رحيل رائد المسرح الشعري العراقي الشاعر معد الجبوري

   

     شاعر قمة الأخلاق والكبرياء رفض ترك بلده

  
قليلون هم المبدعون الذين يتمسكون بمدنهم وأوطانهم حتى وهي في أسوأ حالاتها، ولا أسوأ من حالات الحرب والاحتلال. واقع مدمر مر ومازال يمر ببلد ثري بمبدعيه هو العراق. واقع أدى إلى هجرات كثيرة في صفوف المبدعين والمفكرين والمثقفين، إلى منافي المجهول حاملين معهم وطنهم الذي لا يموت، لكن هناك من خيّر البقاء، رغم أن هذا البقاء قد يفني حيواتهم. والشاعر معد الجبوري الذي فارقنا منذ أيام واحد ممن خيروا ألا يغادروا الموصل بالعراق.

العرب - سلام الشماع:فجعت الأوساط الثقافية والأدبية في العراق برحيل الشاعر والمؤلف المسرحي العراقي معد الجبوري أواخر الأسبوع الماضي، في مدينة الموصل، التي تشهد أوضاعا شاذة نتيجة الحرب، التي تشنها على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، قوى دولية والجيش العراقي وميليشيات محلية.

ويعد النقاد الشاعر الجبوري أحد أبرز الشعراء العراقيين الذين واكبوا تطور القصيدة العربية وجربوا الخروج بها إلى فضاء أوسع، من خلال تواصل إبداعه وحضوره في واجهة المشهد الثقافي، منذ أواخر ستينات القرن الماضي حتى الآن.

الشاعر المسجون

تروي الشاعرة بشرى البستاني، التي كتبت عنه دراسات عدة، وناقشت بحوثا أكاديمية مختلفة عن شعره، بصفتها أستاذة الأدب والنقد في كلية الآداب بجامعة الموصل، لـ”العرب” أن الجبوري لم يكن يعاني إلا من مرض السكري الذي يرتفع بجنون حزنا وقلقا على الموصل، التي كتب فيها قصائد رائعة، كما كتب عن تراثها الحضاري وحوّل ذلك التراث الحركي إلى مسرح، لكن ما تسبب في موته انهيار الخدمات الصحية في الموصل وشح الأدوية وحرق المستشفيات ورحيل الأطباء خارج الموصل.

تحمل البستاني الحكومة العراقية المسؤولية عن وفاة الجبوري، لتنصلها من واجباتها تجاه شعب الموصل، وعناصر تنظيم داعش، الذين اضطروا أولاد الشاعر إلى سجنه في البيت خوفا عليه منهم.

تقول إن الشاعر رفض مغادرة الموصل، وقال لها “أنا يا بشرى هكذا أفهم الحب.. ألا أغادر من أحب”. وأشارت إلى أن الشاعر أرسل إليها ديوانه “عزلة في الرماد”، وهو آخر أعماله الشعرية، متمنيا أن تتمكن من نشره.

تضيف البستاني “أن الجبوري شاعرٌ موهوب، تشكيلاته تتوهج إيقاعا وتراثا وحداثة، ويعدّ رائدا مهما من رواد المسرح الشعري، ولثراء تجربته مازال الشاعر مصدرا مهما لدراسات نقدية كثيرة”.

في ديوانه الأخير “عزلة في الرماد” يقول الجبوري:
قصائد تتناغم فيها الأصالة والابتكار

“طالِعاً مِن صخَبِ الريحِ،

ومِنْ عُمقِ الدُّوارْ

وبحلقي زهرةُ الدِّفلَى،

وحلْمي جُلَّنارْ

أدفعُ الصخرةَ

من وادٍ إلى وادٍ

بأقدامي التي تكسرُ ظهري

وأكفِّي الصَّدِئَهْ”

آدابا وشموكين

يقول الباحث صبحي صبري إن مما يميز قصائد الشاعر أسلوبه القائم، كما يشير النقاد، على “التكنيك المحكم الذي يُعنى بالإيصال، عبر الإيحاء والترميز الأخّاذ، والتعبير بالصورة والمفردات التي تتناغم فيها الأصالة والابتكار، والتجديد في بنية الإيقاع”، مذكرا بأن الشاعر المجدد، هو في الوقتِ نفسه من المؤلفين الروَّاد في ميدان المسرح الشعري في العراق، وله في هذا الاتجاه أربع مسرحيات شعرية حظيت بالعشرات من العروض داخل العراق وخارجه لمخرجين عراقيين وعرب، خاصة مسرحيته “آدابا” و”شموكين”، وقد ترجمت نصوصه الشعرية والمسرحية إلى العديد من اللغات الأجنبية، وكانت محل بحث من قبل العديد من النقاد والباحثين.

قصيدة للشاعر معد الجبوري

هواجس ليلية

شيءٌ آخر..‏

هَدَأَ العَصْفُ،‏

جسمي يُغادِرُ قَلْعَتَهُ الحَجَريَّةَ،‏

لا شبَحٌ يَتَجَسَّدُ،‏

لا غصَّةٌ، لا حَفِيفْ…‏

زَهَرٌ يتناثَرُ فوقَ الوسادةِ،‏

هذا النعاسُ الأليفْ…‏

***‏

لحظةً،‏

وتفيضُ على جَسَدِي رَغْوَةُ النوم،‏

تَصْعدُ من بِئْرِ ذاكرتي،‏

صُوَرٌ… ثُمَّ تَنْحَلُّ،‏

أجْنَحِةٌ… ثُمَّ تَنْأَى، وتنأَى‏

أنا الآن أحلمُ،‏

لكنَّ شيئاً سيبقى يُثَرْثرُ في الرأسِ،‏

شيءٌ بِحَجْمِ هديرِ دمي،‏

وصَفيرِ الفراغِ المُخيفْ…‏

يصف البروفيسور إبراهيم خليل العلاف، أستاذ التاريخ الحديث المتمرس في جامعة الموصل الشاعر الجبوري بأنه “قمةٌ في الشعر، وقمة في الأخلاق، وقمة في الكبرياء، التي لا تليق إلا بمن هو مثله”، ذاكرا أنه عمل مدرسا للغة العربية لمدة من الزمن في مدارس الموصل الثانوية، وبعدها اتجه إلى الإعلام.

وعندما وقع الغزو الأميركي على العراق في 9 أبريل سنة 2003 كان يشغل موقع مدير المجمع الإذاعي والتلفزيوني في محافظة نينوى، ولم ينتظر إلا أياما محدودة ليحيل نفسه على التقاعد، ويلزم بيته بعيدا عن المحتلين وأذنابهم منصرفا إلى كتابة الشعر، والعناية بجمع قصائده، ودواوينه التي ظهرت في مجلد كبير صدر عن دار شمس للنشر والتوزيع في القاهرة سنة 2009 بعنوان “ديوان معد الجبوري – الأعمال الشعرية 1971-2008” .

جائزة الدولة

ولد الشاعر معد الجبوري بمدينة الموصل العراقية في العام 1946، وأصدر أول مجموعة شعرية في العام 1971، وفي العام نفسه كتب أولى مسرحياته الشعرية. فكان من أوائل من كتبوا المسرحية الشعرية الجديدة في العراق، وشارك في العديد من المؤتمرات والمهرجانات والأيام الثقافية العراقية والعربية والدولية.

وقد أدرجت نصوص الجبوري في مناهج الدراسة الثانوية في العراق كشاعر مسرحي رائد، وثبت اسمه ونماذج من نتاجه الشعري في معاجم الشعر العربي والأجنبي والموسوعات الأدبية.

نال الشاعر العديد من الأوسمة والشارات والدروع والشهادات التقديرية، على مدى مسيرته التي نشر فيها عددا هاما من المؤلفات مختلفة المشارب، فله عشرات النصوص في المختارات من الشعر العربي والعراقي، فيما تُرجمت نصوصه إلى العديد من اللغات كالأسبانية، والإنكليزية، والألمانية، والفرنسية، والروسية وغيرها.

من أعمال الجبوري الشعرية نذكر كتابه ” للصورة لون آخر” و حُرَق في فضاء الأرق” و”مخطوط موصلي” و”آخر الشظايا” وغيرها وخاصة ديوانه الأخير الذي لم يطبع “عزلة في الرماد”.

كما نذكر من مسرحياته “فضاء بين جمرتين” (أربع مسرحيات شعرية) ولا نغفل أن الشاعر ألف كتبا أدبية خرج الشعر والمسرح مثل “من أوراق الضفة الثالثة”، وهو عبارة عن لقطات من الذاكرة. حاز الجبوري على جائزة الدولة (الإبداع في الشعر- للعام 2001) عن مجموعته الشعرية “أوراق الماء” الصادرة في ذلك العام.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

870 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع