محاضرة القضية الكردية...

   

           محاضرة القضية الكردية...

              

                          

                      بقلم:د.عبدالعزيز المفتي

                    

أقول مأثورة عن الكرد

* من أقوال الزعيم الهندي (جواهر لال نهرو) قال:
[أستغرب كيف أن الأتراك الذين ناضلوا من أجل حريتهم يقمعون بهذه الوحشية؟ الشعب الكردي الذي يناضل من أجل الهدف نفسه ـ أي الحرية ... كما هو غريب أن تتحول قومية أعلنت احترامها لحقوق الإنسان إلى قومية عدوانية بهذا الشكل ... وأن يتحول نضالها من أجل الحرية إلى محاولة لاستبعاد الآخرين .... ونسمع عن المآسي التي يتعرض لها الشعب الكردي الذي استقر في عدة دول، ولم تتيح له الظروف التاريخية أو السياسية تشكيل دولة تضم قوميته (الكردية)]
جواهر لال نهرو
* [وهكذا فالأتراك الذين لم يمض إلا وقت قصير على كفاحهم من أجل حريتهم عمدو إلى سحق الكرد الذين سعوا بدورهم إلى نيل حريتهم. ومن الغريب كيف تنقلب القومية المدافعة إلى قومية معتدية، ويتغلب الكفاح من أجل الحرية إلى كفاح من أجل التحكم بالآخرين. ففي عام 1929 نشبت ثورة أخرى عند الكرد. إلا أنها سحقت من جديد، مؤقتاً على الأقل. ولكن كيف يسمح أحداً أن يسحق شعباً يصر على نيل حريته وحقوقه القومية وهو على استعداد لدفع ثمنها ...]
جواهر لال نهرو
* وصف الكاتب التركي س. أوستونغل:
[نشاهد القرويين عائدين من مراكز الشرطة والجندرمة وهم على قيد الحياة رغم أن الكثير منهم كانوا مثخنين بالجراح، أما بالقسوة تجاه الشعب الكردي فقد فاق الكماليون السلاطين العثمانيين. المخضبة أيديهم بالدم الكردي. إنهم يثقفون بالقسوة التي ينتهجونها إزاء الأكراد والأقليات الأخرى. التي يحاولون تتريكها بالقوة. لقد أرحلوا القبائل الكردية عن أوطانهم وهم يجهزون على الكرد بالجملة، مثلما فعلوا بالأرمن تماماً..... ].
وصف الكاتب التركي س. أوستونغل
 * نلسون مانديلا:
[سأل أحد الصحفيين السيد نلسون مانديلا عن سبب رفضه لجائزة أتاتورك ... قال مانديلا: (حاول أن تكون كردياً ساعة واحدة ثم أخبرني عن شعورك وستعلم لماذا رفضت جائزة أتاتورك) ]
نلسون مانديلا
* من أقوال الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس وزراء العراق الأسبق( ):
1- (إن القضية الكردية هي مشكلة العراق الأساسية المرتبطة بوجودهُ، ولن يتأتى له الاستقرار إلا إذا حلها حلاً عادلاً ينصف الأطراف المعنية كلها، فتتحقق نتيجة ذلك وحدة الشعب الكردي).
من كتابه (العراق من الاحتلال إلى الاستقلال)
2- (القضية الكردية ليست وليدة فترة زمنية متأخرة أو حصيلة وضع سياسي معين، أو نتيجة تحريض شخص أو بضع أشخاص، كما يتوهم بعض العراقيين اليوم، وإن تأكيد هذا الأمر أصبح في الوقت الحاضر ضرورياً لأن بعض المسؤولين لم يدركوا بعد حقيقة هذه المشكلة الكردية في العراق، ولم يتح لهم أن يسبروا عمق أغوارها).
من كتابه (العراق من الاحتلال إلى الاستقلال)
3- (الشعب الكردي لا يريد الانفصال ولا يريد إلا الحفاظ على وجوده، ونحن مستعدون أن نعترف بالوجود الكردي وأن نعترف بالذاتية الكردية كقومية متميزة لها لغتها وتراثها وأمجادها، ومن حقهم الحفاظ عليها).
في 15/6/1966م (ندوة تلفزيونية)
* الدكتور (الطبيب) فهمي الشناوي:
في كتابه (الكرد يتامى المسلمين أم ضحاياهم)
1-إن الأكراد هم يتامى المسلمين، وأنّ ثرواتهم الطائلة قد قام عليها إخوتهم المسلمون الآخرون، ونهبوها لأنفسهم دون الوريث المستحق الأصلي (ص8).
2-الأكراد الخمسة والثلاثون مليوناً يملكون منابع أنهار الشرق الأوسط، ويملكون معظم نفط هذه البلدان، يملكونه أصلاً، ولكنهم محرومون منه فعلاً. يملكون المياه والنفط ولكن ملكياتهم منهوبة عند إخوانهم وجيرانهم (ص41).
3-وأقصى ما وصل إليه وازعٌ ضمير المغتصب، هو أن يعطي الأكراد في مناطقهم ما يشبه (الحكم الذاتي ...) ولكن لا يتمتّع صاحب هذا الحكم الذاتي برسم السياسة، أو الاشتراك في الحكم، ولا توجيه الدولة حرباً ولا سلماً ولا تفاوضاً مع الأجنبي بأي حال، لأنه غير مؤتمن على الدولة، فوضعهم مثلُ وضع عرب فلسطين تحت الحكم الإسرائيلي (ص15).
4-"الحكم الذاتي ما هو إلا رقّ واسترقاق سياسي" (ص16).
5-"كل من حول الأكراد يتباهى بالوطنية صباح مساء، ويجعل منها أيديولوجيا، ويتغنى بتراب الوطن، ويتشدّق بالموت في سبيل الوطن، حتى إذا طلب الأخ الكردي أن يكون له وطن مثلهم لا أكثر ولا أقل، أنكروا عليه ذلك، واعتبروه معتدياً على ما في يدهم" (ص20).
6-فالقومية العربية لا تكفُّ عن التباهي والتفاخر، ولها مؤسساتها، سواء فاشلة أو ناجحة، ويجعل زعماؤها منها ديناً مقدساً، ... فإذا طلب الأكراد أن يكون لهم قومية استنكروا فهم هذا (ص21).
*صدام حسين:
[كردستان جنة الله على الأرض].
صدام حسين
* نزار بابان (كاتب ومناضل كردي):
[كردستان جنة الله وجحيم أمة].       
 نزار بابان

         
 
محاضرة القضية الكردية

1.لسنا هنا بصدد الخوض في موضوع شائك مثل البحث عن أصل الأكراد بشكل موسع الذي اختلف فيه الباحثون وربطوه بعدة شعوب قديمة وصاغوا حوله نظريات وروايات تشبه بعضها الأساطير( ) غير أننا نؤكد هنا بأن أبناء كردستان العراق هم سكان هذه الأرض الطاهرة منذ آلاف السنين. ومن أوائل  الساكنين فيها (حيث ثبت ذلك بالوثائق والتحقيقات الأثرية).
إذاً الأقسام العليا من نهر الفرات ومناطق بحيرة وآن (أرمينيا القديمة)( ) [هي مهبط أو(الأرض) القديمة التي ظهر فيها الأكراد. وأن الأقسام الجنوبية من طوروس وسواحل دجلة اليسرى (بوتان - خربوط - الزاب الأعلى) هي الوطن الأم للشعب الكردي في الأزمنة التاريخية القديمة، وعليه أن وطن الأكراد في فجر التاريخ هي الأقسام الشرقية البعيدة الجنوبية للمناطق الثلاثة (السلاسل الجبلية العليا في أرمينيا كردستان تركيا - وجبال قارس الغربية)     هي موطن الأكراد.
وهكذا نرى الأكراد يعيشون في الوقت الحاضر على أرض واسعة في الجنوب     الشرقي لتركيا وفارس غرب (إيران) وكردستان العراق من مدينة مندلي في العراق حتى آرارات حيث تتعدى أرضهم حدود روسيا فتدخل قفقاسنا.
يعيش الأكراد مع أرض كردستان في جميع أصقاع سلاسل جبال أرمينيا وتنتهي حدودهم الشمالية في تركيا بمحاذاة أرضروم. وفي الجنوب يسيطر الأكراد على مناطق واسعة إلى نهاية سهول ما بين النهرين وفي الغرب حدودهم نهر الفرات أو بصورة أدق نهر قرة سو.
وأنهم لم يقفوا عند هذا الحد وإنما يزحفون إلى أعماق أسيا الصغرى وأنهم لا يشغلون المناطق الجنوبية - الشرقية من سيواس فقط وإنما هناك جماعات متفرقة منهم حتى حوالي مدينة في كليكلية. وبهذه الصورة يصلون إلى البحر الأبيض المتوسط يسكن لأكراد في روسيا في مقاطعة اريفان في الأقسام التي تصل بـ آرارات ومناطق أخرى من نواحي أردها وقاقزمان في منطقة فارس وكذلك في مقاطعة اليزابث بول.
2.وفي فارس يسكن الأكراد في جميع أقسام مقاطعات كرمنشاه وكردستان (سنندج) ومنطقة كاروس وقسم في أذربيجان وفي جميع مناطق ساوجبلاغ (مهاباد حالياً) من جنوب بحيرة أورمية وغرب نهر تاتاو إلى حدود تركيا وهم من السكان القدماء في الأقسام الجنوبية. أما في الأقسام الشرقية من فارس (إيران) كانت تسمى سلماس تشكل مقاطعة مستقلة وكان الأرمن يسمونها (كورتجيا) بمعنى (كردستان). وهناك مناطق كردية أخرى مستقلة وهي متناثرة في خرسان (شاويلي) وفي قزوين (أمبرلو) وحوالي شيراز (كالون عبدو) حيث هجرهم الفارسي نادر شاه سنة 1736 – 1778 قسراً. وفي تركيا يسكن الأكراد بصورة أساسية في الجنوب الشرقي للأناضول وفي ولاية الموصل (عراق حالياً) وهي منطقة كردية خالصة عدا مدينة الموصل عربية، وأما في ولاية وآن وتبليس يشكل الأرمن أكثرية 60% وهذا يتعلق بالأراضي الواسعة حولي بحيرة وآن التي تتوفر فيها المياه. ولكن سنجق حكاري الذي يمتد إلى الحدود الفارسية (إيران) وكذلك أقسام كثيرة أخرى فالأكثرية الساحقة هم من الأكراد. والأكراد أكثر عدداً في ولايتي ديار بكر وخربوط من جميع الأقوام الأخرى وأن مدينة الجزيرة تقع في ولاية ديار بكر وعلى نهر دجلة في منطقة بوتان وهي تعتبر مهداً للأمة الكردية. ومنها توزعوا وفيها ظهرت الحركة القومية الكردية. وأن سكان منطقة درسيم التي تقع بين النهرين الذين يشكلان الفرات فالأكراد فيها الأكثرية بثماني مرات بالنسبة إلى سكان غير الأكراد. وفي أودية أرضروم والأقسام الجنوبية الشرقية يشكل الأكراد الأكثرية الساحقة. في سوريا يسكن الأكراد في حلب أيضاً وهناك مستعمرات كردية متفرقة في سوريا حوالي جبال دمشق وفيها محلات كردية.
3.إن كردستان سكنت منذ القديم وذلك ما اكتشفته التنقيبات التي قام بها فريق من جامعة شيكاغو سنة 1961 في مغارة (به رده بلكه) و(هزار ميرد) من العصور القديمة قرب السليمانية وشاندري قرب راوندوز و(جه رمر) في جم جمال قرب السليمانية أقدم قريبة في الشرق الأوسط حوالي 3000 سنة ق.م. وكذلك وجود آثار من الحضارة الأكدية في كركوك (عرفه/لافا) وفي جبل ترير من جبل بيره مكرون أوقفت سفينة كلكامش، وجدوا فيها قنطرة كلكامش. وكذلك رفع الملك (نارام ساسين) ملك أكد سنة 3400 ق.م راية النصر (مسلة النصر) على (ساقوين) ملك لولو في (دريندي-كاور) وكذلك تعرض الكاشيون لابن حمورابي ودخلوا بابل بسلام واحتلوا المنطقة المعروفة باسم لورستان وتحكموا في بابل طوال ستة قرون إلى حوالي القرن 117 ق.م.
نحن الشعب الكردي نعيش وسط شعوب فارسية وتركية وعربية منذ آلاف السنين. وعلينا أن نقول الحقيقة ولا نخجل في أن الشعب الكردي لم يكونوا هم الأكثرية بين تلك الشعوب. غير أن ذلك لا يمنعنا أن نكون جزء من أمتنا الكردية، ولا يمنع أن يتمتع أو (نتمتع نحن الكرد) بشخصية معنوية مستقلة بين بقية الأمم أو القوميات الأخرى التي تعتز بتاريخها ورموزها وخاصة الكرد الذين أنشدوا ودافعوا عن الإسلام مثل القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي ضد الموجات الصليبية في القرون الوسطى.
في كل الأدبيات والكتب التي تناولت القضية الكردية وخاصة في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921م، كان الحديث الرسمي والشعبي يذهب إلى التآخي بين القوميتين الكردية والعربية. وأحياناً إلى ضرورة (إعطاء حكم ذاتي للأكراد) ضمن حدود الدولة العراقية. وقد تكون مثل هذه الوعود التي كتبت في التاريخ عن الكرد هي ما أثقلت كاهل الأكراد في العيش ونظرتهم بصورة مستمرة إلى مركز الحكم في بغداد. بل وانعدام الثقة (ثقة الكردي) في أي مسؤول عراقي يجلس على كرسي الرئاسة في بغداد. ويجد الكرد أن تقسيم كردستان في القرن الخامس عشر بين الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية في (معركة جالديران 1514) بعض العذر لأن لا يقع اللوم على كاهل العرب دون الفرس والأتراك، خصوصاً وأن العرب والكرد كانوا ضمن حدود دولة العراق قد خضعوا معاً للمحتل الأجنبي التركي والإنجليزي منذ سقوط بغداد على يد (المغول) عام 1258 وحتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958. وهي فترة ربما قاربت السبعة قرون من الزمن، ولم يكن هناك من يصنع القرار لتأسيس دولة كردية مستقلة.
الشعب الكردي كأي شعب على وجه المعمورة لهُ خصائص وصفات ربما تختلف عن الشعوب الأخرى أو تقترب منها، خصوصاً مع تلك الشعوب التي جاورتهُ في السكن. وقد لا تختلف كثيراً، أن معظم القبائل الثابتة والمرتحلة إنما تنشد الماء والكلأ لحيواناتها طمعاً بالبقاء على قيد الحياة.
ومع الخزين المائي وأعشاب الأرض التي وَهبّها الله لعباده، إلا أن النزاعات التي أزهقت الكثير من الأرواح، أستندت على معادلة القوة والنفوذ للاستحواذ على أكبر بقعة جغرافية يمكن أن يشار لها بالبنان من قبل القبائل الأخرى.
لم يكن الكرد أو العرب على إدراك تام بالسياسة الدولية والإقليمية وامتدادهما في ذلك الوقت. وإذا ما أدرك الكرد بعضاً من هذه السياسة، وخاصة المتعلق بدول الجوار بلاد فارس وتركيا، وإن المستعمر البريطاني هو صاحب الخبرة السياسية في شبه القارة الهندية ومشاكلها القومية والأثنية قد أذعنت للسياسة البريطانية منذ منتصف القرن التاسع عشر. وأن (العرب والكرد والتركمان) ليسوا أكثر عسراً وتعقيداً من مشاكل الهندوس والمسلمين في شبه القارة الهندية، حتى بوجود ثورة شعبية في الفرات الأوسط عام 1920، وانتفاضة كردية في كردستان العراق للاستقلال عام 1919 بقيادة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية. وتأثيرهما، يوحي إلى إضافة أعباء على الدولة المهزومة في حرب تركيا (الإمبراطورية العثمانية) أي لأن تحتضن دولتين على ترابها في معاهدة سيفر عام 1920 هما كردية وأرمينية. وبقدر ما استفاد القائد التركي مصطفى كمال أتاتورك من المقاتلين الكرد الشجعان لهزيمة الجيش اليوناني، إلا أنه سرعان ما تنصل من وعوده للكرد فأصبحت المعاهدة (سيفر 1920) ليست أكثر من أوراق تعب عليها موظفي وزارة الخارجية البريطانية.
فإن ما يمكن أن أقدمهُ لكم هو هذه المحاضرة التي تتكلم عن القضية الكردية في ماضيها وحاضرها. وبالمناسبة، أجد أن ما كتب عن القضية الكردية على مدار قرن من الزمن قد أخذتها أيادي المستشرقين الملوّنة سياسياً في جوانبها السلبية كما يأخذون دين الإسلام ورموزه الأفذاذ الخلفاء الراشدين، والنبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم.
وأوّد أن أقول للحضور الكريم أن المستشرقين الذين كتبوا عن القضية الكردية هم أبناء العرب والمسلمين الذين وضعهم الحاكم القومي، أو المستعمر الحاكم فيما بعد. وكل واحد منهم يجد أن هذه القضية باتت مثيرة للجدل، ومقلقة للبال، وَهمّ الكرد وهم السكان الأصليين للمناطق الجبلية كردستان همهم الوحيد هو حصولهم على حقوقهم القومية المشروعة أسوة بالشعوب الأخرى التي سلبت منهم، مما أجبروا على الثورات والعصيان والتمرد على سلطة القانون التي كانت تتغافل حقوق هذا الشعب الكردي. ولكن سلطة القانون التي مارستها الحكومات الإسلامية في تركيا (العثمانية) وإيران (الفارسية) والعربية في العراق وسورية هل أزاحت كل المعوقات التي تعترض حياة الشعوب في حقوقهم وحريتهم وكرامتهم في العيش، ولم يبق إلا الشعب الكردي متمرداً لا يقبل بالمدنيّة التي وصل إليها الناس في دول الجوار.

* معضلة القضية الكردية في العراق
1- لقد تعمد الإنكليز في معاهدة سايكس بيكو عام 1916م إلى تجاهل حق تقرير المصير للشعب الكردي الذي انعكس على بقاء هذا الشعب موزعاً بين إيران والعراق وسوريا.
2- تحت تأثير هذا الشعور بالحيف والغبن للشعب الكردي، انتفض بقيادة الشيخ محمود الحفيد عام 1920، بوجه الاحتلال البريطاني، في محاولة للحصول على حقوق قومية واضحة في إطار الدولة العراقية الحديثة المقرر إقامتها من قبل الاحتلال البريطاني.
3-لقد كانت مطالب الشعب الكردي في العراق هي إناطة الإدارة المحلية في المحافظات ذات الغالبية الكردية إلى موظفين من الكرد، وأن تكون اللغة الكردية هي اللغة المعتمدة في الدوائر الحكومية والمؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية.
4-على صعيد مجمل الدولة العراقية كانت مطالب الشعب الكردي، تحقيق فعلي وواضح لمشاركة الكرد في المواقع السيادية في إدارة الدولة والمقاعد الدراسية في الجامعات العراقية والبعثات الخارجية والكليات والمدارس العسكرية والأمنية، وتخصيص نسبة من الميزانية السنوية بما يتناسب وعددهم السكاني، وإناطة استثمارها من قبل الحكومات المحلية في المحافظات الكردية لضمان إنجاز خطط التنمية الهادفة إلى تطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة.
5-عدم تقنين سبل تحقيق تلك المطالب المشروعة، وتحديد آليات واضحة لتفعيل تلك النصوص القانونية التي كان الطموح تشريعها ولم يتم ذلك على مدى ثمانية عقود من عمر الدولة العراقية، ترك الباب مفتوحاً لاجتهادات القيادات الكردية من جهة، وللقيادات الحكومية المركزية من جهة أخرى، قادت إلى صراعات بين الطرفين.
6-لقد طبقت اختلافات وجهات النظر بين الحكومة المركزية والقيادات الكردية في التعاطي مع الحقوق القومية للشعب الكردي في إطار الحقوق الوطنية للشعب العراقي بعربه وكرده، والتي كانت وراء الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، بأنه هو الذي خرق الاتفاق المبرم بين الطرفين لتسوية المشكلات المثارة عقب كل صراع أو اقتتال.
7-بسبب الالتباس الذي أحاط بمفهوم الحقوق القومية لأكراد العراق في إطار الحقوق الوطنية للشعب العراقي بعربه وكرده وأقليات أخرى، تسبب في تأزيم العلاقة بين القيادات الكردية والقائمين على الحكومات المركزية. قاد إلى الصراع والامتثال، دونما أن يكون للشعب العراقي بعربه وكرده يد في هذا الصراع، ودونما يؤثر تاريخ العلاقة بين العرب والكرد على مر عقود من السنين حقد أو كراهية بينهما، فقد أكد العيش المشترك والتزاوج والتلاحم والانسجام بين الشعبين أنهما ينعمان بكل أواصر الأخوة الوطنية وروح المودة والتفاهم والإيمان بالمصير المشترك والآمال والطموحات ...
8-بسبب قصور إدراك القيادات الكردية والقائمين على الحكومات المركزية مسؤولياتهم الوطنية في الحفاظ على وحدة العراق أرضا وشعبا، وفي الحفاظ على أمنه الوطني الذي هو أمن الجميع، كان سبباً في إحداث شرخ وطني تحول إلى صراعات دموية! استنزفت موارد البلاد البشرية والمادية على مدى عقود من الزمن، كانت سبباً لتعويق برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية، التي كانت البلاد عموماً، والمنطقة الكردية خصوصاً بأمس الحاجة لها.
9-إصرار الحكومة المركزية على عدم التوسع في الإدارة اللامركزية في المحافظات الكردية والاستجابة لعدد من المطالب القومية، مكّن عدد من القيادات الكردية شحن قطاعات من الشعب الكردي على الحكومة المركزية بإدعاء هضم حقوقهم القومية، مما أسهم في استمرار الاقتتال سنين طوال.
10-إصرار الحكومة المركزية على تعيين محافظين وقيادات إدارية وأمنية وعسكرية من العرب في المحافظات الكردية، وتحظى (بالرغم من وجود) عدد من القيادات الكردية المؤهلة ليتبؤا تلك المسؤوليات وفر لقيادات الأحزاب الكردية فرصة لإقناع السواد الأعظم من الشعب الكردي أن الحكومة مصرة على هضم حقوقهم القومية وكان للقيادة الكردستانية الحق لها في ذلك.
11-إساءة عدد من المحافظين والقادة الإداريين وخاصة الأمنيين والعسكريين في التعامل مع الملف الكردي، كل في نطاق اختصاصاته، عمق من تردي العلاقة بين الطرفين، وأعطى انطباعاً صحيحاً عن عدم صدقية الحكومة المركزية في تلبية المطالب والطموحات الكردية.
12-لقد شهد التاريخ القديم والحديث حقيقة الأطماع الإيرانية في العراق، بل تجاوز ذلك إلى العداء والثأر منه، فكانت هذه الحقيقة وراء استغلال إيران لقادة عدد من الأحزاب الكردية بحكم حاجة تلك الأحزاب إلى الدعم المادي والتسليحي، وحتى الإيواء والعلاج لهم ولعوائلهم عند الضرورة، والهرب من ملاحقة القوات الحكومية لهم داخل الأراضي العراقية، فكانت فرصة ذهبية لإيران لاستنزاف العراق بشرياً ومادياً، ومنعه من أن ينعم بالأمن والسلام اللازمين لتحقيق أية برامج تنموية اجتماعية واقتصادية في ربوع العراق من شماله حتى جنوبه، فتحقق لها ما كانت تطمع إليه بما يسمح تسميته "الحرب بالإنابة" فكانت أحياناً كثيرة أقرب إلى أنها "حرب إيرانية بلباس كردي" يدفع ثمنها الأبرياء من شعب العراق عرباً وأكراداً (مع الأسف لم يدعو قادة المركز هذه الحقائق)، كان من الأفضل حل ذلك بالتحاور البناء والعادل والمنصف بدل التحارب والاقتتال بين الأخوة والأشقاء....
13-لقد كانت تجربة الحكم الذاتي عام 1974 خارطة طريق تصلح لوأد كل الخلافات والصراعات بين الحكومة المركزية وقيادة الأحزاب الكردية، وتؤسس لبناء علاقات متميزة، لكفالة الأمن الوطني، القاعدة المتينة للبناء والإعمار في البلاد، والضمانة الأكيدة لمنع التدخلات الأجنبية، وتعزيز الأخوة الوطنية استناداً إلى المصالح المشتركة بين الطرفين، لولا إخفاق القائمين على الحكومة والقائمين على القضية الكردية من استيعاب دروس الماضي وإدراك حقيقة لا مناص منها أن الصراعات والاقتتال لا يروم الخلافات وإنما الصدقية وحسن النوايا وتغليب المصالح الوطنية على المصالح الضيقة هي السبيل الوحيد للعيش المشترك على أسس من الحق والعدل والمساواة.
14-بسبب إرهاق الحكومة المركزية واستنزاف مواردها البشرية والمادية وتعذر الوصول إلى حلول وطنية وقومية مشتركة، عمدت الحكومة إلى تجفيف منابع الدعم المالي والتسليحي للحركة الكردية، من مصادره إيران، فعمدت إلى عقد اتفاقية الجزائر في 6 آذار عام 1975، التي أنهت القتال مقابل ثمن باهظ دفعه العراق من أراضيه عموماً وشط العرب خصوصاً ...
15-لقد وجدت قيادة الحزبين الكرديين الديمقراطي والاتحاد الوطني من خروج الجيش العراقي من الكويت ملحقا به أفدح الأضرار من قبل قوات التحالف الدولي، وتعرضه إلى الإيذاء مما حصل في المحافظات الجنوبية، فرصة سانحة لإعلان الانتفاضة في المحافظات كردستان الكردية، دفع بالحكومة المركزية إلى إرسال قوات حكومية لقمع الانتفاضة فكان لها ما سعت إلى تحقيقه. (وأعتقد كان ذلك إجراء طبيعي وصحيح من القيادة الكردية).
16-لقد كان قرار الحكومة المركزية بسحب قواتها من الجيش والأجهزة الأمنية والإداريين من المحافظات الشمالية الكردية، استسلاماً واضحاً لقيادة الحزبين الكرديين، مكنهما من بسط نفوذهما على محافظات السليمانية واربيل ودهوك بالكامل.
17-لقد تعززت سلطة الحزبين الكرديين الرئيسيين في المحافظات الكردية عندما فرضت القوات الأمريكية خط عرض 32 و 33 الذي منعت بموجبه القوات الحكومية من تجاوز الخط الأزرق لضمان أمن المحافظات الكردستانية والكردية، الذي استمر طيلة 12 عاماً، فشكلت حكومة لإقليم كردستان في أربيل والسليمانية ودهوك من أبنائه الأكراد.
18-في آذار 2003 وبعد احتلال العراق من قبل قوات التحالف الأنجلو – أمريكي في 9/4/2003 فقد توافرت مساحة واسعة من تمركز قوة الحزبين الكرديين الرئيسيين على عموم كردستان العراق.
19-لقد تضافرت جهود إيران والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والسعودية والكويت على إسقاط النظام في العراق، وإخراجه من توازنات القوى الإقليمية في المنطقة، وأسهمت عدد من الدول العربية في أن تكون أراضيها ممراً لقوات الاحتلال أو بمواقفها السلبية أو المشجعة تصريحاً أو تلميحاً ضوءاً أخضر لهذا الاحتلال الغاشم، الذي ستكشف السنوات القادمة الغلط الاستراتيجي الذي ارتكبته باحتلاله وتدميره للعراق باعتباره الحارس الحقيقي للبوابة الشرقية للوطن العربي والرواج للأطماع الصهيونية في المنطقة، والضامن الحقيقي لمصالح عموم الشعب العراقي بعربه وكرده وأقلياته جميعاً ... لكن مع الأسف لم تكن الحكومة المركزية عادلة بين أبنائه بكرده وعربه لو عمل بذلك لما جرى ما جرى الآن.
20-يطمح عموم الشعب الكردي تعزيز كيانه في إطار الوحدة العراقية في ضوء الحقائق التاريخية والجغرافية والثوابت الوطنية، ووحدة المصير المشترك والآمال والطموحات، ووحدة العراق أرضاً وشعباً، وتطوير المشاركة العادلة والمسؤولة في الحكومة المركزية في ضوء النصوص الدستورية والقانونية التي تكفل الحقوق لكافة العراقيين على قدم المساواة بصرف النظر عن قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم، وتسوية الموضوعات المشتركة مع الحكومة المركزية على أسس من العدل والقانون وبناء دولة المؤسسات الضامنة للإسراع بإعادة الإعمار والبناء، وبرامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ليعود العراق الموحد معافاً قادراً على لعب دوره في التوازن الإقليمي في المنطقة.
ولكن ما حجتنا في هذا القول، إذا ما رجعنا بالتاريخ إلى الفترات السحيقة التي سبقت ميلاد السيد المسيح (ع)، وهناك أقاويل وآراء ونظريات عن أصل الكرد كشعب وأين هو موطنهم الأول.

* كيف نشأت القضية الكردية
بين المشكلات التي جابهها الحلفاء في ختام حرب 1914 – 1918 العالمية الأولى، مشكلة تحقيق مطالب الأرمن التي تستهدف تأسيس دولة أرمنية تمتد حدودها من ساحل بحر قزوين إلى ساحل البحر الأسود، وتنحدر غرباً إلى شاطئ البحر المتوسط، فتشتمل على ولايات الأناضول الست الكردية (سيواس، وأرضروم، وخربوط، وديار بكر، وبتليس، ووان) ولما كان الأكراد يؤلفون الأكثرية في هذه الولايات العثمانية، فقد خشيّ الأكراد أن تلقى هذه المطالب عطف دول الحلفاء وتأييدها للأرمن/المسيحيين فيصبح الأكراد تحت رحمة الأرمن، وهم يكرهونهم في الأصل، ويتحينون الفرصة للثأر منهم، لذلك ثارت العاطفة القومية الكردية في صدورهم، ونفروا من الدول الأجنبية أن تنال أحداهن - ولاسيما بريطانية – المشارفة (الإشراف) على البلاد، فتعطف على الأرمن، وتكون عوناً لهم على أعدائهم الكرد.
وسرعان ما ظهرت مساع وطنية من جانب بعض الزعماء الكرد لتحقيق رغباتهم القومي فقام "الحزب الوطني الكردي في الاستانة" الذي يرأسه "عبد القادر من شمدينان"، وكان وزيراً في الحكومة التركية من قبل، ومعه أبناء "بدر خان"، يطلب من الهيأة الدولية التي احتلت الاستانة بتوحيد المناطق الكردية ومنحها حكما ذاتياً، كما راجع اللجان الأوروبية والأمريكية التي تكونت لاستفتاء الشعوب التي انفصلت عن الانبراطورية العثمانية لهذا الغرض.

رأى عقلاء الكرد ومفكروهم وجوب الاتجاه بمساعيهم الوطنية إلى خارج الأراضي العثمانية فانتخب رؤساء الجمعيات الكردية كافة، الجنرال شريف باشا السليماني من أهالي السليمانية "وكان يقيم في باريس" ممثلاً عاماً يسعى لإنجاح القضية الكردية لدى دول الحلفاء في مؤتمر الصلح الذي كان منعقداً في باريس 1919م فقدم شريف باشا مذكرة إلى مجلس الحلفاء الأعلى في 22 آذار 1919 طالب فيها باستقلال كردستان، وبجعل الشعب الكردي أمة واحدة منصوبة تحت لواء واحد. وفي الوقت نفسه اتصل بالجمعيات الأرمنية، وتوصل إلى عقد اتفاق مع بوغوص نوبار باشا "ممثل الأرمن" في تشرين الأول من سنة 1919م، على أن تكون البلاد الكردية مستقلة عن الدولة الأرمنية، المنوي تكوينها، منفصلة عنها. في أول آذار 1920 رفع الممثلان: الكردي والأرمني مذكرة باسم كل منهما إلى مجلس  الحلفاء الأعلى ضَمَنّاهَا الاتفاق الذي توصلا إليه، فما وسع هذا المجلس غير أقرار هذه الرغبة مبدئياً فلما وضعت (معاهدة سيفر) في 10 آب 1920م جاء في موادها ألـ (62، 63، 64).
* الأكراد ولجنة الحدود الأممية
لما قررت عصبة الأمم إيفاد لجنة من بين أعضائها للتحقيق في الخلاف العراقي - التركي حول ولاية الموصل، ذكرت اللجنة التي جاءت إلى العراق في العشرة الأولى من شهر كانون الثاني سنة 1925م، في تقريرها المرفوع إلى عصبة الأمم الفقرة التالية:
"يجب مراعاة رغبات الأكراد فيما يخص تعيين موظفين أكراد لإدارة مملكتهم "كردستان" وترتيب الأمور العدلية والتعليم في المدارس، وأن تكون اللغة الكردية اللغة الرسمية في هذه الأمور"( ).
فلما قررت العصبة إبقاء المنطقة المتنازع عليها للعراق (ولاية الموصل)، كجزء لا يتجزأ منه ولا يقبل التجزئة، اشترطت، في جماعة اشترطته، ما يلي:
"تدعي الحكومة البريطانية، بصفتها الدولية المنتدبة، إلى أن تعرض على المجلس التدابير التي ستتخذ من أجل أن تؤمن للأكراد من أهل العراق (ولاية الموصل)، التعهدات المتعلقة بالإدارة المحلية التي أوصت بها لجنة الحدود في استنتاجاتها الأخيرة( ).
وقدمت الحكومة البريطانية المذكرة السرية المؤرخة 2 آذار 1926 إلى مجلس العصبة لتبرهن على أن العراق قائم بهذه الواجبات فعلاً، فلما أحيلت هذه المذكرة إلى "لجنة الانتدابات الدائمة" أيدت اللجنة قيام العراق بالواجبات التي طلبت العصبة إليه أن يقوم بها، فلم يبقى أمام الحكومة البريطانية غير السعي لتسوية المشكلة الكردية بين الحكومة العراقية وبين الشيخ محمود بالطرق السلمية، فسافر مستشار الداخلية إلى لواء السليمانية في تشرين الأول 1926 واجتمع بالشيخ محمود الحفيد في معقلة بجوار السليمانية، وعرض عليه استعداد الحكومة العراقية لمنحه بعض الشروط السخية إذا ترك الشقاوة. ولما رفض الإذعان إلى الإرشادات والنصائح، جهزت الحكومة العراقية فوجاً من جيشها إلى "بنجوين" قرية الشيخ محمود فاحتلها في اليوم ألـ 20 نيسان 1927م وحينئذ لم ير الشيخ محمود مناصاً من قبول المصالحة فوافق في 2 حزيران من سنة 1927 على ما يلي:
أولاً: أن لا يدخل الشيخ محمود ولا بعض من أقاربه المعنيين إلى الأراضي العراقية دون إذن من الحكومة العراقية.
ثانياً: أن يتعهد الشيخ محمود بعدم التدخل في شؤون الحكومة العراقية، وان لا يشجع أحداً على هكذا تدخل أيا كان ذلك، في السليمانية أو في أي محل آخر، وأن يبتعد عن الاشتراك في أي عمل سياسي يمس العراق.
ثالثاً: أن يرسل نجله الثاني "بابا علي" إلى بغداد فيتلقى العلوم العصرية على نفقة الحكومة العراقية وتحت رعايتها (رهينة).
رابعاً: أن لا يكون لعفو الحكومة العراقية عنه من الوجهة السياسية، أي تأثير على حقوق الغير من الذين يرغبون في إقامة الدعاوي الشخصية في المحاكم المختصة.
وتعهدت الحكومة العراقية لقاء ذلك، أن تعيد إلى الشيخ محمود الحفيد أملاكه على أن يدير شؤونها وكيل ترضاه السلطة، وأن تعفو عن عدد من أتباعه، وفق الشروط الموضوعة لكل منهم، ويستثنى من ذلك المتهمون بجرائم فظيعة فينظر في أمرهم على حدة.
وبالنظر إلى مواد هذا الاتفاق سافر الشيخ محمود الحفيد إلى إيران وفي تموز 1927، قصد بغداد لزيارة المعتمد السامي البريطاني فلبث فيها أياماً ثم عاد إلى مقره، ولكن أحلامه لم تتبدد، بالرغم من قيام الحكومة العراقية بجميع التسهيلات اللازمة لرفاه كردستان. وفي شهر شباط 1929م قدم ستة من النواب الأكراد في المجلس النيابي( ) عريضة إلى رئيس الوزراء، شكوا فيها من بعض الأمور، وطالبوا الحكومة العراقية بما يلي:
1. تزييد نفقات المعارف في كردستان.
2. تأليف وحدة إدارية كردية تضم ألوية السليمان وإربيل وكركوك، ولواء آخر يكون جديداً من الاقضية الكردية في لواء الموصل وهي (دهوك)، وأن يتولى أمر هذه الوحدة الإدارية مفتش كردي عام، يكون الصلة الوحيدة بين هذه المنطقة، وبين حكومة بغداد.
3. تزييد نفقات المصالح العامة في المنطقة الكردية( ).
فدهش رئس الوزراء من هذه المفاجأة، واتصل بالمعتمد السامي البريطاني لإيجاد حل لهذه المعضلة، فاتفق الطرفان على خطئ الرأي القائل بتكوين الوحدة الإدارية، المبحوث عنها في الفقرة الثانية من عريضة النواب. وفي الوقت نفسه أوعزت الحكومة العراقية بالقيام ببعض الأمور الطارئة في المنطقة الكردية وإزالة الشكوى، ومن ذلك أنها سنت قانوناً يجعل اللغة الكردية لغة رسمية في الأقضية التي يكون الكرد فيها الأكثرية الساحقة.
* إدارة المناطق الكردية( )
وفيما يلي نص المذكرة المتعلقة بإدارة المناطق الكردية، التي أشار إليها "لانسلوت أولفنت" في الفقرة الثامنة من مذكرته السرية المرقمة أي 65 – 44 – 1367 والمؤرخة 2 آذار 1929:
1. تتضمن الفقـرة الثالثة من قرار مجلس عصبة الأمم في خصوص الحدود التركية - العراقية ما يلي: "تدعي حكومة بريطانية، بصفتها دولة منتدبة على العراق، لأن تعرض على المجلس (عصبة الأمم) التدابير الإدارية التي ستتخذ لتأمين الضمانات اللازمة إلى الأكراد، المبحوث عنهم في قرار لجنة الحدود الأممية في خصوص الإدارة المحلية التي أوصت بها اللجنة المشار إليها في أحكامها النهائية.
2. وقد كانت توصيات لجنة عصبة الأمم الحدود المتعلقة بالأكراد المشار عليها في قرار المجلس لعصبة الأمم على النحو التالي: "يقتضي أن تؤخذ بنظر الاعتبار الرغبات التي أظهرها الأكراد، القائلة بلزوم تعيين الموظفين أكراد الذين هم من أصل كردي لإدارة بلادهم كردستان، ولزوم توزيع العدالة ونشر التعليم في المدارس الكردية، وجعل اللغة الكردية اللغة الرسمية في جميع أنحاء كردستان وفي جميع الوظائف.
3. ذكر وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل في خطابه الذي ألقاه أمام المجلس العموم البريطاني في 3 أيلول 1925، عندما أشار إلى هذا الموضوع، أن النظام الإداري الحاضر قد ساعد على تطبق معظم توصيات اللجنة وهذه الإفادة مستندة تماماً إلى الحقائق التالية المتعلقة بالتدابير المتخدة من قبل الحكومة العراقية لإدارة المناطق التي يسود بها العنصر الكردي.
4. أن ثلاثة وأربعين، من مجموع سبعة وخمسين موظفاً، المستخدمين من قبل وزارتي المالية والداخلية في المناطق الكردية هم أكراد، بينما هناك تسعة موظفين أكراد مستخدمين في عين الوظائف في المناطق غير الكردية، وكان التنقيص جار بصورة تدريجية في عدد الموظفين غير الأكراد المستخدمين في مناطق كردية، وأن سياسة استخدام الأكراد فقط، دون غيرهم، حيثما يوجد من له أهلية ورغبة في الاستخدام، جارية بكل مواظبة.
5. تستخدم وزارة العدلية ثلاثة عشر موظفاً (حكاماً ورؤساء وكتبة) في المناطق الكردية، عشرة منهم أكراد، وتجري المرافعة باللغة الكردية، وتحرر محاضر الجلسات في السليمانية وكويسنجق التابع إلى لواء إربيل بالكردية، وتربط بها الترجمة العربية عند إحالة الدعوى إلى محكمة الاستئناف أو محكمة التمييز، ويستخدم ستة موظفين أكراد في عين الوظائف في مناطق غير كردية.
6. أما الدوائر الأخرى، غير المبحوث عنها آنفا (كالأوقاف، والبرق والبريد، والأشغال العمومية، والسجون والكمارك، والري، والطابو، والزراعة) فتستخدم خمساً وخمسين موظفاً في المناطق الكردية ثماني وثلاثون منهم أكراد، في حين أن ثمان وسبعين كردياً يستخدمون في مناطق غير كردية.
7. ويأخذ الكرد أيضاً تمام حصتهم في الاشتراك في إدارة الحكومة المركزية، فإن عينين من مجموع عشرين عيناً هما كرديان (لأن الآخرين نصف أكراد) وأربعة عشر مندوباً من مجموع 88 هم أكراد، وأن وزير المالية هو كردي. كما أن وزير الأشغال والمواصلاات كذلك (كردي).
8. يؤلف الكرد نحو 20 بالمئة من مجموع سكان البلاد، وأن 24 بالمئة من مجموع قوة الشرطة هم أكراد، وفي الجيش يؤلفون 14 بالمئة، في حين أن 33 بالمئة من مستخدمي السكك الحديدية هم أكراد، ويبلغ مجموع الأفراد المستخدمين في الشرطة، والجيش، والسكك الحديدية، ما ينيف على 20,000 منهم أكثر من 4000 أو 20 بالمئة أكراد.
9. يوجد في المناطق الكردية خمس وعشرين مدرسة، منها خمسة مختصة بالمسيحيين، وتستعمل فيها اللغات الكلدانية والعربية. أما لغة التعليم في الستة عشر مدرسة المتباقية، فهي الكردية. إن اللغة الرئيسية للتعليم في المدارس الأربع الباقية، حيث تتألف تلامذتها من نصارى وأكراد هي العربية، على أنه تستعمل اللغة الكردية للإيضاح بكل حرية. وعدد المعلمين المستخدمين في هذه المدارس (52) ولكنهم، ما عدا ثمانية، هم أكراد وهؤلاء الثمانية هم عرب وكلهم يعرفون اللغة الكردية، ومعظمهم يستخدم في تعليم العربية، التي لا بد من استعمالها لتقدم المعارف، وقد كان عددهم ثلاثة عشر منذ مدة قصيرة فخفض عددهم مؤخراً أكثر.
10. وعلاوة على ذلك يوجد هناك اثنان وعشرون كردياً، وعدد كبير ممن يحسنون الكردي من العرب، والتركمان، يستخدمون كمعلمين في مدارس غير كردية، خارج المنطقة الكردية. وستعلمون بناء على ما تقدم، أن سياسة التعليم المتبعة الآن منطبقة تماماً مع توصيات اللجنة لعصبة الأمم. لا تتطلب التطورات الواقعة أي تعديل في هذه السياسة سوى إجراء زيادة في عدد المدارس. عندما تتمكن البلاد من إجراء ذلك.
11. جمعت الأرقام الآنفة الذكر من سجلات المركز، وهي لا تشمل الفراشين، وصغار الكتبة (حيث يجري تعينهم من قبل السلطات المحلية) وربما كان العدد الوارد في هذه السجلات هو أقل من العدد الحقيقي للأكراد المستخدمين، لأن لم يدخل في صنف الموظفين الأكراد سوى الذين ثبت كونهم كذلك بصورة قطعية. ومعظم الموظفين سجل جنسيته كعراقي، فمن المحتمل أن يكون من بينهم من هو كردي في الحقيقة ليس معلوماً كذلك في المراكز.
12. أما بخصوص استعمال اللغة الكردية فلا يجب أن يغرب عن البال، أن اللغة الكردية قبل الحرب لم تكن مستعملة كواسطة للمخابرة لا بصورة رسمية ولا خصوصية، لقد كان هناك كمية لا يستهان بها من المؤلفات الكردية في الشعر، إلا أن التطور الذي حدث في لغة الكتابة وجعلها واسطة للمخابرة، إنما يعود إلى مساعي الموظفين البريطانيين. وكان المستعمل سابقاً، الفارسي والتركي والعربي. إن استعمال اللغة الكردية كتابة لم ينتشر بعد في ولاية الموصل، حيث تستعمل التركية والعربية، وقد انتشرت بالتدريج في لواء إربيل، حيث اعترف بها مؤخراً اللغة الكردية الرسمية للمخابرة مع دوائر الحكومة. أما في السليمانية فحصلت منذ بضع سنين على جريدة كردية، واستعملت فيها منذ مدة اللغة الكردية المكتوبة للمخابرة في الشؤون الرسمية والشؤون الخصوصية. وأن العمل الذي بدأت به حكومة الاحتلال البريطاني، يتمم من قبل الحكومة العراقية بكل إخلاص. تصدر في بغداد جريدتان بالكردية. ويتخذ الآن كل تدبير ممكن لإعطاء الحرية للأكراد ليس في استعمال اللغة الكردية فقط، بل للتشويق على استعمالها بكل فعالية.
13. قد أصبح من المُسلّم بهِ، أن المعلومات المتقدم ذكرها، تؤيد حصول اتفاق بين السياسة الكردية التي أوصت بتعقيبها لجنة الحدود، وبين تلك المتخذة من قبل الحكومة العراقية.
14. وربما كان أكبر برهان على أن الحكومة العراقية تقدر تماماً ما يترتب عليها من المسؤولية تجاه الأماني الكردية، واستطلاع دليل على رغبتها في الدوام على سياستها الحرة الحاضرة بأن تمنح جميع الوسائل اللازمة لترقية الآداب الكردية، وتحقيق أماني الأكراد، في ضمن الدولة العراقية، هي العبارة التالية، المقتبسة من الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزارة العراقي في مجلس النواب في 21 كانون الثاني 1926 فقد قال: "سادتي: لا يمكن أن تعيش هذه البلاد العراق ما لم تعط جميع العناصر العراقية حقوقها ... ينبغي أن تمنح للشعب الكردي حقوقهم، وينبغي أن يكون موظفوهم من بينهم، ويجب أن تكون لغتهم الكردية اللغة الرسمية في مناطقهم، ويجب أن يتلقى أبناؤها الدروس في المدارس بلغتهم الأم الكردية (تصفيق) ومن المحتم علينا أن نعامل جميع العناصر الكردية وغيرهم في العراق، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين بالحق والعدل، وأن نمنحهم حقوقهم القومية والمشروعة.
15. وبعد إعلان هذه السياسة التي قابلها المندوبون العراقيون بمزيد الاستحسان، وزع المنشور الآتي ذكره على جميع الوزارات. "لا شك أن معاليكم قد اطلعتم عل الخطاب الذي ألقاه فخامة رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون في مجلس النواب والمنشور في الجرائد في اليوم التالي. يتضمن هذا الخطاب السياسة التي انتهجتها الحكومة، والتي ستنتهجها في إدارة المناطق الكردية، وذلك بأن يكون الموظفون أكراداً، وأن تكون اللغة الرسمية في المناطق الكردية اللغة الكردية، وعليه فقد أمرني فخامته بأن أرجو معاليكم أن تبذلوا جهدكم في تطبيق هذه السياسة، والتمسك بها في جميع ما يتعلق بمؤسسات المنطقة المبحوث عنها.
16. أما البينة الأخرى على نية الحكومة العراقية فتجدونها في الخطابات المتبادلة بمناسبة الوليمة المقامة في دار الاعتماد البريطاني للاحتفال بإمضاء المعاهدة البريطانية - العراقية الجديدة. فقد بين فخامة ويل المعتمد السامي البريطاني في خطابه، ما ترمي إليه الحكومة العراقية على الوجه التالي: "يجب أن يكون غرض الحكومة العراقية جعل العناصر والقومية الكردية التي يتألف منها العراق أبناء صادقين للدولة العراقية وغرضها كذلك، وهي تعمل هذا العمل الأفضل بالتشويق على التمسك بالأديان، والجنسية، لا التثبيط، إن الكردي ليس عربياً أكثر من أن يكون الاسكوتلندي إنكليزيا، ولا يمكن أن تجعلوا وطنياً صادقاً للعراق بإجباره على استعمال اللغة العربية، أو العادات العربية، وبالاختصار لا بمحاولة جعله عربياً جيداً، بل بأن تعطي جميع الوسائل والتشويقات لأجل أن يكون كردياً جيداً، وهذه الوحدة في الدولة التي هي لابد منها لتقدم الدولة، لا تحصل بإبادة العادات الاجتماعية الخصوصية الكردية، التي تجري عليها العناصر المختلفة، بل بتشويقها على التمسك بعاداتهم الاجتماعية لهم، وأن يمهد للجماعات المختلفة طريق التقدم على المنوال الذي يستحسنه كل منهم وهذه هي السياسة التي جريتم عليها وحكومتكم، وهذا العمل يفيد العراق أكثر من كل شيء في سبيل إقناع عصبة الأمم بأهلية العراق في الإنخراط في سلك عضويتها.
17. وقد أشار جلالة الملك فيصل إلى الموضوع في خطابه الجوابي قائلاً: "إن من بين الوظائف المهمة المترتبة على كل عراقي صادق وعربي مخلص هو تشويق أخيه الكردي العراقي على التمسك بجنسيته، والالتحاق به في الانضواء تحت العلم العراقي، رمز سيادة البلاد وسعادة الجميع من أبنائه ضمن وطنهم العراق، المادية والعقلية، وسيكونون باتحادهم واشتراكهم أعضاء عاملين لبناء ولإسعاد الوطن المشترك، ولا أشك فأن في كل عراقي صادق يشترك معي في هذا الشعور نحو جميع العناصر الموجودة في بلادهم" لندن في 24 شباط 1926( ).
* لماذا مدد أجل الانتداب على العراق؟؟
ويهمنا جداً أن نلفت الأنظار إلى أن قرار مجلس عصبة الأمم، بوجوب استمرار نظام الانتداب على العراق لمدة 25 سنة، جاء مستنداً إلى الفقرة الأولى من قرار لجنة الحدود الأممية المذكورة سابقاً، وبصرف النظر عن تأثير النفوذ البريطاني في توجيه التحقيق المختص بالأكراد، فإن طلب هذه اللجنة للتمديد كان متأثراً بزعمها أنه (في حالة ما إذا انتهت مراقبة عصبة الأمم، بعد انتهاء السنوات الأربع، التي أبرمت عليها المعاهدة العراقية – البريطانية 1922، ولم يعط الأكراد تعهداً بجعل إدارة محلية لهم أو حكماً ذاتياً، فإن معظم الأهلين الأكراد يفضلون الأتراك على حكم العرب) وعليه فإن مدة تمديد الانتداب لم تكن إلا لتأمين توفر العامل الإضافي، إلى العوامل الجغرافية والتاريخية والاقتصادية التي اعتبرتها اللجنة المذكورة حججاً دامغة في قرارها لتبرير إلحاق المنطقة المتنازع عليها للعراق (ولاية الموصل) علاوة على الحجج الأخرى.
وقد رأينا أن بريطانيا قد تمسكت بأمر تمديد مدة الانتداب لمدة خمسة وعشرين سنة، وهي كنتيجة، وتركت موجباتها، وهي قضية الأكراد، واكتفت للظفر بتأييد العصبة بذكر الإحصائيات المتقدمة عن عدد الموظفين المستخدمين في المنطقة الكردية، وموقف الحكومة العراقية من السياسة الواجب أتباعها في هذه المنطقة، مضيفة إلى ذلك نصوص خطب وتصريحات تثبت حسن النية والود بين أبناء العراق على اختلاف قومياتهم.
وإذا كان الموضوع كله يدور حول الكرد، وإذا كانت عصبة الأمم مقتنعة باطمئنان بريطانية، فلماذا الإصرار على تمديد مدة الانتداب؟ ولماذا عقدت المعاهدة العراقية - البريطانية الثانية 1925 لتحقيق هذا التمديد؟ إننا سنرى المصالح البريطانية وحدها هي التي أوحت بكل هذا، وأن هذه المصالح نفسها ستوحي لإنهاء الانتداب.
فمسألة ولاية الموصل إذن تحمل إلينا مثالاً عن قضية تساوت أهميتها السياسية والاقتصادية والحربية، وتحاول إنكلترا الاحتفاظ بها:
أولاً: لأنهـا بواسطتهـا تستطيـع أن تشرف على مفرق طرق هام وموقع عسكري ممتاز.
ثانياً: لأن هناك مسألة سياسية خاصة، ومن امتلك مفاتيح ولاية الموصل استطاع أن يراقب بلاد الأكراد الذي طالما كانوا آلة في أيدي مجاوريهم.
ثالثاً: لأن هناك داعياً اقتصادياً من ورائها المال والثورة( ).
* القضية الكردية والمعاهدة البريطانية – العراقية عام 1930م
لما شرع في المفاوضات التي أسفرت عن عقد المعاهدة العراقية - البريطانية الرابعة في 30 حزيران من عام 1930م، سأل أحد النواب الكرد المعتمد السامي البريطاني في شباط من هذه السنة 1930 هل ستتضمن المعاهدة المنوي عقدها بين الحكومتين العراقية والبريطانية شروطاً تضمن الحقوق للأكراد التي أشارت إليها عصبة الأمم في القرار الذي اتخذته عندما قررت إبقاء منطقة ولاية الموصل ذات الأكثرية الكردية للعراق، فأجاب أن المعاهدة المنوي عقدها عبارة عن حلف لا يجوز أن تتضمن مواده ما هو خارج عن موضوع الحلف، فلما نشر نص المعاهدة وشوهد خلوها من تلك الشروط بخصوص الحقوق للأكراد، بدأت المشاغبات والمطالبات، وأخذت برقيات الاحتجاج من الأكراد تنهال على دوائر المعتمد السامي في بغداد، وعلى العصبة الأممية في جنيف.
أما في بغداد فقد عالج وكيل المندوب السامي البريطاني القضية باصطحابه وكيل رئيس الوزراء في آب 1930، والتجوال في الألوية الكردية السليمانية وكركوك وإربيل وإلقاء الخطب المشتركة عن حسن نيات الحكومة العراقية تجاه الكرد، ورغبتها الشديدة في ترفيه أحوالهم، وأعمار بلادهم ومناطقهم الكردية، وتنفيذ توصيات عصبة الأمم بحقوقهم القومية الكردية.
وأما في "جنيف" فقد اتخذت لجنة الانتدابات الدائمة لعصبة الأمم القرار الآتي: "لما كنا لم نجد قراراً لعصبة الأمم يبرر طلب أصحاب العريضة في إنشاء حكومة كردية تحت إشراف العصبة، ولما لم يكن لهذا الطلب من مستند في أعمال مجلس عصبة الأمم، ولا يمكن تأييده إلا بتفسير القرارات التي توصل إليها مجلس عصبة الأمم في 16 كانون الأول سنة 1925 عندما ألحق المنطقة الكردية (في ولاية الموصل) التي يعيش فيها أصحاب العرائض بالعراق تفسيراً خاطئاً، ولما كانت تلك القرارات تقضي بمعاملة الأكراد معاملة خاصة لم تضمن لهم تماماً، كما تقول آخر المعلومات التي لدى الدولة المنتدبة، وبإعطائهم بعض الضمانات التي تخص الإدارة المحلية، ويبدو أنها لم تتحقق حتى الآن، فإن لجنة الانتدابات الدائمة تقرر أن توصي المجلس بما يلي:
1. أن يرد عريضة وجوه الأكراد، ما يتناول منها غرض تأليف حكومة كردية تحت أشراف عصبة الأمم.
2. أن يطلب إلى الدولة المنتدبة أن تلاحظ فيما إذا كانت التدابير التشريعية والإدارية التي وضعت لتضمن للأكراد الوضعية التي هم أهل لها، ينظر إليها بنظر الاعتبار، وتوضع قيد التنفيذ دون أي نقص أو تماهل.
3. أن ينظر في حكمة اشتراط اتخاذ التدابير التي تضمن للأكراد بقاء مثل هذه الوضعية إذا ما تخلص العراق نهائياً من وصاية الدولة المنتدبة.
في اليوم 6 أيلول 1930 دعي إلى حوالي "30" وجيهاً من وجوه السليمانية إلى الاجتماع في سراي الحكومة في "السليمانية" لإنتخاب الهيئة التفتيشية لانتخاب المجلس النيابي الجديد، وبينما كان المجتمعون يتذاكرون في الأمور التي اجتمعوا من أجلها، إذ بجمهور من الناس يتجمهرون أمام السراي ويرمون الحجارة على الوجوه المذكورين، فشكا المتصرف أمرهم إلى الشرطة فجاءت قواتها، ولكنها عجزت عن تشتيت شمل المتظاهرين، فطلب المتصرف إلى قائد الحماية التدخل بما لديه من قوة لإنقاذ الموقف، فجاء الجند المسلح واشتبك مع الجمهور اشتباكاً لعلع فيه الرصاص، وأسفر عن قتل أربعة عشر من الأهلين (مواطنين كرد من السليمانية) وجندي واحد، أما عدد الجرحى فقد تجاوز المئة جريح في الجهتين لذلك تأجل الانتخاب، ولكنه استأنف بعد أسبوع، على شكل صوري، مكن نواب السليمانية من الحضور في حفلة اجتماع المجلس النيابي التي جرت في اليوم الأول من شهر تشرين الثاني من هذه السنة 1930.
وفي الوقت نفسه نقض الشيخ محمود الحفيد العهد الذي قطعه على نفسه عام 1927م، فعاد إلى العراق، فأنذرته السلطات المختصة بسوء العاقبة، فلم يلتفت إليها، بل كاتب القبائل الكردية المجاورة طالباً إليها الانضمام إليه، وكتب إلى  المعتمد السامي البريطاني في بغداد يطالب تخلي الحكومة العراقية عن المنطقة الكردية الممتدة من "خانقين" إلى "زاخو" وإقامة "دولة كردية" تحت الانتداب البريطاني، فعالجت الحكومتان العراقية والبريطانية هذه الحركة بإرسال قواتهما التأديبية لإخراج الشيخ محمود وأتباعه من الأراضي العراقية، وقد حدثت معارك بين الجيش العراقي وأتباع الشيخ محمود الحفيد واستمرت مدة طويلة، إنحاز خلالها ثلاثة من ضباط الجيش العراقي الكرد وهم: "محمود جودت، وحميد جودت، وكامل حسن" ملتحقين بقوات الشيخ محمود الحفيد إلا أنهم سرعان ما اختلفوا معه فعادوا إلى العراق.
وفي 13 أيار من سنة 1931 اضطر الشيخ محمود الحفيد للاستسلام إلى الحكومة العراقية، فجيء به إلى بغداد، وأبعد إلى "السماوة" فـ "الناصرية فـ "عانه" ثم سمح له أخيراً بالإقامة في "بغداد" فلبث فيها شهر وأيام من عام 1941 حيث انتهز فرصة الاصطدام المسلح بين الجيشين العراقي والبريطاني في الشهر المذكور (حركة رشيد عالي الكيلاني)، فعاد إلى "السليمانية" وأراد القيام بثورة مسلحة فأخفق.
هذا قليل من كثير من "القضية الكردية" ويؤسفنا أن تحول ظروف العراق العامة في الآونة الحاضرة دون نشرنا الأمور المتعلقة بالذين تآمروا على سلامة الدولة العراقية باسم "القضية الكردية" كيف وقد أصبح البعض يشغل مناصب سياسية خطيرة ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها، وإن غداً لناظره قريب.
بعد هذا العرض السريع لكفاح الأكراد، ينبغي التعرض للآراء والسياسات الشوفينية المعادية للشعور القومي الكردي، والتي ما زالت تروجها أو تستخدمها الأوساط الرجعية الحاكمة في كل من إيران وتركيا وسوريا والتي تهدف من وراءها، القضاء على الكيان القومي للشعب الكردي، وعلى حركته التحررية الناهضة، باستثناء أكراد الاتحاد السوفيتي في أرمينيا، والذي جاء الحل السوفيتي الاشتراكي للمسألة القومية بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية 1917م، ليعطيهم كامل حقوقهم القومية، فهم على قلة عددهم، يؤلفون قومية مميزة لهم كتابهم وشعراؤهم وفنانوهم ومطبوعاتهم، ويعدون اليوم من عداد البناة الحقيقيين للمجتمع الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي السابق كباقي أفراد القوميات المتآخية الأخرى. كما أن أقرار الحقوق القومية لأكراد العراق كما تضمنه بيان الحادي عشر من آذار عام 1970 يعتبر نصراً للحركة القومية الكردية وتوثيقاً للروابط النضالية للشعبيين العربي الكردي.
في العراق قام الأكراد بعدة ثورات وانتفاضات من أجل إقرار حق تقرير المصير منها ثورة الشيخ محمود الحفيد في (1918 – 1919) وثورته عام 1930، أو من أجل التمتع بحقوقهم القومية كثورة الشيخ أحمد البارزاني عام 1932 والثورات التي قادها الزعيم الكردي البارز الملا مصطفى البارزاني في أعوام 1943 و1945 وثورة عام 1961 بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) ورئيسه الملا مصطفى البارزاني، والتي استمرت حتى صدور بيان 11 آذار 1970، ذلك البيان التاريخي الذي أقر الحقوق القومية للشعب الكردي في العراق بما فيها حق التمتع بالحكم الذاتي لكردستان العراق ضمن الجمهورية العراقية، والذي أرسى الأخوة العربية الكردية على قواعد سليمة. ولكن مع الأسف كانت حبراً على الورق فقط.
أما في إيران فإن الرجعية الإيرانية الفارسية تدعي مراراً وتكراراً بأن الشعب الكردي ما هو إلا جزء من الشعب الإيراني - الفارسي - متخذة من الأصل (الهندو - أوربي) للأكراد والفرس ذريعة لها لنفي شخصية القومية الكردية المستقلة، محاولة بذلك صهر الأكراد باعتبارهم جزءاً من الشعب الفارسي. لقد زيف الشوفينيون الإيرانيون الفرس وقائع التاريخ، فمن المعروف أن اسم إيران قد اشتق في الأصل من كلمة (آريانا) وهو الكلمة التي أطلقها اليونان على الهضبة الإيرانية الممتدة من جبال زاجروس (كردستان) غرباً إلى نهر السند (الاندس) شرقاً، وبذلك تذهب الشوفينية الإيرانية الفارسية - وهذا خطأ - إلى أن الميديين الذين سكنوا في شمال غربي إيران، أي في كردستان، والفرس الذين سكنوا في جنوبها، هم من أصل إيراني واحد، إلا أن الحقائق التاريخية تؤكد بأن الميديين وأن كانوا مثل الفرس ينتمون إلى مجموعة الشعوب (الهندو - أوربية) ليسوا شعباً واحداً، فهل يصح الإدعاء بأن الهنود والفرس شعب واحد ما داموا ينتمون إلى المجموعة الهندو - أوربية؟! طبعاً لا إذ أن الميديين هاجروا كجماعة مستقلة عن الفرس واستقروا في كردستان بعد أن سبقهم إليها بنو رحمهم الكوتيون فاندمجاً معاً وكونا شعباً مستقلاً، له كامل مقوماته القومية الخاصة به. أما الفرس فقد هاجروا لوحدهم واستقروا في جنوب إيران بعيداً عن ميديا، حيث ما زال القسم الجنوبي من إيران يعرف بفارس، والفرس يكونون اليوم قومية مستقلة تعيش في إيران مع عدد من الشعوب المستقلة الأخرى كالكردية والأذربيجانية والبلوشية وغيرها. لذا فأن أي أدعاء يقول بأن الأكراد يرجعون في أصلهم إلى الفرس، أدعاء باطل ومضلل وغير علمي.
على الرغم من تعدد الثورات الكردية ضد التسلط الإيراني، ما زالت الشوفينية الإيرانية تمارس ضد الأكراد سياسة تعسفية ولم تستجيب لمطاليبهم القومية العادلة، فمن ثورة (سمكو آغا الشكاك) في أورميا عام 1920 – 1925، وانتفاضة عام 1931 بقيادة (جعفر سلطان) في همدان إلى ثورة الزعيم الخالد (قاضي محمد) في مهاباد، والذي أعلن قيام جمهورية كردستان الديمقراطية ذات الحكم الذاتي في إيران في 23 كانون ثاني 1946 والتي لم تدم سوى عام واحد تقريباً قامت جميعاً دفاعاً عن وجودهم القومي الكردي.
أما في تركيا، فما زالت الرجعية التركية تردد معزوفتها البالية بإنكارها الوجود لقومي للشعب الكردي في كردستان تركيا (أو كما تسميها الأنضول الشرقية) فهذه الإدعاءات الأخرى باطلة وغير منطقية. إذ يقطن في كردستان تركيا اليوم أكثر من خمسة وعشرون مليون كردي يعانون جميعاً ألواناً شتى من المظالم والإرهاب والاضطهاد والصهر القومي، حيث حرمتهم السلطات التركية من أبسط أنواع الحقوق القومية، فمنعتهم من التكلم بلغة آباءهم وأجدادهم ومن ارتداء ملابسهم القومية وحذفت كلمة الكرد وكردستان من الكتب العلمية، ولجأت إلى ترحيل الأكراد من مواطنهم إلى المناطق التركية الأخرى.
لقد تنكر الأتراك لخدمات الشعب الكردي وتضحياته التي قدمها لهم بسخاء أيام كانوا هم أنفسهم يكافحون من أجل حقوقهم وبحاجة إلى من يساندهم، فما أن اشتد ساعد الأتراك حتى قلبوا لحلفائهم الأكراد ظهر المجن واشتد حقدهم عليهم فاضطهدوهم بدلاً من تلبية مطاليبهم التي وعدوهم بها، فكانت ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925، وثورة جمعية الاستقلال (خويبون) عام 1930، وثورة الشيخ رضا في درسيم عام 1937. شكل رقم (1). لقد أخمدت تلك الثورات الكردية جميعاً "ولكن كيف يمكن أن تخمد إلى الأبد ثورة قوم يكافحون من أجل الحرية وهم مستعدون - دوماً - لدفع الثمن".

أما أكراد سوريا، فهم ليسوا بأسعد حظاً من أكراد تركيا وإيران، إذ ما زال سوط الإرهاب والاضطهاد القومي مسلطاً على رقابهم، فبالرغم من إدعاءات السلطات السورية المتعاقبة بالتقدمية والاشتراكية فإن نظرتها للمسألة القومية الكردية ما زالت متخلفة ومعتمة، وهي عاجزة تماماً عن حل المسألة القومية الكردية حلاً علمياً لأنها رغم إدعاءاتها تلك، ما زالت تمارس إزاء القومية الكردية وروادها سياسية شوفينية حاقدة، فهي تمارس ضدهم سياسة التعريب والصهر والدمج القومي وتفرض عليهم ما يسمى بـ (الحزام العربي) لخنق حرياتهم ومحو وجودهم، بل وتعمد إلى تهجيرهم من مواطنهم بالقوة. ولعل هؤلاء لم يتعلموا بعد دروس التاريخ. أن الصهر القومي لن يكتب له النجاح أبداً وأن الشعوب لا بد وأن تنتصر في النهاية.
* الكرد والدولة  - الأمة الكردية
1- التمييز بين الدولة والأمة
بعد أن تحدثنا في الفصل (41) من الجزء الحادي عشر عن لغة الكردي وأصله الاتنولوجي، ثم حاولنا وضعه في وسطه الجغرافي والاجتماعي والعشائري والقبائلي، وصلنا الآن إلى مرحلة التحدث عن مصائره في ميدان الدولة والأمة معاً. وهذا هو التاريخ الكردي الذي يتطلب ليس فقط فصلاً بل مجلداً. غير أننا نكتفي مكرهين، بالقيام ببحث سريع مقتضب بهذا الشأن.
إن الدولة عمل سياسي يرتكز على مبادئ السلطة الشرعية. أما الأمة، فإن التحامها يقوم على المبدأ النفساني، على الضمير العام. وقد الحق التطور بالدولة والأمة في كل من الشرق والغرب، وكان التطور ينمو ويسير هناك وفقاً للشروط والحالات التي تكون فيها الإدراك التشريعي والأدبي.
2- الدولة والأمة في الإسلام
في الإسلام، الضمير الديني يأتي في أول درجة، ثم يليه الضمير القومي. والإسلام عامة هو فوق كل جنس وكل عصبية قومية. ولغته الدينية هي اللغة العربية. والقرآن كتاب ديني مقدس وقانون مدني في آن واحد. أما فيما يتعلق بالفرد المسلم، فمفروض فيه أن يتم واجباته تجاه الله في مقدمة ما تستوجبه حقوقه.
أما فكرة القومية التي تأتي بالدرجة الثانية في الإسلام، فظهورها المتأخر حدث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم انطفأت لتنهض من جديد سنة 1914. ولما كان موضوعنا يقتصر على الأكراد، فإننا نحجم عن متابعة هذا الموضوع، لنتناول قضية الأكراد من جديد.
3- الأكراد في التطور السياسي الإسلامي
لقد تبين من التاريخ الإسلامي أن الإسلام مر في عهود انقلابية كثيرة. وخلال هذه الحقبات من الزمن وقعت حروب بين الأتراك والفرس. أما الأكراد فلم يربحوا شيئاً في تلك الظروف مع أنهم اشتركوا عملياً بتلك الحروب التي كانوا خلالها ينضمون تارة إلى الأتراك وطوراً إلى الفرس. ذلك إلى عدم تمكنهم من تحقيق التفاهم فيما بينهم.
ولننتقل الآن إلى بحث تاريخ السياسية الكردية الذي سنجد في مجراه فرقاً ما بين الأكراد الأقدمين وأكراد العصور المتأخرة. يمكننا أن نفرض أن هذا الشعب المحارب كان يرسل من رجاله المسلحين إلى ملك الرومان، وبيزنطيا، وفارس. أجل، يمكننا الأخذ بهذه الافتراضات دون أن نكون متأكدين من وقوعها كما وأننا لا نشك بأنهم كانوا يعتنقون مذهب زرادشت، حيث لا يزال بقايا حية من مذهبه بين الأوساط الشعبية. ومن المحتمل أن يكون الكردي قد حور لغته في هذه الأزمنة السحيقة، من الآسيوية إلى الهندية الأوروبية، وذلك على حد قول البروفسور مار.
وهناك تخمينات متعلقة بالأكراد لا تحصى ولا تعد حتى في الأزمنة الإسلامية حيث يمكن الجزم بأن التاريخ الكردي لم يكتب بعد تماماً ولدينا كتاب كردي تاريخي (شرف ـ نامة) الذي كتب باللغة الفارسية في أواخر القرن السادس عشر، وأكمله كتاب آخر بالكردية ألفه محمد أمين زكي أحد الحكام العراقيين 1938 ونقله إلى العربية محمد علي عوني 1945. ويوجد أيضاً كتب تاريخ كردية عن الأسر التي حكمت أردلان على ممر الزمن، لخصها كتاب الكرد. وهناك أديب كردي معاصر يدعى حسين حسني من راوندوز، يذكر بعض هذه الكتب في مؤلفاته. وقد قضى هذا الأخير آخر أيام حياته في البحث والتنقيب عن التاريخ الكردي والرسوم والخطوط والكتابات والآثار القديمة، وعن استكشاف المصادر العربية والتركية والفارسية الأصلية. أما بين الأدباء الفرس، فنذكر "كسروي تبريزي" الذي انصرف لدراسة تاريخ السلالات الحاكمة الكردية الصغيرة في العجم وترنسقوقاز 1950. وعلى علمنا نحن، كان الكردستاني السوفياتي فلتشفسكي، يعد كتاباً عن التطور الاجتماعي في كردستان، غير أننا نجهل مصير هذا الكتاب تماماً. أما البروفسور مينورسكي، فهو شيخ في المواضيع الكردية، ويجب الإشارة إليه بنوع خاص لما لمؤلفاته من أهمية في هذا الحقل؟
هكذا، فبفضل هؤلاء جميعاً سنتمكن هنا من إعطاء موجز عن المصائر الكردية في تاريخ الدول الإسلامية. وسندلي بهذا الموجز التاريخي على ثلاث مراحل: فالأولى، تقع بين الفتح العربي وخلفاء المغول (قرن 6 – 15) حيث تظهر سلالات وتنقرض سلالات. والمرحلة الثانية تمتد من القرن الخامس عشر حتى التاسع عشر، حيث تركيا والعجم تضمان إليهما، من كل ناحية، قبائل كردية. أما المرحلة الثالثة فهي، أخيراً، تلك التي تسير من القضاء على الإقطاع لتبلغ الثورات على الفرس والأتراك.
4- أول حقبة من التاريخ الكردي - من القرن السادس حتى القرن الخامس عشر
يعود أصل بني شداد إلى السلالات الكردية القديمة، وقد أسس هذه الأسرة (العشيرة) عام 951م محمد شداد بن قارطو من قبيلة صلاح الدين الأيوبي التي انشقت إلى قسمين: غندجه وآني سنة 1072. وقد وقعت آني بين أيدي أهالي جورجيا 1124 – 1126 ثم بين أيدي بني شداد 1126 – 1161 و1165 – 1174.
وقد امتدح المؤرخون العرب الصفات والمميزات السياسية التي اتسم أبناء هذه السلالة الكردية لعدلهم وإحسانهم وحسن تصرفهم مع المحكومين أية كانت جنسيتهم ولغاتهم.
والسلالة الكردية الثانية التي اشتهرت بين السلالات الكردية القديمة هي سلالة بني مروان ومؤسسها هو أبو علي بن مروان بن دوسطاق. وقد دامت من 990 إلى 1096 وكانت ممتلكاتها تمتد حتى بلاد ديار بكر، شاملة بعض البلدان الأرمنية، بما فيها بلدة أورفا. وتاريخ هذه السلالة معروف تماماً بفضل مخطوطة عربية توجد الآن في المتحف البريطاني. وقد قضى السلجوقيون الأتراك على سلالة بني مروان هذه، بفضل الدسائس الكثيرة التي حاكوها ضد الأكراد عموماً وضد حكامهم من بني مروان خصوصاً.
والأمير أبو نصر أحمد، من بني مروان اشتهر بحذقه وعدله ووعيه. وقد بدأ حكمه على أثر توليته الحكم من قبل خليفة بغداد.
يبقى أن نذكر سلالة بني عناز (1116) وسلالة شبنكرا في فارس (القرن الحادي العشر) والحضر سبيين (1148 – 1339).
أما الأيوبيون (1169 – 1250) فهم سلالة كردية كان لديها جيش مشترك من الأكراد والعرب مما يدل على تقارب وتفاهم بين هذين الشعبين منذ أن هيء لهم أن يتجاوروا حتى يومنا هذا وقد بسط الأيوبيون سلطانهم على مصر وسوريا وعلى قسم من بلاد ما بين النهرين.
ولئن سلمنا بترتيب طبقات السلالات الكردية كما وصفها تاريخ شرف ـ نامة، فهذه السلالات تتمتع، في أول الدرجات، بمزايا السلطنة الحقيقة. وهي: 1. أمراء ديار بكر والجزيرة. 2. أمراء ديناور وشهرزور. 3. الحضر سبيون. 4. الأيوبيون.
وبوجه عام، فإن ما تقدمنا به يشير إلى دور الأكراد في أولى القرون الإسلامية، فقد لعب الأكراد أدواراً على جانب كبير من الخطورة في مصائر الخلافة وأخصامها، بوصفهم عنصراً مقاتلاً شهيراً ومرغوباً فيه. وقد قال البروفسور مارّ، أن الأكراد، تحت حكم السلجوقيين، كان الأتراك أنفسهم يحسبون لهم ألف حساب. ويعتقد ما مر ذكره أن هناك مزيجاً كرديا - مسيحياً لا يمكن أن ينسجم، فضلاً عن أن الأكراد والعرب قد تزاوجوا واختلط بعضهم ببعض على صورة وحدت بينهم في أكثر المواطن التي يتعايش فيها الشعبان. كما يعتقد أن الأكراد لا يشعرون بأن البلاد التي يقطنونها هي بلادهم، إلا في الأماكن التي يكثر فيها العنصر العربي، على العكس من الأتراك والفرس الذين لا تربطهم بالأكراد أية رابطة من التفاهم والتآخي. ويؤكد مينورسكي أن أميرين أرمنيين، وزعيمين عسكريين لهما مكانتهما، كانا في خدمة ملك جورجيا، وهما زكريا وإيفان من أصل كردي من بني شداد في آني. يقول: "يعود الفضل الأكبر في انتصارات تمار 1184 – 1213 إلى القائد زكريا وإيفان اللذين تدعى عائلتهما في جورجيا باسم "لنجماني" وفي رواية أخرى يقول أحد المؤرخين "كان القائدان من أكراد بلاد ما بين النهرين المنتمين إلى قبيلة بابركان. وبموجب أحد المخطوطات القديمة، كان القائدان ابنين لسر كيس الثاني، ابن زكريا، ابن آفاك سر كيس الأول".
وكان الإسلام بالنسبة إلى الأكراد، كما كان لكافة الشعوب آسيا السابقة، رسالة وقوة حضارية حققتا تطويرهم السياسي والاجتماعي. وسنتناول هذا الموضوع فيما بعد عندما نتطرق إلى الحياة الدينية عندهم.
ولم يصبح دور الأكراد ضعيفاً جداً إلا لما ظهرت جماعة المغول. فعند اقتراب هولاكو من بغداد، حاول زعيمان كرديان على رأس قوات لا بأس بها أن يتصدوا له (المغول) متعاونين مع العراقيين العرب، ولكن هولاكو هزمهم. ويروى بهذا الصدد أن هولاكو كان قد ضمن مساعدة الأكراد التابعين لسليمان شاه قبل الهجوم على بغداد. وكان هذا الأخير منافساً لحسام الدين خليل، زعيم أكراد لورستان الصغرى الذي أهلكته هذه المعركة الداخلية. ومما هو خليق بالذكر أن المصادر تختلف بالنسبة إلى أصل سلالة سليمان شاه. فإقبال يتحدث عن هذا الأخير معتبراً إياه "كزعيم كردي محترم" في حين أن محمد علي عوني، ناشر الطبعة العربية لتاريخ الأكراد الذي ألفه محمد أمين زكي، يقول إنه كان زعيم قبيلة إيواي التركمانية.
وعلى كل حال فإنه يجوز الافتراض أن موقف المغول إزاء الأكراد كانت نتيجة لطرد جلال الدين المنغبورني من كردستان بواسطة جيش المغول، وذلك في آخر مراحل صموده ومقاومته لها.
وهكذا جرى انسحاب الأكراد إلى الجبال، وخضعت أمارتهم لأمراء المغول. ويأتي شرف نامة على ذكر بعض القضايا فيقول إن زعماء الأكراد نالوا بعض حقوقهم في أيام المغول. أما التركمان (الخروف الأبيض) فهم الذين حاولوا جاهدين لإفناء العشائر الكردية الكبيرة، وقد تبين أنهم أخطر من المغول بالنسبة إلى الأكراد.
5- المرحلة الثانية من تاريخ الأكراد
منذ بداية القرن السادس عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر ـ العهد الإقطاعي في تركيا والعجم (الفرس).
قامت الدولتان الكبيرتان تركيا والعجم (الفرس) في غضون هذه الحقبة من الزمن. وقيامهما لم تكن سوى مجال ضيق للأكراد لاكتساب استقلالهم. ومما هو جدير بالذكر أن الشاه إسماعيل الصفوي مؤسس السلالة الصفوية زج في السجون أحد عشر زعيما كردياً عندما حضروا أمامه يعربون عن طاعتهم له.
وأفلح السلاطين الأتراك في كسب ودّ الأكراد واستجلابهم وذلك على أثر معركة تشالدران 1514 حيث عان الفرس هزيمة نكراء. ثم كلفوا السلطان العثماني حكيم إدريس، وهو زعيم كردي من بتليس، بالسعي لإدخال زملائه الكرد في نظام الدولة التركية والانضمام إليها. وهكذا، لم يطرأ أي تغيير أو تبديل على حالة الأكراد الداخلية، إذ ظلت الإمارات والقبائل الكردية المنضمة إلى تركيا تنعم في ظل قيادة زعمائها الأكراد، بحكم داخلي ذاتي وقد عمت هذه الطريقة كافة مناطق ومقاطعات كردستان التركية، من المالطية حتى بايزيد وشهرزور.
ومن جراء إيمان المواطن الكردي بمعاهدة التحالف والصداقة المعقودة 1514 بين تركية من جهة، وثلاثة وعشرين إمارة تركية من جهة أخرى، لم يتأخر الأكراد، كما يؤكد برنستون خلال ما ينيف عن 150 سنة، عن أكمال واجباتهم تجاه تركيا، والاشتراك في كل حروبها، وذلك بصرف النظر عن عشرات الآلاف من الضحايا الكرد التي قدموها لسلاطين تلك الدولة العثمانية.
ولا شك في أن قيام الدولتين المذكورتين يسجل فترة جديدة في تاريخ الأكراد. فلما كانت نظم هاتين الدولتين تختلف عن النظم المرعية الإجراء في الغرب عامة، فإن السلطة الأساسية ووحدة التجزؤ المختلفة في الدولة، حتى الحدود السياسية، كانت دائماً عرضة للتغير في حين الانتقال من عهد إلى عهد. وذلك بقطع النظر أيضاً عن حالات الفوضى والحروب التي كانت تطغي على الحالات الإدارية الطبيعية في البلاد. فكان الأكراد في مثل هذه الأجواء المضطربة، ينظمون أنفسهم كما يحلو لهم.
وفي سنة 1683 بعد هزيمة الأتراك أمام فينا النمساوية، شرعت السلطات التركية تتدخل في شؤون الأكراد الداخلية. وأول بادرة كانت هي تعيين سليمان حاكماً عاماً في ديار بكر للقيام بمهمة الوساطة بين الإقطاعيين الأكراد من جهة، وحكومة القسطنطينية من جهة أخرى. ومن ثم أخذ الأتراك يطبقون مبدأ - فرق تسد - إلى أن أصبحت القبائل الكردية أقاليم تركية، ولم تعد للزعماء أية سلطة فعلية. ورغم المحاولات العديدة التي قام بها الأكراد، تمكن الأتراك أخيراً من السيطرة على كافة أرجاء البلاد، وذلك في منتصف القرن التاسع عشر. وآخر محاولة للصمود إزاء التدخل والتغلغل التركي كانت تلك التي قام بها الأمير بدرخان من الجزيرة "1847"، والذي بعد أن قهره الأتراك مراراً عديداً، وقع صريع خيانة ابن عمه يزدان شير.
أما في العجم (الفرس)، فإن أمراء أردلان (الأكراد) الإقطاعيين الذين بقوا وحدهم، بعد انطفاء إمارة الحضرسبيين، كزعماء أكراد مستقلين، جردوا تدريجياً من زعاماتهم وحل مكانهم أمراء القاجار 1760. ويخبرنا المؤرخون أن الأكراد تدخلوا عملياً في المعارك التي وقعت بين نادر شاه والصفويين من جهة، والمعارك التي وقعت بين جماعات قاجار وبختياري وأفشار وزند من جهة أخرى أبان فترات خلو الكرسي الملكي في القرن الثامن عشر. ولم يكن انتقالهم إلى الحكم بشخص كريم خان زند (1760 – 1769) الحاكم الإنساني العادل، وصديق الفنون، إلا عهداً مبتوراً لأنه لم يدم طويلاً.
ويصف المؤرخون شخصية تاريخية لا بأس بها تتجلى في الأمير محمد الذي حكم "راوندوز" في بداية القرن التاسع عشر. ثم ما لبث أن احتل بجيشه المؤلف من 30.000 مقاتل الأراضي الكردية الواقعة في المناطق الغربية حتى نصيبين وماردين ما عدا الموصل والسليمانية. وأعلن استقلاله بعد ذلك في سنة 1826 وأجرى مفاوضات دبلوماسية مع العجم (الفرس) ومصر.
6- المرحلة الثالثة من التاريخ الكردي
من منتصف القرن التاسع عشر حتى الحرب الكونية الأولى ـ إزالة العهد الإقطاعي في تركيا والعجم.
يقول فلتشفكي أن زوال العهد الإقطاعي في كردستان يعود إلى أن الزعماء الأكراد، على قدر ما ضغطوا على خدمهم وظلموهم، انتهوا بنخر مداميك قواهم العسكرية. وفي نفس الوقت، لم يحسنوا تطبيق الطرق الاقتصادية التي كانت تفرضها التطورات في الوسط الكردي على غرار ما فعل جماعة أوباباشي الرأسماليين. ويجب أن نضيف إلى ذلك ما ذكره "ثريا بدرخان" من أن سياسة السلطان والشاه المركزية كانت من أهم العوامل التي ساهمت في زوال ذاك العهد. فتضامن القوتين الاقتصادية والسياسية، أدى إلى إدخال بلاد كردستان في حلتها الجديدة، وذلك نحو منتصف القرن التاسع عشر. ولا بد من أن نتساءل هنا في أي حال ظل الكردي بعد زوال سلطة زعمائه التقليديين؟ أنه لم يبذل شيء خليق بالذكر يرمي إلى أن تحل مكان تلك السلطة، سلطة قادرة على أنصاف هذا الشعب وحمله إلى الحياة العادية التي تفرضها الدولة حسب المفهوم الصحيح. وها نحن نذكر بعض الأحداث التي كانت تقع في بيئة الأتراك تحت ظل الدولتين التركية والفارسية.
عقب ثورة الشيخ عبيد الله النهري عام 1880-1882، قام القائد العسكري الفارسي الأمير نظام المنحدر من عشيرة حكام كيروز منذ 700 سنة، باستدعاء الزعيم الكردي حمزة آغا لمقابلته، وأقسم أنه لن يحاول إلحاق الأذى به طالما هو على الأرض. وفي تلك الأثناء كان الأمير نظام قد حفر حفرة في خيمته وجلس فيها. وعندما دخل حمزة آغا، أعطى الأمير إشارة، فخرق الرصاص رأس حمزة آغا. وهكذا حنث الأمير نظام بقسمه. لكن الأمير نظام يقول أنه ما زال على القسم لأنه نزل تحت الأرض ولم يكن فوقها حين أعلى الأمر بقتل حمزة آغا. وبالطريقة نفسها جرت في مينداب مذبحة زعماء بلباسي الذين دعوا إلى الاشتراك في عيد من الأعياد وهكذا كان أيضاً نصيب يزيد شير الشهير في تركيا.
من هنا يتضح لماذا يتأصل الاحتراز والحذر في نفسية الأكراد، فيظلون متحفظين إزاء الفرس والأتراك. ولماذا أيضاً لم يتمكنوا من جمع شملهم في تلك البلدين.
ولا بد من سرد بعض المحاولات التركية الرامية إلى جعل الأكراد آلة طيعية في أيدي الدولة العثمانية فقد خلقوا لهم أول الأمر فرقاً لا نظامية أسمها الحميدية، والفكرة كانت لشاكر باشا. وفي عام 1892 أسست تركيا في كل من القسطنطينية وبغداد "مدارس للقبائل" هدفها أن تثبت في الأكراد والعرب الرحل روح التعلق بتركيا، ولكن هذه المدارس الاستعمارية لم يكتب لها النجاح. أما فيما يتعلق بالتطوع، فقد تولج القيام بتحقيقه محمد زكي باشا، وقد اجتمع به دي شوله في أرضروم، وبوصفه عسكرياً أيضاً، علق على هذا الموضوع في شيء من الارتياب قال:
"كثيرون هم الأشخاص المتنفذون الذين يخافون من انخراط الأكراد في الجندية، فيخشون استيقاظ ميولهم الحربية إذ لئلا ثاروا، فيكونون قد أعطوهم ما كان ينقصهم من التكتيك والسلاح".
لكن الأتراك أنفسهم اقتنعوا أخيراً بوجوب تحويل الكتائب الحميدية اللامنظمة إلى فرق من الخيالة الخفيفة النظامية.
وقد لاقت الفرق الحميدية تقدير ضابط ألماني يدعى جراف فوك وستارب قام بزيارة  كردستان بعد مضي 20 سنة على تأسيسها فقال إنه لا يشك مطلقاً بإمكانية تحويل هذه الفرق إلى فرق حربية فعالة إذا ما حظيت بتدريب عسكري صحيح.
ومما هو معروف تماماً أن الأكراد المسلحين من قبل الأتراك كانوا أداة عمياء تلعب بها سياسة السلطان عبد الحميد وتستخدمها ضد الأرمن. لكن الأكراد الناضجين ما كانت لتخدعهم هذه السياسة الحميدية ومبرراتها الدينية. والجواب التالي ينسب إلى الشيخ عبيد الله 1885 وقد توجه به إلى أنصاره يوم طلب إليه الأتراك أن يسهم في ذبح نصارى أورمياه: "نحن الأكراد، يريد الأتراك أن يستخدمونا فقط لاضطهاد إخواننا المسيحيين. وغداً عندما ننتهي، سيقوم الأتراك باضطهادنا نحن! لا نريد أن نضطهد أحداً ولا أن يضطهدنا أحد!".
وأحدث من ذلك، في سنة 1928، كتب "ثريا بدرخان" يقول هذا القول الكريم:
"في أكتوبر 1927، أجريت مصالحة عامة في ما بين الأكراد والأرمن بواسطة "الهوبيون" ـ اللجنة الوطنية ـ التي تمثل كلا الجانبين الكردي والأرمني، وذلك بعد أن تأكد من أن تركيا هو عدوهما المشترك وعدو تضامن مصالحهما، فباسم أبناء جنسي الكردي أعرب عن تمنياتي الخالصة للشعب الأرمني وأوكد له احترامي لهدفه القومي الشرعي الذي هو أرمينيا المستقلة المتحدة!".
والمشكلة في العجم (الفرس) تبدو أوسع من ذلك، فهي قضية القبائل عامة التي ما زالت ترقب الحل. ومشروع دمورني بقي مولوداً ميتاً وقد تبين أن الإجراءات الإدارية التي اتخذها رضا شاه لم تكن ناجحة.
وبالنتيجة، أننا لنعتقد بوجود أمة كردية، رغم أن الأتراك والفرس رفضوا الاعتراف بها، مما أوصد الأبواب أمام كل الجهود التي بذلت من أجل هذا الشعب الكردي منذ نهاية العهد الإقطاعي.
* بداية حركة التحرر القومي
تعتبر سنة 1695 نقطة البداية لحركة التحرر القومي للشعب الكردي ويعتبر كتاب "مم وزين" الجنين الفكري لهذه الحركة. ففي تلك السنة نشر الكاتب العظيم "أحمدي خاني" ملحمته الشعرية "مم وزين" ـ كتاب الكرد ـ التي اعتبرها المؤرخ البارز محمد أمين زكي بحق "تحفة الأدب الكردي"( ) إذ ضمنها فضلاً عن "علة الكرد" ونهجاً لعلاجها بـ "أتفاق الكلمة" و"توحيد القيادة" في سبيل التحرر من السيطرة التركية ـ الفارسية.
تكملـــــة الدين والدولة وتحصيل العلم والحكمـــة


* تداعيات الحرب الكردية
1. الانتفاضة:
سبقت الإشارة التي أطلقها الحزب البارتي في مؤتمره العاشر والذي دعى فيها إلى المصالحة الوطنية الشاملة قيام وفد من الجبهة الكردستانية برئاسة الدكتور محمود عثمان بزيارة إلى برلين الشرقية في تشرين أول/ 1989 التقى خلالها بياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية (الرئيس الفلسطيني) السابق، وقد بحث خلال اللقاء (إمكانية فتح حوار مع صدام حسين) الرئيس العراقي السابق( )، وذلك بمبادرة من ياسر عرفات نفسه الذي عبر عن رغبته في التوسط بين الجبهة الكردستانية ونظام بغداد، وبعد أن وافق وفد الجبهة الكردستانية على ذلك قال عرفات (إن الأمر ليس سهلاً لا، الحديث مع صدام حسين حول القضية معقد ويتطلب ظروفاً خاصة)( ). وقد جاءت موافقة وفد الجبهة الكردستانية على فكرة الحوار مع النظام الحاكم في العراق في الوقت الذي كانت فيه الجبهة بكافة أطرافها تجري مفاوضات مع فصائل المعارضة العراقية التي اتخذت من الساحة السورية مقراً لها من أجل إقامة جبهة عراقية عريضة لمواجهة الديكتاتورية القائمة في بغداد، وقد شارك السيد مسعود البارزاني في تلك المباحثات ممثلاً عن الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى جانب قادة وممثلي الأحزاب والحركات العراقية على اختلاف اتجاهاتها خلص بنتيجة لم يعلنها في حينه، ولكن تحدث عنها بعد عدة سنوات في مقابلة صحيفة جاء فيها:
 (أنا قلت وأقول أنه لا يمكننا أن نتحول إلى جسر بعد الآن إلى آخرين ليعبروا علينا لاستلام الحكم في بغداد. لقد بقيت أربعة أشهر في دمشق في نهاية سنة 1988م حتى بداية عام 1989م لمناقشة مشروع جبهة عراقية شاملة، لم أتوصل مع هذه المعارضة للحصول على اعتراف بحق الشعب الكردي بالحكم الذاتي. حتى هذا الاعتراف لم أحصل عليه، تصوري- وحديث مسعود البارزاني موجهاً للصحيفة التي أجرت المقابلة معه- مواقفها بهذه الدرجة، هذا موقف المعارضة وهي في الخارج. فكيف إذا تسلّمت الحكم، كيف ستتعامل معنا؟ ثم أن المعارضة التي لا وجود في الداخل، أنا لا اعترف بمعارضة موجودة في الخارج وليس لها قاعدة في الداخل)( ).
ومن الجدير بالذكر أن البارتي كان قد فقد كافة قواعده ووجوده المسلح داخل الأراضي العراقية بعد الحرب الإيرانية/ العراقية ليصبح حزباً مهاجراً شأنه في ذلك شأن أحزاب المعارضة العراقية الأخرى... وكانت الجبهة الكردستانية قد قررت خلال تلك الفترة التحرك بخطين متوازيين الأول مواصلة الجهود لفتح قناة اتصال مع قيادة النظام الحاكم في بغداد، وذلك بإيفادها لوفد يمثلها إلى تونس برئاسة الدكتور محمود عثمان لمتابعة ما بدأت به في برلين الشرقية، وعن الظروف والملابسات التي أحاطت بتلك الزيارة وما نجم عنها يتحدث عضو الوفد عدنان المفتي فيقول: ((الصديق الذي رتب لنا اللقاء السابق مع السيد ياسر عرفات اتصل بي وقال هل أنتم مستعدون (الجبهة الكردستانية) لزيارة تونس وإجراء لقاء مع منظمة التحرير الفلسطينية حول الوضع؟ قلت نعم، بعد أن اتصلت بالأخ جلال الطالباني- الذي قال لي أن الحرب ستقع وأن صدام حسين لن ينسحب ولا فائدة من الحوار معه، هذا إذ وافق- وذهبنا إلى تونس بوفد مثَّلَ كل الأطراف ولم نلتقِ  بالرئيس ياسر عرفات لغيابه واستقبلنا السيد حكم بلعاوي وعندما سمع موقفنا، حيث أكد لنا أننا لا نريد أن نكون طرفاً في الحرب، ونريد حلاً سلمياً لأزمة احتلال الكويت ولقضيتنا وأن ينسحب العراق من الكويت، وبصراحة نحن نخشى أن ينتقم صدام حسين وينفذ مزيداً من الإجراءات القمعية ضد شعبنا الكردي. فقال حكم بلعاوي أنه سوف يذهب إلى بغداد ويلتقي بالسيد سبعاوي شقيق الرئيس صدام حسين (رئيس جهاز المخابرات العامة في حينها) وسوف يقترح عليه إجراء حوار معنا، ولم نسمع رداً وقامت الحرب وخسر العراق))( ).
أما الخط الثاني فهو المشاركة في الجهود التي بدأتها فصائل المعارضة العراقية للتوصل إلى صيغة لعمل المشترك والتي انتهت بتشكيل لجنة العمل المشترك التي أصدرت في 27/12/1990 بيانها التأسيسي والذي نص على السعي لتحقيق جملة من الأهداف من بينها:
((إلغاء سياسة التمييز القومي والتعريب وإزالة الآثار السياسية والديموغرافية (السكانية) والتهجير للسكان الأكراد من مناطقهم لمحاولة تغيير الواقع القومي والتاريخي الكردي لمنطقة كردستان العراق، وحل المشكلة الكردية حلاً عادلاً ومنح الكرد حقوقهم القومية والسياسية المشروعة من خلال تطبيق وتطوير بنود (اتفاقية 11 آذار 1970) نصاً وروحاً التي فرضها الشعب العراقي وضمن نطاق الوحدة الوطنية العراقية بما يعزز الأخوة العربية الكردية وضمان الحقوق الثقافية للأقليات القومية، كالتركمان والآشوريين وغيرهم))( ).
وكان العديد من قادة القوى الفاعلة في المعارضة العراقية قد عقدوا اجتماعاً في مدينة كرمنشاه الإيرانية نهاية عام 1990 لبحث تطورات الموقف في ظل احتمال قيام التحالف الدولي بشن هجوم عسكري لاستعادة الكويت وانعكاس ذلك على الوضع داخل العراق. ومن بين من حضر تلك الاجتماعات ممثلون عن حزب الدعوة الإسلامية ومنظمة العمل الإسلامي وآية الله محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ونوشيروان مصطفى ممثلاً عن قيادة (اوك) لوجود جلال الطالباني في دمشق ومسعود البارزاني ورسول مامند وغيرهم. وبعد تلك الاجتماعات مباشرة أعد نوشيروان مصطفى خطة عمل من (59) نقطة تبحث في احتمالات تطور الوضع في الداخل.
وبعد بحث تلك الخطة في قيادة (اوك) توجه بوشيروان مصطفى على رأس وفد من (اوك) ضم الملازم عمر عبد الله ودانا أحمد مجيد مسؤول مكتب (اوك) في كرمنشاه ونوزاد نوري محمد إلى مقر مسعود البارزاني في راجان لعرض الخطة عليه فوافق مسعود البارزاني عليها مبدئياً ووعد العمل بها بعد دراستها في المكتب السياسي لحزبه، وبعد عودة نوشيروان مصطفى إلى مقره في قاسم رش على الحدود العراقية/ الإيرانية أصدر في 17/2/1991 تعليماته إلى مكتب الإعلام المركزي لـ(اوك) بوقف كل إصداراته ونشاطاته الأخرى وتشكيل كادر لإذاعة متنقلة تبث على الموجة (41) على أن تنتقل إلى منطقة (زلي) داخل الأراضي العراقية لتعمل إلى جانب إذاعة (اوك) الثابتة إذاعة (صوت شعب كردستان) الموجودة في مدينة سقز الإيرانية، والتي تبث على الموجة (75) وقد بدأت الإذاعة المتنقلة فور استقرارها في (زلي) ببث ندائها باللغتين العربية والكردية وهي تدعو المواطنين إلى الانتفاضة على النظام الحاكم في العراق، كما شملت النداءات أفراد الجيش والجيش الشعبي وأفواج الدفاع الوطني وحتى عناصر الأجهزة الأمنية.
وفور انتهاء الحرب البرية انتقل مسعود البارزاني مع قيادة حزبه من راجان إلى قاسم رش التي أخلتها قيادة (اوك) لتستقر في منطقة زلي وشينه المقابلة داخل الأراضي العراقية في حين كانت التنظيمات الداخلية للأحزاب الكردية كافة في حالة استنفار دائم وهي تضغط على قيادات أحزابها الموجودة على الحدود للبدء بالتحرك. كما كانت المراسلات السرية متواصلة مع رؤساء العشائر وقادة أفواج الدفاع الوطني وقبل بدء الانتفاضة بأيام حاول النظام البعثي تدارك الموقف الذي كان ينذر باحتمالات حدوث انفجار شعبي طال انتظاره فقام اللواء الركن علي شلال قائد الفيلق الخامس بعقد اجتماع موسع لرؤساء العشائر وقادة أفواج الدفاع الوطني حضره (300) منهم وذلك في مقر قيادة الفيلق الخامس في أربيل، وقد هدد اللواء علي شلال في حديثه باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد أي تحرك في المنطقة الشمالية، وقد سبق تهديده قيام قواته بتوجيه ضربة محدودة بالأسلحة الكيماوية إلى قرية في وادي باليسان امتد أثره إلى قرى منطقة خليفان وذلك بقصد إثارة الرعب في نفوس المواطنين والبيشمركه على حد سواء وتذكيرهم بمجزرة حلبجة المرعبة في 16 آذار 1988. كما توعد بإعدام أي بيشمركه حتى لو سلّم نفسه إلى السلطة، في إشارة تحذيرية للحضور لردعهم عن التفكير بإقامة أي شكل من أشكال التعاون مع قوات الجبهة الكردستانية المرابطة في الداخل وعلى الحدود، إلا أن الاجتماع المذكور أتى بعكس النتائج التي توخاها النظام العراقي منه حيث اتفق نفس الحضور عدا (6) منهم في اجتماع تلى اجتماعهم مع قائد الفيلق الخامس على الوقوف مع أبناء الشعب الكردي مهما كانت النتائج.
وبعد أن استجاب أبناء كردستان العراق لنداء الانتفاضة الشعبانية الذي انطلقت من الجنوب في أول آذار 1991 رداً على هزائم النظام وجرائمه الشنيعة بحق الشعب العراقي ودول الجوار انتقلت قيادة الجبهة الكردستانية إلى مدينة رانية المحررة التي انطلقت منها شرارة الانتفاضة الكردية في 5/3/1991 بمبادرة شجاعة من خلايا (اوك) في المدينة بقيادة كل من علي نبي ومحمد كاكه حمزة ثم أخذت تسري إلى بقية القصبات والمدن التي أخذت تتساقط بيد الجماهير الواحدة تلو الأخرى. مما ساعد على انهيار سلطة النظام العراقي بتلك السرعة التجاوب الذي أبداه معظم قادة ومنتسبي أفواج الدفاع الوطني الـ(360) والتي يبلغ عدد أفرادها مئات الآلاف من المسلحين، وكذلك تفكك وحدات الفيلق الأول ومقره السليمانية والفيلق الخامس ومقره أربيل حيث تخلّى عشرات الآلاف من الضباط وضباط الصف والجنود عن أسلحتهم فاحتضنتهم جماهير الشعب الكردي بكل محبة وودّ وتمت استضافتهم في دور المواطنين وفي الجوامع والأماكن العامة، ولم يتعرضوا لانتقام من أبناء الشعب الكردي إلا من قاوم بالسلاح من عناصر أجهزة الأمن والاستخبارات والحزبيين من البعثيين الذي ولغوا في دماء الناس وداسوا على كرامتهم.
وقد استعرض جلال الطالباني خلال الكلمة التي ألقاها باسم الجبهة الكردستانية في مؤتمر المعارضة العراقية الذي عقد في بيروت خلال الفترة من 11-13/3/1991 جانباً من فعاليات الانتفاضة الشعبية حتى تاريخه ومما جاء فيها: ((تم تحرير جميع القصبات والمدن في محافظة السليمانية، وكذلك تم أسر أو إقناع جميع قطاعات الفرقة السادسة والثلاثون من الجيش العراقي بالانضمام إلى صفوف الثورة أو الاستسلام للثوار الأكراد، وتوسعت الثورة الكردية بعد تحرير محافظة السليمانية، فوصلت إلى تحرير مدينة كفري الواقعة شرق مدينة كركوك الواقعة إدارياً ضمن محافظة صلاح الدين. وكذلك تم تحرير مدينة جمجمال، وكذلك جميع المعسكرات الإجبارية الواقعة بين مدينة السليمانية وجمجمال، وقد تم كذلك في لواء أربيل تحرير مدينة وأقضية جومان وراوندوز والصديق وميركة سور وشقلاوة وكويسنجق وطقطق ومصيف صلاح الدين، وكذلك العديد من المجمعات السكنية، وإيجازاً يمكن القول بأن أكثر من 120 ألف من الأكراد المسلحين، الذين غُرر بهم ونظموا فيما سُمّيت بأفواج الدفاع الوطني في العراق قد انضموا إلى صفوف الثورة الكردي وإن هناك أكثر من ستين ألفاً بين ضابط وضابط صف وجندي عراقي في منطقة كردستان العراقية المحررة، إن مثل هذا الإنجاز الضخم قد جاء تتويجاً لهذا النضال الباسل الذي قام به إخواننا الثائرون في الجنوب))( ).
وكان الدكتور روز نوري شاويس قد ألقى كلمة باسم المكتب السياسي للبارتي استهلها بالقول:
((اسمحوا لي، قبل إلقاء كلمة المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني ، أن أنقل لكم تحيات الأخ المناضل السيد مسعود البارزاني، رئيس حزبنا الديمقراطي الكردستاني، الذي بعث لكم جميعاً بتمنياته في نجاح أعمالكم خدمة لوطننا العزيز العراق، وكان يود أن يكون بينكم ولكنه يعتذر في رسالته عن الحضور لانشغاله بتنظيم وقيادة الانتفاضة الشعبية في كردستان العراق حيث تعمل قوى الجبهة الكردستانية العراقية في مدن وأرياف كردستان المنتفضة كتفاً إلى كتف مع الانتفاضة المندلعة في جنوب ووسط العراق. ويعرب الأخ مسعود البارزاني عن أمله الراسخ في خروج المؤتمر بقرارات تعزز وحدة قوى المعارضة وموقفها الموحد حول أوضاع بلادنا المنكوبة بالديكتاتورية وحروبها العدوانية وآثارها الوخيمة))( ).
وكانت الانتفاضة قد أخذت بالانحسار بعد أن أعطى الرئيس الأمريكي جورج بوش الضوء الأخضر للنظام العراقي للبدء بالهجوم المعاكس عليها، وظهرت مؤشرات ذلك عندما قامت القوات الأمريكية بفك الحصار عن وحدات الحرس الجمهوري غرب الفرات وزودتها بوقود الدبابات وتم السماح لطائرات الهيلكوبتر المسلحة التابعة للنظام العراقي بالطيران خلافاً لبنود اتفاقية الهدنة الموقعة بين النظام العراقي وقوات التحالف في خيمة صفوان جنوب البصرة.
وبعد سحق الانتفاضة في الوسط والجنوب توجهت قطعات الحرس الجمهوري تساندها طائرات الهيلكوبتر المسلحة إلى كردستان العراق حيث دارت معارك ضارية كان أعنفها في كركوك مما دفع (90%) من سكان المدن والقرى إلى الهجرة منها خوفاً من عمليات الإبادة الجماعية التي مارستها قوات النظام العراقي في الجنوب، لتبدأ أكبر عملية نزوح سكاني للأكراد يشهدها العراق في تاريخه الحديث باتجاه الحدود الإيرانية والتركية، وبلغ عدد النازحين أكثر من مليوني مواطن كردي وكان يموت منهم يومياً في تركيا وحسب الأرقام التي ((صدرت عن مسؤول أميركي رفض الكشف عن هويته، وأعلن للصحفيين في مطلع شهر نيسان، أن (ألف شخص يموتون يومياً، والجميع يحملونا المسؤولية عن هذا الوضع)، وعن مسؤول في الأمم المتحدة يعمل في إيران، أشار إلى سقوط ألفي قتيل يومياً في الأراضي الإيرانية))( )، وكان معظم الضحايا من الأطفال والمرضى وكبار السن، وقد أمكن حصر الوفيات بالتدريج بفعل المساعدات العاجلة التي قدمتها قوات التحالف وجمعيتي الهلال الأحمر في كل من تركيا وإيران.
وقد أحدثت تلك المشاهد المأساوية التي كان العالم يتابعها عبر الفضائيات هزة وتركت أصداءها على الرأي العام العالمي مما حمل مجلس الأمن الدولي في 5 نيسان 1991 على إصدار القرار (688) الذي دعا فيه النظام العراقي إلى التوقف عن قمع السكان المدنيين وإلى التعاون مع الأمم المتحدة لتوزيع المساعدات الإنسانية في مختلف مناطق العراق.
وفي 16 نيسان 1991 أعلنت قوات التحالف الدولي عن إقامة ملاذات آمنة تمتد من زاخو إلى دهوك والعمادية لتسهيل عودة اللاجئين الأكراد إلى أماكن سكناهم، وذلك في عملية أطلق عليها اسم (توفير الراحة) (بروفايد كومفورت). وقد بدأت تلك العملية بقيام الطيران الحربي الأمريكي بإلقاء المنشورات على جموع اللاجئين [راجع الوثيقة رقم 66] وبدخول وحدات من الجيش الأمريكي إلى زاخو ثم دهوك. وبعد بضع أيام وفي يوم 19 نيسان 1991 تحديداً أعلنت دول التحالف عن فرض منطقة حظر جوي شمال العراق حظرت فيها على طيران النظام العراقي التحليق شمال خط العرض 36o وبدأت بتسيير دوريات جوية في المنطقة انطلاقاً من قاعدة أنجرليك التركية( ).
وفي ذلك المقطع الزمني الحرج والحساس قررت الجبهة الكردستانية فجأة الدخول في مفاوضات مع النظام الحاكم رغم عدم مضي شهر على قرارات مؤتمر بيروت الذي شاركت فيه بكافة فصائلها ورغم توقيعها على ميثاق لجنة العمل المشترك والذي نص البند الأول منه على: ((إسقاط النظام الديكتاتوري بإرادة الشعب العراقي وتصفية مخلفاته وإلغاء القوانين الجائرة الصادرة عنه))( ).
وقد جاء قرار التوجه إلى بغداد في اجتماع عقدته الجبهة الكردستانية في شقلاوة وظهر خلاله رأي مفاده: ((أن القضية الكردية لها حل وحيد وهو الاتفاق داخل العراق، وكان هذا الرأي يشكل الأغلبية داخل الجبهة الكردستانية))( )، وكان أصحابه يعتقدون بأنه لا بد من انتهاز فرصة بقاء صدام حسين في السلطة بالشكل الذي انتهى إليه لانتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات من نظامه من خلال المفاوضات، بحيث يكون الاتفاق الناجم عنها والذي لابد وأن يحقق كل مطالب الجبهة الكردستانية بسقفها الأعلى ملزماً لأي نظام عراقي يأتي لاحقاً من بعده إلى سدّة الحكم في بغداد.
وقد تفرد جلال الطالباني بمعارضة هذا التوجه رافضاً فكرة التفاوض مع نظام كنظام صدام حسين من أساسها كما تدل على ذلك محاضر اجتماعات قيادة الجبهة الكردستانية مخالفاً في ذلك حتى أعضاء قيادة حزبه المشاركين في الاجتماع الذين وافقوا من جانبهم على المفاوضات. ومن الجدير بالذكر أن القيادة السياسية للجبهة الكردستانية كانت تضم كل من:

    
1. رسول مامند.
2. مسعود البارزاني.
3. الدكتور محمود عثمان.
4. جلال الطالباني.
5. نوشيروان مصطفى.
6. الدكتور فؤاد معصوم.
7. عدنان المفتي.
8. علي عبد الله.
9. سامي عبد الرحمن.
10. جوهر نامق.
11. د. مجيد.
12. عزيز محمد.
13. كريم أحمد الداود.
14. عبد الرزاق الصافي.
15. الملازم كريم.
16. الملازم شوان.
17. قادر عزيز.
18. يونادم يوسف.
19. نينوس بتيو.
20. عبد الخالق زنكنه.
إلا أن المفارقة الكبرى كانت في اختيار جلال الطالباني شخصياً لرئاسة الوفد المفاوض باعتباره المناوب للجبهة الكردستانية، وكان ذلك باقتراح من مسعود البارزاني الرئيس المناوب الآخر لها.
وقد امتثل جلال الطالباني لقرار قيادة الجبهة الكردستانية وتوجه على رأس وفد يمثلها إلى بغداد مفتتحاً الجولة الأولى من المباحثات التي بدأت يوم 20/4/1991 وانتهت في 28/4/1991، وعن مجمل ما دار فيها يقول جلال الطالباني: ((قدمت أربع أوراق حول الديمقراطية وحقوق الإنسان بحيث أن تكون القوانين العراقية منسجمة مع الإعلان الدولي لحقوق الإنسان، والورقة الثالثة حول تطبيع الأوضاع في كردستان وإنهاء عمليات التعريب والتهجير، والورقة الرابعة حول الحكم الذاتي وحقوقه وتوسيع المنطقة))( ). وعن رد النظام العراقي على أوراق العمل تلك يضيف جلال الطالباني: ((عندما كنت في بغداد كان الجواب هو الموافقة المبدئية على هذه النقاط ولكن قالوا أنها تحتاج إلى مناقشة تفصيلية وكانوا يريدون أن يذهب السيد مسعود البارزاني إلى بغداد في الوقت نفسه، ولذلك رجعت بعد عدة أيام وأبلغت إخواني بذلك وكانت النتيجة أن الوفد الثاني للجبهة الكردستانية الذي ترأسه السيد مسعود البارزاني توجه إلى بغداد ووجد أن الحكام العراقيين متراجعون عن وعودهم))( ).

             

ومن بين من ضمهم الوفد الأول والثاني للجبهة إضافة إلى جلال الطالباني ومسعود البارزاني الدكتور محمود عثمان، نيجرفان البارزاني، رسول مامند، سامي عبد الرحمن، الدكتور فؤاد معصوم، عدنان المفتي، كوسرت رسول، نوشيروان مصطفى، جوهر نامق، روز نوري شاويس، آزاد برواري. أما وفد النظام فقد تألف من عزت الدوري، علي حسن المجيد، حسين كامل، طارق عزيز، حامد يوسف حمادي، الفريق صابر الدوري، الفريق سلطان هاشم أحمد، اللواء وفيق السامرائي، منذر الشاوي، (كخبير قانوني) وغيرهم، وقد بدأت الجولة الثانية من المفاوضات في 7/5/1991 واستمرت حتى 17/6/1991، وخلافاً لما توقعه وفد الجبهة الكردستانية فقد أبدى النظام العراقي تصلباً غير عادي خلال المفاوضات فكان ((عزت الدوري يقول أنهم لا يوافقون بعد غزو الكويت على ما كانوا قد يوافقون عليه قبل غزو الكويت حتى لا يقال إننا هُزمنا أو ضعفت مواقفنا أو تنازلنا))( )، وقد رد عليه الدكتور محمود عثمان بالقول: ((حبذا لو فعلتم الشيء نفسه تجاه أمريكا التي فرضت عليكم كل شيء ووقعتم بسكوت من دون جدل))( ).

       

وكان اجتماعاً قد عقد في مبنى المجلس الوطني في 12/5/1991 حضره كل من صدام حسين وسكرتيره اللواء عبد حمود وطارق عزيز واللواء الركن وفيق السامرائي مدير الاستخبارات العسكرية ثم التحق بهم عزت الدوري ((قدم خلاله طارق عزيز سرداً للمفاوضات التي تمت في نيسان 1991 مع وفد الجبهة الكردستانية برئاسة السيد جلال الطالباني والمفاوضات الجارية مع الوفد الثاني برئاسة مسعود البارزاني بقوله موجهاً كلامه إلى صدام حسين: سيادة الرئيس لقد كانت الجولة الأولى من المفاوضات بمثابة المرحلة الافتتاحية وحاول جلال الطالباني كعادته المناورة السياسية كسباً للوقت على ما يبدو ريثما يتمكنوا من احتواء الأضرار الناجمة عن هزيمتهم وبعد مغادرته بغداد لاحظنا إتباعه سلوكاً أكثر تشدداً وتصريحات عن نوايا مبيتة. ولاحظنا في الوفد الثاني برئاسة مسعود البارزاني توجها للاتفاق معنا ويبدو أن الصراع بين جلال الطالباني والملا مصطفى البارزاني امتدت شرارته إلى ابنه مسعود البارزاني وأنه بحاجة إلى مساندتنا، إلا أن صلاته هو الأخير عديدة مع أمريكا وبريطانيا وإيران وتركيا، فإذا ساعدناه جدياً فربما ينتقل إلى جانبنا))( )، عند ذاك توجه صدام حسين إلى اللواء وفيق السامرائي كي يبدي رأيه فأشار هو الآخر بأن معلومات الاستخبارات: ((تؤكد وجود حالة من الصراع الخفي وآخر أوجه الصراع أن آزاد برواري عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني ((عندما جاء قبل وصول الوفد الثاني قدم رجاءً متكرراً أن نعطي اهتماماً متميزاً إلى مسعود البارزاني أكثر مما أعطينا إلى جلال الطالباني وهذه إشارة واضحة تدل على التنافس المستمر الذي ما كان له أن يظهر في هذه العجالة من الأمر لو أن خلافاتهم لا تقبل الرجعة إلى الخلف))( ). وقد عقّب صدام حسين على مجمل ما دار فبدأ ((الحديث مطولاً عن القضية الكردية وموقف الملا مصطفى البارزاني وعلاقاته مع أمريكا وإيران وكيف ربط مصيره مع الشاه الإيراني، وقال: إلا أني أعتقد أن مسعود البارزاني هو أهون الشرين وأن مشكلة الزعامة بينهما لا تنتهي إلا بانتهاء أحدهما))( ). توجه بعدها إلى اللواء وفيق السامرائي قائلاً: ((ما رأيك يا لواء وفيق في أن يجري التخلص من جلال الطالباني))( ). فأجابه: ((إني أعتقد أن تصفية جلال الطالباني لن تكون في صالحنا، وعلينا أن لا نتوقع بأن نوشيروان مصطفى وكوسرت رسول سيتبعان خطاً مرناً معنا))( ). فرد صدام قائلا: ((أنا لا أثق بهما أيضاً ولكن الأسبقية لجلال الطالباني))( ). ثم استفسر منه حول جاهزية الوحدة (888) والمسماة بوحدة الواجبات الخاصة للقيام بعملية تصفية لزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال الطالباني فبيّن له وفيق السامرائي بأن جلال الطالباني يحتفظ بحماية قوية وأن الاستخبارات لم تتمكن حتى ذلك الحين من اختراق مقرّه.
 فالتفت صدام حسين "إلى عزت الدوري الذي جاء متأخراً بقوله لقد أخطأنا في عدم إنهاء الأمر بهدوء عندما كان في بغداد ويقصد بإعطائه جرعة سامة (غير الثاليوم) بطيئة التأثير( )"، وأعاد صدام حسين الأمر على مدير الإستخبارات العسكرية بتجهيز الوحدة (888) إلا أن ((الوقت كان كفيلاً في إفشال هذه النية))( ).
وبعد انتهاء جولتي المفوضات في بغداد توجه عزت الدوري على رأس وفد إلى أربيل وكانت لا تزال تحت سيطرة النظام فاجتمع بوفد من الجبهة الكردستانية ضم رئيسيها المناوبين الطالباني والبارزاني، بعد ذلك ترأس مسعود البارزاني وفد الجبهة الكردستانية إلى الجولة الأخيرة من المفوضات والتي بدأت في بغداد يوم 10/7/1991، وبعد (42) يوم عاد مسعود البارزاني إلى شقلاوة حاملاً معه اتفاقاً جاهزاً للتوقيع رفضته قيادة الجبهة الكردستانية لعدم تضمّنه الحد الأدنى من مطاليبها وكان ((هناك جزء سري من الصفقة يفرض على الأكراد مساعدة صدام حسين في قمع المعارضة الموجهة ضد نظام حكمه، داخل العراق وخارجه، وكان مسعود البارزاني يرغب في التعاون مع صدام حسين ومساعدته في قمع أعدائه، فيما رفض جلال الطالباني هذا الشرط في الحال))( ).
وكانت الجبهة الكردستانية قد تقدمت في وقت سابق أثناء المفاوضات بمشروعها للحكم الذاتي والذي لم يحز على موافقة النظام.
2. حكومة الإقليم
تزامن انسحاب قوات التحالف الدولي من الملاذات الآمنة من كردستان العراق مع بدء الجولة الأخيرة من المفاوضات التي جرت في بغداد، ففي 15/7/1991 انسحبت كافة عناصر القوة الغربية المؤلفة من (3170) جندي بقيادة الجنرال الأمريكي غارنر إلى الأراضي التركية محتفظة بمركز قيادة أطلق عليه اسم (مركز التنسيق العسكري) (MCC) في مدينة زاخو التي بقيت خارج سيطرة النظام العراقي شأنها في ذلك شأن مدينة دهوك. وبعد فترة قصيرة من ذلك الانسحاب وعلى إثر توقف المفاوضات بين الجبهة الكردستانية وسلطات النظام العراقي أواخر آب 1991 اندلعت سلسلة من الاشتباكات المسلحة بين قوات النظام العراقي من جهة وقوات البيشمركه وجماهير الشعب من جهة أخرى في العديد من المناطق، وتصاعدت حدة الاشتباكات التي بدأت متفرقة إلى حد قيام النظام بهجمات عنيفة بالمدفعية الثقيلة وطائرات الهيلكوبتر المسلحة على مناطق كرميان وذلك أوائل تشرين أول 1992م، واتسع نطاق العمليات العسكرية  التي تركزت في محاور كلار وكفري لتصل مدينة السليمانية التي لم يشملها الحظر الجوي لوقوعها جنوب خط العرض 36o، وقد أسفرت تلك المعارك الضارية التي قاد قوات البيشمركه فيها جبار فرمان قائد الجيش الأول لـ(اوك) وبلغت ذروتها في الأيام من 6-8/10/1991 عن تراجع قوات النظام العراقي وانكفائها بعد أن فشلت في إعادة السيطرة على المناطق الإستراتيجية التي استهدفتها، وخاصة في مناطق كرميان، مما أجبر قيادة النظام على إرسال وفد برئاسة اللواء الركن محمود فيزي الهزاع قائد الفيلق الأول للتفاوض مع القيادة الميدانية للجبهة الكردستانية في محافظة السليمانية والتي أذعن لشروطها عندما وافق على مبادلة الضباط المُحتجزين بالسجناء السياسيين الأكراد الموجودين في السجون والمعتقلات بما فيها سجن أبو غريب المركزي [راجع الوثيقة رقم 67] وعلى أثر ذلك الاتفاق قام النظام العراقي بسحب قواته من عموم محافظة السليمانية بحيث أن الجبهة الكردستانية قامت بتعيين حراس لمحافظ السليمانية المعين من قبل النظام ومدير الأمن فيها( ).
وفي تطور آخر للموقف أقدم النظام العراقي يوم 23/10/1991 على سحب كافة الإدارات الحكومية من محافظات دهوك وأربيل والسليمانية وتوقف عن دفع رواتب العاملين في دوائر الدولة هناك مما أدى إلى حرمان (150) ألف موظف وعامل ومستخدم حكومي كردي من رواتبهم دفعة واحدة، كما أخلى أربيل والمناطق المحيطة بها من وحدات الجيش والأجهزة الأمنية.
وكان مسعود البارزاني قد علم بتلك الإجراءات في يومها أثناء وجوده في زاخو فاتصل فوراً بوزير الدفاع آنذاك الفريق أول حسين كامل حسن مستفسراً منه عن حقيقة ما يجري فكان جوابه ((أنه هو أيضاً مستغرب وسوف يسأل الرئيس عن ذلك، وفي نفس الوقت كانت هناك برقية أخرى وردت إلى السيد مسعود البارزاني من أربيل تقول أن القوات العراقية فرضت حصاراً اقتصادياً منذ الصباح ومنعت السيارات التي تحمل بضائع ومواد غذائية من القدوم إلى أربيل والسليمانية وبالعكس أيضاً....))( )، ومع كل تلك الإجراءات فإن مسعود البارزاني واصل رهانه على إمكانية الوصول إلى صيغة اتفاق مع النظام العراقي لذلك لم يقطع قنوات الاتصال مع بغداد إلا أن القيادة السياسية للجبهة الكردستانية حسمت الموقف بإعلان قطع المفوضات أواسط كانون ثاني 1992.
وقد اعتبر مسعود البارزاني صدور ذلك القرار إنما جاء بتأثير من جلال الطالباني، وهو ما عبر عنه بقوله ((في الحقيقة عام 1992 قطعنا شوطاً كبيراً على طريق الحل. ولكن لم يتم التوصل إلى اتفاق حول كل المسائل المهمة مع الحكومة المركزية. ولكن جلال الطالباني من ناحيته، لعب أيضاً دوراً عكسياً، وكان الموضوع شخصياً جداً، عندما لاحظ أن الحكومة العراقية لا تهتم به كثيراً وبشكل خاص، وإنما أرادت أن يكون الحل مع الجميع. في ذلك الوقت اتخذ هو موقفاً آخر، لكن في الحقيقة لو كانت الحكومة العراقية موافقة على توقيع الاتفاق معه بالذات، كان سيوقع عليه حتى بأقل مما توصلنا إليه في ذلك الوقت))( ).
ولإيجاد مخرج لمشكلة الاتفاق المعلّق اقترح مسعود البارزاني الذي لم يفقد الأمل في عقده بأن تتم دعوة الشخصيات الكردية (أهل الحل والعقد) من مختلف المناطق لمعرفة رأيهم فيه ومن ثم اتخاذ القرار المناسب بشأنه عن طريق التصويت، إلا أن اقتراحه لم يلق قبولاً من لدن القيادة السياسية للجبهة الكردستانية، لكنه كان الأساس الذي انبثقت منه فكرة الانتخابات التي تخطت مسألة المفاوضات والاتفاق إلى بلورة مشروع لملء الفراغ في المناطق التي تديرها الجبهة الكردستانية سواء تلك التي سيطرت عليها بعد الانتفاضة أو التي انسحب منها النظام العراقي في تشرين أول 1991.
وفي نيسان 1992 أصدرت الجبهة الكردستانية (قانون انتخابات المجلس الوطني الكردستاني)، وقانون آخر هو (قانون انتخاب قائد الحركة التحررية الكردية).
وكانت الانتخابات قد جرت يوم 19/5/1992 بإشراف (الهيئة العليا للإشراف على الانتخابات في كردستان العراق) التي شكلت من قبل القيادة السياسية للجبهة الكردستانية وذلك بمشاركة (8) أحزاب تنافست على (100) مقعد في البرلمان وأربع أحزاب مسيحية تنافست على المقاعد الـ(5) المخصصة للمسيحيين كما ترشحت (4) شخصيات لمنصب القائد. ومن الجدير بالذكر أن الانتخابات جرت على أساس نظام التمثيل النسبي باقتراح من حزب البارتي كما اشترط القانون حصول أي حزب على نسبة (7%) من إجمالي الأصوات لكي يمثل في البرلمان.
وقد أعلنت النتائج يوم 23/5/1992 بمحضر رسمي [راجع الوثيقة رقم 68]( )، وعلى ضوء النتائج النهائية فقد حصد البارتي و(أوك) معظم أصوات الناخبين ولم تستطع باقي الأحزاب من دخول البرلمان لعدم حصولها على نسبة الـ(7%) من أصوات المقترعين المطلوبة، لذلك جرى وحسب الفقرة 3 من المادة 36 من قانون انتخابات المجلس الوطني الكردستاني إعادة توزيع ما حصلت عليه تلك الأحزاب على القوائم الفائزة بنسب فوزها، وبذلك أصبحت حصة البارتي 50.68% من المجموع الكلي للأصوات وحصة (اوك) 49.32% كما حصلت الحركة الديمقراطية الآشورية على (4) من أصل المقاعد الـ(5) المخصصة للمسيحيين وفاز بالخامس مرشح ينتمي للبارتي، أما انتخابات القائد فلم يحصل أي من المرشحين على الأغلبية المطلقة وهم:
1. السيد مسعود البارزاني.
2. السيد جلال الطالباني.
3. الشيخ عثمان عبد العزيز.
4. الدكتور محمود عثمان.
ورغم ما شاب العملية الانتخابية من نواقص وخروقات إلا أنها كانت وحسب شهادة مراقبين دوليين وشخصيات عراقية محايدة راقبت سيرها كانت حرّة ونزيهة على العموم، ولعل من أبرز النتائج التي ترتبت عليها اتفاق الحزبان الفائزان على اقتسام مقاعد المجلس الوطني الكردستاني بواقع 50 مقعد لكل من القائمتين الخضراء التي تمثل (اوك) والصفراء التي تمثل البارتي، وبقي منصب قائد الحركة التحررية الكردستانية شاغراً لعدم فوز أي من المرشحين بالأغلبية المطلقة ولم يحدد موعد لاحق لانتخابه.
وفي 4 حزيران 1992 عقد البرلمان الكردستاني جلسته الأولى، بعد ذلك تم تشكيل مجلس وزراء إقليم كردستان الذي عقد جلسته الأولى في 4/7/1992. كما تم اقتسام مقاعد البرلمان بين الكتلتين الخضراء والصفراء فقد اتفق الحزبان أيضاً على اقتسام كافة السلطات في الإقليم فكانت حصة رئاسة الحكومة من نصيب (أوك) على أن يكون نائبه من البارتي ورئاسة البرلمان من نصيب البارتي ونائبه من (اوك).
وتم الاتفاق أيضاً على أن تكون صلاحيات نائب رئيس الوزراء نفس صلاحيات رئيس الوزراء ومعاون المدير نفس صلاحيات المدير، وهكذا إلى أدنى المناصب التي شملتها المحاصصة.
وكانت الوزارة الأولى قد تشكلت برئاسة الدكتور فؤاد معصوم عضو المكتب السياسي لـ(اوك)، وشغل منصب نائب رئيس الوزراء الدكتور روز نوري شاويس عضو المكتب السياسي للبارتي وقد تألفت من (15) وزيراً: 6 من البارتي و 6 من (اوك)، فيما منحت حقيبة واحدة للحزب الشيوعي الكردستاني وأخرى للحركة الديمقراطية الآشورية وثالثة خصصت للمستقلين، أما المجلس الوطني الكردستاني فقد ترأسه السيد جوهر نامق عضو المكتب السياسي للبارتي، ونائبه نجاد أحمد عزيز وهو من الشخصيات المحسوبة على (اوك)، (توفي في لندن).
ومن بين أهم القرارات التي اتخذها المجلس الوطني الكردستاني تبني نظام الفيدرالية في العلاقة مع الحكومة المركزية في بغداد وذلك في بيان أصدره في 4/10/1992 وجاء فيه:
((قرر المجلس الوطني لكردستان العراق بالإجماع تقرير مصيره وتحديد علاقته القانونية مع السلطة المركزية في هذه المرحلة من تاريخه على أساس الاتحاد الفيدرالي ضمن عراق ديمقراطي يؤمن بنظام تعدد الأحزاب ويحترم حقوق الإنسان المعترف بها في العهود والمواثيق الدولية))( ).
* الأكراد في عالم الاضطهاد
إن الكُرد أو الأكراد من الشعوب القديمة جداً والمتوطنة في المنطقة الإستراتيجية المعروفة بكردستان، وهم شعب مسلم سني بغالبيته الساحقة، وفيهم قليل من الشيعة والنصيرية واليهود والنصارى، ويسود فيهم النظام القبلي والعشائري وقد برز منهم قادة عظام من أشهرهم صلاح الدين الأيوبي (قاهر الصليبيين) رحمه الله.
لقد كان سقوط دولة الخلافة العثمانية بداية النهاية لعصر ذهبي عاشه الأكراد كانوا فيه حماة الحدود الشرقية للدولة العثمانية ضد الدولة الصفوية، فقد كانت مناطقهم محاذية لدولة إيران الصفوية الشيعية التي كانت في صراع مستمر مع الدولة العثمانية، وأيضاً كانوا يجاورون مناطق الأرمن النصارى الذين كانوا يدبرون الكثير من الفتن والدسائس بتحريض من الدول النصرانية، وكان دور الأكراد كبيراً في التصدي لهذه التهديدات؛ حيث إنهم شعب شجاع ومحارب من الدرجة العالية وموالٍ للدولة العثمانية (الخلافة الإسلامية)، ولهذا فقد تكونت قوات كردية خاصة تعمل بنشاط في هذه المناطق سواءً في دفع الاعتداءات عبر الحدود عن الإمبراطورية العثمانية أو في قمع الثورات المضادة للسلطة العثمانية.
 إن شرعية الدولة العثمانية قائمة على أساس أنها مركز الخلافة الإسلامية، وأن الإسلام هو البوتقة التي تنصهر فيها الأمم والشعوب المنضوية تحت لواء الدولة العثمانية؛ ولهذا فقد عملت الدول الغربية على إحياء النعرات القومية وإذكاء جذوتها  في سبيل فصم العرى والروابط التي تربط هذه الشعوب الإسلامية فيما بينها، بل ومن أجل أن يحل الصراع والتباغض محل التعاون والتآخي، وقد نجحوا في إثارة القومية الطورانية (التركية) حتى إن جمعية الاتحاد والترقي الماسونية والطورانية في نفس الوقت استطاعت أن تصل إلى مقاليد الحكم في أواخر الدولة العثمانية بعد خلع السلطان العثماني عبد الحميد عام (1908)، حيث عملت على تطبيق ما يسمى بسياسة (التتريك) مما ساعد على تنامي القومية العربية ممثلة رد فعل على سياسة (التتريك)، وقد ساهمت هذه الجمعية (الاتحاد والترقي) بسياساتها الخرقاء في سقوط الدولة الإسلامية العثمانية حيث أدخلتها الحرب العالمية الأولى بدون مصلحة ظاهرة في ذلك. وقد نتج عن هزيمة الدولة العثمانية سلخ المناطق العربية وتقاسمها بين فرنسا (سوريا ولبنان) وانجلترا (العراق وفلسطين وشرق الأردن)، وقد تعامل الحلفاء بكل عنجهية مع الحكومة العثمانية؛ حيث كانت جيوش الحلفاء تحتل أجزاء من الدولة العثمانية بل ويشاركهم في ذلك قوات يونانية تريد احتلال أجزاء من البر التركي وضمها إلى اليونان، وقد فُرضت معاهدة سيفر على الدولة العثمانية نصت على قيام دولة كردية تشمل الجزء الأكبر من كردستان التركية (معاهدة سيفر عام 1920م) ولكن حصل ما غيّر خطط الإنجليز؛ حيث إنهم تفاهموا مع أحد الضباط الأتراك الذين سبق لهم التعامل معه في سورية أثناء الحرب وهو ينتمي إلى يهود الدونمة هو (مصطفى كمال أتاتورك)، وبدون مقدمات انسحب الحلفاء من تركيا وبقي اليونانيون وحدهم، وتولى الضابط (مصطفى كمال أتاتورك) إثارة حماسة الأتراك ودعاهم لمواجهة اليونان، ولَبِسَ العمامة، وأمّ العلماء في الصلاة، ودعا إلى الجهاد وأقنع الأكراد بمشاركتهم لنصرة تركيا الإسلامية ضد اليونان، وتم دحر اليونانيين ورجع ملكهم مهزوماً حسيراً، بينما عاد مصطفى كمال أتاتورك بطلاً بطولة مكنته من إلغاء الخلافة الإٍسلامية. وبدأ في إجراءات جعلت الإنجليز ينسون معاهدة سيفر لعام 1920 بخصوص الدولة الكردية التي تهدف إلى تقطيع أوصال الدولة التركية جغرافياً، لأن أتاتورك يتولى ليس فقط تحطيم الدولة العثمانية المسلمة التي كانت يوماً ما مخيفة بالنسبة للغرب، بل وتحطيم الشخصية التركية المسلمة والاستعاضة عنها بشخصية تركية جديدة لا دينية، متطرفة في تبعيتها للغرب مغلفة ذلك بتطرف قومي تركي شديد لإرضاء الغرور. لقد قام مصطفى كمال أتاتورك بأكثر مما يحلم به الإنجليز وبسرعة قياسية حيث ألغى الخلافة الإسلامية رسمياً، ومنع لبس العمامة والطربوش، واستبدل بهما القبعة الغربية، ومنع الأذان باللغة العربية في المساجد، بل وفرض الأحرف اللاتينية بدلاً عن العربية، وأخيراً أعلن أنه لا يعترف بأي قومية أخرى وخاصة الكردية غير التركية. وتم إطلاق يد أتاتورك ليكون الزعيم الأوحد، وتحول النظام البرلماني العثماني إلى صورة ليس لها معنى، وتم ترسيخ عبادة الفرد. ولنا أن نتصور مصير الأكراد الذين طالبوا بإعادة الخلافة الإسلامية أو إقامة دولة خاصة بهم؛ إذ كان من يرفض لبس القبعة من العلماء يُعلّق على أعواد المشانق.
إن ملايين الأكراد الذين خضعوا للإسلام وانضووا تحت لوائه ولم يطالبوا سابقاً بدولة مستقلة لهم؛ قد استحال عليهم تقبّل الوضع الجديد الذي يطلب منهم الانسلاخ عن مقومات شخصيتهم ونسيان أنهم مسلمون أولاً وأكراد ثانياً، والقبول بوصف جديد تفتقت عنه عبقرية النظام الأتاتوركي حيث أطلق على الأكراد بأتراك الجبل .لقد كانت ثورة الشيخ سعيد بيران هي أول ثورة كردية منظمة عام 1925، وقد قامت احتجاجاً على إلغاء الخلافة الإسلامية ومطالبةً بقيام دولة كردية، وكانت دوافع الأكراد في الثورة مختلطة بين الدين الإسلامي والقومية الكردية في وقت ألغيت فيه الدولة التركية الخلافة الإسلامية وقامت على أنقاضها دول وكيانات قومية؛ حيث أقيمت الجمهورية التركية وكيانات: سورية، ولبنان، والعراق، وتم تجاهل الأكراد، بل قسمت مناطق الأكراد التي كانت خاضعة للدولة العثمانية بين تركيا والعراق وسورية على النحو الآتي:
تركيا (43%) وإيران (31%) والعراق (18%) وسورية (6%) وأذربيجان  (2%) أما السكان البالغ عددهم حوالي (35-40) مليون نسمة فيتوزعون على الشكل الآتي:
 تركيا (50%) وإيران (25%) والعراق (18-20%) وسورية (10%) وأذربيجان  (2%) والبقية خارج كردستان. وعلى سبيل المثال فإن هناك حوالي نصف مليون كردي في ألمانيا.
إن التواجد الكردي يتركز في كل من تركيا وإيران والعراق، ولهذا نتوقع أن أي احتجاجات عنيفة ستكون في هذه البلدان الثلاثة، ومن المفارقات أن كل هذه الدول مجتمعة (متفقة) على عدم قيام كيان كردي في المنطقة ومع ذلك فقد تم استغلال آمال وطموحات الأكراد أبشع استغلال، في صراعات إقليمية ودولية خلال السنوات الماضية، وما زال هذا المسلسل مستمراً؛ ففي إيران تعرّض الأكراد للاضطهاد أيام الحكم القومي الفارسي أيام الشاه، وضاعف منه التنافس الروسي الإنجليزي في إيران؛ حيث تمكن الروس من تكوين دولة كردية في مناطق الأكراد في كردستان إيران (جمهورية مهاباد الكردية) بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة عام 1946م، إلا أنها سرعان ما سقطت، وتم تثبيت النفوذ الغربي من جديد في إيران .
وقد انخدع الأكراد بشعارات (الثورة الإسلامية في إيران) الخميني الإسلامية فقامت الأحزاب الكردية بل والعلماء الأكراد وعلى رأسهم الشيخ (ملاّ زاده) بتأييد الثورة الإيرانية (الخمينية)؛ ولكن المأساة بدأت مع ثبات الثورة الإسلامية الخمينية وقيام الحرب الإيرانية العراقية؛ حيث تعرض الأكراد لحرب دموية من قِبَل الحرس الثوري الإيراني؛ لأن النشاط العسكري للأحزاب الكردية قد تزايد بقوة نظراً للمساعدات العراقية في تلك الأيام، ولم يكن غريباً أن ترى صورة مجموعات كبيرة من الأكراد معصوبي الأعين وجنود الحرس الثوري ينفذون فيهم أحكام الإعدام في الشوارع والساحات العامة، وليس هذا فقط بل قام النظام الإسلامي الإيراني الرافضي بتنفيذ خطة خبيثة من أجل تشييع الأكراد؛ حيث سجن أو قتل الكثيرين من علمائهم حتى الذين كان لهم فضل على الثورة الإسلامية الخمينية، وقد مات الشيخ (ملاّ زادة) في سجن الخميني مظلوماً؛ حيث شاهد بنفسه عاقبة من يثق بعهود ومواثيق النظام الإيراني الإسلامي وكلامهم المعسول؛ ومما يدمي القلب أن سجن علماء الأكراد السّنة، صاحبه حملة منظمة لتدريس المذهب الشيعي للطلاب الأكراد، وقد استطاع نظام الخميني إخضاع أكراد إيران والقضاء تقريباً على الأحزاب الكردية، وملاحقة الزعماء الذين فروا إلى خارج إيران وتصفيتهم؛ كما حصل للدكتور عبد الرحمن قاسملو؛ حيث اغتالته مجموعة قدمت نفسها له على أنها مجموعة مفاوضات حكومية إيرانية، وعقدت معه لقائين وفي الثالث تم استدراجه وقتله في فينا عام 1989م .
أما ما يحدث لهم في العراق فهو مثال ما زال حياً لشرح وتوضيح أحوال الشعب الكردي؛ ففي البداية تردد الإنجليز بعد احتلال العراق في مصير كردستان العراق وقد كادوا أن يسلموه لربيبهم مصطفى كمال أتاتورك، ولكن اكتشاف البترول في ولاية الموصل وكركوك الكرديتين جعلهم يضمون هذه المناطق للعراق، وكانت الثورات الكردية في تركيا وإيران وسياسة الحكومة العراقية القومية حافزاً للتململ الكردي في كردستان، وكان يستغله بعض الزعماء القبليين الكرد الذين لهم انتماءات حزبية يسارية، وكان القتال على الأرض يقوم به زعماء العشائر الكردية مع أقلية حزبية منظمة تقوم بالنشاط السياسي، وقد سيطرت الأحزاب الكردية على التوجيه مع مرور الزمن وتعقد المشكلة وتشابك أطرافها؛ فعلى سبيل المثال فإن (ملاّ مصطفى البرزاني) كان زعيماً كردياً يجمع بين الزعامة القبلية والعلاقة مع كل من يعتقد أنه يحقق أهدافه، ففي فترة مبكرة كان توجهه ذا طابع ماركسي وقد لجأ إلى موسكو، وحضر بعض المؤتمرات الشيوعية في فترة الحكم الملكي الموالي للغرب، وبعد ثورة عبد الكريم قاسم في 14 تموز عام 1958م وسيطرة الشيوعيين الذين يغلب على غوغائهم طائفة المعدان الشيعية وقيامهم بنشر الإرهاب الأحمر في العراق، وارتكابهم مجازر في مدينة الموصل؛ قامت الحركة الكردية التي كانت ثائرة في كردستان بالتنسيق مع مجموعة الضباط القوميين الناصريين والبعثيين الذين قاموا بانقلاب على عبد الكريم قاسم وتصفيته، ولكن الوضع لم يستقر في العراق واستمرت الثورة في كردستان مع دخول إيران على الخط، ومحاولة إسرائيل التسلل إلى مناطق الأكراد، وقد تصاعدت الثورة الكردية بازدياد المساعدات الإيرانية (أيام الشاه) للملا مصطفى البارزاني ولم يوقفها إلا اتفاق العراق مع إيران في الجزائر  في 6 آذار عام 1975م.
وتم خنق الثورة الكردية والقضاء عليها إلى حين؛ حيث إن الحرب العراقية الإيرانية قد دفعت إيران إلى استغلال الورقة الكردية من جديد وبدأت المساعدات الإيرانية تنهال على أكراد العراق، والمساعدات العراقية تتوالى على أكراد إيران، وكل دولة تقتل أكرادها، وقد استُعملت ضدهم جميع أنواع الأسلحة حتى الكيماوية كما حصل في مدينة حلبجة الكردية في السليمانية في 16 آذار 1988؛ ولكن مصيبة أكراد العراق الكبرى حدثت بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية وتفرغ صدام حسين المنتصر عليهم؛ حيث جرد عليهم حملة شرسة سميت (حملة الأنفال) السيئة الصيت لم تكتف بقتل أكثر من مئة واثنان وثمانون ألف مواطن كردي بريء بل قامت بعملية تدمير وحرق لجميع القرى المحاذية للحدود وتهجير من بقي من سكانها إلى جنوب العراق في عمليات تُذكّر بعمليات ستالين (بحدود 4500 قرية كردية)؛ ومع كل هذا فإن الغرب تستّر على هذه الجرائم، ولم يتباك عليها إلا بعد غزو صدام حسين للكويت ودشن عملية ظاهرها حماية الأكراد وسماها عملية الراحة؛ حيث بدأت مرحلة جديدة من التدخل الأجنبي عن طريق استغلال الخلافات المزمنة بين الأحزاب الكردية المتنافسة. وبدأت حرب جديدة أطرافها الرئيسة من الأكراد وخاصة الحزبين الكرديين الأساسيين: الحزب الديمقراطي الكردستاني (مسعود البارزاني) والاتحاد الوطني الكردستاني (جلال الطالباني)، وكان الوضع في كردستان العراق بعد خروج القوات العراقية منها عقب حرب الخليج مباشرة مأساويا؛ فعلى الرغم من التبشير الأمريكي بعصر جديد لأكراد العراق؛ فإن السياسة على الأرض مختلفة تماماً؛ وإليك أخي القارئ بعض ملامحها:
أثناء حرب الخليج وبعدها مباشرة كانت التصريحات الأمريكية تتوالى بأن مهمة إسقاط صدام حسين هي مهمة الشعب العراقي، وتم إغراء المعارضة العراقية بالثورة وإعلان منطقتي حظر للطيران في جنوب وكردستان العراق، ولكن عندما قام الشيعة في الجنوب والأكراد في كردستان بثورة عارمة غير منسقة فإن التحالف استثنى الطائرات العمودية في الحظر الجوي مما مكّن الطيران السمتي العراقي وقطعات الحرس الجمهوري من سحق المحاولتين (الانتفاضة الشيعية في الجنوب والكردية في كردستان).
رفضت أمريكا استثناء المناطق الكردية التي هي خارج السلطة الحكومية العراقية حالياً من الحظر المفروض على العراق، ورفضت المساعدة في بناء مصفاة صغيرة للنفط لاستغلال كميات النفط القليلة الواقعة تحت سلطة الأحزاب الكردية، بل زاد الأمر سوءاً أن صدام حسين قد فرض من جانبه حصاراً على المناطق الكردية التي أصبحت تحت الحصار الدولي الشامل للعراق والحصار الداخلي المفروض عليها من الحكومة العراقية.
بعد أن بدأت الاحتكاكات بين مسعود البارزاني وجلال الطالباني تم الاتفاق على تكوين قوة مراقبة وفصل مكونة من الأكراد المستقلين وقد رفضت أمريكا دفع مليون دولار مساهمة في تكاليفها.
كانت تركيا هي المنفذ الأساسي للتبادل الاقتصادي؛ وحيث إن مسعود البارزاني يسيطر على الحدود مع تركيا فإن جلال طالباني الذي يسيطر على المناطق الحدودية مع إيران كان يطالب باستمرار بتقاسم عوائد الجمارك دون جدوى؛ مما فجر الصراع العنيف بين الجانبين (الحزبين الكرديين الرئيسيين)، وكانت القوات الإيرانية تشارك بصورة مباشرة في المعارك.
بعد الضغط على مسعود البارزاني لجأ إلى طلب الدعم من صدام حسين الذي اجتاحت قواته كردستان العراق في 31 آب 1996م، وتم طرد جلال طالباني إلى الحدود مع إيران، وسيطر مسعود البارزاني على السليمانية، وكان الرد الأمريكي إطلاق بضع صواريخ كروز على أهداف في جنوب العراق!
وقامت مخابرات صدام حسين بتصفية المعارضة العراقية التي وثقت بالوعود الأمريكية، وكونت المؤتمر الوطني العراقي، وتجمعت في المناطق الكردية حتى فاجأتها القوات العراقية والحرس الجمهوري، وتم تصفية الكثير منهم في أربيل، وفر البقية عبر الحدود إلى تركيا، ومعهم حوالي خمسة آلاف كردي يعملون مع المؤسسات الإغاثية الغربية تطاردهم المخابرات العراقية بتهمة الخيانة؛ مما حرم كردستان من كثير من الكفاءات الإدارية والعلمية.
بعد حوالي ستة أسابيع فقط من العملية العراقية قامت قوات جلال طالباني المدعومة من إيران بهجوم جديد (مضاد) استعادت فيه مناطق نفوذها السابقة ومنها مدينة السليمانية. وهكذا استقرت أوضاع كردستان على عدم استقرار؛ لأن استقرار كردستان العراق وتطورها يمثل الخطوة الأولى في سبيل تكوين كيان كردي مرفوض من قبل دول الجوار؛ وعلى هذا الأساس نفهم السياسة الأمريكية والإيرانية والتركية معهم. إن الفراغ الأمني في كردستان العراق أوجد بيئة ملائمة لحزب كردي تركي لالتقاط أنفاسه وتوسيع عملياته بصورة كبيرة، فما هو هذا الحزب، وما هي ظروف نشأته أنه حزب العمال الكردستاني التركي PKK؟
* السياسة التركية في إدارة الأزمة الكردية
إن السياسة التركية التي رسمها مصطفى كمال أتاتورك حيال الأكراد لم تتغير منذ أكثر من سبعين سنة وتتلخص في الآتي :
1-إنكار وجود الأكراد ومن ثَمّ عدم الاعتراف باللغة والثقافة الكردية، وهنا نذكر طرفة وهي أن جمال عبد الناصر قد أمر إذاعة صوت العرب ببث خاص للأكراد وكان المذيع فيها هوشيار طاهر بابان عندما كان طالباً في كلية هندسة – في القاهرة وهو من مدينة السليمانية، مما حمل السفير التركي على تقديم احتجاج شديد اللهجة للرئيس المصري، وكان رده (جمال عبد الناصر) أن سأل السفير التركي: وهل يوجد أكراد في تركيا؟ وبالطبع كان رد السفير الرسمي: لا. وأجابه جمال عبد الناصر إذاً لماذا هذا الاحتجاج عليهم...
2-التعامل بقسوة مع أي ثورة يقوم بها الأكراد؛ وقد قام الأكراد بحوالي (17)  ثورة وانتفاضة منذ قيام الدولة الأتاتوركية (تركيا الحديثة).
3-اللعب على التناقضات القبلية والعمل على تكوين مليشيات كردية موالية للحكومة، واستغلال تمادي حزب العمال الكردستاني في عمليات اغتيال حراس القرى الأكراد من أجل حصر التأييد له في قبائل ومناطق معينة .
4-ملاحقة وإسكات أي نشاط سياسي أو إعلامي كردي في الداخل أو الخارج؛ حيث يقبع عدد كبير من السياسيين والصحفيين الأكراد في السجون التركية .
إن الحل الأمني الذي يحاول عن طريقه الجيش التركي حل الأزمة الكردية قد كلف البلاد خسائر فادحة مادية وبشرية؛ حيث تقدر الخسائر المادية المنظورة بـ (8) بلايين دولار سنوياً. أما القتلى فأكثر من ثلاثين ألف قتيل، مع إيقاف دورة التنمية في مناطق جنوب شرق تركيا  (المناطق الكردية).
وقد أخفق الجيش التركي في ضبط الوضع مما تطلّب القيام بعمليات كبيرة عبر الحدود في كردستان العراق وعلى طول الحدود التركية الإيرانية والسورية؛ ولكن هناك عمليات وحشية لم يحن الوقت ليلقي عليها الإعلام الغربي الضوء الكافي؛ لأن النظام الحالي في تركيا هو الحليف الاستراتيجي في المنطقة لأمريكا وإسرائيل ألا وهي عملية تدمير وإخلاء مناطق الأكراد وتهجيرهم القسري. إن هذه العمليات لا تمس حزب العمال الكردستاني، بل تمس بصورة مباشرة حياة عشرات الألوف من الأكراد الذين هدمت قراهم وطردوا من مناطقهم وهم يعيشون لاجئين في بلادهم، فقرب مطار استانبول هناك تجمعات لمنازل عشوائية من الصفيح يسكنها الأكراد المهجرون، وحتى نتصور حجم المشكلة فإننا نذكر بعضاً مما ورد في تقرير رسمي للبرلمان التركي أن (900) قرية و(3) آلاف دسكرة قد أخلاها الجيش من سكانها، وقد ذكر رئيس بلدية تانسلي لصحفي فرنسي تجول في مناطق الأكراد أن ما بين (70) إلى (80) بالمئة من سكان 374 قرية في محافظته قد تم تهجيرهم، وفي تقرير لجنة التحقيق البرلمانية أن سكان ديار بكر تضاعف مرتين خلال خمس سنوات، وأن ثلاثين بالمئة منهم عاطلون عن العمل. إن عملية التهجير للأكراد قد بدأت عام (1990م) وهي مستمرة، ولا أظن أنها تقدم حلاً جذرياً لمشكلة أساسها الظلم الذي يزداد والقهر الذي يتضاعف .
لقد أدت الأحداث الأخيرة إلى إغلاق المعسكرات الكردية في سوريا وخروج الزعيم الكردي في تركيا عبد الله أوجلان إلى روسيا حيث رحب به أصدقاؤه القدامى؛ ولكن سلطة الشيوعيين لم تعد قادرة على تأمين الملجأ، فقد أوصى مجلس الدوما بإعطائه حق اللجوء ولكن رئيس الحكومة رفض؛ مما اضطره ليس فقط إلى الخروج بل وإلى تغيير سياسة الحزب (العمال الكردستاني) في إدارة الصراع؛ حيث توصل إلى قناعة بأن المرحلة القادمة هي مرحلة صراع سياسي وإعلامي دشنها بسفره إلى إيطاليا وتسليم نفسه إلى سلطاتها وهنا بدأت مرحلة جديدة؛ فقد فوجئت تركيا التي هددت سوريا بالغزو العسكري إن لم تسلم عبد الله أوجلان بأن خروجه من تركيا إلى أوروبا سيضاعف من مشاكلها؛ حيث سيطرح موضوع الأكراد على بساط البحث في المحافل الأوروبية، وسيكون تصعيد قضية الأكراد سياسياً وإعلامياً الورقة الأخيرة الرابحة بيد الدول التي لا ترغب في انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقد أعلن عبد الله أوجلان تخليه عن الخيار العسكري ورضاه بحكم ذاتي داخل إطار دولة تركية موحدة، وأبدى استعداده للمحاكمة الأوربية أو الدولية؛ لأنها فرصة لإحراج تركيا الأتاتوركية وفضح سياساتها الداخلية وقمعها وقتلها وتشريد الشعب الكردي في تركيا.
وأخيراً؛ فإن هناك ملاحظة مهمة وهي سيطرة وبروز الزعماء الذين يرفعون شعارات الماركسية حتى ولو لم يكونوا مقتنعين بها؛ والظروف الحالية لا تلائم الشعارات السابقة؛ لأنها لا تسمن ولا تغني من جوع بعد سقوط الاتحاد السوفييتي (السابق). وقد وصل الزعماء إلى قناعة أن الصراع المسلح لن يؤدي إلى كيان كردي بل الأوْلى هو المطالبة ببعض الحقوق واتخاذ الوسائل السياسية والإعلامية؛ وأرى أن هذه فرصة ملائمة للإسلاميين لتبني القضية الكردية؛ ولا أشك أن الطرح الإسلامي المتزن الذي يتبنى مظالم الأكراد سيكون له دور كبير في صحوة إسلامية عارمة في أوساطهم؛ لأنهم يعيشون مرحلة تغيّر يجب أن تستغل في صالح الإسلام واستنقاذهم من براثن الجهل والأفكار والمبادئ الهدامة التي ما دخلت عليهم إلا من باب الإحساس بقضيتهم وعدالتها. وإذا كان عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني PKK يدعو المؤتمر الإسلامي للتدخل؛ فهذا دليل يأس من تبني العالم بصدق لقضيتهم، وأن الأمل الوحيد لهم بعد الله هو عودتهم الصادقة إلى جذورهم الإسلامية؛ ليكتشفوا أن مشكلتهم هي مشكلة الأتراك والإيرانيين والعراقيين؛ لأن الهدف يتحد، والشعور يتماثل عندما يكون الهمّ هو الإسلام وثم القومية الكردية .



  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

548 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع