، من الذاكرة المهشمة.
عاد أو أعيد حامد الى زنزانته، بعد انتهاء عقوبته، عتبةً للصعود الى الحمامات. صعبت عليه الحركة، جسمه موجوع، وعندما يكون الجسم موجوعاً حتى التصلب، تصبح كل حركة من أعضائه صعبة، بل وشاقة.
حاول الجلوس متكئاً، بظهره الممهور بعشرات الكدمات على الحائط، ساقه اليسرى لا تتحرك، لا يحس بها، التصقت بالأرض، كأنها مثبتة اليها بأوتاد من حديد. سعى في محاولته ثانية، على تخليصها ببطيء، رفعها الى الأعلى، فشل بعد تكرار المحاولة عدة مرات، فاستسلم لأمرها، قضية مستحيلة.
ركز جل وعيه على هذه الساق المشلولة، لم يفكر إلا بها طوال الليل، وكأن كيانه أصبح موجوداً فيها، أو أنها أصبحت، هي الكيان الأكمل للجسم.
شعر كأنه ساق متسمرة على أرض الزنزانة، لابد أن تتحرك، حاولت أن تتحرك، لتساعده على نسيان وقع الألم، في باقي أنحاء الجسم، حرك رأسه ليدنو قليلاً من الساق، فتصاعد الألم وخزاً من كل مكان، أعاده الى وضعه السابق متكئأ على الحائط.
حاول هكذا ساعات عديدة، فلم يجنِ سوى الفشل.
غيّرَ من توجهه بالاستناد على الساق الأخرى للنهوض، فشعر بالوهن وبتصبب العرق، وبالاستسلام لقدر مكتوب، نظر الى من حوله شاكياً، أو متأملاً المساعدة، فوجد چاسب واقفاً أمام الزنزانة، ملوحاً بعصاه لمن يحاول تقديم المساعدة. عندها شعر، وكأن الزمن فقد وقعه، يراه ثقيلاً بشدة، ويرى شاغله الوحيد أن يحرك ساقه، لكي يذهب الى الحمام.
ضغط على نفسه مرة أخرى محاولاً تحريكها، فتأسف على حاله كمن أصبح مشلولاً، وقبل حلول السابعة موعد النهوض بقليل، أحس بعينيه وقد اغرورقتا بالدموع، وأحس بعض منها سال على خديه.
ينتهي الشهر، ونعيم التمتع بهدوء يخلو من الضرب المنظم والشتم المقصود، حسب قياسات أبي غريب، السجن المركزي للدولة. فاق بعده الحراس من غفوتهم إيذانا ببعثرة الهدوء، وكذلك الضباط الخفر الآتين من الجهاز، وقد حملوا معهم توجيهات الشروع بتنفيذ برنامج قصاص، ينهي مرحلة الهدوء. تلك المرحلةُ التي شبهها حليم، في تعليقه الساخر بعد فض التجمع المفاجئ، شهر عسل لعروس غير محظوظة أنتهى بالطلاق، وشبهها طارق هدنة حرب، نكثها الطرف القوي.
وقف چاسب بعصاه أمام الصف المرصوف، ووقفوا جميعهم مثل جنود مستجدين، مطلوب تعليمهم الضبط والطاعة العمياء بالقوة. ألقى محاضرة عن مآثر الانتماء الى الوطن، كَحَلها بقليل من السباب، أعاد توزيعهم على زنازين تم الانتهاء من تهيئتها في الأمس، كل ثلاثة أشخاص في واحدة، ووقف على جنب ضابط أمن الجهاز المقدم لامع في وضع المراقبة ومتابعة حسن التنفيذ.
كان لامع رجلاً مغلفاً، في داخله أكثر من شخصية، يتوارى في كل واحدة منها خلف جدار، من الالغاز والاسرار.
الزنزانة الرقم (5) في الطابق العلوي يسكنها مرتضى الوزير السابق، وطارق السفير السابق، وزهير قائد الفرقة السابق. قريباً منها الرقم (2) تجمع حليم وحامد وعزام، سفراء سابقين. هذه الزنازين بحلتها الجديدة أقرب الى حفر منها الى غرف نظامية، ضيقة، رطبة، طولها ثلاثة أمتار وعرضها مترين. الخروج منها الى الحمامات مرة واحدة في الصباح. وبعد الانتهاء من عملية التوزيع، أعطاهم الحارس دوارق ماء بلاستيكية مكرمة من السيد لامع، بعد توجيه منه الى ضابط الخفر چاسب في أن يكون لكل خائن دورق، له الحق أم يملأه ماءً في الصباح، ولا بأس من استخدامه استخدامات أخرى. تلغى الأرقام، تستبدل بأسماء. تقدم لامع لتلاوة بعض الاسماء بنفسه:
الرقم (16).... نعم سيدي.
أنت أبو صماخ.... من أنت؟. رد طارق بسرعة، أبو صماخ سيدي.
الرقم (20).... نعم سيدي.
أنت فصوع.... من أنت، رد حليم، فصوع.
تعال الى هنا، قال لامع واصفاً حليم بابن الكلب، واستمر في القول، يبدو أنك ما زالت تعتقد نفسك ضابطاً أو سفيراً، لم تتعلم بعد. تقدم إليه حليم، وقد دبَّ في قلبه رعب كبير. هجم عليه ضرباً بكفيه، وأعطى الاشارة الى چاسب، وثلاثة من الحراس، لضربه بأدواتهم الجاهزة بسادية مفرطة، أدرك وهو مازال تحت رحمة الهراوات التي انهالت عليه، كم كان مخطئاً في انتمائه لهذا الحزب، شتم الحزب في سره، شعر بوسع الخديعة التي عاشها من عمره حزبياً، وبصغر الذات التي في داخله، وخداعها قبل الآخرين لما يتعلق بالرسالة الخالدة، التي كان يكررها هدفاً في الاجتماعات الحزبية.
توقف الضرب بإشارة من لامع. تركوا حليم في موقعه جسماً يختض، دون سيطرة من تلك الذات المخدوعة، كمن وقع في نوبة صرع.
حاول استعادة توازنه، لم يعينه الفراغ الذي من حوله، ولا سيقانه المهشمة. لسانه من بقيّ سليماً بدليل استمراره بتكرار عبارة نعم سيدي. وبعد التوقف عن الضرب سَلمَّ چاسب ورقة مكتوبة فيها الكنى الجديدة إزاء كل واحد منهم. جميعها ذات دلالة:
"النذل" كان من حصة شكري، و"الأصگع" مرتضى الحديثي، و"المگطن" حامد الدليمي، و"چليب" عزام ومن ثم "الغبي، الأثول، الرفش، الحبيني"، وهكذا امتدت القائمة لتشمل ثلاث وثلاثين سجيناً هم القابعين في هذا القاطع من السجن. بعدها اتجه النزلاء الى زنازينهم، معلنين بهذه الواقعة انتهاء اليوم الأول من البرنامج الجديد.
جاء اليوم الثاني بحلته بائساً، دخل الحارس بخيزرانة الى الزنزانة الرقم (5)، ضرب مرتضى بكل ما جمعه من حقد، طوال حياته المليئة بالإحباط، وخرج من دون أن ينطق بكلمة، وهكذا فعل في اليوم الثالث والرابع، لنزلاء في زنازين أخرى، ليصبح الضرب بهذه الطريقة موزعاً عليهم بالعدل المطلق، مصحوب بشتائم رخيصة، حتى أعتاد الجميع توقع الحصول على ضربة من أحد الحراس، قبل التوجه الى الحمامات صباحاً، أو فيما بعدها بعض الأحيان.
عشوائية الضرب العادل مصحوب بالشتم، تتحول بعد الأسبوع الثالث، الى سياقات تقترب من الثابتة، يجلد الجميع يومياً بالخيزران المنقوع بالماء المالح، بعد التعداد الصباحي مباشرة. يُخْتارَ أحدهم لنوبة تعذيب قاسٍ بعد الظهر، حتى يتقيأ الصمونة التي أكلها وحيدة، بعد أن شمل التغير كذلك نوع الأكل، الذي أصبح وجبة واحدة عبارة عن صمونة، تقدم في الصباح، ومكرمة، حرية تقسيمها ثلاث وجبات، أو أكثر حسبما يريد.
قال حليم، لقد أنتهى عهد الرز والخضرة المسلوقة، بلا لحوم مع انتهاء أيام الهدنة. وقال رمزي سوف لن أشرب الماء، إلا مرة قبل الخروج الصباحي، لكي لا أضطر الى استخدام الدورق مبولة، وأضاف، أحمدُ الله أن غذائنا صمونة في اليوم الواحد لا يدفعنا الى التغوط إلا مرة كل يومين، كذلك في الصباح.
وإذا ما أصبت بإسهال، رد عليه طارق بأسلوب لا يخلو من التهكم، فأجابه لكل حادث حديث. ومع هذا استمر بمناكفته متوقعاً التغوط في هذا الدورق، والتبول فيه مع الاستمرار باستخدامه للشرب، لانهم يريدون هذا، وعلى هذا الاساس وزعوا الدوارق البائسة.
تسهم الدوارق في يباس الجلود.
زفرة ماء القعر الآسن من كثر استخدامها مبولة، تسببت في ظهور بقع جلدية بين الجميع.
نَقصَ الوزن بشكل ملحوظ، بعد اقتصار الأكل على صمونة واحدة في اليوم، حتى برزت الاوردة في أماكنها، وبات سير الدم فيها يرى بوضوح. مع هذا فإن استخدامها مرحاضاً للتغوط في الحالات الخاصة أمر وارد، وكان أول المستخدمين هو رمزي في الليلة التي داهمته فيها نوبة مغص معوي شديد.
جلب دورقه في الصباح التالي خجلاً.
وقف قريباً من طارق في الدور الى الحمام، ورائحة البراز تزكم الأنوف.
ألم اقل لك أننا سنستخدمه حتماً قال طارق، فأجابه على الفور، لقد تمنيت الموت عند استخدامه ليلة أمس وبوجود زميلاي، محمد وجعفر. لقد حاولت التحكم بالعضلات لساعات، صارعت خلالها الألم كثيراً، وفي نهاية المطاف فقدت السيطرة عليها، أقنعت نفسي، أن صاحبيّ غاطين في نومهم، لا يشعرون بما يجري في فضاء زنزانتهم، فساعداني على تسهيل الأمر بتمثيل الدور... يا له من قرف.
لِمَ الخجل يا صديقي، رد طارق، جميعنا على ذات الطريق، لا أخفيك سراً، نحن الثلاثة في الزنزانة قد استخدمناه مبولةً، صحيح في المرة الأولى كان الاستخدام صعباً، لكننا تعودنا استخدامه بشكل طبيعي، وأزيدك علماً أن الواحد منا يستخدمه الآن، وهو يضحك سفاهة. تقدم يا صاحبي وخذ مكاني في الدور، اغسل دورقك جيداً، واملأه بالماء، دون أن تنسى تهيئته لاستخدام آخر لنفس الغرض، فالطريق أمامنا طويل.
شكره رمزي على تسهيل مهمته في المرور أولاً، معتقداً أن لا أحد من زملائه أدرك فعلته، فبدا بعد ايام أنه كان واهماً، وإن الجميع قد استخدمه بالطريقة ذاتها.
بموازاة هذا الاستخدام، وبتعاقب الأيام زاد عدد الجلدات، وكذلك نوبات التعذيب، لا سيما في الأوقات التي يأتي فيها چاسب أو ياسين مخمورين، وباتت مشاهد الدماء، والأنين تصيبهم بالغثيان، لتكشف عورات المبادئ الخاصة بالحزب.
في أحدى الأمسيات أشتد الضرب، حتى أغميَّ على خمسة من المجموعة بينهم حليم وصالح ومحمد الحديثي في نوبة حضرها ضابط الأمن لامع، أعطى فيها تعليمات جديدة أصدرها الى چاسب قائلا، يتم التوزيع على زنزانات انفرادية، يعزل فيها الواحد عن الآخر.
يقضون حاجاتهم داخلها، على الأرض.
أنهى مانع بتعليماته الصارمة، خدمات الدوارق، عدَّ استخدامها مراحيض متحركة نوع من الرفاه غير المبرر، استبدلها بعلب معدنية صغيرة من تلك التي يستخدمها معمل كربلاء لتعليب معجون الطماطم، لا يمكن الاستفادة منها مرحاضاً، لصغر حجمها، وسرعة امتلائها، طلب أن يكون فتح الزنازين، ساعة واحدة، لمرة واحدة في الأسبوع، اعتقدها كافية لأغراض التهوية وجمع النفايات، وتنظيف الارضيات بسعف النخيل، والمغادرة لتمرير الجسم على أشعة الشمس، بما لا يزيد عن الخمس دقائق، للحصول على فيتامين (D) بات نقصه الشديد، يزيد من هزال الأجسام النحيلة، وقد يميت البعض قبل الوقت المحدد لموتهم، أو قبل أخذ كفايتهم من العذاب الدنيوي، المحدد على وفق البرنامج المكتوب.
في وحشة هذه الزنزانة الانفرادية بطول لا يزيد عن المتر ونصف، وأقل منه للعرض، تمنى طارق لو لم يكن موجوداً بهذه الدنيا في الأصل، تذكر ولعه بفكر الحزب وشعاراته، وانبهاره بالسيرة النضالية لرفاق صنعوا أقدارهم. نَدِمَ على هذا الولع، وندم على تصنيفه، أو وضعه شخص الرئيس يوماً، مع الذين أنبهر بهم وآمن بهم، شباب قادرين على تقديم الحلول، بدلاً من الشيوخ الذين أتهمهم، صانعين ماهرين للأحلام الخرافية.
في هذه الليلة الموحشة بات يكلم نفسه، سألها كيف وثق به، سنين وهو قريب منه، معتقداً معرفته بطباعه عن قرب؟. وأجابها، يبدو أنني لم ولن أعرف طباعه، وأفكاره.
يا لها من سذاجة، يعتقد فيها الانسان معرفته بالشيء، وينتهي به المطاف لم يكن عارفاً أي شيء.
يا لي من ساذج، آمنت به قائداً قوياً للعراق.
وأخيراً وضع كلتا يديه تحت رأسه، نظر في وحشة الزنزانة المخيفة، وعندما لم يجد شيئا يلهو به، سأل نفسه ثانية، لِمَ القلق إذن، وبت عارفاً كل بواطن الأمور؟.
حاول لملمة أشلائه الموجوعة، تذكر زوجته الحبيبة، كيف حاولت من جانبها منعه من الاستمرار في الكلام، عندما كان راقداً في مستشفى "شاريتيه" ببرلين خوفاً على صحته المهلهلة، وكيف أصر على إتمام ما أراد قوله، من أن الرئيس صديقه بالفعل من عدة سنوات، وكيف كانا يخرجان معاً، يتناولان العشاء في النادي العسكري، وكيف عمل تحت مسؤوليته الحزبية المباشرة، لفترة ليست بالقصيرة، لم يكن يعرف ان هذا الصديق الذي جمعتهما الزنزانة الثالثة، في السجن رقم واحد في معسكر الرشيد، هو من أمرَ وحدد مدة سجنه سبع سنوات.
تذكر كيف كان الرئيس في ذلك السجن، ينتقد إجراءات التضييق على السجناء السياسيين، وقلة المرافق الصحية وتباعد الزيارات، وقوله آنذاك، أننا وعندما نستلم الحكم، سنُشَرع قوانين تجعل السجون أماكن إصلاح وليس عقاب، سنمنع السجن السياسي لأنه تقييد فاضح للحريات. كيف نقيّد الحريات، وثاني مفردة في شعار حزبنا العظيم هي الحرية؟.
أين هي الحرية؟.
وأين مضى ذاك الكلام الممل عن السجون، وتقليصها أو الغائها؟.
وأين هي العهود التي قدمها أمامي وكريم الشيخلي، فيما إذا أستلم الحزب السلطة فانه سيدعو شخصياً الى أن يكون للعراق سجناً مركزياً واحداً، مأوىً للقتلة والمجرمين، لا مكان فيه للسياسيين، وان كانوا من الأعداء، وسيدعو الى احترام الجميع حتى الشيوعيين الذين هم من بين الأعداء.
كيف يحترم الأعداء، ولم يحترم رفاق له، سائرين وإياه على نفس الطريق؟.
كيف صدقته في ذلك الحين، عندما قال لقد أخطئنا في التعامل مع الشيوعيين عام 1963، ونريد محو أخطائنا، بمجرد استلامنا السلطة ثانية؟.
كم أنا ساذج لم اتنبه الى كلام حبيبتي، عندما قالت في المستشفى، لقد مضى الآن على وجودكم، في السلطة اثنا عشر عاماً، وما زالت السجون قائمة لم يهدم منها ركن واحد، وإن لم تقصد في قولها آنذاك، زيادة همي الفاجع.
والأكثر سذاجة اعتقادي أنها سَتُهدم، وتفاؤلي بمجيء الرئيس الى الرئاسة، الذي سيهدمها بنفسه، لأنه كان من أكثر المتحمسين الى هدمها، وسيبني إنسان يحترم ذاته ويعتز بوطنه العراق، لأنه يحب العراق والعراقيين، لا يقبل أن يضام أحد فيه، كما يتظاهر.
كم أنا ساذج عندما صدقت قوله، وهو الى جانبي في السجن، من إنه يحلم بحكم في العراق على الطراز الغربي، يأتي الرئيس فيه عن طريق الانتخاب، يحتكم فيه الجميع الى القانون، يتصدر مقاعد برلمانه خيرة أصحاب العقول المخلصين، يُدفع فيه العسكر الى ثكناتهم، لا يدخلون السياسة، ولا يتدخلون في شؤونها.
ما هذا الهراء، كنا نصدق أي شيء يقال، وكأن غمامة تحجب عنا الحقيقة، التي لم نعد نسمعها من أقرب الناس الى قلوبنا.
هنا وفي هذه اللحظة تذكر، كيف لم يتفق وزوجته، عندما ردت على موضوع عدم تدخل العسكر في السياسة بقولها، لكنكم عسكريون دخلتم السياسة، وتتدخلون بها من أوسع الأبواب، وتذكر كيف أجاب بانفعال، من أننا الحزب القائد، نحن من أعد للثورة ونفذها، والشرعية الثورية، تفرض علينا قيادة البلاد بعسكريين عقائديين، لا يتآمرون ولا يخونون، يتدربون للقتال في سبيل الأمة العربية، اذا ما أقتضى الأمر.
ندم على معاتبتها بالقول أنكِ بعيدة عن ما جرى، إذ ومنذ استلامنا السلطة عام 1968 لم تمر علينا سنة الا وحيكت ضدنا مؤامرة، وآخرها هذه المؤامرة التي حدثت في الأمس، من قبل الرفاق التي حيرتني بالفعل. وبعد أن أكمل تذكره قال مع نفسه، لم يعد التصديق سذاجةً، بل غباءً عندما تسد الغمامة منافذ الادراك، وعندما يحشر الواحد في ذنب لم يرتكبه، يا ترى كم عدد الأبرياء القابعين في السجون، التي ضاعفها الحزب، والرئيس خلال سني حكمه؟.
بعدها ردد وقبل الاستسلام الى النوم، ومازالت يداه تحت رأسه متشابكتان عبارة "كم أنا ساذج حقاً".

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/38477-2019-01-02-17-13-04.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1297 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع