ملجأ العامرية .. الذاكرة الحزينة

                 

الصدى/غسان العسافي:الذاكرة الحزينة للعراقيين تختزن العديد من الذكريات و المناسبات و الأحداث المؤلمة و الحزينة، أي كان عمر الشخص، و جنسه، و دينه و مذهبه، و طائفته، و عرقه، و سكنه و مرجعيته، لكن بإعتقادي أن الأكثر إيلاما و حزنا أن يقتل أناس أبرياء و هم يلجأون إلى مكان ما أو ملجأ يحميهم من صواريخ و قنابل القصف الأمريكي المجرم، و هم يحاولون أن يلتجئوا، النساء و الأطفال و الشيوخ و العجزة بشكل خاص، ليقضوا ليلتهم في مكان كانوا يعدونه أكثر أمنا من بيوتهم و منازلهم، لكن العدالة و الديموقراطية الأمريكية أبت إلا أن تلاحقهم أينما هربوا و حيثما إلتجأوا، و إستخدمت معهم أحدث ما لديها من صواريخ و عتاد، و كانت حجتهم إنه كان موقعا عسكريا أو مقرا مخابراتيا، سرعان ما تبين و أعترفوا هم أنفسهم بخطأهم و جرمهم و كذبهم، لكن بعد فوات الأوان، و بعد أن صعدت إلى السماء حوالي ٥٠٠ روح شاء رب العالمين أن تنتقل إلى الرفيق الأعلى في ذلك اليوم، و تلك اللحظات القاتلة الدامية الحزينة المؤلمة ..

تاريخيا، قامت الحكومة العراقية في أوائل الثمانينات ببناء ما مجموعه ٣٨ ملجأ في العراق، و ربما كان ذلك في ظل إمتداد و إستمرار الحرب العراقية الإيرانية و تطورها و توسعها، و قامت شركات دولية من يوغسلافيا و الهند و فنلندا ببناء هذه الملاجئ، و كانت إحالة العقود تتم وفقا لرؤية سياسية تفضل بموجبها التعامل مع دول كانت تعتبر صديقة للعراق و مناصرة و مؤيدة للقضايا العربية، أو على الأقل محايدة ..

ملجأ العامرية بالذات قامت بتنفيذه شركة فنلندية هي شركة YIT , و هي شركة كانت قد نفذت بعض المشاريع في العراق مثل مشروع الجزيرة السياحية، و كانت فنلندا في حينها تعتبر من الدول الصديقة للعراق، حيث أحيل لاحقا مشروع قصر المؤتمرات الضخم إلى عدد من الشركات الفنلندية أيضا ..

و جدير بالإشارة و العلم و التأكيد، أن ملجأ العامرية كان مصمما بحيث يقاوم الأسلحة غير التقليدية، و يقاوم الأسلحة الكيميائية و الجرثومية و الإشعاعات الذرية، و إن جدرانه الكونكريتية المسلحة بالحديد كانت بسماكة متر و نصف، و أن بابه الرئيسي كان يزن أكثر من ٥٠٠٠ كيلوغرام من الحديد، فهنيئا للوحش الأمريكي الذي إستطاع أن يحقق إنجازا عسكريا فريدا متميزا، بالتغلب على كل هذه العقبات، ليقتل مئات من الأطفال الآمنين و النساء الآمنات، في حي آمن من الأحياء المدنية السكنية في بغداد السلام، و بإستخدام طائرة الشبح كما علمنا التي لا تكشفها الرادارات ، و لا الحواس الخمسة لنساء و أطفال و شيوخ العراق ..

بني ملجأ العامرية على مساحة أرض مقدارها ٥٥٠ متر مربع، و هو مكون من ٣ طوابق، و كل طابق مساحته ٥٠٠ متر مربع، و بجدران سميكة جدا و مصنوعة من الكونكريت المسلح و يتخلله عوارض حديدية ، و سمك كل سقف من السقوف التي تفصل الطوابق الثلاثة يصل إلي ١،٥ متر من الكونكريت المسلح بالعوارض الحديدية، و سمك كل عارضة حديدية من ٣ إلى ٤ سنتيمتر ..

و هذه الجدران ، سواء السقوف أو الجدران الفاصلة بين القاعات، سواء الداخلية أو الخارجية، معززة بجدران مزدوجة يستطيع الجدار الخارجي أن يمتص معظم طاقة الضربة المباشرة، و كذلك كل طاقة الضربة غير المباشرة، و كذلك الجدار الثاني يمتص ما تبقى من طاقة الضربة الأولى و حتى الثانية، و بذا لا يتأثر المدنيون الذين يهرعون للإحتماء في هذه الملاجئ من آثار القصف و القنابل و خاصة القنابل الذرية و الكيمياوية و غيرها ..

و قد رسمت على أسطح هذه الأبنية و منها ملجأ العامرية ذاته، علامات محذرة و منبهة تشير إلى أنها ملاجئ مدنية ، و حجم هذه العلامات كبير جدا بحيث يمكن رؤيته بالعين المجردة من مسافات عالية من الجو، كما أنها تري بوضوح بواسطة الأقمار الصناعية، و وضع كل ما يظهر للآخرين، في البر أو الجو، أن هذا هو ملجأ مدني يستخدم لحماية المدنيين العزل ..

و كانت الطاقة الإستيعابية لهذا الملجأ حوالي ١٠٠٠ شخص، و كانت تتوفر في الملجأ جميع الخدمات و الرعاية الصحية و الأغذية و المياه الكافية لفترات طويلة، و أقسام و معدات للترفيه و الترويح عن الأطفال، و غير ذلك ..

و قد تردد أبان الهجوم الأمريكي الغاشم على ملجأ العامرية، أن الشركات الفنلندية المعنية قامت بتزويد الأمريكان بمخططات الملجأ، خصوصا و أن الأمريكان عرضوا مخططات و مقاطع من الملجأ و الرسومات الهندسية له، و التي يفترض إنها كانت سرية، في مؤتمرهم الصحفي اليومي الذي كانوا يعرضون فيه إنتصاراتهم المزعومة، و مما عزز هذا الإفتراض قيام أحد العاملين الفنلنديين في الشركة بتقديم تصريح للتلفزيون الفنلندي يؤكد فيه أن الملجأ كان يستخدم للأغراض العسكرية و ليس المدنية، مبررا بذلك الفعل الأمريكي الجبان، و هو التبرير الذي إعتمدته القوات الأمريكية في حينها و الذي إعترفت لاحقا ببطلانه، على الرغم من أن البعض ممن يحملون الجنسية العراقية للأسف لا زالوا يرددون هذا التبرير و الإتهام الباطل، و جاء هذا كله في الوقت التي كانت فنلندا عضوا في مجلس الأمن و من الدول التي ساهمت بفاعلية في صياغة كل القرارات المعادية للعراق في حينها، بل و قد إدعى وزير خارجيتها حينها أن تصويت فنلندا على القرار ٦٧٨ كان عاملا حاسما في تبنيه كون فنلندا تعتبر بلدا محايدا، و بتصويتها لصالحه شجعت الدول المحايدة الأخري للقيام بنفس الفعل ..

لقد أنكر البنتاغون و أنكرت فنلندا دورهما الخبيث، و كالعادة و بتأييد من حملة الجنسية العراقية الزائفة خونة الملح و الزاد و الأرض، برروا العمل الجبان بأن هذا الموقع كان مقرا عسكريا، و في آخر المطاف و بتأكيد من المراسلين الصحفيين العرب و الأجانب الذين كانوا متواجدين في حينها، و الذين تمكنوا من نقل صور حية لهذه الجريمة البشعة، إضطر البنتاغون إلى الإعتراف بالجريمة التي إرتكبها بحق الشعب العراقي، و كالعادة حاولوا تبريرها بالخطأ و ليس القصف العمد، كما أوردت صحيفة الصنداي تايمز في عددها الصادر يوم ١٧/٢/١٩٩١، أن مصدرا رفيعا في البنتاغون أبلغها بأن وزارة الدفاع الأمريكية تعترف بإرتكابها خطأ في قصف الملجأ العراقي، و أن المعلومات التي تم بموجبها تشخيص المكان كملجأ أو موقع عسكري كانت قديمة ..

في الساعة الرابعة و النصف من فجر يوم الثلاثاء الثالث عشر من شهر فبراير / شباط عام ١٩٩١، أي قبل ٢٦ عاما بالضبط، قام الطيران الأمريكي المجرم بقصف الملجأ رقم ٢٥ في حي العامرية، غرب مدينة بغداد، عندما نفذت القنبلة الثانية إلى الطابق الأرضي حيث ينام الملتجئون بأمان، و كان الإنفجار، و كان الحريق، و أغلقت الأبواب، فلا يدخل منجد و لا يخرج طالب نجاة، فجدران الملجأ صممت لتعزل من هم بالداخل من أي إنفجار، لكنها هذه المرة حبستهم في داخل الملجأ ليلقوا حتفهم بالموت حرقا ..

و كما ذكرت عدد من التقارير، فأن حفلة الشواء هذه نفذتها الطائرات الأمريكية بأسلحة و صواريخ و معدات خاصة و متميزة، لتتناسب مع خصوصية هذه المناسب، حيث تذكر التقارير أن طائرتين من طراز أف ١١٧ مزودتين بقنابل صنعت خصيصا لمثل هذه العمليات من نوع جي بي يو ٢٧، و القنبلة من عيار ٢٠٠٠ رطل، نصف خارقة، مقدمتها تتكون من كتلة معدنية مخصصة لإختراق الأهداف الخرسانية، موجهة بالليزر، مع تشكيل من طائرات الحماية و الحرب الألكترونية المتقدمة، لتصل إلى الملجأ و تطلق عليه صاروخين من خلال فتحة التهوية الخاصة به، ليحدث الصاروخ الأول فتحة يمر من خلالها الصاروخ الثاني لإحداث ضغط يغلق الأبواب و المخارج، مما يمنع المحتمين من الهرب كما يمنع المنفقذين من مد يد العون ..

لقد صمم و نفذ الأمريكان بقيادة جورج بوش الأب حفلة شواء حية، أو كما يسمونها ب B B Q , أو البار بي كيو، لكن هذه المرة كان الشواء لأناس أحياء أبرياء، نساء و رجال، أطفال و شيوخ، عراقيين و عرب، و ما أعتقده إنهم كانوا يتمتعون برائحة الشواء تلك و لا زالوا ..

إختلفت التقارير في تحديد أعداد ضحايا تفجير و حرق الملجأ، فالبعض يحددها بحوالي ٤٠٠ شخص، و آخرين يقدرونها بأكثر من ألف شخص، و البعض يقول إنه إعتاد أن يقضي ليلهم في هذا الملجأ حوالي ٤٠٠ عائلة، أو بحدود الألف شخص أو يزيد، إلا أن أغلبية التقارير حددت العدد بشكل ما و إتفقت على رقم ٤٠٨ أو ٤١١ شخص لقوا حتفهم حرقا و شواءا، بينهم ٢٦١ من النساء تقريبا، ٥٢ من الأطفال تقريبا أصغرهم طفل رضيع عمره سبعة أيام فقط و لم يتم إيجاد أي أثر له و لا صورته، هذا إضافة إلى ٢٦ مواطن عربي، علما أنه من بين هؤلاء القتلى،

و نظرا لضخامة و جسامة الإنفجارات و الحريق، لم يتمكن رجال الإطفاء و الحريق و الدفاع المدني من إخلاء الجثث أو المتبقي منها بالكامل، فقط ٣١٤ جثة متفحمة غير واضحة المعالم، و المتبقي و عددها ٩٤ تحولت كما يبدو إلى أشلاء و بقايا آدمية ودماء و عظام أو ربما تبخرت من شدة الحرارة، و أنا أتفق مع الرأي أن العدد الكلي تقريبي و لا يمكن تحديدة نظرا لضخامة و جسامة الإنفجارات و الحرائق التي لم تبق و لم تذر كما يقولون ..

في حينها، تحول الموقع إلى متحف حي، ربما يمكن تسميته بمتحف الموت، تخليدا لأرواح الشهداء الأكرم منا، و تأبينا لهم و للمعاني السامية، و ليبقى الموقع حيا في ذاكرة العراقيين و الزوار الأجانب لتخليد هذه الجريمة الشنعاء، للأسف الشديد سمعنا أن حكومة العراق في ظل الإحتلال، ما بعد ٢٠٠٣، كما يبدو خضعت لأوامر تقضي بأن تمحى هذه الواقعة الدامية من الذاكرة العراقية الحديثة، حيث تم إغلاق المتحف و إزالة المبنى حسب ما سمعنا، و هذا أقل ما نتوقعه من هكذا حكومة و هكذا أشخاص ..

أن جريمة محرقة ملجأ العامرية، التي نفذتها أميركا بتميز و تفرد هي ليست الأولى في تاريخ هذه الدولة و لم و لن تكون الأخيرة، بعض التقارير تذكر أمثلة عديدة عن مثل هذه الأفعال الإجرامية الإنتقامية المتوحشة، منها مثلا و بنفس التاريخ تقريبا من عام ١٩٤٥ في أواخر أيام الحرب العالمية الثانية، بتاريخ ١٣ فبراير أيضا، حيث قام الطيران الحربي البريطاني و الأمريكي بتدمير مدينة درسدن الألمانية، عندما شن غارات وحشية أستخدم فيها ما يقارب من ١٣٠٠ طائرة مقاتلة و قاذفة على مدار يومين لإحراق هذه المدينة و تحويلها إلى قطعة من جحيم، حيث إستخدمت قنابل النابالم و القنابل الحارقة المحرمة بالإضافة إلى ما يربو على ال ٣٣٠٠ طن من المتفجرات، نتج عنها إحتراق مركز المدينة بشكل تام و إحتراق الآلاف من الأبرياء نتيجة الحرارة التي وصلت إلى ١٨٠٠ درجة فهرنهايت، كما أدى ذلك إلى إمتصاص الأوكسجين الموجود في الهواء و هو ما أدى بدوره إلى إختناق الآلاف من البشر، و لم يكتفوا بذلك بل فعلوا ما نراه يحدث كل يوم في فلسطين و العراق، حيث منعوا أجهزة الإنقاذ من مساعدة الضحايا فألقوا القنابل على عربات الإطفاء و الإسعاف، و كان الختام متابعة و ملاحقة المدنين الفارين بالطائرات و قتلهم بالرشاشات الثقيلة، و كل ذلك لنشر الخوف و الذعر و الرعب بين الناس إظهارا لجبروتهم و قوتهم ليس إلا، و كذلك ما فعلوه لاحقا في فيتنام و كوريا، و في مدينتي ناكازاكي و هيروشيما اليابانيتين، و تدميرهما بعد إعلان إستسلام اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية، كل ذلك يؤكد ما ذهبنا إليه ..

ستبقى جريمة قصف ملجأ العامرية نقطة سوداء في جبين الحضارة البشرية، و الحضارة الغربية، و في صحائف كل من كانت له علاقة، سواء من قريب أو بعيد، بهذه الجريمة البشعة التي يندى لها الجبين، و ستبقى ذكرى الضحايا حية في قلوبنا و ضمائرنا و أمانة في أعناقنا يتوجب علينا تسليمها من جيل لآخر، فالمجرم الحقيقي ليس شخصا بذاته أو نظاما منفردا، بل كل عنصر ساهم في الإعداد و التخطيط و التنفيذ لهذه الجريمة، و ساعد و سهل ذلك، بما في ذلك المعلومة الإستخباراتية الكاذبة التي إدعى المجرومون إنهم إستلموها من مصدر موثوق في بغداد، عبر وسيط مصري عن إجتماع مزعوم للقيادات العسكرية في الملجأ، و مرورا بتسريب مخططات الملاجئ من قبل الشركة الفنلندية المصممة، و إنتهاءا بالتعتيم الإعلامي على حجم الجريمة من قبل الإعلام الدولي، و على كل مواطن عراقي شريف أن يحفظ الأمانة و يديم الذكرى حية عبر الأجيال ..

تأكدوا تماما أن تلك الأرواح البريئة لن تهدأ و لن ترتاح حتى يتم الإقتصاص من كل من وقع تحت طائلة الحساب و المسؤولية في الدنيا و الآخرة ..

رحم الله شهداء ذلك الفجر القاتم الحزين، و رحم موتانا و موتى المسلمين و كل الأبرياء الشرفاء الذين لم يبيعوا أنفسهم و لم يفرطوا بأرضهم و لا بعرضهم ..

بسم الله الرحمن الرحيم ..
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
صدق الله العظيم ..

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

839 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع