مئة عام على شقه في قلب العاصمة العراقية: شارع الرشيد: الشاهد الأول على الحياة العراقية سياسياً وثقافياً

        

مئة عام على شقه في قلب العاصمة العراقية: شارع الرشيد: الشاهد الأول على الحياة العراقية سياسياً وثقافياً

صفاء ذياب/بغداد ـ «القدس العربي»: مئة عام مرَّت على شق شارع الرشيد وسط مدينة بغداد، من أجل أن يكون شارعاً يسهِّل حركة القوات العسكرية التركية في طريقها بين منطقة الحكومة ووزارة الدفاع وسط المدينة، الشارع الذي يحاذي نهر دجلة في محاولة ليكون رئة أخرى للمدينة، تحوَّل خلال سنوات لشارع سياسي نفّذت في قلبه اغتيالات عدّة، كان آخرها محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، الرئيس العراقي الذي انقلب على الملكية ونفذ في رجالاتها أوامر الإعدام والتعليق على الشرفات، ومن ثمَّ قام بسحلهم في طرقات بغداد، غير أن فعلته هذه لم تمهله طويلاً، حتى انقلب حزب البعث عليه بعد خمس سنوات، ليتم اغتياله في شارع الرشيد أمام أعين الملأ، من دون أن يتحرّك أي مواطن لإنقاذ رئيسه الذي كان ينادي باسمه على مدى سنواته الخمس.
التحولاّت التي مرَّت على هذا الشارع كثيرة جداً، إلا أنه أصبح من أهم شوارع بغداد التجارية والثقافية والسياسية في الوقت نفسه، يقف على رأس الشارع المبنى الحكومي القديم (السراي)، وقبله وزارة الدفاع القديمة التي كانت مكاناً للقادة السياسيين الكبار على مدى أكثر من سبعين عاماً، وعلى بعد مسافة قليلة شق شارع المتنبي نفسه من ضلع هذا الشارع ليشكل أهم محطة للكتاب في العراق. ولم ينس المسرحيون مكانهم فيه، فأنشأوا منتدى المسرح الذي ضخ دماء جديدة في المسرح العراقي على مدى عقود طويلة، ومن ثمَّ كان للمقاهي الثقافية في هذا الشارع مكان خاص للنقاش والجدالات والمدارس الأدبية عراقياً، مثل مقهى أم كلثوم الذي أسس مطلع خمسينيات القرن الماضي، ومقهى الزهاوي ومقهى حسن عجمي وغيرها الكثير.
مئة عام من عمر هذا الشارع لخصّت تاريخ العراق الحديث، فكيف يمكن قراءته بعد كل هذه التحولات؟
مفردة بغداد الحضارية
ربما كان المعماري خالد السلطاني من أكثر الذين عشقوا شارع الرشيد معمارياً، فكتب عنه عشرات الدراسات التي فككت بنيته وقرأته من وجوه عدَّة، فيقول في حديث خاص لـ«القدس العربي»: «قليلة هي المدن التي يقترن مظهرها المتصور بشارع ما محدد فيها. فينوب، عند ذاك، شارع مميز في مخطط المدينة عن تمثيل كيانها الحضري في الخطاب». وتعد بغداد ضمن تلك المدن النادرة في هذا المجال، إذ يستحضر شارعها الجليل: شارع الرشيد، صورة تلك المدينة التاريخية إلى الذاكرة. ويضيف السلطاني: ثمة خصائص عديدة ومتنوعة، اشتركت في ما بينها لتجعل من هذا الشارع «أيقونة» المدينة ورمزها الحضري. وهذه الخصائص نابعة من طبيعة الشارع ذاته، وكذلك من خصوصية المدينة الواقع فيها. فالشارع كان الأطول في المدينة؛ و«نهره» المنساب من أول شمال بغداد، التي كانت، وقتذاك، مسورة، إلى آخر جنوبها، يحاذي انسياب نهر دجلة الموازي له والقريب منه، ذلك النهر الذي عُدَّ دائماً «جادة» المدينة الرئيسية، وطريقها الرئيسي منذ أن اختطت في منتصف القرن الثامن الميلادي، كحاضرة للخلافة الإسلامية ولتكون عاصمتها الشهيرة.
ويشير السلطاني إلى أن شارع الرشيد اكتسب اسمه في عام 1932، واشتهر به لاحقاً. لكن الشارع لم يكن معروفاً من قبل، بل لم يكن موجوداً أصلاً، قبل أن يهتدي إلى فكرته أحد القادة العسكريين الأتراك أثناء الحرب العالمية الأولى. وسرعان ما تم شقه ضمن النسيج المديني المتضام والمكتظ، ليفتتح في عام 1916 وسٌمي على عجل بـ»خليل باشا جادة سي» تيمناً باسم القائد العثماني صاحب الفكرة الجريئة. بيد أن شقه لم يكتمل في حينه، وأكمله الإنكليز لاحقاً، مطلقين عليه اسم «هند نبرغ» و«شارع النصر» ومن ثم «الجادة الجديدة». وما لبث هذا الاسم أن تبدل هو الآخر إلى «شارع الرشيد» عندما اتخذت أمانة العاصمة في حينها قراراً في إطلاق تسميات جديدة على شوارعها الرئيسية.
أما عن أهمية هذا الشارع، فيقول السلطاني إنها لا تنبع، كما أنها لا تقتصر فقط على طوله المديد، ولا على تماثل «نهره» مع مجرى النهر المحاذي له. إن أهميته تعود لكون الشارع (وتخومه… معاً) كانا يمثلان مركزاً إدارياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وترفيهياً مهماً ولفترات زمنية طويلة. فمنطقة الرشيد هي مركز الحكومة ومكان مقر معظم وزاراتها، بدءاً من الخارجية مروراً بالدفاع والصحة والأشغال والشؤون الاجتماعية، فضلاً عن أن القشلة المجاورة للرشيد كانت مكاناً لمقر رئاسة الوزارة ومقراً لوزارات عديدة، منها المالية والداخلية والمعارف والعدلية وغيرها. وتتجمع في منتصف الشارع العتيد أهم البيوتات المالية والمصارف الأهلية والحكومية، بضمنها البنك المركزي العراقي. وعلى امتداده، وخصوصا في منطقة الشورجة، كان الشارع يستحوذ على المقدرات الاقتصادية بأسواقه المختلفة والمتعددة الحافلة بالبضائع المتنوعة، ولهذا عُدّ الشارع بحق عصب الحياة الاقتصادية، ليس للمدينة فقط، إنما لعموم البلد، فضلاً عما كان يتمتع به الرشيد كونه مجالاً لنشاط ترفيهي مكثف لما يحتويه من دور للسينما هي الأشهر في العراق ولفترات طويلة، كما أنه المكان الأثير للنخبة المثقفة في عدد مكتباته الغنية بمطبوعاتها ومقاهيه المتنوعة بالإضافة إلى وجود مقار لمختلف الصحف وأمكنة طباعتها. والرشيد هو الحلقة الأهم في اتصالات ومواصلات شمال المدينة بجنوبها، وهو الممر الرئيسي الذي يصل الكرخ بالرصافة؛ وبه تصب معظم جسور المدينة الأساسية سواء القديمة منها أم الجديدة.
وفي مجال العمارة، تخصص السلطاني، يرى أنه تخطيطياً، عُد شارع الرشيد بمثابة المفردة الحضرية الرئيسية، وأهم حدث تخطيطي طال نسيج البيئة المبنية، وعلى غراره تم إنشاء شوارع عديدة، سواء في الرصافة أم في الكرخ، مثل شارع الكفاح والشيخ عمر والجمهورية بالإضافة إلى شارع 14 تموز. وفيما يخص القيمة المعمارية، فالرشيد ليس له مماثل في عموم مفردات التخطيط الحضري لمدينة بغداد. وظل المكان الأثير لتجارب معمارية طليعية، أسست لظاهرة الحداثة المعمارية في العراق. وعمارته المتنوعة ذات الأساليب الفنية المتعددة، كانت دوماً تقرأ بكونها «ألبوم» العمارة العراقية الحديثة. إذ إن معظم معماريي العراق الرواد، إن لم يكن جميعهم، عملوا في الرشيد، بدءاً من نعمان منيب المتولي وأحمد مختار إبراهيم، وحازم نامق ومحمد مكية وجعفر علاوي، وعبد الله إحسان كامل ومدحت علي مظلوم ورفعة الجادرجي وقحطان عوني وقحطان المدفعي وهشام منير وناصر الأسدي وغيرهم، ما يجعل من المنتج المعماري «الرشيدي» ليكون أفضل مجموعة معمارية حداثية في عموم العراق، وهي التي أعطت الشارع أهميته المعمارية والثقافية، بحيث بات الشارع بمنزلة ذاكرة العراق وخزين ذكرياته، بالإضافة إلى ما تتمتع به منطقة الرشيد من شواهد معمارية عديدة تعود إلى أزمنة مختلفة كالمدرسة المستنصرية وجامع الخفافين ومبنى القشلة، فضلاً عن وجود أمثلة مميزة لبيوت بغدادية بعمارة تقليدية، ما يضفي بعداً آخر على قيمة هذا الشارع وتخومه.
استنطاق الممكن
ومن وجهة نظر معمارية أخرى، فإننا كما يبدو نتأمل مشهدا يأفل حسبما يقول المعماري أسعد الأسدي، الأستاذ في جامعة البصرة، مشيراً إلى أن الأفول صنيعة غياب العناية، وبرهان ذلك ووثيقته. ومع أن شوارع المدينة شرايينها، غير أن الحياة لا تدوم فيها من دون تعمد. مضيفاً أنه من بين مثيلاته من شوارع بغداد، يمتلك شارع الرشيد ما يمده بلزوم العناية، في مدينة تعي قيمة ذلك، في توازيه مع دجلة وإمكان التواصل بينهما عبر فجوات، يمكن أن توظف استثمار مشهد النهر وإيقاظ الشعور به لدواعٍ ترفيهية. في رواقه المعمد، مقياس إنساني ودرس في الإحساس بالمكان، وإنتاج الظلال وإيواؤها، فرصة لتمشّي السابلة، حيث التمشّي من مهمات المدينة الحضرية. سعة الشارع، مثال في نمط الحركة العامة المدجنة. لغة عمارته ومفرداتها وهي تنسج نصّاً حسيّاً في تنويعات ثرية. أبنيته المختلفة علامات في تاريخ العمارة العراقية المعاصرة. ويؤكد الأسدي أن لشارع الرشيد حضوره في ذاكرة المدينة، يستعيده سكانها إذ يستعيدون وقائع يومية بمضامين اجتماعية تشغل أمكنته، وقد توفر قبل أن يأفل على تنوع في توظيفه، إذ يجد فيه من يسلكه كفاية نادرة، كان في عديد ممكناته الحضرية، مدينة في بحر شارع.
ويتساءل الأسدي: كيف غابت عنه الشمس؟ ليس فقط بأثر شروقها في أمكنة أخرى، ولكن لتصرف المدينة بموجودات الشارع ما جعل الشمس تغادره. حين تقطعت بعض نقاط وصله، وتهدمت أجزاء منه، ولم تحفظ أعمدته ورواقه إيذاناً بمكنة غيابه. مع أنه كان فردوس المدينة، حين كانت المدينة تسعى إليها وتدرك أناها. الأمر الذي غاب بسبب تناسيها أن تحفظ ذاكرتها. عندما تجاهلت أن تلم الشارع إلى النهر، في غير فضاء واحد، هجرت المدينة النهر، كما هجرت الشارع. ويتحدث الأسدي بمرارة في فشل حضرية بغداد في إدامة الحياة في شارع الرشيد، لكن ذلك لم يكن له أن يقع قبل تجاهل ممكناته، وغياب إحاطته بقدسية حفاظ، هو موقف المدينة الحديثة من كل القيّم في موجوداتها، لا أن تجعل من اليسير التعدي على أمكنة ذاكرتها وذاكرة سكانها.. هل يمكن أن يعود شارع الرشيد إلى زهوه؟ هل يجب أن يعود؟ يلزم القول بوجوب عودته، وإمكان ذلك، فهو ما يزال مكتنزا بحاضره وماضيه، غير أن الأمر وببساطة مخيب للآمال، يستدعي تغييرا في عقل المدينة، كي تعي مدينيتها، إذ هي تغفل عن ذلك، ويعوز عقلها الكثير من العقل ومن القيم كي تحفظ تاريخها، وتستنطق ممكناتها، وتلك مهمة ممكنة، غير أنها منسية.
هوية المدينة
فيما يعد القاص والصحافي منتظر ناصر شارع الرشيد، شيفرة بغداد السرية، وقلادتها الثمينة، وبوتقة عشقها المقيم الذي تلتحم فيه الروح بالجسد، وتنسجم فيه المباني القديمة والحديثة.. إنه ذاكرة المدينة وألقها ورقيها. ويبين أن الشارع ليس بقدم العاصمة التي تعود إلى أكثر من 1000 عام، إلّا أن أهميته تنبع من كونه العمود الفقري للمدينة، إذ تنتظم على جانبيه وقريبا منه العديد من المعالم والأبنية القديمة والحديثة التي يعود بعضها إلى العصر العباسي والعثماني، كالمدرسة المستنصرية، وخان مرجان، وجامع المرادية، وجامع سيد سلطان علي، وأقدم كنيسة في بغداد، ومدرسة شماش اليهودية ومبنى القشلة، فضلاً عن تفرع شوارع مهمة مثل (المتنبي) و(النهر)، وانتشار المقاهي الشهيرة، بالإضافة إلى عشرات المعالم التي ترتبط بهذا الشارع التاريخي من بيوت الذوات، ووزراء العهد الملكي. غير أن أشد ما يحزن ناصر في هذا الشارع الذي سمّي بعدة تسميات اندثار بعض معالمه على يد تجار وباعة لا يعرفون قيمة هذا التراث، وتلك الزخرفات التي يتميز بها الشارع ولم تعد موجودة في العراق عموماً، وانقرض صناعها من البناة المهرة، وانتشار بعض الأبنية الحديثة التي شوّهت هوية المدينة. كل ذلك يتم بعلم الحكومة وأمانة بغداد المعنية بالحفاظ على التراث، التي فشلت حتى في منع بعض القصابين الذين يقومون بذبح الخراف على الرصيف، الأمر الذي يحتم على الحكومة اليوم الحفاظ على ما تبقى من هذا الشارع، وإيجاد بديل للطارئين، وتشجيع الاستثمار الذي من شأنه إعادة الروح إلى هذا الشارع.
تراكم التاريخ
كل مكان هو جزء من الذاكرة مهما بلغ من القدم والحداثة، بحسب الفنان التشكيلي جابر حجاب، الذي يعتقد أن شارع الرشيد من أهم مراكز الذاكرة في بغداد، ليس لكونه أول شارع بشكله الحديث في بغداد فقط، بل لما كان له من دور سياسي في انطلاق التظاهرات والمسيرات المعارضة للسلطة، حتى بداية ظهور الديكتاتورية والحزب الواحد في نهاية السبعينيات، معتقداً أن إهمال الشارع بدأ منذ ذلك الوقت. ويكشف حجاب أن شارع الرشيد ما زال يحتفظ بجزء مهم من أماكنه التاريخية، حتى من الممكن القول إنها تصل إلى أكثر من 50٪ على الرغم من كل هذا الإهمال، على الأقل فالشارع ما زال يحتفظ بكل مساجده التاريخية من جامع الأزبكية والمرادية وجامع الميدان وسيد سلطان علي وخان مرجان وعلى رأسها جامع الحيدر خانة بما يشكل من ذاكرة مهمة للشارع، وما تزال وزارة الدفاع بشكلها القديم قائمة على رأس الشارع ومركز السلطة العثمانية بناية القشلة وشارع المتنبي وكل المقاهي تقريباً التي شكلت ثقافة بغداد في منتصف القرن الماضي وأغلب الأعمدة التي تحيط بالشارع من الجانبين والتي تشكل العلامة المميزة له.
فشارع الرشيد جزء من تاريخ بغداد الذي شهد فترات الصعود والتدهور، والتاريخ تراكم في الأحداث والأماكن معاً. ويريد حجاب القول إن هناك بعض الأخطاء التي ارتكبتها الدولة من خلال التخطيط غير المدروس والذي لا يراعي طبيعة المكان وروحه مسبقاً من جملة هذه الأخطاء بناء مجمع المصارف والبنك المركزي وبعض المجمعات التجارية في وسط شارع الرشيد الذي يعاني من سوء التخطيط والضيق في مساحة الشارع وأزقته ولم يتم التفكير في التوسع مستقبلاً، هذه المنطقة التي تشكل قلب بغداد القديمة والتاريخية، فكم من الشواهد التي تمت إزالتها من الأبنية القديمة في الشارع حتى يسع لهذه المجمعات الإسمنتية، والتي كان من الممكن إقامتها في أماكن أخرى من بغداد والتي كانت تتوسع في ذلك الوقت؟

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

551 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع