حج إلى المستنصرية

  

المدرسة المستنصرية ببغداد تخبئ بين جدرانها التاريخ بعيدا عن المغول الجدد


                      

تتحوّل المدرسة بيننا إلى حضور شمسي شبيه لساعتها السحرية ولعلها تحاول أن ترجئ هبوب المغول الجدد على أيامنا.

العرب/ لطفية الدليمي:نعبر دجلة في أحد الزوارق التي تمثل تاكسيات نهرية يستقلها التجار والعمال وصاغة الذهب والنساء المغامرات مثيلاتنا أنا وصديقتي الرسامة، نهبط في المرسى على ضفة الرصافة فنفاجأ بحشد من الصبيان يخوضون في الماء الضحل، يغسلون كناسة دكاكين الصاغة، ويجمعون تراب الذهب طوال النهار، نرتقي درجا حجريا لنبلغ شارعا يفضي عن يميننا إلى الأسواق العباسية المظللة بسقوف ذات كوى، وعن يسارنا إلى المسارات الملتفة التي تؤدّي إلى سوق السراي وشارع المتنبي ومبنى القشلاق العثماني.

نبلغ الزقاق العباسي الضيق الذي تبرده رياح، وتكتنفه عتمة ناعمة، فيشمخ أمامنا باب المستنصرية، ونسترد أنفاسنا اللاهثة أمام روعة الباب؛ خشبه من ساج محفور بالأرابيسك، مثمنات وتوريقات ونجوم ومربعات وأطباق نجمية وكتابات ملغزة منحوتة في الآجر، فوق الباب وتحت القوسين كتابات بخط الثلث على أرضية نباتية مزهرة مختومة باسم من شيّد المبنى العريق، الذي يعدّ أول جامعة في العالم القديم.

قبل الاحتلال كنت أنا وصديقتي الرسامة نزور المدرسة المستنصرية مرارا، ننأى بأنفسنا عن القرن الدموي ونلج اضطراب القرن السابع الهجري إلى المدرسة الجامعة، “التي بناها المستنصر بالله العباسي سنة 631 هجرية- 1233ميلادية”، في بغداد المنحدرة صوب الأفول الدموي. نوايا المغول وروائح خيولهم تهب علينا من كل ثغرة، ونحن نوغل في التباسنا بالزمن، وتأخذنا ريبة الخائف من زوال الوجود، والمدينة تتقوض بطريقة غير مرئية، ونحن نسمع صدى انهياراتها، نجلس في صحن المدرسة الواسع المعزول عن مدينة الرعب وأهوال الحروب والتباس المعاني، كل واحدة منا تنطوي على صمتها إشفاقا من خراب يتفـاقم.

أنا أكتب وهي ترسم تخطيطاتها بالحبر الصيني، أحواض نبات البنفسج تحيط بفسائل النخل وشجرة السدر الحزينة، أقطف براعم البنفسج العطرة فيطير بي الشذا إلى عصر مؤسس هذا الصرح، والذي سمّى ابنه جعفرا تشبها بأبي جعفر المنصور، ولم يكتف بهذا بل لقب نفسه المستنصر بالله خليفة الله في المسلمين، وقيل في حسن منظره وبهاء وجهه “كأن الثريا علقت في جبينه وفي خده الشعرى وفي وجهه القمر”، أتخيل الرجل عائما في غمامة عطر محفوفا بالجواري، وهن يراقصن أهواءه في مطلع الضحى، وغيوم الزوال تطوّق حاضرته المتهاوية.

نطوف طوافنا المعتاد في الفناء الكبير وحديقته الصغيرة ونافورته العاطلة في حجّ روحاني، نجلس على درجة في الرواق الطويل الذي تزيّن سقفه المعقود مقرنصات تولّد أشكالا من ظلال وتضاريس، الأروقة تفضي إلى صوامع مفردة وغرف لتلاميذ الفقه ودارسي المذاهب وطلاب الطب والفلك، أكتب أنا بضع صفحات وترسم صديقتي روح المكان الذي تداولته الحروب ومعارك السلابين والغاصبين.

نوغل في فلك المدرسة العظيمة التي كانت تدرس الفقه والفلك والطب والهندسة والفلسفة والصيدلة، ولها مناهج ونظام تدريس مبتكر وأساتذة أفذاذ ممن برعوا في التأليف والتصنيف والعلوم، ومن بينهم الفيلسوف والطبيب والفلكي والمهندس والكيميائي المبتكر، وهي أول جامعة تبيح التدريس للمكفوفين.

وكان الشيخ الخيلي عبدالرحمن بن عمر أول مدرس ضرير في جامعة عالمية كانت تخصص 62 دارسا لكل مذهب من المذاهب الأربعة، يتبادلون المواقع في مسعى إلى التقريب بين المذاهب وتداول الأفكار والاجتهادات بين الدارسين، لعل السلام يحل بين المختلفين والمتناحرين في جدل حق الإمامة.

تهبّ من المبنى العريق أصداء الصراع الفقهي وحوارات الفلكيين، نسترق السمع إلى كشوفات العلماء التي يقوم عليها قياس الوجود، وتتحوّل المدرسة بيننا إلى حضور شمسي شبيه لساعتها السحرية، ولعلها تحاول أن ترجئ هبوب المغول الجدد على أيامنا.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

499 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع