'يحدث في بغداد' لعبة ميتاسردية تكشف عن الخراب

                

                      امرأة بطلة لعبة مدمرة

اشتغلت الكثير من الروايات العراقية على الواقع العراقي المتفكك، ورصد خباياه الاجتماعية والنفسية، ما مثل عوالم سردية ثرية لكتاب الرواية. يبقى أن لكل طريقته في الاشتغال على هذا الواقع، سواء بالترميز أو بطريقة مباشرة.

العرب /عواد علي:تقوم رواية “يحدث في بغداد” لرسول محمد رسول، على بنية ميتاسردية، وهي لعبة ماكرة تتمرأى الرواية من خلالها في ذاتها، أو تنشغل بهموم وآليات الكتابة السردية عن وعي قصدي. فها هنا رواية داخل رواية تسيران في خطين متوازيين أحدهما واقعي، افتراضاً، والثاني تخييلي يسفر عن كونه خطابا سرديا.

الفصول الناقصة

بطل الرواية الأولى “سعيد الدهان”، موظف في وزارة الثقافة، يشعر بألم شديد من الكارثة التي حلّت ببغداد، ومن صعوبة الحياة فيها، وهو رجل مثقف حساس ومتعاون ومُحب للناس، ولا يتردد في التبرع بدمه لابن سيدة تبحث عمن يتبرع لابنها بالدم، بل يعرب عن سعادته بذلك، إيمانا منه بأن من الخير أن تنقذ الدماء حياة الناس الذين يحتاجون إليها بدلا من أن يبتلعها إسفلت الشوارع والأرصفة، أو يحرقها بارود المفخخات الفاتك. كما يتسم تعامله مع زوجته “مريم الشبلي” والمحيطين به بالمحبة والاحترام والنبل. إنه أنموذج للمثقف الملتزم بهموم وطنه وشعبه.

تقع رسالة في يد “سعيد الدهان” مرسلة من ناشر لبناني إلى صديقه الراحل “مرهون الشاكر”، الذي كان يعمل معه في الوزارة، يطلب فيها منه إرسال مخطوطة روايته قبل الموعد المتفق عليه بشهرين حتى يتمكن من طبعها وترشيحها إلى إحدى الجوائز العربية.

وحين يذهب “سعيد الدهان” إلى بيت أم صديقه يعثر على مخطوطة الرواية، التي تحمل عنوان “ينحني الصابر للوجع”، وهو عنوان مأخوذ من قصيدة “في ألبوم الضيوف” للشاعر النمساوي جورج تراكل، تغلب عليها مسحة الحزن والكآبة، يقول فيها “ينحني الصابر للوجع، مترنما بصوت رخيم وجنون ناعم. انظر شفق السماء من جديد يعود الليل وينوح، ويكابد معه الآخر، مرتجفا تحت نجوم الخريف، وعاما بعد عام ينحني الرأس بعمق أكثر”.

يشعر الدهان بالنشوة لأنه تحصّل على الكنز مكتملا (أي مخطوطة الرواية)، ويقرر إرسال المخطوطة إلى الناشر. لكنه يُصدم بفقدان الفصل الثاني والخامس منها، فيشرع في البحث عنهما إلى أن يكتشف أن “نهى”، زوجة الراحل، هي التي أخفتهما أثناء رقوده في المستشفى.

كان “مرهون الشاكر” يعاني من مرض مفاجئ في رئته، ومن تصرفات زوجته “نهى”، التي لم ينسجم معها بسبب اختلاف عالميهما، فهي لا تريد العيش مع مثقف مبدع، بل تبحث عن زوج ثري يفرش تحت أقدامها ليرات من الذهب، ويمنحها كل شهر تذكرة سفر وحفنة دولارات لتلهو بالحياة بعيدا عنه، في حين أن “مرهون الشاكر” رجل يعيش حياة متواضعة، بعدما تزوجها إثر مقتل زوجته الأولى “فاطمة البصري” مع أهلها، بصاروخ أميركي سقط على منزلهم عام 1991.

لقد جلبت له “نهى” المصائب، وكأنها روح شريرة عصفت به وببيته، بل ببغداد ذاتها قلب العراق. وكان قد ترك أمه وحيدة ينهشها الحزن، وهو آخر أبنائها الأربعة.

ومن ذلك نكتشف سر اقتباس “مرهون الشاكر” عنوان روايته من قصيدة تراكل، إذ أننا نجد في أغلب قصائده الألوان الداكنة والقاتمة، من الغروب إلى الغسق إلى الظلام إلى الموت.

امرأة لعوب

تُجري إحدى الصحافيات حوارًا مع “سعيد الدهان” حول صديقه القاص والروائي الراحل يكشف فيه عن موضوع الرواية واختفاء فصلين منها، فتنتشر القضية، وتصل إلى القضاء بهدف استعادتهما من الزوجة. يعرض سعيد خلال تلك الأحداث مقتطفات من الفصل الأول من الرواية، التي تدور حول زوجين هما “رشيد” و”سهى”، ويجد تشابها بين العلاقة التي تربط بين هذين الزوجين والعلاقة التي تربط بين مؤلفها وزوجته.

وحين يمضي في تحليل الرواية، يقع على إشارات دالة فيها تفيد بأن “نهى” كانت تخون زوجها، الأمر الذي يدفعه إلى تقصي سلوكها، فيكتشف أنها كانت على علاقة مع أحد جيران أهلها، وتمارس الجنس مع ضابط شرطة وشخص إرهابي في آن واحد.


تقول “سهى”، التي هي قناع لـ”نهى”، في الفصل الرابع من رواية “مرهون الشاكر”: “لأول مرة يتفق ضابط مع إرهابي على قضية واحدة، هي قضية اسمها جسدي”. لذلك، لم يكن تنفيذ زوجة “سعيد”، عملية انتحارية (تفجير سيارة مفخخة) في نهاية الرواية، أمراً غريبا، بل تعبير عن لجوء الإنسان الفاشل إلى تدمير ذاته.

لكن ما يثير الغرابة كيف ارتضى “مرهون الشاكر” لنفسه أن يتزوجها من دون أن يحبها، وهو رجل مثقف ويعرف أنها امرأة غامضة، كما يعترف؟ هل نمنحه عذرا لأن أمه كانت تلح عليه بأن يتزوج لينجب أطفالا يرثون سلالة أبيه، ويجددون حياته من بعده؟

إذا نظرنا إلى هذه المسألة من منظور واقعي نجد أن آلاف النساء في المجتمع البغدادي هن أفضل منها، خاصة أن نسبة العوانس والأرامل في هذا المجتمع تفوق أي مجتمع آخر بسبب الحروب والكوارث التي ابتلي بها قبل الاحتلال وبعده.

ربما كان على محمد رسول أن يوجد مسوغا أكثر إقناعا لقبول زواج “مرهون” من هذه المرأة اللعوب، التي دمّرت حياته، كما دمرت الحرب حياة الشاعر تراكل.

تقصّد الكاتب رسول محمد رسول إضفاء بعد سيميائي على اسمي الشخصيتين الرئيستين في الرواية (سعيد ومرهون)، حيث أن اسم الأول ذو محمول دلالي يشير إلى وضعه الاجتماعي والنفسي، فهو يشعر بالسعادة في علاقته بحبيبته الغالية زوجته “مريوم” كما يحلو له تدليعها، في حين أن اسم الثاني يشير إلى أن صاحبه رهين واقع اجتماعي مدمّر، حيث تمزق كيانه علاقة تعيسة غير متكافئة مع زوجة منحرفة.

وترشح عن كلا المحمولين الدلاليين إشكالية يمكن تأويلها سياسيا، ولها حضورها الطاغي في الواقع العراقي المأزوم.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

892 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع