شعر عراقي ينقل القصيدة المضادة من العتمة إلى الضوء

            

                 الأداء الشعري غير مفهوم النص

 تقترح نظريات الأداء المعاصرة ممارسة الشعر جسدياً، إذ لم يعد حبيس الكتب والصفحات والجلسات السريّة لقراءته، فالممارسة الأدائيّة للشعر تكسر الهالة والقدسيّة المحيطتين به، ليمتد لا فقط في موضوعاته بل في فضاءات تلقيه نحو أماكن أخرى كالساحات والمشارح والمقابر الجماعيّة وغيرها من الفضاءات التي يعاد تكوينها حين يحضر فيها الشعر بوصفه “كلاماً أدائياً”.

العرب /عمار المأمون:المقاربة الأدائية للشعر تجعل المؤدي-الشاعر يعمل على عدة مستويات تعيد مساءلة النص الشعري وتفتح مجالات جديدة للأداء الجسديّ، إلى جانب كسر الألفة المرتبطة بالفضاء وتعريفاته المسبقة، فالشعر وفن الأداء يحضران معاً بوصفهما ممارسة تتحدى وضعيات الجسد وتزعزع السياقات التقليديّة لحضوره إلى جانب الشعر.

جماليات الخراب

صدر هذا العام للشاعر العراقي كاظم خنجر كتاب "تاجر الدم" باللغتين الفرنسيّة والعربيّة، ترجم نصوصه إلى الفرنسيّة أنطوان جوكي، وإلى جانب النصوص الشعريّة نشاهد سلسلة من الصور التي يحضر فيها الشاعر خنجر ملقياً القصائد ضمن مجموعة من عروض الأداء الشعريّ التي قام بها في العراق والتي يستمر بها حالياً في فرنسا.

يُذكر أن خنجر صدر له سابقاً ديوان “نزهة بحزام ناسف” إلى جانب كونه من مؤسسي ميليشيا الثقافة في العراق، وهو من مواليد 1990 في مدينة بابل وحاصل على ماجستير في الفنون المسرحيّة.


الأداء الشعريّ الذي نرصد معالمه في الكتاب هو محاولة لتوثيق فعلٍ مضى، نحن نقرأ آثاراً لأداء تم بين القنابل والسيارات المحترقة وأمام جثث الموتى، فالأداء وليد لحظته ولا يتكرر والكتاب محاولة للامتداد في الزمن لخلق انطباعات عن هذا الأداء، ليتداخل التصوير الفوتوغرافي والنص في التقاط صدى له، فالشعر في هذه الحالة حين يدوّن يفقد حيوية الأداء.

ومع ذلك، نقرأ في الكتاب محاولات خنجر لكسر الألفة المرتبطة بالموت والخراب، فهو هناك حاضر جسداً وشاعراً، حيّ بين الأشلاء يزخرفها ليلقي قصائده التي تغمس بالدم وبارود الرصاص. كذلك نرى خنجرا يلقي الشعر من داخل تابوت، أو من داخل قفص مستعداً كي يتم إعدامه، فالأداء الذي نرى آثاره يكسر احتكار الموت لتلك الأماكن مضيفاً إليها حساسية شعريّة واحتمالات جماليّة أخرى.

نتلمس في النصوص الأولى من الكتاب موضوعة الملل، ذاك السائل المائع الذي يتسلل بين فراغات حياتنا اليوميّة، لكن هذا الملل هو أنيس الموت الآن، الذي لا شيء مميزا فيه في بلاد روضته ثم دللته وتتبادل معه الوقت والأجساد، هو حدث طفيف ومتداول بين الأفراد واحتمالات الضحايا، إذ نقرأ “يتحدث الناس هنا/ عن سيارة مفخخة لم تنفجر/ تتجول منذ البارحة، سيارات الشرطة تروح و تجيء/ بصافراتها المريضة/ في شوارع خوفنا، المفخخات التي لا تنفجر في يومها/ ستكون باردة ويابسة/ كالطعام البائت”، فالموت الملول يقاسمنا حياتنا، يشاهد التلفزيون، يتناول الطعام وقد يأوي إلى الفراش مع أحدهم، يحكي له عن رؤوس مقطوعة بابتسامات صفراء.

بعض النصوص في الكتاب تقترب من اللغة اليوميّة والمتداولة، بالإمكان تبرير ذلك وإيجاد معادلات عن جسد القصيدة وغيابه كونها تستند إلى أشلاء، لكن أحياناً نرى بعضها لا يتجاوز الزخرفة والألاعيب الكلاميّة والمفارقات اللغويّة وكأن خنجرا متمسّك بعبارة واحدة يدور حولها كنص “نضحك من الملل” الذي عنوانه بالفرنسيّة “نموت من الضحك”؛ إذ نقرأ “الانفجارات مُتقطعة في الأيام الأخيرة/ وحتى نحن تغيّرنا كثيراً/ فقد كنّا نتقطع عندما كانت مستمرة/ كنّا نبكي ونلطم/ أما الآن نضحك فقط/ نتدحرج على الأرض من الضحك/ نضحك حتى تنفصل الأعضاء عن بعضها البعض ويخرج الدم/ نضحك لتطير الشظايا/ وتوقد النيران/ فحتى الأطفال يتفتتون من الضحك/ في الأيام الأخيرة/ نموت من الضحك فقط”.

سؤال الشعرية

يختبر خنجر في بعض النصوص الحياة اليومية خارج العراق، نقرأ محاولاته للحفاظ على تماسكه الجسديّ من الانفلات، وكأنه خزّان متحرك لألعاب الحرب التي دمغت جسده، ككائن مصاب بجذام الخراب الذي لا تمحى آثاره، فهو يكتشف حضوره اليومي ضمن فضاء غير مهدد بالانهيار، إذ لا انفجارات ولا قطع رؤوس، نقرأ “يحب الفرنسيون تربية الكلاب/ وعندما أراهم يتجولون بها!/ أركض بعيداً/ كي لا تشم الجثث على ثيابي”، اليومي هنا لا يُسائل العوالم اليوميّة ولا يقترح احتمالات أخرى ولا محاولات لدفع القصيدة إلى الأقصى، بل مجرد تساؤلات وملاحظات، أشبه بمن يتلمس لأول مرة جسدا غير مقطّع، واصفاً حركاته الطبيعية وكأنه يشهد كائناً خارج احتمالات التشظّي.

نقرأ في الكتاب ملحقين، الأول بعنوان “أرشيف للأصدقاء القتلى وعن بوستراتهم في الشوارع”، وفيه نقرأ ما يشبه رثاءً لأصدقاء عرفهم كاظم ورحلوا عن عالمنا، إما قطعت رؤوسهم وإما بقيت منهم أشلاء متفرقة، لنراه واقفاً أمام صورهم وبوسترات موتهم، كونها دليلا على الموت العمومي، هي في الأماكن العامة تقاسم الناس همومهم واحتمالاتهم بالفناء، أشبه بدلائل النهاية، فأصحابه صور على الجدران لكن خلافا للواقع رقابهم لماعة في الصور، لا أثر للخنجر الذي حزّها.

في الملحق الثاني بعنوان “يوميات طائفيّة” نقرأ ما يشبه الأناشيد أو التراتيل القصيرة، يهجو ويسخر فيها خنجر من الحرب الطائفية التي تدور في العراق، مطمئنا الجميع بأن هناك الكثير من الموت، يكفي ليروي عطشهم ويسد جوعهم بل ويؤمن لهم الكثير من الرؤوس المقطوعة للراحة فوقها أو دحرجتها للتسلية وتمضية الوقت.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

872 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع