حوار مع الروائي / حسين رحيم

      

                   اجرى الحوار : حكمت الحاج

   

مقدمة:
صدرت مؤخرا عن دار ليندا للطباعة والنشر في سوريا رواية بعنوان (أبناء السيدة حياة) للكاتب العراقي حسين رحيم بواقع 289 صفحة من القطع المتوسط . ترصد رواية ابناء السيدة حياة، وعبر سلسلة من ألأحداث والوقائع ذات الطابع الكارثي وألأسطوري، تحولات أسرة عاشت في أزقة الموصل العتيقة وصولا إلى المستقبل البعيد بحثا عن وهم الخلود تتحدث عن شخصيات يقودها هاجس البحث عن فكرة التواصل مع الحياة المليئة بالتقلبات والتحولات الإنسانية في خضم التداخل ما بين الحياة والموت وفكرة الخلود والصراع الأبدي بين عوامل الخير والشر وتواتر الحكايات بين ألأبناء والأحفاد وتحول الوقائع إلى أساطير من خلال السيدة حياة وأبنائها وأحفادها ومن ثم التأمل في معنى الخلود بوصفه فكرة أزلية عند البشر. وكل ذلك يجري في إطار مدينة الموصل شمالي العراق...  رأى كاتبنا النور عام 1955في مدينة السليمانية  وهو إلى ذلك عضو اتحاد الأدباء في العراق وعضو اتحاد كتاب الأنترنيت العراقيين. أصدر حسين رحيم من قبل رواية أولى بعنوان (الِقران العاشر) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2007 ومجموعة قصصية باسم (لعنة الحكواتي) ومجموعة مسرحيات (الإخوة ياسين) عن دار صحارى للطباعة والترجمة والنشر بالموصل عام 2010. كما  صدر له عن دار مومنت للنشر والتوزيع في لندن ..(دمع العسل)  مجموعة شعرية و.( حزن الخورنق ) رواية  . ...هنا حوار مع الكاتب بمناسبة صدور روايته الجديدة:


حكمت الحاج:من أين جئت إلى الرواية؟ لا يبدو انك ولدت روائيا، فلربما مارست صنوفا أخرى من التعابير الأدبية أو الفنية قبل ذلك. اسرد لنا مسيرتك تلك، من (خطابات مجاورة) للخطاب الروائي، إلى فتح الباب واسعا أمام التدفق في الكتابة الروائية تحديدا، مما أفضى بك إلى إنتاج أعمال ضخمة كان آخرها رواية أبناء السيدة حياة الصادرة مؤخرا في سوريا.


حسين رحيم:دائما ما تشكل البدايات هوية ما سيأتي فيما بعد، لذلك كانت أسئلتي في بداياتها لا شكل لها لأنها جاءت من رحم دهشتي بالعالم والموجودات من حولي وربما هي نواة لما كتبت لكني استطيع القول إن أولى بوادر معرفتي كانت من قراءاتي المزمنة للحكايات وسير ألأبطال الشعبيين والملاحم القديمة والتي أسطرت مخيلتي فيما بعد. فالوقائع والأحداث وحركة الناس وردود أفعالهم وعلاقاتهم بعضهم بالبعض الآخر والتي تشكل بمجملها حركة المجتمع، كانت شكلا من أساطير نسجتها مخيلتي لتتحول فيما بعد إلى أيقونات لما سيأتي رغم إن الحرف في بداياتي لم يكن رفيقا لأصابعي فيما كان قلم الفحم والفرشاة هما مسرب ما يختلج في أعماقي من دهشة بهذا العالم الجديد علي كل يوم . والتي كانت تشدني إلى الورقة البيضاء واللوحة فيما بعد ورائحة ألألوان الزيتية.... وفي المرحلة المتوسطة  كنت احد ابرز رسامي المدرسة انذاك حيث  كان هوسي ألوجوه والضوء والظلال حين كنت التقط وجه احد افراد عائلتي وهو غافل عني واخططه وأقرأ رد فعله المشحون بالدهشة وهو يرى وجهه على الورقة  أو اضع امامي فردة حذاء أوقطعة ثوب ..اخطط طياتها ببراعة وبمرور الوقت بدأ قلم الفحم والفرشاة تضيق مساحة  خطوطه وألوانه فتحولت من لغة البصريات إلى خشبة المسرح التي كان يسعدني الوقوف عليها  لكنها توقفت عاجزة امام خيال مجنون يركض في كل ألأتجاهات  في حصيلة ذلك المسار المبكر نسبيا  ارتكنت الى  سيدي الحرف الذي ما خذل مخيلتي ابدا . وحيث إن ذكرياتي في المدينة جاءت من اكثر من مكانية موصلية فقد تنوعت رؤيتي إلى أزقتها وبيوتاتها وسواقي المياه في ألأزقة وتلك الرائحة التي تميزها العفونة والأكل البائت لذلك كانت هذه الفوضى المنظمة للأمكنة والروائح والوجوه المشحونة بالتعب واللاجدوى ومضات مجروحة في أغلب أعمالي. من هنا جاءت الرواية عندي بمثابة المصب الحقيقي لهجير اللاجدوى في أعماقي ولم يكن سوى الكتابة ولا شيء غيرها.


حكمت الحاج:إذن هل نستطيع أن نتلمس بوضوح تأثيرات المخيال البصري الذي سكن بداياتك في نسيج العمل الروائي لديك فيما بعد؟ ان كان الجواب بنعم، فكيف تجلى ذلك؟ وعلى ذكر المؤثرات الأساسية لخيال الروائي فإنه من المعلوم إن جيمس جويس مثلا كان ينطلق دوما من مؤثرات صوتية وذلك لضعف البصر لديه منذ بواكير حياته بينما كان مارسيل بروست ينطلق من أرضية بصرية فازدان عنده الوصف المسهب المتشرب لتلاوين الطيف.


حسين رحيم: في البداية ...نعم أستطيع القول ان الصورة كانت نواة اشتغال مخيالي البصري في معظم أعمالي لكن ليست استنساخا أو مناقلة من مكان إلى آخر بل في أغلبها كانت مخلقة في الذاكرة ثم أكتبها بطريقتي، ذلك إن البصريات كائنات خرساء لا تمنح مكنوناتها بسهولة لذلك وجب على المخيلة أن تصنع ما شاء لها من افتراضيات للمكان ..للأشخاص كي تعيد ترتيب ألأمور على وفق ما تقوله الرواية. وهناك اكثر من مكان مصنوع في اعمالي الروائية ..بخاصة الغرف السمراء والبيوت العتيقة وأزقة الموصل التي هي ازقة مخيلتي وهذا يصب في جوهر عمل الروائي  ولعل غاستون باشلار في تحليله للمكان والماء وأحلام اليقظة كان أحد مداخلي فيما كتبت عن روح الصورة للأشياء. ورغم كل ما ذكرت فإن المكان أو الإحساس بالمكان أو رائحته أو صوته هي دعامات للرواية لا غير، وتحولاتها وحركتها باتجاه الحرية والخلود اما الصوت فهو اكثر خطورة وجرحا في النفس لأنه يبقى في الذاكرة وينمو كطفل لعوب بالروح يقلبها بين ماهو مفرح ومسر للنفس وماهو مؤلم لذيذ في تجريحه .إذ لو عشنا في عالم بلا صوت لكانت احزاننا اقل وجروحنا اكثر تقبلا ..هكذا هي الحواس ..لها دور مهم وخطير في تشكيل لون ألأبداع وهو ما يكون شكل من حيرة ودهشة ثم تساؤل عن شكل ألأبداع حين يكون الصوت مفاتيح مدونة بالحبرقبل السماع  كما عند بيتهوفن الذي ألف اعظم سيمفونياته وهو مصاب بالطرش التام ...لكن عند جيمس جويس,ربما نجد هذا ألأمر أو بعض منه  في صورة الفنان في شبابه ..اما عوليس ...أويقظة فينيكان اظن ان ألأمر يتجاوز هذا الجانب الى افاق اخرى تتداخل فيها سرودات متنوعة واساطير ...مازال النقد يقف امامها متأملا


حكمت الحاج:كيف أمكنك المواءمة ما بين تحولات الروح الإنسانية وتقلباتها وبين المكان الموصلي في روايتك وهيمنة مفردات ذلك المكان؟ لقد ذكرت أنت غاستون باشلار واهتمامه بجماليات المكان ولكنه هو نفسه من دعانا للتفريق بين مفهومَي المكان والفضاء.


حسين رحيم:   في روايتي ألأولى (القران العاشر) يكون مفتتحها على لسان البيت الذي هو مركز الرواية ويتحدث عن كيفية إنشائه وصخوره التي جاءت من عدة أمكنة وشكلت بناء هذا البيت بذاته ولذاته بمعنى كينونة منفصله أي إنني أخرجت البيت من مكانيته واصبح عندي جزءا  من كل الرواية ويبقى معهم حتى بعد رحيلهم نهاية الرواية.. رقيب صامت ابدي لذلك حين أتحدث عن مكان اقصد مكانا بعينه وليس بذاته كذلك ألأمكنة العديدة في أبناء السيدة حياة (عوجة الما تطلع) أي الزقاق المسدود، أنا لا أتعامل معها بوصفها مكانية بل هي أجزاء من أبطالها المجروحين في العالم. المكان عندي يا صديقي هو طعم المغادرين أو ما تبقى منه فالإنسان هو من يصنع المكان لذلك فضاء المكان وتشكيلاته لا تختلف عن الجسد البشري من ناحية التحصين والإحساس بالأمان. والوعي عندي في الرواية كما يقول ادموند هوسرل هو توعي شيئا ما.هذه المقاربة بين الروح ألأنسانية ازاء قصدية الوعي والمكان بوصفه فضاء غريب الملامح ولا يمنح اسراره جعل الجميع في رواياتي يقفون على نسق واحد كابطال يقودهم مصير واحد وقدر لواب  


حكمت الحاج: نادرا ما توفر الروائي العربي على ثقافة غير أدبية كما ألمح الآن في إجاباتك وانت تتحدث عن باشلار وهوسيرل وغيرهما من الفلاسفة والمفكرين. إلى أي مدى كان لثقافتك الفلسفية التأثير على نمط الكتابة الروائية لديك؟ وهل هذا التأثر والتأثير ضروري للروائي؟ هل كانت تلك المزاولة في الفلسفة ضمن فترة البواكير وتوقفت بمجرد احترافك الكتابة الروائية، أم إنها ما زالت سارية المفعول معك لحد الآن؟


حسين رحيم:في البدء أقول ان الرواية ليست حكاية ولا مجموعة حكايات ولا هي سيرة ذاتية ولا هي رسم دقيق لشخصيات اجتماعية ولااستعادة تاريخ ما من مكان ما  بل هي كل هذه وتلك لكن بعقل فيلسوف وعين شاعر وخيال فنان لذلك فهي جنس أدبي يشتمل على رؤية فلسفية عميقة للعالم لذلك فقراءاتي في بواكير حياتي للفلسفة الوجودية والماركسية والظاهراتية والتي عمقت معرفتي بالعالم دونما حاجة لتبنيها قد مهدت لكتابة الرواية عندي وبخاصة (القران العاشر) التي اخذت مني زمنا طويلا من بحث روحي عن (حاطوم) الجد/ الأبن/ الحفيد وذلك السفر الطويل بين الحياة والموت وذلك بين أعلى تجليات اشراقات الروح وأدنى نوازع البشر الدونية ,نبوءة الشر لمستقبل العالم حين يعم الخراب كل شيء ويعود كرة أخرى بأمل التواصل مع ألآخر بروح خلاقة وتواقة الى التحرر. واستطيع ان اقول عن معنى الخلود في ابناء السلالة سلالة الجدة حياة في تحولاتها وصيرورتها باتجاه الخلود المزيف هي ايضا خارج نطاق المرئي والمسموع في الحاضر.وكل ذاك آت من اسئلة نضجت بما يكفي لأن تنشق عن يقينات وبديهات ومسلمات يأخذ بها آلآخرون ولايعونها واسئلة الرواية هي من تشق عصا الطاعة دائما على كل ماهو ساكن ومأخوذ به دونما وعي به حتى ...ففي ابناء السيدة حياة هناك حديث عن ألأحجار الكريمة و.لماذا كبيرة تشكلها مرآة موضوعة امامها ...كذلك هذا الخروج من الحياة والعودة اليها مرات ومرات... كذلك بحث صباح الدؤوب عن انوثته التي اخذت منه وضاعت كما ضاعت امه ... وسؤال الخلود هذا السجن ألأبدي الذي غزا احلام البشر منذ بدء الخليقة ولحد ألأن ...لعلني اقول ...ان اجمل مافي الحياة هو الموت ...منه تأتي كل الحريات كما يصرخ بطل القران العاشر...وعبر تاريخ البشرية الطويل كان للطغاة والجبابرة وصناع الحروب وقادتها   الدور الكبير للنيل من الحياة ومسخها وذلك بقمع بنية الجمال والخير فيها ومن ثم تحويلها الى جحيم وقد نجحوا كثيرا في هذا وعاشت البشرية بسببهم حقب وعهود ظلامية كان الشر سيدا مطاعا فيها وابيدت شعوب وهدمت صروح وازيلت حضارات بأكاذيب عن وهم الحياة بكرامة من كلام مموسق ومشحون بدفق من عاطفة جماعية بأتجاه ذلك الوهم واخذت شعوب ودمرت بجريرة فرد او افراد اكاذيب تصنع اكاذيبا إلا الموت ..هو الصادق الوحيد الذي لم يتحول اويتغير  


حكمت الحاج:لماذا (ع) كاسم؟ ما سبب الترميز به في حين ان باقي الشخوص يحملون اسماء حقيقية كاملة؟ اي دلالة تقبع خلف هذا؟


حسين رحيم:انها الجدة ألأولى للسيدة حياة وهي الرقيب ألأول على سلالة هذه العائلة وهي العين الباصرة لها.او ربما هي ألأسم ألأول لأمي هذه المرأة التي جاءت من اقصى شمال كردستان العراق (جوان رو) لتعيش في الموصل على حافات دجلة العديدة

حكمت الحاج: اذن هي (عين الحياة) كما في الاسطورة؟

حسين رحيم:ربما، من يدري!

حكمت الحاج:يلاحظ ان ضمير الغائب هو المسيطر على عملية الحكي في الرواية لكن ثمة ضمير متكلم يتراوح هنا وهناك. هل لهذا اي معنى مرتبط بالسياق الكلي للعمل أم انه قصور منك في توظيف الراوي العليم ذاك الذي يعرف كل شئ في الرواية؟


حسين رحيم:قطعا القصدية واضحة فيما أردته وإنه لذكاء منك أن تكتنه مغزى استخدام الضمائر في الرواية، لكن (الروي) بلغة المتكلم أو المخاطب أو الغائب تفرضه  حركة الشخوص والوقائع داخل الرواية وربما هذا يقع ضمن خانة العقل النقدي الذي هو من يستطيع ان يضع ألأمور في نصابها الصحيح.لكن ربما دور الراوي العليم غير مجدي بمعنى انني اترك فسحة لمخيلة القاريء كي يشتغل داخل المتن


حكمت الحاج:روايتك أبناء السيدة حياة مشحونة بالمفردات العامية وخاصة عامية مدينة الموصل وحتى انه ثمة حوارات كاملة داخل النسيج السردي بالعامية. لماذا؟ هل كنت تروم الواقعية التسجيلية أم انك تريد إيهام القارئ بأن الرواية تتحدث عن (آخرين) هم في النهاية ليسوا (أنت)؟


حسين رحيم:الموصل مدينة توحي للوهلة ألأولى بأنها مغلقة لكنها مفتوحة على نفسها من الداخل لذلك هذا الانفتاح والانغلاق على الداخل والخارج جعلني في أحايين كثيرة ادخل نسيج الحدث الداخلي وأتقنع بلغته من خلال استخدامي لبعض المفردات الموصلية العامية والتي في أغلبها هي  من الفصيح لأنها تشكل الروح الشعبية الموصلية ...لذلك انا لم استخدم العامية في الرواية لذاتها بل . بالإضافة لذلك أنا لا علاقة لي بشخوصي وأقف على مسافة واحدة منهم جميعا.ثم انا لا اعرف معنى الكتابة الواقعية ...لأنني فاشل بالنقل ...ولست امينا على ماأنقله من الواقع ..لأن الواقع شيء غير واقعي ...بل هو اقرب الى الجنون والسريالية منه الى المنطق


حكمت الحاج:أريد منك مرة أخرى التوقف عند ملمحين أساسيين في روايتك التي بين ايدينا: مسألة السارد الضمني وعلاقته بالراوي العليم كيف تم توظيف هذه الجدلية داخل الرواية بمعنى: من الذي يروي؟ ولمن يروي؟ وما حدود معرفة الراوي الضمني بالشخوص ودواخلهم؟ وهل السارد الضمني هو نفسه الحقيقي؟ هل انت كمؤلف هو (أنت=هو) كَرَاوٍ؟


حسين رحيم:اللامتوقع في ألأحداث والوقائع وحركة الناس وعلاقاتهم داخل متن الرواية ....اشتباك الزمن.... تقلب القلوب وتنازع العاطفة بين ما هو ناري وترابي في تحولات النفس البشرية، كل هذه كيف تظهر؟ كيف يتم الحديث عنها ؟ أكيد من خلال فلاتر الحكاية-الرواية-السيرة ومن ثم أسطرتها. اذن ما يهم هو كيفية عرضها او بسطها كسجادة حيكت بمهارة حائك محترف تقعد عليها الذاكرة في استراحة لفن الروي.... في ابناء السيدة حياة كان هناك رجل الفندق والجاذبي والسيد وادي عكاب والشايب والمقنع انهم رواة سير الرواية انهم أرواح تلون وجه الحكاية بألوان الخرافة والخيال الجريح يلاحقون ابطال الرواية حتى ألأحفاد. ان التواتر هو عصب المشكلة ففي كل حقبة هناك راو جديد للحكاية يسقيها كما يرغب من عسل الكلام وتبقى اللعنة في كل مرة تطل عليهم لتطمئن الى سير ألأمور على وفق ما رسمته خارطة طريقها ألأسود الذي بيضه صباح بأشراقه كل مرة في جسد جديد. حين يبدأ صباح بكتابة الرواية بعد ان اجتاز عقبات ومطبات عشق كثيرة نجد انه يعيد سرد حكايته لكن بطريقة السارد الما-بعد-الضمني، وهكذا.. إن المعضلة تكمن في ان كل الناس حكواتية بشكل او بآخر ويعيدون سرد وقائعهم المعادة والمكررة دائما منذ آلاف السنين. نحن في أفضل احوالنا اجساد جاءت من بقايا أسلافنا التي ذابت في أديم أمنا ألأرض. ان ألأحداث والوقائع ظاهرها عشوائي لكن باطنها متناسق باتجاه خراب الروح. ان تقنية تعدد ألأصوات ما بين رواية الخرافة ورواية الوقائع هو شكل من ديالكتيك  لاستبيان حقائق محجبة بأقنعة كثيرة ليخرج في النهاية الثالث القوي الجارح الكاشف لوهم الكثير من المسلمات في عالم يخلو من العدالة والانصاف. ان صباح وأمه عين وحياة وزوجها وأولادها وأحفادها ,أرواح معزولة تبحث عن حقيقة الوجود المشكل المتغاير بين آدمية الإنسان وبدائيته, أما أنا فلست موجودا في هذا كله.


حكمت الحاج:أعرفك منذ ثلاثين عاما وقد جمعنا ذات يوم اعجابنا بالفلسفة الوجودية أنت وانا وصديقنا الكاتب المبدع صباح سليم وكوكبة اخرى من الرفاق الذين قد تفرقت بهم سبل الحياة والموت، وهكذا كنا نقرأ لسارتر ودي بوفوار وكيركيجارد وكولون ويلسون الفيلسوف الانكليزي الشاب حينها. سؤالي هو عن مدى تأثرك كروائي بالوحودية والى اي حد يصل هذا التاثير خاصة اذا ما وضعنا في الاعتبار ان الجنس الادبي الأثير لدى كل الوجوديين كان هو الرواية والمسرح لا غير؟


حسين رحيم:الموصل في سبعينات القرن الماضي كان فيها شارع الدواسة الذي كان ملتقانا بما فيه من مكتبات ومقاه مثل مقهى ام كلثوم ومذاق الشاي الأسود ذلك الشارع الذي كان اسطورة احاديثنا انا وانت وصباح وكان ينظم الينا في احيان اخرين من هناك تعرفت على الفلسفة الوجودية والماركسية والعبثية والظاهراتية والمثالية ألألمانية والفلسفة اليونانية وجئتها وانا مشبع بقراءة الروايات العالمية ديستويفسكي تولستوي واندريه جيد والدوس هكسلي واندريه مارلو وكافكا وكامو ونيكوس كازنتزاكيس وهرمان هيسه واندريه جيد وفلوبير وبلزاك وستندال وغيرهم كثير واكتشفت ان اغلب هولاء كانو يمتلكون وعيا فلسفيا للكون والحياة يؤمن به وهذا ما يفتقر اليه الروائيين العرب في الغالب ألأعم وكانت قراءاتي للفلسفات الثلاث الماركسية والوجودية والظاهراتية وعلى الرغم من تحفظي على موقفهم من الدين أعدهم دربي الحقيقي في فهم العالم وحركة ألأشياء والعلاقات واعتقد ان اغلب النظريات الحديثة في كل مجالات المعرفة ألأنسانية استندت بشكل او بآخر على هذه الفلسفات الثلاث بالأضافة لذلك كانت قراءاتي للصوفية ألأسلامية عند الحلاج وابن عربي والسهروردي كذلك قراءاتي لابن خلدون وابن رشد عن المدنية والتمدن وحرية الفكر. هذه وغيرها وسعت من أفقي المعرفي والفكري وبالتالي اعطتني رؤيا بانورامية للعالم بكل تنوعه وإشكالاته وتقلباته. ومن هنا جاءت رواياتي على قلتها تتناول دائما مصير الانسان إزاء استلابه في عالم تعيش فيه الفاجعة جنبا الى جنب مع المسرة وتنام فيه الوداعة في حضن الجفوة وتصافح فيه الخيانة يد ألأمانة وتعلو قامة الزيف على الحقيقة. لذلك كانت المأساة عمق وجود العالم.


حكمت الحاج:والآن لو حدثتنا بإسهاب عن آبائك، من هم؟ ولأي فئة ينتمون؟ هل هم من الروائيين حصرا؟ هل هم شعراء؟ فلاسفة؟ اذكر اهم الآباء بأسمائهم، ودلنا بوضوح على مناطق التأثر والتأثير لهؤلاء الأسلاف كما يتجلى ذلك في رواياتك؟


حسين رحيم:   ما بين بنوة عرجاء وأبوة ناقصة ربما أكون ابنا عاقا لأبائي ألأول أولئك المؤلفين المجهولين الذين أشبعوني حكايات عن سيف بن ذي يزن وعنترة بن شداد والف ليلة وليلة وغيرها. لكن أتذكر أمي التي كانت تقول لي كنت طفلا جميلا لكن حزينا وصوت بكائك يملأ البيت فأبكي معك لذلك كان أول أب لي هو الحزن الذي رافقني منذ طفولتي رغم غيابه احيانا بسبب فرحة هنا ومسرة هناك لكن في النهاية كان يعود ويجلس قربي ويمرر يديه الحانيتين على وجهي وكلما تقدم الزمن زاد وقارا واحتراما وفهما لمعنى ان تكون حزينا ووحيدا. وهناك آباء أخر: كافكا أول حزين تبناني حين قرأت له المحاكمة وغريغوري سامسا ذلك الصرصور الحزين ربما هي أكثر قصة حزينة قرأتها في حياتي وهناك غوغول أبي القديم. أتذكر مرة انك أعطيتني إحدى قصصه وقرأناها سوية وضحكنا عليها طويلا.. وبورخس الذي ارعبني بجنونه  ولغته التي لا تستطيع ان تمسك لها جذرا كما إنه يفاجيء القاريء دائما كذلك بروست هذا الساحر المنزوي في غرفته الذي علمني العشق بعيني نرجس وجسد عليل. وديستويفسكي وشخصية راسكولينكوف في الجريمة والعقاب هؤلاء عرفتهم وأنا صبي واعدت قراءة بعضهم فيما بعد. الحقيقة يا صديقي هي انني ربما اكون مهووسا بروائي في مرحلة ما لكنك ربما لن تجد أية مؤثرات له في كتاباتي القصصية او الروائية. ان تقنية الكتابة الروائية شيء غامض حقا من السخف تعليمه وما ألاحظه ألأن هو كثرة الروايات وقلة الروائيين.


حكمت الحاج:بوصفك روائيا وقارئا جيدا للرواية العربية، هلا أوضحت لنا وجهة نظرك بشأن الرواية العربية المعاصرة والروائيين العرب المعاصرين لك؟


حسين رحيم:    كانت متعة كبيرة لي حين اذهب الى المكتبة العامة في الموصل واجلس فيها لساعات اقرأ على كراسيها التي على شكل مساطب  من الخشب المصقول ايام العطل المدرسية وقد قرأت الكثير من الروايات ودواوين الشعر على هذه المساطب القاسية  ثم تعرفت على صاحب مكتبة كانت سردابا صغيرا مليئا بالروايات وكتب ألأدب ألأخرى كنت اشتري الرواية منه ثم ابيعها له بعد قراءتها بثمن اقل وكان يستغلني لكن شغفي بالرواية يغمض عيني عنه وقد تعرفت على الرواية العربية من خلال قراءتي لنجيب محفوظ ويوسف ادريس ثم توسعت قراءاتي لتشمل آخرين مثل أحلام مستغانمي واسيني ألأعرج صنع الله ابراهيم كاتب ياسين الطاهر بن جلون ويحيي الطاهر عبد الله. اعجبني المغاربة بجرأتهم في الطرح اكثر من المشارقة لكن اختلاف اللغة السردية هو ما ميزهم اكثر بخاصة عند أحلام مستغانمي وكاتب ياسين وواسيني ألأعرج. وقرأت لعبد الرحمن منيف وحنا مينا والطيب صالح وعبد الخالق الركابي وما بعدهم من اجيال مثل ابراهيم الكوني وجمال الغيطاني وقرأت لغيرهم لكن للأسف لم يتمكنوا من أخذ مقعد في ذاكرة ثقافتي رغم احترامي للكتابة ألأبداعية اي كان شأنها كنت ابحث عن تلك الشخصيات التي رسمها ستاندال وفلوبير وفولكنر وديستويفسكي والبير كامو وفرجينيا وولف وانطوان دو سانت اكزوبيري واندريه جيد وفرانسوا مورياك وغيرهم.. اقول ليس ذنب الروائي العربي ان يكون محصورا داخل المثلث ألأبدي الهم العربي (جنس سياسة مال) رغم ان عبد الرحمن منيف في مدن الملح بأجزائها قد تخطى هذا الحاجز الى هم ألأنسان العربي المقهور بفعل الظلم وانعدام الحرية والتحول الحضاري ما بين الصحراء والتمدن. هناك اخرين كتبوا في التجريب رشيد بوجدرة مثلا.. وكتاب الواقعية كان لهم التأثير في نظرتي الى الواقع الشعبي والحارات كما في اعمال غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وغيرهم فكانت اطلالتي الجديدة على واقع عشت طفولتي وصباي فيه وهي واحدة في معظم المدن العراقية حيث الفقر هو الموحد دائما في الهموم ليس هناك من روائي عربي من لم يتغن بجوع الفقراء بلغة استعراضية بشكل او بآخر لكن مشكلة الروائيين العرب في الغالب ألأعم ,انهم لايقرأون الفلسفة ... ولكن لن انسى مشهد من رواية ديستويفسكي الجريمة والعقاب حين سحبت ام سونيا ابناءها الى الشارع ليعملوا كمهرجين وابنتها أرسلتها الى الدعارة بعد يأسها من زوجها المدمن . كان مشهدا جارحا لي كثيرا وقتها رغم انني شاهدت ما هو أسوأ فيما بعد. ان اغلب الروايات التي قرأتها تحمل جروحا سياسية او خيبات حب او تتناول انتكاسات في التاريخ كرواية رضوى عاشور (غرناطة) او التحدث عن المسكوت عنه والمحظور لكأن الرواية طاقية ألأخفاء التي يرتديها الروائي ويدخل دهاليز التاريخ والعلاقات السرية في القصور وحريم السلطان وغيرها من اساليب الجذب للقارئ والناقد. في كل الروايات العربية التي قرأتها كان ثمة مأساة ترسم خطوطها في متن الحكاية وكانت لكل مرحلة رواية ما تأسرني واٌقرأ اعمال صاحبها ثم اتركها واتحول لروائي آخر. ان قراءة الرواية بلغتها ألأصلية أكثر قربا لآلية ألأشتغال عند الروائي من الرواية المترجمة لكن رسم الشخصيات الروائية في ألأدب المترجم أكثر عمقا منه في ألأدب العربي. لذلك فرواية الخيميائي لباولو كويلهو ورواية اسمي أحمر لأورهان باموق أخذت منهما شيئين مختلفين لا علاقة بينهما. انها ربما مزاجية القراءة التي تغيرت حتما فلم يعد راسكولينكوف ولا ميرسول ولا جوزيف ك ولا بنجي ولا، ولا، من شخصيات الرواية العالمية التي قرأتها أول شبابي بقادرة على تحريك ما حركته في أعماقي وقتها. ربما هو العمر او التجربة او الوعي الذي شكل مزاجية القراءة.


حكمت الحاج:   كيف تكتب؟ وماهي طقوس الكتابة لديك؟ هلا حدثتنا عن ذلك؟


حسين رحيم:   عادة استيقظ كل صباح في الخامسة واضع امامي مجموعة اقلام اختار واحدة منها واكتب. ان البدايات تأخذ وقتا مني لذلك اتأنى كثير وتبقى في عقلي وانا في العمل او اتحدث او انام عادة قبل النوم احدث نفسي مع الرواية وارتب مشهدي القادم وانا بين اليقظة والنوم ثم حين استيقظ تكون الفكرة حاضرة امامي واكتب هنالك زاوية في الغرفة اجلس قرب الشباك وكان عندي منضدة مكتب مربعة تكفي لأن اضع عليها اوراقي واقلامي واكتب وهي من الخشب لا اعرف من أين أتت كانت مرمية في المخزن وصبغتها باللون ألأخضر واستمرت معي سنوات كتبت عليها اغلب مسرحياتي وقصصي ورواياتي واستبدلتها بمنضدة حديثة. وهناك امر اخر.. يجب ان يكون هناك صوت أسمعه وانا اكتب.. اغاني عراقية او عربية.. لا اعرف الكتابة بدونها.. ويجب ان يكون القلم من النوع السوفت كي يناسب سرعتي في الكتابة. ويغضبني جدا تقطع القلم اثناء الكتابة فأرميه بعيدا. ويجب ان يكون المكان باردا لذلك فأغلب كتاباتي هي في الشتاء فالصيف سبات قلمي ثم الورق.. عادة كنت استخدم الورق نوع a4 .ارتبه امامي مع مجموعة ألأقلام وصوت احد المطربين وابدأ الكتابة لكنني استبدلت الورق بالدفاتر الصغيرة بسبب من ضياع بعض ألأوراق وعدم استطاعتي كتابة الهوامش وألأضافات على النص احيانا تأتيني ومضة فأكتبها على اي ورقة اجدها لأضيفها الى الرواية فيما بعد. وحين يصل عدد الصفحات الى الخمسين اتوقف لأشهر لأقرأ ما احتاجه ولا يعجبني ألأقتباس بل اقرأ الموضوع وافهم ما أريده لأكتبه فيما بعد لذلك الرواية عندي تأخذ مني سنوات فرواية (القران العاشر) اخذت مني اكثر من 15 سنة (وابناء السيدة حياة) اكثر من 6 سنوات وحين انتهى من كتابة رواية اشعر كأني عدت من سفر بعيد.


حكمت الحاج:ماذاتكتب الان بالضبط؟ بم انت مشغول؟


حسين رحيم: انا ألأن اكتب نصا مسرحيا بعنوان (الحب وحزن اليمام ) وأقرأ في كتاب (طوق الحمامة لأبن حزم ألأندلسي) وكتاب (قواعد العشق ألأربعون رواية جلال الدين الرومي وهي رواية للروائية التركية اليف شاكان)

حكمت الحاج: هل جنيت ثمارا من نشر رواياتك؟

حسين رحيم:   نعم، ألأحباط والأهمال والأحساس باللاعدالة.

حكمت الحاج: لو لم تكن روائيا ماذا كنت ترغب أن تكون؟

حسين رحيم:انا لا ارغب في شيء لأني انظر الى ما يسمى الطموح بريبة وشك لأنه شكل من اندماج أناني في القطيع وأخذ لونهم اما اللامنتمي فلونه يختلف كما يقول كولن ويلسون وكانت الروايه هي خير وسيلة لأن أقول هذا الكلام. لكن هذا لم يمنع ان ينتابني احساس في بواكير حياتي ان اكون طبيببا رغم استحالة تحقيق ذلك وقتها لأنني كنت طالبا غير مجد في دراستي وكنت اقرب الى الفاشل في دراستي ههههههههههههههه ... ... آلآن اعرف ان الطبيب الساحر ...أو الخيميائي قبل ظهور الطب الحديث  هو اكثر مهابة وعمقا من الطبيب الحالي وبرأيي الشخصي ان فطرة الناس هي اقرب الى الخيميائي منها الى الطبيب العادي ... ومازال الناس يبحثون عن المعجزات رغم زوال عصر المعجزات
(انتهى الحوار)
التقاه: حكمت الحاج.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1185 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع