حلاق بغداد يسكت عن الثرثرة والكلام المباح

    

                       الغرامة لقصات المارينز

غيّرت الحرب نفسية المواطنين العراقيين فانتزعت الحب والنوايا الحسنة وزرعت الخوف في البعض والروح الإجرامية في البعض الآخر، أولئك الذين يستغلون ضعاف الحال لتحقيق مكاسب مالية من الاختطاف ودفع الإتاوة وتحقيق مآرب سياسية لمن يدفع لهم المال، تلك هي الحرب لا ترسم إلا البشاعة بين أبناء الشعب الواحد والحي الواحد وبين الحلاق وزبونه، الحلاق الذي عرف عنه أنه مذياع الحي ومنشط لزواره في محله يزرع بينهم البسمة، اليوم سكت عن الثرثرة ليقي نفسه من الظلم.

العرب فيصل عبدالحسن:قرأ الملايين من العراقيين قصة “الحلاق الثرثار” في مطالعة الصف الرابع ابتدائي في مدارس العراق، واعتقدوا أنَّ كل حلاق في العراق ثرثار بالضرورة.

وبالفعل كان الحلاق، الذي عرفناه في السبعينات من القرن الماضي ميالا للحديث في شتى أمور الحياة مع زبائنه. يجامل هذا وذاك، ويتبادل معهم أطراف الحديث في شتى الموضوعات، لكي لا يضجر المنتظرون دورهم في الحلاقة. ويحاول في كلامه أن يصير مصلحا اجتماعيا ومدافعا عن الحق والتَّقاليد، ينقل أخبار هذا وذاك في الحي ليبرر انقطاعهما عن المجيء إلى دكانه، ويتناول في أخباره ما هو طريف يضحك الحاضرين، وما هو حزين، فيجعلهم يعتبرون بما جرى لغيرهم.

ويقول بعضهم نكتا غير محتشمة، ولكن الوضع تغيّر اليوم، وحل الصمت في صالونات الحلاقة في بغداد لتحاشي تفسير كلامهم وتأويله بشكل خاطئ من قبل البعض، فيعرّضهم ذلك للقتل. وقيدت الكثير من قضايا قتل الحلاقين في بغداد ضد مجهول، وسجلت حوادث قتل قليلة للحلاقين في بغداد في السنتين الأخيرتين، لكن معظم عمليات القتل حدثت سابقا لأسباب طائفية أو لتحريم البعض مهنة الحلاقة واعتبارها من المهن التي تعلم الشباب الميوعة والتشبه بالغربيين، ولقي أحد الحلاقين في بداية العام الماضي بمنطقة الشعب نحبه بطلق ناري من مجهولين، لأنَّه حلق شباب المحلة بطريقة حلاقة المارينز، وسمى صالونه “حلاقة الحرية”.

وفي أوج الأحداث الدامية في 2006 وإلى اليوم راح أكثر من 500 حلاق كضحايا بمختلف المحافظات، وسجلت أكبر نسبة من الضحايا في بغداد التي سقط فيها أكثر من 150 حلاقا، وأكثر مناطق بغداد ضحايا هي منطقة الشعب، التي سقط فيها أكثر من 35 حلاقا.

وبسبب ذلك أغلق معظم الحلاقين محلاتهم وغيروا مهنهم، وصار من الصعب إيجاد حلاق لحلاقة شعر الرأس أو تحسين اللحية خصوصا بمنطقة الشعب في ذلك الوقت.

وتحسنت الأحوال قليلا بعد ذلك، لكن مهنة الحلاقة فقدت حضورها الإنساني كما كانت في السنوات قبل 2003، إذ كانت محلات الحلاقين مراكز لتجمع أبناء المحلة، خصوصا بعد الفطور في شهر رمضان للعب لعبة المحيبس الشهيرة، أو للحلاقة قبل العيدين، وصارت كلمات كثيرة محرّمة لا ينطقها الحلاقون أثناء مزاولة عملهم في حلاقة زبون ما.

وتغيّر وضع الحلاقين هذه الأيام بسبب ما حدث في العراق وصار كل واحد منهم يحاسب من قبل الآخرين على أي كلمة ينطق بها، فتؤخذ كلماته على غير ما يعني وتتسبب له بمشاكل كثيرة. واستمر الوضع على ما هو عليه بالرغم من توقف العنف الطائفي بسبب ضعف أجهزة الدولة وظهور العشائر في المجتمع كقوة مسلحة وبأفكار بدائية.


خادمك الصغير

يقول علي عقاب (30 سنة) حلاق بمدينة الشعب لـ”العرب” عن المصطلحات الجديدة التي يمكن أن تثير المشكلات للحلاق على سبيل المثال تسمية “شروكية” (من الشرق) التي تعني اليوم شتيمة لقطاع واسع من العراقيين ولدوا ويعيشون في شرق وجنوب العراق. وقد يضطر قائلها إلى دفع فصل عشائري لا يقل عن دفتر (عشرة آلاف دولار) لمن ينعت بها ويهدد عشائريا بالقتل إنْ لم يدفع المال.

وكذلك تسمية “محسقل” التي تعني البخيل، وتم اشتقاقها من اسم “حسقيل” أول وزير مالية للدولة العراقية من اليهود والذي كان حريصا جدا على أموال الدولة.

ويستطرد عقاب قائلا “صارت كلمة محسقل تعني شتيمة لأهل الموصل، والأملح التي كانت تعني الأسمر غدت شتيمة لأهل مدينة الصدر، وحسياوي التي كانت تعني سكان منطقة الإحساء صارت تعني لمن يسمى بها المزاول لأعمال لا تليق بالرجل”.


لا ود بين الحلاق وزبونه
ولذلك يقوم الحلاق اليوم بعمله صامتا، يؤديه بحركات روتينية دون البهجة السابقة التي كنا نحسها في التسعينات عنده، وهو يحلق لزبائنه.

وإذا طلبت منه شيئا أجابك بتصنّع “خادمك الصغير”، هو بالطبع لا يعني الكلمة، أو لا يعي معانيها “لكنه يريد أن يتّقي شر الزبون”، مثلما قال عقاب.

ويقول الحاج زبون (70 سنة) “صار الزبائن أشرارا وفقدوا تلك الطيبة العراقية المعروفة عنهم، فهم يفسرون كل كلمة تقال لهم بغير قصد بشكل سيء، مما يعرض من يتعامل معهم للكثير من المشكلات”.

ويضيف زبون، مبررا وجوده الدائم في صالون ولده، “لا أفارق ولدي في عمله لتفادي أي مشكلة تحصل بينه وبين الزبائن. الناس تغيروا كثيرا منذ العام 2003. صارت أي كلمة في غير مكانها تؤذي مشاعرهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى الفلتان الأمني في بغداد وانتشار السلاح وطبيعة العراقيين الخشنة في التعامل مع بعضهم ساعدت على حدوث الكثير من المشكلات التي يمكن تحاشيها بكلمة طيبة وتصرف صحيحين”.

وأضاف الحاج “ولدي حوصلته ضيقة (غير صبور) لا يحتمل كأفراد جيلنا، قال هذه الجملة ضاحكا”.

والحاج زبون دائم الجلوس في صالون ولده مظفر صامتا، ينظر بريبة وقلق لكل وافد جديد للصالون، فهو يترك البيت صباحا ليأتي مع ولده من منطقة الأمين الثانية متوجها إلى بغداد الجديدة التي يقع فيها محل ولده.

وهو لا يملُّ من مزاولة مهنة “ملطف الأجواء” في صالون ولده، ويبقى هكذا معه إلى ساعة متأخرة من الليل، خصوصا في الليلة التي تسبق عيد الأضحى أو الفطر بسبب اكتظاظ المحل بالزبائن.


جمع الإتاوات

يقول الباحث الاجتماعي مهند حسام “برزت بعد 2003 فئة جديدة من رؤساء القبائل في العراق يتعيّشون على المشاكل بين أفراد عشائرهم وغيرهم من المواطنين، فهم يتبنون أي قضية حتى لو كانت تافهة لأي فرد من أفراد العشيرة، حتى لو كان الكلام غير مقصود بنية سيئة للحصول على فصل عشائري من المقابل”.

وأضاف “رئيس القبيلة أو الفخذ له نصف مبلغ الفصول أو الحشوم مع الآخرين، التي يتم تحصيلها منهم، أي إذا كان الفصل العشائري عشرة ملايين دينار (الدولار 1250 دينارا) ينال الرئيس خمسة ملايين دينار ولذلك صارت المسألة أكل عيش ومهنة لمن لا مهنة له. وهذا بالطبع بسبب عدم اكتمال بناء مؤسسات الدولة، وغرق الأجهزة الأمنية في الفوضى والفساد والرشوة. وكذلك بسبب الفقر، الذي ارتفعت نسبته في العراق إلى أكثر من 30 بالمئة، كما أن الأمية ارتفعت إلى أكثر من 40 بالمئة، وكلها عوامل زادت من المشكلات الاجتماعية وتعقيدها، وسهلت عمل الوسطاء ونمو فئة في المجتمع كرؤساء قبائل، وخيرون (جمع خير) وسادة (جمع سيد) لحل المشكلات والتوسط لعقد جلسات مصالحة بين الأطراف المتخاصمة”.


ويشير حسن ناظم، وهو ضابط سابق في الشرطة، إلى الموضوع بقوله “في الحقيقة الكثير من عمليات القتل التي كانت ولا تزال تطال الحلاقين في العراق وبمختلف المحافظات، هي حوادث جنائية ومعظمها ناجم عن مشكلات ثأر والبعض الآخر من تدبير السياسيين، لإثارة الفتن الطائفية بين العراقيين، فهم يبعثون من يغتال حلاقا من منطقة معينة، وآخر من منطقة ثانية، فيظن الجميع أنَّها جرائم طائفية لزعزعة الأمن الداخلي نكاية في الحزب المعادي لهم لتسلّمه مسؤوليات وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية في تلك المناطق. وبعضها تقوم به ميليشيات غير منضبطة وجماعات إرهابية لإشاعة البلبلة بين الناس وعصابات الجريمة المنظمة الغرض منها التخويف لجمع إتاوات لحماية بعض التجار، فهي رسالة للأغنياء يدفع ثمنها العديد من الحلاقين الفقراء.”


حلاق أيام زمان

يتحسر ناصر جواد، (67 سنة) حلاق بمدينة الصدر، وهو يطلق تنهيدة كبيرة عندما يتذكر أيام زمان وكيف كان الحلاق محترما في المجتمع، ولا تقام وليمة في الحي دون حضوره فيها، فهو كان المضمد، وقالع الأسنان، والحلاق، و”المطهرجي” (من يقوم بختان الأطفال الذكور) للحي.

ويتذكر جواد أنواع الحلاقة السابقة التي لا يرغب بها الناس اليوم “كحلاقة درجة وزلف طويل للأطفال، وجلد بالموس لكبار السن وحلاقة الكعكولة، وهي حلاقة بترك خصلة شعر طويلة تتدلى على الجبهة وتخفيف باقي الشعر، وحلاقة ‘البرجم’ وهي قصة المعلمين والمثقفين سابقا، وحلاقة البروص لإخفاء الشيب من جانبي الرأس وغيرها”.

ويضيف، أما اليوم، فهناك طلبات كثيرة لقصات يطلبها الشباب، كقصة ونصف، وهي حلاقة تشبه قصة “عرقجين” القديمة، التي نضع فيها على الرأس عرقجين (غطاء للرأس) ونحلق جزء الشعر غير المستور من العرقجين، وتختلف من واحدة إلى أخرى بتصغير دائرة الشعر الباقية في قمة الرأس وتهذيبها. ويطلب بعض الشباب قصة المارينز، نسبة إلى طريقة حلاقة جنود المارينز، والبعض الآخر يطلب قصات تواليت، وبكلة وطوبة، وغيرها من طرق الحلاقة الحديثة”.

ويؤكد عمار ذياب (30 سنة) حلاق سابق بمنطقة باب المعظم، أن معظم عمليات الاغتيال تمت بسبب طلب الثأر وكذلك للابتزاز، وذكر لـ”العرب” “أنَّه في العام 2008 تعرض للخطف أثناء عمله في محله، وبقي لدى الخاطفين لفترة أسبوع وافتدته عائلته بعد ذلك بخمسة ملايين دينار، كانت حينها أجرة حلاقة الزبون ألفي دينار فقط، وليس كما هي اليوم بين 10 و30 ألف دينار”.

ويقول عمار “أخبرتهم بذلك، وقلت لهم من أين يأتي أهلي بالمبلغ الكبير المطلوب؟ لكنهم أصروا على المبلغ، فاضطر أهلي إلى الاقتراض لجمع المبلغ، وتم افتدائي، وأطلقني المختطفون بعد استلامهم المبلغ، ومنذ ذلك اليوم وأنا عاطل عن العمل لا أتجرأ على العمل في أي دكان حلاقة بالرغم من أنَّ الأحوال الأمنية في بغداد صارت أفضل من السابق”.

ويقول سعيد محمود، وهو باحث نفسي عن ظاهرة صمت الحلاقين وتركهم الثرثرة مع الزبائن كما كانوا يفعلون قبل 2003، إن “مردّ ذلك يعود إلى ما أسميه بقضم القطة للسان، كناية عن الصمت بسبب عقدة نفسية قضمت القطة ألسنة الحلاقين، وهو مرض نفسي أصاب بعضهم من كبت القلق ومجموعة من المخاوف، وتوقع الأسوأ، فتحول إلى مرض نفسي يمنع المصاب به من الكلام، فيصير كلامه محدودا، فإذا تكلم معه أحد أجاب على قدر السؤال وبشكل مقتضب جدا، ليغرق بعد ذلك في عالم افتراضيّ من خياله، فيظنه المتكلم ينصت له، لكنه في الحقيقة يسبح في عالم آخر غير عالمنا”.

ويستطرد محمود قائلا لـ”العرب”، “وهذا المرض النفسي شكل من أشكال الخرس الإرادي يحدث عادة للأطفال حين يرون مشكلات كبيرة تحدث بين الأم والأب في المنزل أمامهم، فيتعرضون بسبب ذلك إلى صدمة نفسية تؤدي بهم إلى الصمت التام، ويحتاجون إلى عدة شهور من الجلسات النفسية مع أطباء متخصصين لكي يحاولون إعادتهم للكلام مرة أخرى”.

وأضاف سعيد “ما حدث من عمليات قتل للحلاقين بسبب التطرف الديني والسياسي جعل الكثيرين منهم، من باب الحفاظ على الذات، وهي وسيلة دفاعية غريزية، يحجمون عن التعليق على أي موضوع أو قضية تعرض أمامهم، مفضلين الصمت على الكلام، ولذلك يحتاج الكثير منهم إلى جلسات نفسية لإعادة الثقة إليهم، وبعث الأمل فيهم، وتذكيرهم بأن الماضي كان قبيحا جدا، وأنّ الحياة مفعمة بالأمل وبغد أفضل أيضا”.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

734 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع