'غني لي' فيلم عراقي ينجو من فخاخ الخطابة والميلودراما

                

                     عشق مقدس للعراق الذي كان

بسطور من قصيدة “طباق” عن إدوارد سعيد، يبدأ الفيلم الوثائقي العراقي “غني لي”، وبأغنية أم كلثوم “غنّي لي شويّ شويّ” ينتهي، لن نسمع صوت أم كلثوم في نهاية الفيلم، ولكنها حاضرة بأغنية يرددها عشاق الحياة في بغداد قبل الحروب الأخيرة وما تلاها من حصار واحتلال.

العرب - سعد القرش:لا نسمع في الفيلم الوثائقي العراقي “غني لي” لمخرجته سما وهّام، محمود درويش يردد “أنا من هناك، أنا من هنا، ولست هناك، ولست هنا، لي اسمان يلتقيان ويفترقان، لي لغتان، نسيت بأيهما كنت أحلم”، إذ كتبت كلمات القصيدة بخط أبيض خجول فوق شاشة سوداء، على خلفية خرير ماء جار، قبل المشهد الأول من فيلم يستدعي أعمق مآسي العراق بعذوبة، وينجو من الاستسلام لفخاخ الخطابة السياسية أو الميلودراما الفاقعة.

                                                     

كان على مخرجة الفيلم سما وهّـام أن تبحث بذكاء عن حل فني، وهي تناقش قضية الهوية، ومعنى أن يكون الوطن وطنا وقد خلا من الأصدقاء وتغيرت ملامح الأحياء والشوارع والبنايات، وتحولات بلد لم يعد صدره يتسع لأبنائه، وأصبح طاردا لطوائف وأقليات مسالمة، وقاتلا لأخرى، فلا يعرف المشتاقون للعودة إلى العراق سبيلا، بمن فيهم مخرجة الفيلم وقد غادرت العراق وعمرها سنة واحدة، وعاشت في مدن لا تشبه بغداد، واستقرت في كندا، وأرادت أن تتواصل مع روح جدها في بغداد.

وحين استحالت رحلتها إلى بيت جدها، قررت أن تصور طريقها إليه، عبر مقابلات مع أصدقائه، واستعانت بسينمائي من سومر لتصوير المشاهد العراقية، في فيلم “مسكون” إلى حد المرض بالعراق الذي كان مثالا للتنوع العرقي والديني، ثم صار مسرحا للعنف الطائفي، وارتفعت جدران التمييز أعلى من الحواجز الخرسانية.

تنتمي مخرجة الفيلم سما وهّام، التي تعمل أستاذة للإخراج والتصوير في جامعة بافالو الأميركية، إلى المندائيين، وهم أتباع النبي يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا)، طائفة قديمة تمارس طقوس التعمد بالماء الجاري، النهر الذي يسمونه في صلواتهم “يَـرْدِنا”، ويصلهم بالسماء، تتناسل الطائفة ولا تنقرض على الرغم من تحريمها لحمل السلاح ولو دفاعا عن النفس، ورفضها التبشير، بل يخرج من الطائفة من يتزوج من خارجها.

شروط قاسية إلاّ أن المؤمنين بالديانة المندائية حافظوا على خصوصية العقيدة، وصانوا تاريخ السلالة، طوال أكثر من أربعة آلاف عام تعرضوا فيها لاضطهاد وحروب إبادة، ولاذوا بالنهر، ثم كان منهم أول رئيس لجامعة بغداد، في عهد عبدالكريم قاسم “الرجل العادل والنزيه الوحيد الذي حكم العراق في تاريخه الحديث”، وبعد انقلاب البعث على قاسم، طورد رئيس الجامعة واعتقل لمدة سنة، ثم ترك العراق، ومات في الغربة، مريضا بالوطن.

لجأت المخرجة إلى حل فني يتمثل في شريط “كاسيت” كان جدها قد أرسله، عام 1979، إلى أمها في الإمارات، واحتفظ الفيلم بنسخة الشريط بتسجيله الأصلي، وفيه يختلط صخب أطفال بصوت الجد وهو يخاطب ابنته عفاف وحفيدته سما التي لم تره إلاّ مرتين.

وفي الفيلم تقيم حوارا معه، وتتخذ من الشريط جسرا إلى العراق، وتواصلت مع سينمائيين في الداخل، وتأهبت للعودة إلى بغداد، لتصوير المقعد المفضل لجدها، والأشجار التي زرعها في حديقة البيت، وخططت لتشكيل فريق من السينمائيين، إلاّ أنهم أبلغوها بأن الرحلة لن تكون آمنة، فتجدد لديها الشعور بأنها صارت “بلا بلد”.

ومع ذلك، لا يصمد هذا الاعتراف الأخير الغاضب أمام ما يمثله جدٌ شاعر أورث الأم المحبة لأغاني فيروز تعاليم كونية، منها أن العلم “أمر مقدس”، وبدورها علّمت الأم ابنتها أن “الشعر عقيدة”، ووجدت الحفيدة/المخرجة عزاء في أن الأسئلة نفسها ربما تصير بلدا وهوية.

الجد رشيد ناشي صوته واضح، ولهجته العراقية سهلة، تختلط فيها الفصحى بالعامية المفهومة، وربما يحتاج القليل من الكلمات إلى بذل البعض من الجهد، أما أن يترجم كلام الجد كله، مكتوبا، إلى العربية الفصحى فربما يخدش كبرياء اللغة الطازجة للجد، وينال من تلقائيته وروحه المرحة.

أرادت المخرجة أن ترجع إلى عراق لا تعرف ملامحه، ولكنها تتنفس هواءه، واستعدت لتلمس آثار جدها، وتشهد آخر طقوس التعميد في النهر، إحدى “معجزات بلاد ما بين النهرين”، إلاّ أن هذا الحنين إلى بلد لم تعش فيه، وغادرته في سن مبكرة جدا، اصطدم بحقائق لم تتوقعها، إذ تم تحذيرها عام 2014 من الرحلة؛ فهي امرأة مندائية تحمل جنسية كندية، والعوامل الثلاثة تزيد من نسبة المخاطرة بالروح.

ساعد أحمد الهلالي أستاذ السينما بجامعة ذي قار المخرجة سما وهّام في تصوير المشاهد العراقية، وصارحها بأنه لن يستطيع تصوير مشاهد للتعميد، بعد نزوح المندائيين من الجنوب، وهجرة الكثيرين منهم، ولم يعد مندائي في جنوب العراق الذي ظنته المخرجة بمنأى عما تشهده البلاد من صراعات وحروب، بل إن عدد المندائيين في العراق يقل حاليا عن مثيله في السويد وأستراليا.

تجنب فيلم “غني لي” الذي يبلغ طوله 38 دقيقة وأنتجته وصورته وأخرجته سما وهّـام، استسهال الاستغراق في استعراض طقوس التعميد بالماء الجاري، مكتفيا بلقطات قصيرة، دالة وعميقة، تخاطب الجوهر الإنساني للمشاهد، ولا تدعوه إلى تعاطف ساذج؛ فليس ما يشاهده ميلودراما، وإنما تراجيديا لا تداعب غريزة السائح الباحث عن كل ما هو غرائبي.

فاز “غني لي” بجائزة الفيلم العربي الوثائقي الطويل في مهرجان الإسكندرية السينمائي الثاني والثلاثين لدول البحر المتوسط (من 21 إلى 26 سبتمبر الماضي)، وذلك لانتمائه إلى الإنسان، أيا كان دينه أو طائفته؛ فالمخرجة تقول إنها لم تتعمد في “يردنا” إلاّ عام 2004 في كندا، حين ارتدت “ثوب النور” أو “الرسته” وهو اسم ثياب التعميد البيضاء، كما أنها لم تعش محنة الاقتلاع والتهجير؛ إذ غادرت العراق في سن مبكرة، وإن طرح الفيلم أسئلة عن مشاعر من يضطر إلى الطرد من بلد له فيه ذكريات وتاريخ وبيت وأرض وأصدقاء.

مثل أغلب الأقليات العددية في العالم العربي، يسعى المندائيون إلى التميز والتفوق، وفي الشريط يخاطب الجد حفيدته سما ولم تكن قد أتمت عامها الأول، قائلا إن في العائلة الكثير من الأطباء، ويوصيها بأن تكون معمارية، “حتى تبني لنا بيتا حلوا”، ولكن الفيلم يترجم الأمنية الدافئة إلى فصحى فاترة “لكي تبني لنا بيتا جميلا”!.

وقد استجابت الحفيدة لنصيحة الجد، ودرست العمارة، إلاّ أنها كانت أكثر وفاء لصوتها الخاص، فانحازت إلى فن السينما، وحفظت صوت الجد، وعممت شجون العراق.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1207 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع