المرأة العربية تجسّد حلمها بالريشة والألوان

   

                       الإبداع مصدر النشوة الدائمة

البصمة الأنثوية استغرقت الكثير من الوقت قبل أن تتبلور وتصبح جزءا من حركات الفن التشكيلي بسبب التحيز الذكوري.

العرب/ يمينة حمدي:الطابع الذكوري المهيمن على العالم، يضيق الخناق على الفنانات التشكيليات، لكن كل الضغوط والمشكلات التي تمنح الفنانين الرجال الكثير من الامتيازات في هذا المجال، تصبح غير مرئية بالنسبة لمن تذوقن نشوة الألوان وأتقن لغتها.

لم يكن من السهل على النساء إدراك قدراتهن التعبيرية في مجال الفن التشكيلي الذي سيطر عليه الرجال لقرون طويلة من الزمن، وخاصة من عشن في بيئات تنظر إلى المرأة نظرة دونية، وتتشابك فيها الجوانب التشريعية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية لتدفن الموهبة الفنية للمرأة وتحول دون مشاركتها في صناعة تاريخ الفن التشكيلي.

وتكشف أعمال أشهر رواد الفن التشكيلي الدور المحوري الذي لعبته المرأة كمصدر إلهام للفنانين، إذ استقوا من جمالها إبداعاتهم واكتسبوا من مفاتنها الأنثوية نجاحاتهم، لتكون رمزا للحب والخصوبة والأمومة والرغبة الجنسية الجامحة…

وتعد لوحة “الموناليزا” واحدا من أجمل أعمال الفنان والعالم والمخترع الإيطالي ليوناردو دافنشي، التي أنجزت في القرن الخامس عشر، وظلت لغزا يحير عشاق الفن التشكيلي، بسبب تلك الابتسامة الغامضة والمدهشة.

وشكلت المرأة على مر العصور نموذجا لأعمال الكثير من الفنانين من مختلف المدارس التشكيلية، وباتت لوحاتهم مادة خصبة للكتاب والمؤرخين، وكذلك جلبت الاهتمام الشعبي، إلا أن رؤية الرجل للمرأة هي التي تطغى عليها وليس رؤية المرأة لذاتها.

ولسنوات طويلة ظل الفن التشكيلي يطفح بهرمون الذكورة أو “التستوستيرون”، وسيطرت عليه عضلات الرجال، من دون أن يترك المجال للمرأة، لترسم هويتها الفنية بشيء نابع من داخلها، وليس من الرجل.

وفي البيئة التي غلب عليها الطابع الذكوري، لم تستطع سوى قلة قليلة من النساء القويات تحسس طريقهن نحو الفن التشكيلي في القرن العشرين، عندها بدأت الأمور تتغير ليس فقط بالنسبة للفنانات، بل للنساء بشكل عام، وقد كانت الحركات النسوية دافعا كبيرا لسريان طاقة لا تُقاوم في أوصال النساء، وتفجير مواهب فنية كانت ترقد وسط الرماد.

غير أن البصمة الأنثوية استغرقت الكثير من الوقت قبل أن تتبلور وتصبح جزءا من حركات الفن التشكيلي، بسبب التحيز الذكوري إلا أن ذلك لم يستمر، فقد حظيت النساء التشكيليات بالاحترام في مراحل لاحقة وانتزعن الانتباه والاهتمام، وفتحت أمامهن مدارس الفن التشكيلي أبوابها الواسعة، ليعبرن عن هويتهن برؤيتهن الذاتية، التي قد تلتقي مع الفنانين التشكيليين الرجال في جوانب معينة، وقد لا تتقاطع معهم بالضرورة. وعلى الرغم من تحسن أوضاع المرأة في مختلف عواصم العالم في القرن الأخير، وبروز العديد من النماذج لنساء تشكيليات ناجحات، لكن ذلك لم يكن دافعا للمجتمعات الذكورية لتساعد نساءها على الولوج إلى عالم الفن، الذي بقي يُنظر إليه في بعض الأوساط على أنه من المحرمات حتى بعد أن أسست الكثير من الفنانات حقولا فنية نوعية، فندت الخلفيات التاريخية التي استبعدت المرأة من المجال الفني.

لكن يبدو أن جميع العوائق تتلاشى عندما نقترب أكثر من الفنانات التشكيليات العربيات، ونلقي نظرة على أعمالهن التي تشي بعطاء إبداعي متواصل يحيط به أمل دائم، حتى وإن كانت أرقام معارض بعضهن ومعدلات العائدات المالية لأعمالهن الفنية، تحكي قصصا أقل تفاؤلا بالمقارنة مع الفنانين الذكور.

الفن لا حدود له

من الواضح أن الفن لا حدود لقيمته بالنسبة للرسامة التشكيلية اللبنانية المقيمة في الإمارات كلود حبيب، فهي مؤمنة بألا شيء يستطيع أن يوقف ريشتها عن رسم عالمها الذي احتواها ووجدت فيه ملاذا وجسرا للتفكير بشكل مختلف.

تقول حبيب لـ”العرب”، “انطلاقا من أهمية العلاقة ما بين الفن والفلسفة، أعتبر أن الفن التشكيلي هو الغاية والوسيلة الفضلى في آن معا، وذلك من حيث التباين والاختلاف والمحاكاة، لذلك لا أفصل الفن والأدب والعلم عن بعضها البعض في أعمالي للتعبير عن الحالات النفسية العميقة غير المرئية كالقلق والفرح والحزن والخوف والحالات الذهنية التي أمر بها كفنانة وإنسانة”.

ويبدو أن حبيب الحاصلة على دبلوم دراسات عُليا في الفنون التشكيلية من الجامعة اللبنانية، وشهادة في تاريخ الفن من جامعة السوربون بأبوظبي، لا تؤمن بالمستحيل في الإبداع، لذلك تتعمد دمج العديد من الخامات في رسوماتها، أو ما يعبر عنه بـ”المكسد ميديا”، لكنها تظل وفية للفحم بالدرجة الأولى ثم الزيت، يليهما الإسمنت والأسلاك على اختلافها.

ولفتت حبيب إلى أن أكثر ما يثير قريحتها الفنية هو المناظر الطبيعية والمرأة والشخصيات الفنية والأدبية، وقد استطاعت حبيب بالفعل أن تكون أنموذجا مشرفا للمرأة التشكيلية العربية، حين أسّست في العام 2009 بالعاصمة الإماراتية أبوظبي غاليري “لا بارول” أي “الكلمة” ليكون منبرا للفن المعاصر، وأيضا عندما تم تكريمها في فرنسا عن “البروتريه” الذي رسمته للشاعر والكاتب الفرنسي بول فاليري، والذي أصبح من مجموعة المتحف الخاصة بعد أن تم تحويله إلى بطاقة بريدية.

تستطيع حبيب أن تفعل الكثير في مجالها الذي هي شغوفة به وعازمة على مواصلة دربها فيه، وكذلك الشأن بالنسبة للكثيرات من بنات جنسها اللواتي يشتركن معها في هذا الحب السرمدي للفن التشكيلي.

تقول حبيب “لقد أصبح للمرأة العربية دور فعال في المجال الفني من حيث الطرح والتميز. بحيث توازي الأعمال النسائية ما يقدمه الرجل من فكر تشكيلي وتقنيات متبعة”.

وتضيف “كتشكيلية عربية ذات خلفية فلسفية، وكأستاذة فنون جميلة، وصاحبة طرح جديد يعتمد على تقديم الفن التعبيري حتى حدود القلق، أفضل تسليط الضوء وليس التعميم، على ما قد يكون عثرة في طريق بعض التشكيليات العربيات”.

وتواصل “تعمل التشكيليات العربيات جاهدات على إيجاد بصمة خاصة في المجال الفني والفكري الجمالي، ولكن في بعض المجتمعات العربية ما زالت تفرض الكثير من القيود على الفن عموما والمرأة تحديدا، من ناحية الموضوع والطرح على حد سواء، ولصالح الرجل، ما يجعل الإنتاجات الفنية الأنثوية محصورة حول مواضيع محدودة ومحددة إلى حد كبير”.

وتتمنى حبيب أن يتمكن الجيل الصاعد من طالبات الفنون الجميلة والمثقفات من امتلاك أدوات التغيير، والذهاب بالفن التشكيلي وبكل الفنون بعيدا عن أي حدود معيقة لإبداعات المرأة.

وجهة نظر جمالية

لا شك أن الفن التشكيلي بمختلف تعبيراته يمثل نافذة تطل من خلالها الرسامات على الجمال المحيط بهن فيتفاعلن معه ويسلطن عليه معيارهن الخاص، ولذلك جاءت رسومات التشكيلية العمانية سمر بنت صادق العزاوي محملة بوجهة نظرها للطبيعية العمانية ومناظرها الخلابة.

تقول العزاوي لـ”العرب”، “ولدت في بلد معروف بتاريخه العظيم والطبيعة الساحرة… ومنه بدأت قصة حبي لهذه اللوحة الطبيعية الممتزجة بالجبال والنخيل والقلاع المليئة بقصص وحكايات تشهد على تاريخ هذا المكان”.

وتضيف “كنت أهوى الرسم منذ مرحلة الدراسة الابتدائية، إذ كانت لوحاتي تزين ممرات المدرسة، وبعد التخرج من الجامعة الأردنية ومن قسم الاقتصاد تحديدا، جذبني الحنين إلى هوايتي الأولى وهي الرسم، ولكن بأسلوب أكثر نضجا وبأفكار جديدة، لذلك خضعت لعدة دروس في هذا المجال حتى أستطيع مسايرة الأسلوب الحديث في الرسم، كالرسم بألوان الأكريليك أو الزيتية وحاليا أتدرب على الرسم بمادة الريزن”.وأشارت العزاوي إلى أنها شاركت في عدة معارض، منها مركز الفن الراقي في مدينة دبي، حيث تقيم حاليا، وقد تم تكريمها من قبل عدة جهات، ولكنها عازمة على المشاركة في المزيد من المعارض في الأعوام المقبلة.

وعن الصعوبات التي تواجهها الفنانات التشكيليات في البلدان العربية تقول العزاوي “تضييق المجال على النساء من قبل الرجال هو في حقيقة الأمر تحصيل حاصل”.

وتضيف “الرجل ليست لديه التزامات البيت والأولاد، ولذلك فمن السهل عليه السفر والمشاركة في عدة معارض بدول أخرى، أما المرأة فعليها الاهتمام إلى جانب فنها بشؤون أسرتها، من الصعب عليها التواجد في كل الأماكن وفي نفس الوقت، كما أن المرأة بطبيعتها الأنثوية وفطرتها لا تستطيع أن تهمل أسرتها التي تبقى دائما من أهم أولوياتها، ولعل هذا ما يجعل معظم التشكيليات يمارسن الفن كهواية أو كعمل إضافي لعملهن الأساسي”.

وشددت العزاوي على أن بصمة المرأة في الفن التشكيلي كانت موجودة على الدوام، وإن اختلف الحال بين الشرق والغرب، موضحة أن هذه البصمة قد أصبحت اليوم أكثر وضوحا وجرأة وتعبيرية، وباتت المرأة تستطيع قول ما تريد بالألوان أكثر من ذي قبل.

قبول فكرة التحدي

مع أن هناك عوائق في المجتمع بالتأكيد، إلا أن الفنانة سهير عبوشي، الأردنية من أصول فلسطينية، مؤمنة بأن النساء في بعض الأحيان، هن من يمنعن أنفسهن من التقدم في مجالهن.

تعتقد عبوشي بأن الأمر كله مرتبط أحيانا بعدم تقبل النساء لفكرة التحدي، فهن بحاجة إلى أن يتمتعن بروح القتال الصحيحة من أجل إثبات ذواتهن. وهذا ليس دائما شيئا يأتي بمفرده.

درست عبوشي الفن التشكيلي في معهد الفنون الجميلة في الأردن ثم فن الفسيفساء الحجري والزجاجي في إيطاليا وتحديدا بمدينة رافينا، وبعد عودتها إلى الأردن انضمت إلى مؤسسة نور الحسين حيث درست فن الخزف وأقامت محترفا خاصا بها يجمع كل ما درست في مكان واحد.

تقول عبوشي لـ”العرب”، “ما يميز أعمالي هو محاكاة الواقع والطبيعة والإنسان من حيث الرسم الزيتي أو المائي، أما الفسيفساء الذي دمجته مع الرسم والخزف فهو نابع من شدة عشقي واهتمامي بأرضيات الفسيفساء الموجودة في الكنائس ودور العبادة والمتاحف، إنها مرجعي الأول والأخير الذي أحاول إظهاره من خلال قطع خزفية وجداريات وعرضها والوصول بها إلى مستوى ثقافي تشكيلي يليق بها، كما أنني أسعى دوما لنشر هذا الفن قدر الإمكان في المؤسسات المهتمة بنشر التراث”.

استطاعت عبوشي أن تقدم نفسها كفنانة تشكيلية عربية بشكل جيد وتلبي توقعات محددة، من خلال تركيزها على إبراز هويتها الخاصة في أعمالها، وبعد أن أقامت أول معرض خاص بها في عمان والمشاركة في العديد من المعارض الأخرى في مجال فن الخزف المنقوش بالفسيفساء، تسعى حاليا إلى توظيف ما لديها من طاقة وموهبة وخبرة في فن الخزف الذي يمثل نقطة الارتكاز للتعبير عن ذاتها من خلال التشكيل بالطين وبأفكار مدروسة وأخرى وليدة اللحظة.

وأكدت عبوشي أنها واجهت تضييقا من قبل الرجل التشكيلي ومحاولته تحجيم نشاطها، إلا أنها لم تكن تكترث لمثل هذا الأمر لأن ذلك على حد تعبيرها “ليس ذنب الرجل وإنما ذنب ومسؤولية المؤسسات الرسمية، سواء المدارس أو وسائل الإعلام أو المؤسسات الاجتماعية والأسرية، التي لم تؤهل الرجل ليتقبل الذائقة الجمالية للمرأة”.

وقالت عبوشي “يتحمل الرجل التشكيلي جزءا كبيرا من المسؤولية في تضييق الخناق على المرأة التشكيلية، فبرغم أن الفن حرية إلا أن طغيان الثقافة العربية الشرقية التقليدية أشد من الرؤية البصرية لديه، لكن بالمجمل والحمد لله نستطيع أن نقول إننا وصلنا اليوم إلى مستوى العالمية، لأن حساسية الفنان بالفن هي التي تؤهله للبحث عن الأصالة في فنه وإضفائه نزعته الخاصة عليه وليس نوعية جنسه”.

يوجد في الواقع عدد لا حصر له من مصادر الضغوط والمشكلات عميقة الجذور التي تعرقل الفنانات التشكيليات وتمنح الفنانين الرجال العديد من الامتيازات، ولكنها قد تصبح غير مرئية بالنسبة لمن تذوقن نشوة الألوان وأتقن لغتها التعبيرية.

  

المرأة على مر العصور شكلت نموذجا لأعمال الكثير من الفنانين من مختلف المدارس التشكيلية

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

646 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع