الشناشيل إرث حضاري وسحر معماري يعاني الإهمال

     

بغداد/ أميمة الشمري:لم تزل الشناشيل من أهم المعالم الفلكلورية البغدادية التي  طالها الإهمال، وهي  تمثل الشاهد لجميع التحولات الاجتماعية والحضارية التي مر بها البلد، وتعد روح بغداد والمدن العراقية القديمة لما لها من عمق تراثي يحتفظ به أهالي تلك المدن، شكلت لوحة تشكيلية خالدة اسمها بيوت "الشناشيل".

وتلك البيوت تنتشر في مناطق الأعظمية والفضل والبتاوين وأبو سيفين والحيدرخانة والفضل وباب الشيخ في جانب الرصافة، والرحمانية والكاظمية في جانب الكرخ، فضلا عن تواجدها في العديد من مدن العراق مثل البصرة والعمارة وبالتحديد محلة الجديدة والسراي والتوراة في البصرة، بالإضافة الى البيوت الموصلية القديمة، والكثير من الشعراء سحر بها ومنهم السياب والبياتي وكانت مادة دسمة للعديد من الروايات العراقية.

ومن يمر بتلك المناطق يطرب لسماع أنغام المقام البغدادي وأغاني  القبانجي ويوسف عمر، وحسين الأعظمي، كذلك يرى الظواهر البغدادية القديمة المرتبطة بروحية تلك الأماكن... نساء جالسات على عتبات البيوت وفتيات يراقبن المارة خلف الشبابيك الخشبية، ورائحة الشاي المهيل وأطفال يمارسون ألعابهم، وكبار السن في المقاهي يستعيدون ذكريات أيام زمان.

الشناشيل توازي في بنائها البيوت المملوكية القاهرية والتي كانت تسمى بـ"المشربيات"، وكذلك بيت الكرتلية في القاهرة القديمة، وتماثل أيضا "الرواشين" في بيوت جدة التراثية، وكذلك البيوت التونسية القديمة.

وبحسب مفهوم المحلة فإن البيوت تبنى متلاصقة جنبا إلى جنب وظهرا إلى ظهر، أما من ناحية تخطيطها فإنها تتصف بنمو تدريجي متجانس مع أزقة تفصلها كتلا بنائية بعضها عن بعض، وأزقتها أو ما يسمونها بالدرابين او الجادات لها مستوياتها من ناحية الطول والعرض وعدد البيوت التي تؤدي إليها والأصغر منها هي الدربونة المغلقة التي لا تعطي أي منفذ بل تؤدي إلى بيوت متقابلة ليس لها منفذ خلفي وتسمى نهاية المحلة.

أشكالها وفنّها المعماري

الشناشيل هو الطابق العلوي المشيد من الخشب وتتميز واجهته بزخارف فنية تبين عمق الحضارة والفن البغدادي القديم لكي تضفي على المبنى لمسة فنية، وهي بمثابة شرف تظهر من خارج أعلى الدار وظيفتها تمنع دخول أشعة الشمس وتمكن أهل الدار من التقارب بين جيرانهم وأيضا تمكنهم من النظر إلى الخارج، كذلك كانت توفر الظل للمارة بين الأزقة.

وأهم مبررات تشييدها وفق ذلك الشكل هو البيئة المناخية الحارة للعراق، والتي كان لها الدور الفعال في تشييد تلك الشرفات لأنها عملت على توفير تيارات الهواء داخل الدور.

يرى المهندس حيدر كريم في حديث لـ"لمدى"، "إن البيوت القديمة التي شرع البغداديون في بنائها كلها تحاكي البيئة العراقية الحارة، إذ عمدوا في تصميم بيوتهم إلى وجود الباحة الوسطية "الحوش" التي تلتف حولها الغرف والجدران السميكة لكي تمنع التبادل الحراري والسقوف الطينية التي تجعل من جو الغرفة باردة صيفا دافئة شتاءً، كذلك مادة الخشب التي كانت تستخدم في التشييد تسهم في التخفيف من وزن الأبنية وهو ما يتلاءم مع ارض بغداد الطينية التي لا تتحمل الأبنية الثقيلة".

ويضيف كريم" كانت الأدوات المستخدمة فيها هي ذاتها المستخدمة في صناعة الخشب، كالمطرقة والمنشار وآلات الحفر التقليدية التي تشبه أزميل النحاتين، إضافة الى المسامير والمواد اللاصقة الخاصة بالخشب  والتي هي مادة "الغراء".

تاريخ الشناشيل

يرجع تاريخ هذه الأبنية كما يرى المهتمون بهذا الشأن إلى عشرينات القرن الماضي، وبعضها يرجع إلى الحقبة العباسية والعثمانية وبعضها قد تم أنشاؤها بدايات العصر الحديث،  وقيل أن الشناشيل كلمة فارسية مكونة من مقطعين"شاه_شينين" بمعنى محل جلوس الشاه. أما أعمدتها الملونة والساحرة المنظر والتي تسمى "الأيونيك" بنيت بطريقة كلاسيكية في غاية الروعة، إذ تظهر فيها حرفية المعماري البغدادي في بنائها، ويؤكد الباحثون ان هذا الطراز العمراني ذو طابع فريد ومتميز منذ أولى الحضارات السومرية والأكدية والآشورية والبابلية، مرورا بعصر صدر الإسلام والعصرين العباسي والعثماني، وقد جاءت إلينا عن طريق التأثيرات الأوربية عبر بعض المهندسين العرب والأجانب كذلك من خلال المجلات المعمارية آنذاك وهي تعد كنوزا تاريخية وأثرية لا تقدر بثمن.

وقد انتقلت إلى دول المغرب العربي ولها آثار شاخصة لحد الآن في اسبانيا إذ نقل هذا الطراز من خلال الفتوحات الإسلامية التي قام بها العرب المسلمون هناك وتركوا بصمتهم فيها.

الإهمال الحكومي للتراث

خليل الكرخي 70 سنة من سكنة تلك البيوت في الكاظمية يقول لـ "المدى" إن هذه المنازل بدأت تختفي من الكاظمية، بسبب هدم بعضها وتحويلها إلى محال تجارية ومخازن وما بقي منها القليل جدا، مضيفا "أن الحكومة العراقية منذ عقود والى اليوم لم تهتم بهذه المعالم التراثية ولا بالمقاهي القديمة التي تمثل شواهد المتغيرات التي طرأت على البلاد ولا ندري من نناشد لإحيائها أو للحد من إزالتها"، متمنيا "ترميمها وأحياءها من جديد لأنها جزء من تاريخ بغداد القديم وذكريات الأيام الجميلة".

وترى نجلاء عبد المطلب 40 سنة مدرسة مادة التاريخ لـ"المدى" بان إهمال التراث البغدادي أمر مدبر لتحويلها إلا مدينة بلا ذكريات ولا ارث حضاري"، وتضيف عبد المطلب "بان هناك من يحاول تدمير تاريخ وحضارة بغداد على اعتبارها تمثل حقبة ما وخصوصا أيام اليهود العراقيين الذين يعدون من ابرز وأوائل ساكنيها".

في حين يبين علي عبد الحميد 33 سنة من سكنة الفضل لـ"المدى" بان اغلب البيوت متهالكة والقسم منها آيل للسقوط لأنها بدأت تتأثر بأصوات الانفجارات لقدمها كذلك القسم منها انهار أيام الاحتلال الأميركي بسبب القصف الذي تعرضت له اغلب مناطق بغداد.

ويقول عبد الحميد "نحن لم يصلنا أي دعم مالي من الحكومة لإحياء مناطقنا ولم نلتمس التعاون من وزارة الثقافة، وان هذه البيوت لو كانت في مكان آخر لتحولت إلى مكان سياحي جميل".

مشيرا إلى "ان هذه البيوت ارث حضاري نخشى عليه من الاندثار فهو يحمل ذكريات الماضي الجميل وهي بمثابة شواهد على تاريخ لم يشهده جيلنا".

شناشيل البصرة

انتقل بناء بيوت الشناشيل إلى محافظة البصرة منتصف القرن السابع عشر إبان الحكم العثماني، وتنتشر في البصرة القديمة والعشار وابي الخصيب، لكنها مهددة بالزوال حالها حال نظيرتها في بغداد، وتغنى بها الشاعر الكبير بدر شاكر السياب في قصيدته "شناشيل ابنة الجلبي" إذ وصفها قائلا:

شناشيل ابنة الجلبي نور حوله الزهر

عقود ندى من اللبلاب تسطع منه بيضاء

وآسية الجميلة كحل الاحداق

منها الوجد والسهر..

إذ نجد إن اهتمام البصريين بالأعمدة الخشبية وتشييد القناطر الحجرية او الخشبية مع العناية بشكل الزخارف عبر التشكيل الخشبي، بينما نلاحظ البغداديين أولوا عناية خاصة بالقضبان الحديدية ووجود السراديب "التختبوش" في تشييدها.

ويلفت المهندس عبد الكريم في حديثه "بان البصريين فضلوا استخدام نوع من الخشب يدعى "الجاوي" نسبة إلى جزيرة "جاوه" في اندونيسيا، مشيرا إلى أن "سكان البصرة القدامى يعمدون إلى طلي شناشيلهم بنوع من الدهان العطري، كما يستخدمون شريطا يربط أجزاء شناشيلهم بعضا ببعض ليضيف إليها قدرا من القوة يساعدها على الاستمرار عقود طويلة.

جاسم عبد الحسين احد ساكني تلك البيوت في البصرة القديمة أوضح لـ"المدى"، "في السابق كان لا يحق لأحد أن يقوم بعمليات ترميم يغير من شكل الشناشيل للحفاظ عليها كمعالم تراثية، أما اليوم فقد قام اغلب ساكنيها بتغير أشكالها حسب الطرز المعمارية  الحديثة، لافتا إلى أن "استمرار هذه الأعمال سيؤدي إلى القضاء عليها وزوالها،لا سيما وان ساكنيها يعانون من قدمها إذ أن اغلبها في طريقه إلى الانهيار.

 

لسعتها أصبحت ملاذاً للمهجرين

أبو علي احد ساكني الشناشيل البصرية يوضح لـ"المدى"،" أصبحت اغلب تلك البيوت التراثية ملاذا للمهجرين كونها واسعة وتستطيع أن تؤوي أكثر من عائلة وباحتها واسعة من الممكن أن تتم الاستفادة منها على نحو مختلف، وبعضها سادها الخراب إبان الحرب الأخيرة، إذ تعرضت للقصف المباشر"، مضيفا" بعض البيوت أخليت ليتم إعطاؤها إلى اتحاد الأدباء او البيت الثقافي في المحافظة، لان طبيعة عمل  هذه المؤسسات تتناسب مع نوع تلك البيوت" بحسب قوله.

وتقول أم محمد:"نحن لم نجد مكانا يؤوينا وليست لدينا الإمكانية لشراء سكن او حتى الإيجار، لان أسعار إيجارات البيوت مرتفعة جدا وليس لدي معيل لذلك نحن وجدنا من الشناشيل سقفا لحمايتنا أنا وأولادي الخمسة"، مشيرة إلى انه "نحن نعلم بأننا متجاوزون لكننا في ذات الوقت معوزون ونتمنى من الدولة عدم إخلائنا أو توفير سكن بديل لنا".

 
الشناشيل والفن التشكيلي

ناديا التميمي إعلامية وناقدة تشكيلية أوضحت لـ"المدى"،" أن الشناشيل نتناولها من خلال ثلاث قضايا، قضية جمالية بحتة، وقضية وجدانية بسبب الحميمية التي تمثلها الدُور من خلال تقاربها واتصال الحوار بين العوائل التي تسكنها، فهي بذلك تشكل لغة حوار متصل بينهم، وقضية صحية لأنها معلقة بالهواء".

وتبين التميمي "الشناشيل تمثل للفنان التشكيلي حنينا واستحضارا للماضي والإنسان العراقي بطبيعته شغوف وحالم ورومانسي إذ يتلذذ بهذا الحنين والعودة الى التراث القديم لأنه إنسان متجذر رغم كل ما حدث وكل ما عاناه في السنين الأخيرة، فهي تعبر عما تبقى من الذاكرة الجميلة الخالية وأيام البساطة الخالية من العنف".

وتضيف التميمي"من حيث الألوان فإن لها ارتباطا نفسيا مع شخصية التشكيلي العراقي إذ أن القضية الجمالية واللون يجمعانها لأنها تخرج عن الإطار التقليدي في تصميمها وتحمل عنصر الغرائبية بدليل أن الناس بدأت تستعين بأشكالها في المعمار الحديث".

وتوضح التميمي"أن ألوان التراب وتدرجاته، وألوان الطبيعة والصحراء في الخشب تشكل تدرجا هرمونيا يضفي للوحة طابعا أكثر جمالية وألقا واكثر حميمية مع المتلقي، كذلك ألوان الزجاج المعشق المستخدمة تعبر عن الفرح فهذه الألوان تلعب على تناقضات وعبثية اللون، إذ يستخدم الحار مع البارد والآسيوي مع الإفريقي".



دُور أمانة بغداد

أكد الناطق باسم أمانة بغداد حكيم عبد الزهرة لـ"المدى"،" بأن موضوع شناشيل بغداد أحيل إلى وزارة السياحة والآثار للقيام بمتابعة إعادة تأهيلها، لكن دَور الأمانة هو إعطاء الموافقات الرسمية إذ أن الأمانة لا تسمح بتغيير شكلها ولا ترميمها بحيث تتغير معالم تلك البيوتات.

وأضاف عبد الزهرة "أمانة بغداد أعدت خطة لإعادة تأهيل المنطقة المحصورة بين شارع الرشيد ونهر دجلة باعتبارها منطقة غنية بتراثها ومركز الحكومة القديمة، إذ تم العمل مع المكتب الهندسي الاستشاري في الأمانة لإعداد تصاميم لتغيير واجهات شارع الرشيد وهذه الخطة تشمل تأهيل البنى التحتية والأماكن المرورية، مشيرا الى "أن هذه الخطة تشمل المناطق ما بين الجسور الاربعة السنك والجمهورية والأحرار وجسر الشهداء".

ويفيد عبد الزهرة "بأن هذه الخطة جاءت ضمن مشروع بغداد عاصمة للثقافة وقد خصصت لها مبالغ إذ طالبت الأمانة بـ 150 مليار دينار وما خصص لها هو 120 مليار دينار لكن للأسف المبالغ تحولت الى وزارة المالية، في حين طالب أمين بغداد السابق بكتاب اطلعت عليه وسائل الإعلام بمبالغ تخصص لهذا المشروع، لافتا إلى "أن شارع الرشيد لا يمكن أن يجهز بمرحلة أو مرحلتين إذ 80% منه أملاك غير حكومية ويحتاج إلى مبالغ كافية للعمل به".

ولفت عبد الزهرة في حديثه الى ان "بعض المؤسسات الحكومة قامت باستئجار تلك البيوت والتي تعود إلى الأمانة فهذه المؤسسات لا تستطيع تغيير معالمها سوى ترميمها من الداخل لأدامتها".

أما بعض البيوت في شارع حيفا فقد تمت إحالتها إلى وزارة الثقافة حتى تقوم بتأهيلها ضمن خطة مشروع بغداد عاصمة الثقافة"، كما أوضح عبد الزهرة لـ"لمدى".

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1197 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع