زيارة إلى بيت ومتحف تشارلز ديكنز

   

‘اننا لا نحتاج في حياتنا هذه الا الى الحقائق’ (تشارلز ديكنز من رواية الآمال العظيمة)

ايلاف/ فىء ناصر:في شارع داوتي ذي المنازل المتراصة على الطراز الفكتوري الإنكليزي التقليدي، وفي البيت رقم48 تحديداً، تطالعنا إشارة زرقاء كبيرة, تشير إلى أنّ تشارلز ديكنز الروائي الربيطاني الشهير كان قد سكن هذا البيت مع زوجته كاثرين هوكارث بعد سنة من زواجهما، وشهد هذا البيت ولادة إثنتين من بناتهما وهما ماري وكيت، وقد شاركهما السكن كلٌّ من اخ تشارلز الصغير فريدريك واخت كاثرين الصغيرة ماري. إستأجر تشارلز ديكنز هذا البيت لمدة ثلاث سنوات بأجر سنوي مقداره 80 باون إسترليني، بقى في هذا البيت حتى عام 1839 حيث إنتقل بعدها الى بيت أكبر نتيجة نمو أسرته وشهرته كروائي. لكن هذا هو البيت الوحيد الذي بقي على حاله ضمن البيوت العديدة التي سكنها في لندن. قضى تشارلز ديكنز في هذا البيت سنوات مثمرة جدا على الصعيد الأدبي، حيث أكمل روايته الاولى (مذكرات بيكويك عام 1836)، وكتب روايته الشهيرة التي تدور حول عمالة الأطفال وإستغلالهم (أوليفر تويست عام 1838 )، وأكمل كتابة روايته (مغامرات نيكولاس نيكلباي 1838-1839)، وبدأ بكتابة روايته (بارنابي رودج 1840- 1841).

حالما تدخل عتبة (البيت/ المتحف) تودع حياة القرن الواحد والعشرين ويعود بك المنزل ومحتوياته الى أجواء القرن التاسع عشر. كل شيء في هذا المنزل بقي على حاله كأن اهل الدار في سفرة وسيعودون قريبا. يضم هذا المتحف أهم مجموعة عالمية من مقتنيات تشارلز ديكنز الشخصية وهي تقريبا مئة الف قطعة من كتب نادرة، وثائق ومخطوطات، لوحات فنية، صور فوتغرافية، تذكارات وأدوات شخصية. في المدخل الرئيسي للبيت الذي يتكون من أربعة طوابق، عُلقت رسائل مؤطرة بخط تشارلز ديكنز ومن الفترة التي عاش بها في هذا المنزل، والنسخة الاولى لروايته التي أتمها هنا (حياة ومغامرات نيكولاس نيكلباي)، وعَرضتْ حافظة زجاجية صورة فوتغرافية أصليه له في ريعان شبابه، وعصاه وقد نُقِشَ حرفين من إسمه على مقبضها، وحقيبته الجلدية وبطاقات دخوله الى المسرح.
غرفة الطعام التي تطل على الشارع من نوافذها الواسعة، مرتبة كأنما جُهزت لإستقبال الضيوف. فوق الموقد هناك بورتريت جميل جدا لتشارلز في شبابه يعود الى سنة 1837 بريشة الفنان البريطاني صاموئيل درموند، وفي الجهة المقابلة هناك بوفيه من خشب الماهوجني الإسباني كان تشارلز قد إقتناه لهذا المنزل خصيصاً. أضافت إدارة المتحف مؤثرات سمعية كاصوات بشرية وصهيل خيول، تُشعر الزائر فعلا إنه يعيش في عام 1837.
في الطابق الأرضي ايضا توجد غرفة المعيشة، وهي الغرفة التي كانت كاثرين تستقبل بها ضيوفها أثناء النهار وتدبر شؤون المنزل وتكتب فيها الرسائل. أهم المعروضات في هذه الغرفة، خاتم زواج كاثرين من الذهب المرصع بأحجار التركواز، ووثيقة زواجهما المؤرخة في الثاني من نيسان عام 1836في كنيسة القديس لوقا في لندن، وعدد من الرسائل الغرامية التي كتبها تشارلز لكاثرين أثناء فترة خطوبتهما.
دليل المتحف سيقودنا بعد ذلك الى الطابق السفلي، حيث المطبخ الفكتوري هو مركز الحياة الأجتماعية للخدم. كل أواني المطبخ وأثاثه والموقد الحديدي المستخدم للطهو وكذلك الدلو الخشبي الكبير المستخدم لغسل الملابس هي مقتنيات شخصية لعائلة تشارلز ديكنز. تشارلز ديكنز وصف حياة الخدم والطبقات الدنيا في المجتمع برواياته بشكل مستفيض، كما كان يحرص على التجول وحيدا ً في الأحياء الفقيرة، حيث يعيش الناس حياة بائسة مريعة وخارجة عن القانون في بعض الأحيان، ووصف ديكنز هذه الأحياء الفقيرة بكل تفاصيلها وبكل المآسي التي تدور فيها.
الزائر سيصعد السلالم لزيارة الطابق الأول في المنزل، الذي يضم غرفتين، أولهما قاعة الإستقبال وهي أكبر غرفة في البيت، حيث كان ديكنز يستقبل أصدقائه ويقرأ لهم مقاطع من أعماله في هذه الغرفة. من أبرز المعروضات فيها بالإضافة الى المكتبة والأريكة الكبيرتين، حاملتي شموع من النحاس والخزف كان تشارلز ديكنز قد اشتراهما عام 1844 من جنوا في ايطاليا أثناء فترة إقامته القصيرة هناك، وأيضا منصة القراءة المغطاة بالقطيفة الإرجوانية التي صممها بنفسه وكان يستخدمها أثناء قراءة رواياته، وهو أول روائي يقرأ أعماله النثرية في قراءات عامة.
الغرفة الأخرى في هذا الطابق هي غرفة القراءة، وفيها كرسيه الشهير ومنضدته التي كتب عليها أهم رواياته: قصة مدينيتين والآمال العظيمة وصديقنا المشترك، وترك عليها روايته الأخيرة لغز أدوين درود حيث مات دون أن يكملها. وصيته مؤطرة ومعلقة على الجدار وكذلك بورتريت تخطيطي له وهو على فراش الموت، وأدوات الكتابة التي إستخدمها ومكتبتين كبيرتين تضمان نسخ رواياته بطبعاتها الاولى وكذلك الكتب التي كان يقرأها.
يحتوي الطابق الثالث في المنزل على غرف النوم، غرفة نوم تشارلز وكاثرين حيث السرير الكبير ذو السقف والستائر الساتان الذي أنجبت عليه كاثرين إبنتيهما ماري وكيت، وكذلك أدوات حلاقة دكينز وقنينة عطره وخزانة ملابسه ووثيقة مهمة هي وثيقة إنفصاله المعلن عن كاثرين عام 1858. غرفة النوم الاخرى تعود لماري اخت كاثرين التي إنتقلت للسكن معهما، لمساعدة شقيقتها في إدارة المنزل وتربية الأولاد. ماري كانت قريبة جدا من تشالز وكان يقرأ عليها فصولاً من رواياته قبل نشرها لمعرفة مدى تقبل القراء العاديين لأعماله من خلال ردود افعالها، لكن ماري ماتت فجأة بين ذراعي ديكنز وهي بعمر 17 رغم جمالها وشبابها، كان حزنه كبيرا لموتها وإستوحاها في عدة شخصيات نسائية في رواياته. وقد تُرك فستانها وكل ما يخصها على حاله، في غرفتها.
الطابق الرابع يحتوي على غرفتين، الأولى خُصصت لطفولة تشارلز ديكنز الحزينة، حيث ولد في السابع من شباط عام 1812 في مدينة بورتسموث الساحلية، لأبٍ عمل كاتباً في البحرية، في هذه الغرفة يُعرض تمثال نصفي لأبيه جون ديكنز، وقضبان حديدية منتزعة من السجن الذي قضى فيه والده العقوبة، لعدم سداد ديونه (حيث زاره تشارلز عدة مرات). عمل تشارلز وهو بعمر العاشرة في معمل لتصنيع أصباغ الأحذية، وكان ينفق أيامه في وضع الملصقات على عبوات الأصباغ، وإحكام غلقها بأغطيتها، في بيئة بالغة القسوة والقذارة، كي يساعد في إعالة أسرته الفقيرة. هذه الأحداث المريرة ألهمته كتابة روايته أوليفر تويست التي إنتقد فيها عمالة الاطفال وإهمالهم وإستغلالهم وعدم وجود قانون لحمايتهم، وقد خطت مقاطع من هذه الرواية على جدران الغرفة الاخرى، كما عُرضت عبوات للإصباغ من ذات المعمل الذي كان عاملا فيه. وعُرضت كذلك رسالة بخط يده الى زميل له في المدرسة من فترة طفولته، وبورتريت له رسمته عمته فاني ديكنز.
كاد هذا البيت يهدم عام 1923، لكنه أُنقذَ بواسطة مؤسسة تشارلز ديكنز التي تكونت عام 1902، والتي إشترته وهيئته وجمعت مقتنيات الروائي الشهير لوضعها في مكانها في بيته. أُفتتحَ البيت كمتحف لتشارلز ديكنز عام 1925، هذا المتحف هو مركز لدراسة أدب تشارلز ديكنز. يضم البيت حديقة صغيرة صُممت حسب الطراز الفكتوري وكافيه ومتجر صغير يباع فيه روايات ديكنز ونسخ مقلدة صغيرة من محتويات المنزل.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

679 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع