رواية - حفل رئاسي - خبايا الشك

   

        حفل رئاسي - خبايا الشك

     

   

   

هل حجزت تذكرة؟. 

سؤال وجهه حليم في اتصاله الهاتفي مع السفير حامد قبل الظهر. فأجابه ما زلت أفتش عن مكان بطائرة تتجه الى لندن، ومنها الى بغداد، لم أفلح بعد، لشدة التزاحم على أماكن خط الطيران هذا، يبدو أن موسم السياحة نشطاً هذه السنة، وفي هذه البلاد التي يؤمها الأوربيون للصيد صيفاً.
لماذا لندن بالذات؟.
لأن الدولة هنا مستعمرة بريطانية، وخطوط الطيران في غالبها تمر عبر لندن، والسنغال مستعمرة فرنسية، فخطوط الطيران منها عبر باريس، هكذا وضعت المنافذ والخطوط في الأصل.
لمَ التقيد بهذا الخط المزدحم؟. يمكنك الحصول على مكان، في أحد الطائرات المتجهة الى باريس، ولو عبر دولة أخرى، ومنها الى بغداد، كما فعلت أنا.
كانت الفكرة جيدة، أيدها حامد، ووعد الطلب من السكرتير تنفيذها، وسيقوم بابلاغه التفاصيل لاحقاً.
لقد حجزتُ لي غرفة في فندق الكونكورد، وسط باريس قريباً من البرج، قال حليم مخاطباً حامد في اتصال هاتفي لاحق، مقترحاً قيامه بحجز أخرى له في الفندق ذاته، ليتسنى اللقاء، وانتظار صديقهما، العميد عامر الذي سيأتي بعد انتهاء يومه ملحقاً عسكرياً، حسب الوعد الذي تم بينهما في الأمس، لقضاء ليلة قد تكون الأخيرة من يدري؟.
ماذا تقول؟. سأل حامد بقدر من التعجب بعد سماعه عبارة من يدري، فأجابه وما شأنك بقولي، أنا عن نفسي لا أدري لِمَ هذا الاستدعاء، وما هو المستقبل في بغداد التي تغلي مثل مرجل يرمى تحته فحماً ليستمر الغليان. فأثار قوله هذا قلقاً شديداً في نفس حامد، دفعه لأن يعلق بالقول، كنت قبل ساعات غير مهتم لأمر الاستدعاء، على العكس من كلامك هذا، الذي وضعني في دوامة توتر، أدارت لي عقلي الذي بقيّ في حومة الدوران، مثل نواعير أهل الفرات، ودفعتني الي تيه كمن أصيب بالفصام. وعموما، أتأمل تحسن صحة طارق، ليتسنى لنا الاتصال به قبل المغادرة الى بغداد، فهو الأقدر على معرفة الدوافع الحقيقية، باعتباره محسوباً على السيد الرئيس. إنه يعرف الكثير من خبايا الأمور في مثل هكذا ظروف، لقد حيَّرتني اصابته بالذبحة، حتى بدأت أسأل نفسي فيما إذا سمع شيئاً، أوقعه في هذه الغمة التي قيل انها نتجت عن شد عصبي، أم إنها جاءت ناتج عرضي عن أحداث الأمس؟، حاولت "أم ماجد" الاستفهام من "أم نداء" عن بعض الامور، كما تعرف انهن صديقات من أيام عملنا الحزبي المشترك في كركوك، لكنها لم تفلح لعدم وجودها قرب الهاتف. أغلب الظن أنها في المستشفى.
وقبل انهاء كلامه سأل، ألم تستغرب وجودي أنا وأنت في برقيات الاستدعاء، وكنا جميعاً حزبيين في تنظيمات عسكرية واحدة؟.
وألمْ تستغرب أيضا بقاء طارق المسؤول المباشر لنا، في غالبية تلك التنظيمات خارج دائرة الاستدعاء؟.
انها مقاربة لم تخطر على بالي، قال حامد وختم حديثه واعداً باعلامه التفاصيل، حال الحصول على التذكرة، آملاً أن يكون اللقاء في باريس.
جعفر الذهب، السفير العراقي في أوغندا، عضو فرع في الحزب، تعيّنَ مثلهم سفير في الوقت ذاته الذي عينوا فيه، معروف بهدوءه وجرأته وعدم قبوله الانحراف عن الطريق الصحيح، ناقد بصوت مسموع. استلم مثلهم برقية الاستدعاء صباح اليوم، علق عليها بقلم حبر أخضر" السكرتير اتمام اجراءات الحجز على الرحلة المتجهة الى بغداد، يوم الجمعة القادم واعلامي". وبعد إتمام التعليق، وإعادة البرقية مع باقي البريد المعروض، أتصل بالسفراء حليم وحامد، وفشل في تحقيقه بالسفير طارق، لم يولِ اهتماماً للاستدعاء، اذ وكلما سأله أحدهم عن هذا الموضوع، أجابه بعبارة لم تتغير، اتركها على الله، أمام العراق طريق طويل، وأمامنا كثير من المهام، عسانا الحفاظ على الحزب قائداً لحكم البلاد.
سأله حامد عن أسباب التأخير الى يوم الجمعة؟. فأجابه، إن الدنيا لم تنتهِ بعد. لم الاستعجال؟. سنلتقي هناك في بغداد، لو أن طارق لم يمرض، ولو أنه قد استدعيَّ مثلنا، لكانت فرصة لقاء فريدة في بغداد، يالها من فرصة لقاء ستكون تاريخية حقاً.
سأله حامد مرة أخرى، لماذا لم تأتِ الى باريس، ومنها ننطلق معاً الى بغداد مع حليم؟.
فأخبره عدم الرغبة بالذهاب عن هذا الطريق، وانه يريد التوجه الى بغداد مباشرة، بخاصة وان ليس لديه القدرة على تحمل وجع الرأس، ثم ان الخارجية ستعترض على صرف فروقات التذكرة عبر أوربا، وهو لا يملك ثمنها في الوقت الحاضر.

.......................................


تقترب منه حذرةً بعد الايذان لها بزيارة الخمس دقائق، من دون أن يسمعها أحد، أو يسجل كلامها جهاز تسجيل، خاصة وان محطة المخابرات في السفارة، قد حذرت في تعاميمها السابقة من الوثوق بموظفي هذه الدولة، المعروفين بانغماسهم في التنصت، والتسجيل حتى في المواقف الخاصة، وبعد أن أبتلعت حذرها غير المبرر، بكت بحرقة ثم سألته عن الحالة التي أكد الاطباء عائديتها الى ارهاق عصبي.
لماذا أنت عصبي يا حبيبي؟. كل شيء في جوارك نعمة، يحمد عليها الله سبحانه، بناتك من حولك، أنا قريبة منك، صديقك أصبح رئيساً، لم أعهدك من قبل عصبياً، أنت أكبر من أن تقتل نفسك.
قتل النفس حرام، الضعفاء يقتلون أنفسهم، الأقوياء يواجهون الصعاب مثل الجبال، أنت واحد من هذه الجبال.
أجابها وهو يتابع صوت الصفير في صدره، وأنفاسه المتسارعة، انه العراق.... إجابة شجعتها على القول بثقة عالية من أن العراق بخير، ثم سألته، ألا يكفي حلول الشباب محل الشيوخ في تحمل المسؤولية؟.
وألا يسعدك وجود السيد النائب صديقك القريب، رئيساً للجمهورية؟.
فعاود الكلام بوتيرة الصوت النحيف الخافت، قائلا، أن الألم الذي يعصرني آت من خسارة مجموعة من الرفاق، قال عنهم معاون رئيس المخابرات في مكالمته صباح اليوم، أنهم قد اعتقلوا بسبب مشاركتهم في المؤامرة، التي استهدفت الحزب والثورة، لقد تفاجئت، بل أُصبت بالرعب من ذكر أسماء بعضهم.
لماذا يتآمرون وهم قادة الحزب الفعليين؟.
لماذا يسلكون مثل هذا السلوك الخطير، وهم صفوة الحزب، مفكرين ثوريين؟.
إني أتألم كثيراً، فغالبية الرفاق الذين ذكرهم أصدقاء، أو من الذين عملت واياهم معاً، جميعهم جيدين، بل الأجود في الكادر المتقدم للحزب، لقد بات الأمر حبيبتي شديد الالم، كأنه الفأس التي تهوى على الرؤوس.
عند هذا الحد تدخل الممرض المعني بمنع الزيارات، وربما المسؤول عن تأمين الحماية الأمنية للسيد السفير، بعد أن أشّرَت الأجهزة المربوطة بالجسم، ارتفاعاً ملحوظاً بضربات القلب، معلناً بلوغ الخمس دقائق، ولزوم انهاء الزيارة على الفور.
مسكت يده مودعة، كمن يودع حبيباً في طريق الهجرة.
نزلت الدموع على خديها بغزارة، تركت أثراً واضحاً، حاولت إخفائه، ثم قالت، لا تتركني.
وجودك منحني الحب، والحنان، فلا تتركني.
قلبك المريض كان لي مسكناً، فلا تهد مسكني.
سأغادرك مجبرة، وابقي لك روحي كي تطمأنني.
البيت من دونك، أرض قاحلة، لم يعد فيها معناً لوجودي.
لا تتركني في هذه الدنيا وأنت وحيدي.
وقبل أن تغادر، انحنت على يده، قبلتها من دون أن تلتفت الى وجهه، الذي لا تريد أن تراه ضعيفاً.

........................................


كانت عودة السفير شكري الى بيته مبكرة على غير العادة، وبعد إكمال جولة النقاش الأولى التي حاولت الزوجة فيها تهدئته جهد الإمكان، إتجه هو لتبديد قلقه بالاستماع الى الموسيقى، وأخذ قسط من الراحة، لكنه لم يتمكن، كان مثل مصاب بالحمى وسط صحراء.
نهض من مكانه.
عاود الجلوس الى جانبها على الاريكة داخل الصالة الواسعة.
استمرا بتبادل الدور الحواري، لتبديد القلق الآتي من وقع الاستدعاء.
سألتهُ عن حقيقة ما يجري في بغداد، وهل حقاً هناك مؤامرة؟.
تلكأ في كلامه، كأنه لم يستوعب الموقف حتى الآن، توجه الى التلفاز، فتحه على قنوات غربية، زادت من تلك الضبابية التي أحدثتها الصدمة أمام عينيه السوداوين، فما يتسرب أو يسربه الاعلام، انقلاب في بغداد، واعتقالات شملت قياديين كبار. أما هي فقد أخذت الهاتف بيدها، وأدارت القرص على الرقم الخاص لشقيقها، في مكتبه بالقيادة القطرية، وعندما فشلت تحولت على رقمه الآخر، في البيت ففشلت أيضاً. بعدها حاولت الطلب عن طريق بدالة خاصة، فأكد لها الموظف المختص قطع الاتصالات من جهة بغداد.
طلبت منه، وكخيار احتياطي، أن يؤجل تنفيذ الاستدعاء، يؤخره قليلاً حتى يتبلور الموقف تلقائيا، اقترحت دخول المستشفى بغية الحصول على سبب طبي للتأخير، بعد أن بدت علامات الإرهاق واضحة على هيئته العامة، مؤكدة في كلامها أن الوزارة ستتفهم الموقف المرضي، وستقبل التأجيل الى حين تحسن الوضع الصحي. وعندما لمست عدم تفاعله مع طلبها قالت، قلبي ورغم كل التوقعات، غير مطمئن تماماً، دعنا ننتظر أيام قد تنجلي هذه الغمة وتتوضح نتائج الأقاويل، وإذا لم تقتنع بالانتظار، يمكنني الذهاب هذا اليوم الى بغداد، والاتصال بشقيقك وشقيقي للتعرف منهما عما يجري وعن أهداف الاستدعاء.
ما الذي بدّلَ رأيك؟. وقبل قليل كنت متأملة إمكانية الحصول على منصب أرفع، قال شكري فأجابته على الفور، لا أعلم حقاً، لكن وقع الحدث، وما ترشح عنه، بات يقلقني أنا ايضاً.
فحاول من جانبه تهدئتها بالقول، حبيبتي لا يمكنني التأجيل.
أنتِ تعرفين شيئا وأنا أعرف أشياء، الرئيس لا يتسامح، طبعه شكوك، قد يفسر التأجيل رغبة في عدم الحضور، قد يضع من عنده أشياء في غير صالحنا، إنه في موقف صعب، هناك مؤامرة، ولا أريد أن يقال عني تأخرت عن الحضور أو خفت، وتماهلت في الالتحاق، الموقف أصعب مما تتصورين.
عند هذا الرأي والقرار، تحول من شخص يريد دعماً لقراره في تلبية أمر الاستدعاء، وتخفيف وطأته على النفس، الى آخر يحاول التخفيف من شكوك زوجته واقناعها، بأن ما يجري مسألة عادية، كذلك تريد هي من جانبها، تبديد الشكوك المسيطرة عليها وعليه معاً، فبادرت الاتصال بالسيدة "أم نداء"، ظانة امكانية قيامها، بتنويرهم عما يجري، فزوجها قريب من أصحاب القرار.
أدارت قرص الهاتف بانفعال واضح، كمن له أعصاب أخرجها توا من الثلاجة. بدأ الرنين متتابعاً، وحالما بدأ، سلمته السماعة، طالبة التكلم أولا.
إسأل عن حال طارق في المستشفى، أخبرها عن محاولاتك الاطمئنان عن صحته الغالية عليك، واتصالك السابق بالسكرتيرة، وبعد أن فعل، أخذت منه السماعة وأكملت هي الحديث عن المستشفى والتمنيات، عرجت قليلا على بغداد والاستدعاء وما يجري هناك، فحصلت من أم نداء على اجابات شكر مختصرة، كأنها تريد انهاء المكالمة، فقلبها موجوع لا يتحمل الاطالة.
وضعت سماعة الهاتف في مكانها، وعلقت بالقول، طبعاً من كانت يداه بالنار غير من كانت في العسل.
سألها عن القصد، فأجابته أنك أعرف بالقصد، فاتجه الى قطع الحديث، لا يريد التحدث عن صديقه المريض بهذه الطريقة.
طلبت من الخادمة الفلبينية أن تجلب الشاي الى مكانها على الكنبة، التي تجلس عليها في الركن الجنوبي من الصالة الواسعة. وهي في الطريق لإحضار الشاي، رن الهاتف بنغمته العادية.
رفعت السماعة، سلمتها الى السيدة حرم السيد السفير، التي تكلمت بلغة مجرية بسيطة، تفضلوا أنا حرم السيد السفير.
بادرها المتكلم بالتحية، والاستفسار عن أحوالها كما هي الأصول، وسألها بلغة عربية فصحى ان كان بالامكان التكلم مع سعادة السفير، ولتجاوز احراجها بعد تأكده من عدم معرفتها شخصه، عرفها بنفسه، أنا مايكل من وزارة الخارجية المجرية، أود مكالمة سعادة السفير، لم أتمكن من التكلم معه في مكتبه بالسفارة، قيل أن سعادته قد اتجه الى البيت.
شكرته على السؤال بلغة دبلوماسية جيدة، وأعطت السماعة الى شكري.
لم يناور في كلامه السيد مايكل، مدير قسم الشرق في الخارجية المجرية، كأنه لا يملك وقتاً للمناورة، أراد أن يسدي خدمة خاصة لصديقه السفير، الذي تربطه واياه علاقات خاصة تجاوزت حدود الدبلوماسية.
سلم بطريقة مهذبة فيها مسحة صداقة، دخل في صلب الموضوع مباشرة، نصحه بعدم السفر الى بغداد في مثل هذه الايام التي تضج بالمفاجئات.
ضحك السفير ضحكة مصطنعة، لأنه في وضع يصعب فيه الضحك.... ضحكاً تلقائياً قال بعد الانتهاء منه:
مايكل لم أكن أعلم أن للمجر قدرات فائقة، للتجسس على البريد الدبلوماسي المشفر فأجابه على الفور، أني جاد بكل معنى الكلمة، حيث لم أكن جاداً مثل اليوم، لسنا يا صديقي بصدد التجسس من عدمه، لدينا معلومات مؤكدة، من أن العراق يمر بأزمة لا تُعرف أبعادها، هناك قرابين ستقدم من الحزب الذي يحكم البلاد، ستفتح أبواب على العراق، لا أحد يستطيع غلقها.
أعاد النصيحة بضرورة التريث، قائلاً، لماذا الاستعجال؟. هناك كثير من التبريرات يمكننا إخراجها، لتأخير تنفيذ الاستدعاء.
يسكت قليلاً ثم يعاود الكلام، ما رأيك أن نعمل لك لقاء هام بالرئيس بعد أيام من الآن، يمكنك تحديد الوقت الذي تريد، وأنا من جانبي سأسعى الى تنفيذه بدقة.
رد السفير على هذه المكالمة المهمة شاكراً، مؤكداً العودة الجازمة بعد أيام، ومعه التمر العراقي الذي يحب، لكن التمر هذه المرة سيكون بَصرياً، لأنه النوع الوحيد الذي ينضج في النصف الثاني من شهر تموز.... مكالمة لم تثنه عن المغادرة، زادها الوقت الجاثم بطيئاً اصراراً على التنفيذ السريع، وكأن الانتظار أصبح عبئاً ثقيلاً عليهما معاً بطريقة تحول دون أي تأخير، عليه إضطرت الزوجة أن ترضخ للأمر الواقع صاغرة، فهي وان كانت قوية وقريبة الى قلب زوجها، لكنها لا تتدخل في عمله، ولا تريد أن تتحمل أعباء مسؤولية لا تعرف أبعادها.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/35404-2018-05-12-15-47-47.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

486 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع