فصل من كتاب..هكذا كشفتُ سراً من أسرار ثورة ١٤ تموز

     

    فصل من كتاب..هكذا كشفتُ سراً من أسرار ثورة ١٤ تموز

  

- نصير الجادرجي يروي أحداثاً من حياته

- قال لي عبد الكريم قاسم: لا تصفق


صلتي بالشيوعيين
بعد مضي مدة على وجودي في بغداد، طلب مني السيد (عصام القاضي) «أحد أعضاء التنظيم المركزي للحزب الشيوعي العراقي» والذي كان أحد المقربين من الشهيد (سلام عادل)، الالتقاء به في موعد حدده لي، وكانت صلتي الشخصية به جيدة.
أثناء لقائي به طلب مني إيضاح ماحصل في القاهرة فيما يخص معارضتي لتنفيذ قرار الحزب، فأبلغته بحيثيات ما جرى مبدياً رأيي بخصوصه الذي كنت لا أزال مصراً عليه، وفي أثناء الحديث أخبرني بوصول تقارير عديدة من القاهرة تفيد بأنني قد قدت تمرداً ضد الحزب هناك، ما يشكل إدانة كبيرة ضدي عند قيادة الحزب، وقال:
ما الذي سيحدث لو وافقت على مقترح القيادة ومن ثم أبديت رأيك بخصوصه.
نظرت إليه قائلا: كان سيتم طرد الطلاب الناشطين من مصر، لم أجبه بأكثر مما قلت له سوى بأنني مُصر على موقفي لأنه موقف صحيح.
شعرت أنه كان مكلفاً من قيادته لمعرفة رأيي عما حدث هناك، لكن حين رآني مصراً على ردة فعلي تلك، حياني بشدة طالباً مني الإذن بالمغادرة لينتهي اللقاء بود واحترام، فكان ذلك اللقاء الهادىء آخر صلاتي التنظيمية بالحزب الشيوعي العراقي حيث أصبحت صلتي التنظيمية به هامشية، لكن علاقتي بالعديد من قادته وأعضائه بقيت جيدة، في حين أن المحيط كان يظن أنني قد وصلت الى مراتب عليا فيه.

سر إسمه رفعة الحاج سري!
على الرغم من صغر سني في خمسينيات القرن الماضي، لم يمنعني ذلك من الاختلاط بالعديد من الشخصيات المعروفة على الصعيد المجتمعي ومن بينهم الضباط.
إذ كان همزة الوصل بيني وبين الضباط الاحرار في تلك الفترة هو الرئيس (النقيب) شاكر محمود، الذي كان من سكان محلة الفضل.
فقد كان شاكر محمود صديقاً للسيدين (عبد القادر نوري وسامي طبرة) اللذين من خلالهما تعرفت عليه عبر الجلسات التي كانت تجمعني بهما سوية، ومن خلالها كشف لي سر اتصالاته بالضباط الاحرار.
كان يأتيني ببعض الأموال (من التبرعات) طالباً مني منحها للحزب الشيوعي، حيث كنت أقدمها لهم، لكن دون أن اكشف مصدرها سوى إنها (تبرعات).
كان السيد (رفعة الحاج سري) جاراً لنا في شارع طه، وحين كان يمر الرئيس «النقيب» (شاكر محمود) ورفاقه من العسكريين لزيارته في منزله كان يسلم علي حين يلقاني، وكنت أطلب منه أو من الذين معه الدخول الى منزلنا لضيافتهم، فيقول عبارته التي كان قد كررها لأكثر من مرة:
«إذا أردت أن تضيفنا فيكفينا التبرك من دار كامل الچادرچي برشفة ماء»، وحال تقديم الماء لهم يشكرونني ويغادرون.
ذات يوم زارني الصديق (شاكر محمود) وطلب مني إبلاغي بسر كبير، إن كنت أهلاً لتنفيذه.
ثم قال:
هناك أحد قادة تنظيم الضباط الاحرار يرغب أن يفتح عبرك قناة اتصال بالحزب الشيوعي شريطة عدم البوح بأسمه نهائياً... فقلت:بإمكاني فعل ذلك وأتعهد بالكتمان.
وفعلا أبلغت قيادة الحزب عبر السيد (عزيز الشيخ) عضو اللجنة المركزية، بأن هناك ضابطاً كبيراً من الضباط الاحرار، هو ذاته الذي أوصل عبره التبرع لكم، يريد أن يفتح قناة اتصال معكم عبري.
وحين طلبوا مني معرفة اسمه، قلت لهم اذا الححتم عليّ فاعتبروا الاتصال به ملغياً بناءً على طلبه، فعلق عزيز الشيخ قائلاً:
هذا غير منطقي، فإنك عضو نعتز به، الواجب يحتم عليك إخبارنا بكل شيء.
فقلت له: إذاً عليك اعتبار هذا الموضوع منتهياً من الآن.
فقال: حسناً، سنجرب...ووافقوا على ذلك.
كان عزيز دمث الأخلاق هادىء الطباع، متواضعاً وكتوماً وعلاقتي الشخصية به جيدة.    
بعد مرور عدة أيام زارني الرئيس (شاكر محمود) ووجه سؤالاً عن لسان (رفعة الحاج سري) كان مفاده:
في حال ارساله خبراً هاماً الى اللجنة المركزية للحزب، فكم من الوقت سيستغرق إيصاله، وكم من الوقت يستغرق الرد عليه؟!.
قلت له: ايصال الخبر يستغرق ساعات قلائل لاتتعدى يوماً واحداً كونه سيكون من قبلي، أما الاجابة عليه فذلك ما لا أستطيع تحديده، لذا علي مفاتحة اللجنة المركزية بالأمر كي أحدد لك وقته عن لسانهم.
«كان ذلك في عام 1956».
كان السيد (عزيز الشيخ) يسكن في منطقة خضر الياس في الكرخ، وكان يعمل موظفاً في احدى شركات التأمين (توظف فيها بعد خروجه من السجن في ربيع عام 1955)، وكنت كثير التردد عليه في مقر عمله، والتقي به مساءً في (قهوة ياسين)، بمعنى ان اتصالنا كان يتم بشكل دائم وشبه يومي.
في مساء ذلك اليوم فاتحته بالأمر فأجاب بأن الرد على رسالة (ذلك الضابط) في حالة كونها مسألة هامة قد لايتعدى يوماً واحداً.
أذكر هذا الأمر عن (رفعة الحاج سري) الذي يُعد من أهم قادة تنظيم الضباط الأحرار بل من الأوائل الذين بدأوا بالتنظيم، وكما هو معروف بإلتزاماته الدينية حيث كان زملاؤه الضباط يطلقون عليه لقب «الشيخ»، كما عُرف أيضاً بإتجاهاته القومية، وهذا لايعني أنه كان من مؤيدي الحزب الشيوعي (بل العكس هو الصحيح)، لكنه أراد الاتصال بفصيل مهم من فصائل الحركة الوطنية آنذاك حرصاً منه على تعبئة أوسع قوى ممكنة لإسناد الثورة المخطط لها وإنجاحها، وأعتقد بأن هذا الأمر كان طبيعياً لشخص مثله وبمكانته، ولا أعلم فيما إذا كانت لديه اتصالات متعددة بفصائل أخرى من الحركات الوطنية آنذاك.

كشف السر
تمت الأمور على مايرام ولم أبح بالسر حتى بعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز ولسنين طويلة... لكن بعد إنبثاق الجبهة الوطنية بين الحزب الشيوعي وحزب البعث في عام 1973 التي كنت منتقداً لها أشد الانتقاد، أقام الأخ (رؤوف آل ديبس) وليمة عشاء في منزله، دعيت لها وحضرها العديد من قادة الحزب الشيوعي من اعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي وكان ذلك في أوائل أيام انبثاق تلك الجبهة.. وكان من بينهم السيد (عزيز محمد) سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي والدكتور (مهدي الحافظ) والسيد (عامر عبد الله) وآخرون..
اتجه نحوي (عامر عبد الله) وسألني قائلا: أريد أن أسألك سؤالاً كثيراً ماجال بخاطري
قلت له: تفضل واسأل.
فقال: من الضابط الكبير الذي كان يتصل بنا عبرك ورفضت البوح بإسمه؟!.
أجبته: رفعة الحاج سري..
حينها أبدى دهشة كبيرة تجاه ما سمع، وقال: لماذا لم تخبرنا بهذا الامر؟!.
قلت: لأنني قطعت له عهداً بعدم البوح باسمه.

زواجي
بتاريخ 17/8/1961 تزوجت من السيدة (أميرة عبد الوهاب الرفيعي) وهي من عائلة دينية (شيعية المذهب) ولم يُثر حينها أي نقاش حول اختلاف المذهب بين عائلتينا، بعد فترة خطوبة اعتيادية تمت دون أي مراسم.. كنا قد قررنا ذاتياً الزواج من دون مساعدة مالية من أي أحد، فقمنا بجمع مابحوزتنا من أموال ادخرناها، حيث كانت موظفة، وكنت أنا أعمل ايضا وعندي بعض الواردات المالية.. لم نستعِن بأي أحد واشترينا الاثاث وجمعناه، ومن ثم استأجرنا منزلا في منطقة المنصور وسكنّا فيه خارج منزل الأسرة بتأييد من والدي ووالدتي لمنح الاستقلالية لنا، ولكي لاتشوب علاقتنا أية عثرات بعد الزواج...كان مقدم الزواج ديناراَ واحداَ والمؤخر ديناراً، وقد طلب القاضي أن يكون المؤخر مبلغاً أكبر من ذلك، لكننا اخبرناه عن اتفاقنا المسبق وقلت له: المهم هو التفاهم بين الطرفين، وما قيمة المبلغ وهل هو الحامي لهذه الرابطة؟!.
ذهبنا الى المحكمة الشرعية وعقدنا القران فيها، ولم نقم بأي حفل زواج من باب تمرد الشباب الذي كان سائدا في تلك الفترة، حيث كنا نعد مظاهر الاحتفال بالزواج ضربا من ضروب الترف ومن المظاهر التي لانستسيغها.
بعد عقدنا القران في المحكمة بتنا ليلتنا في دار والدي وذهبنا منه الى كردستان لقضاء شهر العسل في مصايفها لمدة 8 أيام وعدنا الى منزلنا الجديد في منطقة المنصور المُستأجر لمدة سنة واحدة، ثم انتقلنا بعدها الى دارنا الجديدة التي شيدناها في شارع طه (مقابل بيت الأسرة) الذي ترعرعت فيه لحبي لهذا الشارع وتواصلي مع ذكرياتي الجميلة فيه.
أعتقد ان الإنسان يجب أن يبني حياته ومستقبله بيده وأن بيت الزوجية يبدأ صغيرا ثم ينمو تدريجيا ثم يصغر ثانية.
وأن شراء حاجياته التي يقتنيها بدون جهد الانتقاء والتدخل من قبله لايكون ملتصقا به ولا يشكل ذكريات شبابه الجميلة في كبره.

لقائي بالزعيم!
كان الزعيم (عبد الكريم قاسم) يتمتع بشعبية كبيرة في العامين الأولين لثورة الرابع عشر من تموز، أما والدي فلم يكن حينها كثير الكلام عنه، غير أنني كنت أدرك رأيه فيه بأنه (لايصلح لإدارة الدولة).
في أوائل عام 1959 زار وفد من طلبة وأساتذة كلية الحقوق مبنى وزارة الدفاع، للقاء رئيس الوزراء (الزعيم عبد الكريم قاسم) بعد أن قمت بالتنسيق مع مرافقه السيد (قاسم الجنابي) بخصوص تلك الزيارة، قبل عدة أيام.
أدخلونا في الطابق الثاني من مبنى الوزارة الى غرفة طويلة (أشبه بالصالة)، كانت تتوسطها طاولة كبيرة (للاجتماعات) تحيطها الكراسي.
وفي أثناء انتظارنا لحضور الزعيم، كنت منزوياً في أحد أركان القاعة أتحدث مع مرافقه السيد (قاسم الجنابي)، وبعد مضي نصف ساعة من وقوفي معه، دخل الزعيم وسط عاصفة من التصفيق.. إلا أنني بقيت على وقفتي بمعزل عنهم، دون أن اشاركهم التصفيق، الأمر الذي أثار انتباهه كما يبدو.
لحظتها سار بهدوء ليقف قبالتي، متعمداً مصافحتي قبل بقية الحاضرين، ثم بدأ بمصافحتهم الواحد تلو الآخر، لكنني لمحت في نظراته لي تساؤلات عن سر عدم مشاركتي الآخرين بالتصفيق.
بعد الجلوس بدأ حديثه عن ثورة 14 تموز ومجرياتها، مشيراً إلى أنه قد عزم على تصفية الرؤوس الثلاثة (الملك والوصي ونوري السعيد) في منطقة الرطبة قبل الثورة بعدة أشهر، لكن المحاولة تلك قد فشلت جراء عدم حضور نوري السعيد.
استرسل في حديثه ليصل بالاشارة الى شعار الجمهورية الجديد، منوها عنه الى أن فروع السنبلة الثلاثة عشر غير مقصود بها حروف اسمه مثلما يشيع بعض، بينما لم نكن قد سمعنا بمثل هكذا إشاعة.
وقبل أن يهم بإنهاء الحديث، قدمت احدى المداخلات (التي لا أتذكرها) فرد علي بعبارة تتخللها المفردات الوطنية المعروفة عنه، ليبادر الجالسون بالتصفيق، لكن دون أن أشاركهم أيضاً!.
بعد أن انتهى الاجتماع وقفنا لتوديعه فعلقت على جملة قالها سرعان ما عقب عليها بسرعة بديهة وكان تعليقاً جيداً، ليصفق له الحاضرون أيضاً بوضع الوقوف هذه المرة، من دون أن أشاركهم كالعادة.
كان يقف خلفي أستاذ مادة العقوبات في الكلية (الدكتور علي حسين الخلف) وكان ذا خلق رفيع وعلاقته بالطلاب جيدة، فقام بضرب كتفي بكلتي قبضيته منادياً علي أمام الزعيم قائلاً(صفق.. صفق)..
حين رفعة كفي للتصفيق احتضنني الزعيم وقال لي: لا تصفق...
نزلنا الى التصوير معه في باحة الوزارة، حيث تهافت الطلاب عليه، طمعاً بالوقوف الى جانبه من أجل التقاط الصورة، لكنني انزويت جانباً كي لا اشاركهم.
لمحني من بعيد، لينسل من وقفته مقترباً مني، وسط صمت الزملاء ونظرات الدهشة التي كانت تعتريهم فقال لي:
حضرتك عضو في الاتحاد؟.
أجبته: نعم ياسيادة الزعيم.
قال: يبدو أنك لاتريد أن تأخذ صورة معي.
قلت له: لا والله لكنني لا اريد أزعاجك.
فقال: تعال قف معنا لإلتقاط الصورة.... وفعلاً جئت اليهم لأقف بقربه، وتم أخذ الصورة مع جموع الطلبة، لكني لم آخذ نسخة منها فيما بعد!.
تلك كانت مقابلتي مع الزعيم عبد الكريم قاسم، والذي يبدو أنني قد لفت نظره فيها جراء مابدر مني من تصرف، حيث لم يكن يعرفني لكني أظن أنه اعتقد بأنني بعثي أو قومي.
حين عدت الى المنزل رأيت والدي مستلقياً في فراشه لإصابته بالزكام.
سألني: كيف رأيت الزعيم؟!
أجبته: كنت أظنه زعيماً.. لكنني لم أرهُ كذلك.
إبتسم دون أن يُعلق..
أما عن الصورة، فقد كان موقفي غريباَ من أخذ الصور الفوتوغرافية في حينها، وليس لدي أي تفسير لهذه الحالة.
حتى في يوم تخرجنا من كلية الحقوق، كنت قد ذهبت مع الطلاب الى قاعة (بهو الأمانة) التابعة لامانة العاصمة والملاصقة لوزارة الدفاع، لأخذ تصوير التخرج الجماعي حيث كنت موجوداً ولكن لم أقف عند التصوير.
موقف مُحيّر غالباً ما أتخذته، وقد فاتني على أثره توثيق الكثير من جوانب حياتي بلقطات فوتوغرافية وأنا نادم على ذلك الأمر.. فيبدو إنني لم أتخلص تماماً من تمردي.

مع شاعر العرب الأكبر
كنت في أيام دراستي الجامعية موظفاً في دائرة الأموال المجمدة، حيث كنت حينها أحد موظفي (شعبة الايجارات).. وكانت وظيفتها تنظيم عقود الايجارات وتوجيه الانذارات لمن لايدفع الايجارات الى الدولة.
ومن المؤكد أن العمل في هكذا دائرة ستتخلله العديد من المواقف التي تبقى راسخة في الذاكرة ومن ضمنها ما سأرويه:
ذات يوم جاءني أحد الاشخاص وأبلغني بأن الاستاذ (محمد مهدي كبة)  يريد أن يزور الدائرة لاجراء عقد معها كونه يسكن في عقار تابع (للأموال المجمدة)، وكان ذلك في شهر نيسان من عام 1959، وكان حينها مستقيلاً من عضويته في مجلس السيادة.
ذهبت لمسؤولي الأعلى (مساعد الأمين العام) السيد (هاشم طه الراوي) وأخبرته بالأمر، مبدياً رأيي بأن ليس من اللائق أن يزور شخص مثله الدائرة لتوقيع تجديد العقد، سيما وأن هذه الأيام تشهد زخماً من المراجعين لدائرتنا.
رد علي قائلاً:انني لست معنياً بالأمر،فكما ترى حالة البلد التي نمر بها (بعد حركة الشواف) ، فأردف قائلاً: ما الضير من مجيئه؟!، فقلت له: قبل عدة أيام أخبرتني بتنظيم عقد وإرساله لأحد الاشخاص وكان أحد مدراء الشرطة الذي يعد أقل شأناً منه. فقال: تصرف كيفما تشاء وعلى مسؤوليتك.
عدت الى المُرسل وأجريت له العقد كاملاً، وطلبت منه ابلاغ سلامي الى السيد (كبة)، فشكرني على خدمتي له وانتهت القضية بدقائق معدودة.
في تلك الفترة كان شاعر العرب الأكبر (محمد مهدي الجواهري) مستأجراً لدار تابعة للأموال المجمدة وفيها مطبعته، وقد كان مديناً لدائرتنا بمبلغ قدره (400 دينار) لم يسدده.
وفي أحد الأيام وجدت على طاولتي إنذاراً مطبوعاً وموقعاً، كان قد وجه الى السيد (محمد مهدي الجواهري) بصيغة غير لائقة وهذا أمر غريب لأنني المسؤول عن توجيه الانذارات.
سألت زميلي عن الذي قام بهذا العمل، لكنه نفى علمه بهذا الكتاب وكان صادقاً بقوله.. فأخذت الورقة الى السيد (هاشم الراوي) الذي كان موظفاً كفوءاً وذا خلق عالٍ، وسألته عما اذا كان يرضيه تصرف كهذا بحق الشاعر الجواهري.
فأجابني قائلا: ما الذي نقوم به إن كان لايدفع، ولاعلم لي بهكذا كتاب؟!.
قلت له: مع ذلك ليس من اللائق أن نوجه له إنذاراً بهذه الصيغة!.
نفى علمه بالموضوع وطلب مني التصرف كيفما أرتأي، لتخليصه من هذا الموقف إسوة بما فعلته مع قضية محمد مهدي كبة.
أخبرته بعزمي بتمزيق الانذار.. فقال: لا دخل لي افعل ماتشاء.
مزّقت الورقة أمامه وخرجت.
يبدو أن تصرفي هذا قد وصل خبره الى الجواهري، وبالتحديد عبر الصحفي (يوسف متي) الذي طلب مني رقم هاتف الدائرة، وبعد عدة أيام اتصلت بي زوجة الجواهري عبر الهاتف في الدائرة وسلمت علي وعلى اسرتي فرداً فرداً وسألت عن زوجتي كونها كانت تعرفها، وبعد أن سألت عن أحوالنا جميعاً قالت لي بأننا مدينون الى دائرتكم بمبلغ قدره 400 دينار، سائلة: هل بإمكاننا دفع مئة دينار منها؟!.
قلت لها: إبعثي لي بعشرة دنانير فقط من الأربعمائة دينار التي بذمتكم لنا.
فقالت: كيف؟
قلت لها: افعلي هكذا واتركي الأمر لي.
بعد مضي ساعة ونصف رأيت الجواهري يقف قبالة طاولتي في مكتبنا بالدائرة.. وحين رأيته عانقته وأبديت احتفائي به، ودعوت الموظفين لمشاركتي بذلك، ما أثار الغبطة والسرور في نفسه لاحظناها جميعاً عليه.
علق على ماقمت به وقال لنا جميعاً:
مضى شهر علي لم أخرج خلاله من المنزل، بسبب قيام أحد الأشخاص (صعلوك) برمي الحجارة عليّ.. ثم قال:
قلت في نفسي حينها: هذا الشعب لايستحق منا شيئاً.
بعد ثوانٍ من الصمت قال:
لكنني حين استمعت الى مكالمة زوجتي (أم نجاح) معك وشرحت لي موقفك معي غيّرت رأيي بهذا الشعب وقلت بأنه طيب ويستحق كونك منه، فأصريت على زيارتك وإبداء شكري لك.
ناولني مبلغاً من المال، لكنني أصريّت على أن يكون عشرة دنانير فقط، وأبدى تساؤله فيما اذا كان يصح ذلك وأكدت له بأنه يصح.
لكن أحد الموظفين أخذ منه العشرة دنانير، وقال بأنه سيدفعها الى المحاسب، لكنه سيحتفظ بها كإرث تاريخي قادم من شاعر العرب الأكبر وسيسلم غيرها الى دائرته، ما أثار السرور في نفسه مرة أخرى.
ودّعناه الى الشارع العام حيث استقل سيارة تكسي، ليكون ذلك اليوم إيذاناً بصداقة طويلة جمعتني به ومازلت أعتز بها.
*مذكرات نصير الجادرجي.. اصدار دار المدى 2017


  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1207 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع