حضارات بلاد الرافدين في قلب معركة العقول والدماء

  

التكفيريون يعبثون بكنوز العراق التي بقيت شاهدة على مدار قرون على التاريخ والحضارة، وداعش يجد في تهريب الآثار مصدرا لتمويل أنشطته.

      

العرب/بغداد - شددت قوات الأمن العراقية إجراءاتها في محيط الآثار العباسية والمزارات الشيعية في مدينة سامراء بمحافظة صلاح الدين (شمال)، وسط مخاوف من استهدافها، فيما حذر أثريون من إمكانية تعرض المتحف العراقي في الموصل وآثار نينوى (شمال) للتدمير.

عندما دخلت قوات الاحتلال الأميركي الأراضي العراقية في 2003، هدمت المباني، قتلت الآلاف، ونشرت رائحة الموت في كل أرجاء العراق، ولكن الأعظم هو ما تعرّض له التاريخ من سرقة ونهب وتدمير في عملية تتكرّر اليوم، بشكل أخطر، من خلال ما يقوم به تنظيم “الدولة الإسلامية”، الشهير بـ”داعش” في حق حضارات بلاد الرافدين.

باتت كنوز العراق الأثرية في حاجة أكيدة للإنقاذ من الدمار وأصبحت الآثار البابلية والآشورية والمواقع الأثرية الإسلامية عُرضة للخطر والتدمير جراء ما تلحقه بها التنظيمات الجهادية التكفيرية من دمار أكمل ما خلّفته الحرب الأميركية على العراق والتي فقد بسببها الكثير من آثاره.

صيحة فزع أطلقتها اليونسكو وخبراء الآثار والتاريخ والحضارات الإنسانية، على إثر الصور التي نشرها تنظيم داعش، ويظهر فيها تفجير وتدمير لعديد المعالم الأثرية في عدّة مدن عراقية. وبدا من الصور أن المعالم المستهدفة هي مزارات ومراقد شيعية وأديرة مسيحية. لكن التقارير العلمية والاستخباراتية تؤكّد أن تنظيم داعش ينشط أيضا في تهريب الآثار وبيعها، وكثير من التفجيرات التي يقوم بها تأتي للتغطية على هذه الجريمة، وقد تم تعرضت أغلب الأماكن الأثرية في إلى سلب ونهب وعمليات بيع تعود على بائعيها بكثير من الأموال.

وأكّد المنقب عالم الآثار العراقي عامر عبد الرزاق الزبيدي أن تجارة الآثار تعتبر من أهم مصادر التنظيمات المسلحة.

ونشرت صحيفة غارديان البريطانية تقريرا جاء فيه أن تنظيم داعش حصل على حوالي 36 مليون دولار أميركي من مبيعات الكنوز الأثرية التي سرقها مقاتلوها في منطقة جبل القلمون السورية.

هيئة الآثار والسياحة العراقية أعربت عن مخاوفها من محاولات تهريب مخطوطات نادرة من الموصل إلى تركيا

في الموصل، حذر أثريون من إمكانية تعرض المتحف العراقي بالمدينة (تأسس عام 1952) وآثار نينوى (410 كلم شمال بغداد) للتدمير سواء على يد مسلحي تنظيم “الدولة الإسلامية”، أو جراء العمليات العسكرية التي تعتزم القوات الحكومية شنها ضد مسلحي التنظيم المتمركزين في المدينة ما سيؤثر بشكل أو بآخر على مستقبل السياحة في هذه المدينة.

وقال خبير الآثار عبدالله حامد إن “الآثار العراقية في نينوى إرث حضاري عالمي، يجب على الجهات الدولية والحكومة العراقية توفير الحماية له وعدم اعتماد القصف العشوائي على مدينة الموصل خلال العمليات العسكرية المرتقبة“.

واعتبر أن “تعرض أي من تلك الآثار للتدمير سيشكل خسارة لا تقدر بثمن للإنسانية جمعاء ناهيك عن أن تقييم تلك الآثار من الناحية المادية صعب للغاية باعتبار أن تلك الآثار تمثل خصوصية كبيرة للموصليين”.

وتحتل محافظة نينوى المرتبة الثالثة بين محافظات العراق بعدد المواقع الأثرية بعد محافظتي ذي قار وبابل، وتعتبر نينوى على الصعيد التاريخي، عاصمة الإمبراطورية الآشورية التي حكمت العراق لقرون عديدة، كما أنها تضم مواقع أثرية ساسانية وكلدانية وغيرها فضلا عن آثار الفتح العربي الإسلامي.

حماية آثار العراق

على خلفية هذا الخطر المحدق بالآثار العراقية، أصدرت وزارة السياحة والآثار بيانا دعت من خلاله منظمة اليونسكو والمنظمات الدولية إلى التدخل الفوري لحماية الآثار العراقية من النهب والسرقة من قبل التنظيمات الإرهابية واتخاذ كل ما يلزم من أجل حماية آثار العراق ومراقبة مواقعه الأثرية والتراثية كي لا تتكرر التجاوزات التي طالت حضارة العراق الإنسانية عام 2003.

ودعا مدير المتاحف بوزارة السياحة والآثار العراقية، قيس حسين، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) إلى “تشكيل لجنة لحماية الآثار العراقية في مدينة الموصل إسوة بما فعلته المنظمة مع آثار سوريا”. وأشار إلى أن “الوزارة تلقت رسائل إيجابية من المنظمة بهذا الشأن، ولا تزال تراقب الموقف في المدينة، وأن أي من تلك الآثار لم يتعرض لأي أذى حتى الآن”.

غير أن الخبير الأمني أحمد الشريفي، رأى أنه “من الصعب الحفاظ على آثار نينوى في حال حدوث اجتياح عسكري واسع لمدينة الموصل من قبل القوات العراقية، سيما مع استخدام الأسلحة الثقيلة التي يكفي دوي انفجارات قذائفها للإضرار بالآثار”.

ولفت الشريفي إلى أن معظم خطوط الطيران الجوي تكون بعيدة عن أي مناطق أثرية، خشية تأثير أصوات تلك الطائرات وتردداتها العالية على الآثار فكيف الحال إذا ما تم استخدام المدافع والقصف العشوائي للمدينة القديمة”.

تنظيم داعش قام بتدمير بعض الأطلال النادرة للحكم الآشوري القديم في العراق لأغراض إعلامية

وتضم مدينة الموصل أكثر من 1600 موقع أثري، أهمها آثار مدينتي “الحضر” الأثرية التي تبعد حوالي 70 كلم جنوب غربي الموصل، و”نمرود” التي تقع وسط الموصل، التي اتخذها الملك الآشوري شلمنصر الأول عاصمة ثانية للإمبراطورية الآشورية عام 1273 قبل الميلاد بعد العاصمة الأولى (آشور).

في مدينة سامراء، ذات الأهمية الكبرى لدى الشيعة، أبدى المسؤول في هيئة الآثار، عمر عبدالرزاق مخاوفه من “استهداف الآثار العريقة في المدينة في حال حدوث أي إشكال (اشتباكات) داخل المدينة”.

ويحتضن العراق مئات الآلاف من المواقع الأثرية التي تعود إلى عصور بعيدة، سرقت منها أغلب القطع الثمينة إبان غزو العراق عام 2003. وتضم سامراء أهم تلك الآثار، وأبرزها مئذنة “الملوية” وقصر “الخلافة العباسية” وقصر “المعشوق” ومئذنة “أبو دلف”، و”تل الصوان”، وآثار أخرى تعود إلى عصر الخلافة العباسية، إلى جانب آثار تعود لما قبل الإسلام لديانات مسيحية وأخرى يهودية.

بنى هذه المدينة، الخليفة أبو إسحاق محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور ثامن الخلفاء العباسيين عام (835 م – 221 هـ)، لتكون عاصمة دولته وقد حرف اسمها القديم (سر من رأى).

وتعبر أحد أهم المدن الإسلامية، لاسيما أنها تضم مرقد الإمامين العسكريين علي الهادي والحسن العسكري وهما من بين أهم أئمة الشيعة الإثني عشرية، وهو ما يزيد المخاوف من استهداف تلك الآثار.

في 6 من يونيو الماضي، دخلت عناصر من تنظيم داعش مدينة سامراء واحتلت عددا من أحيائها في الجهة الشرقية من المدينة، ورفعت رايات التنظيم على عدد من المباني الحكومية، قبل أن تعيد قوات الأمن بسط سيطرتها على المدينة التي تقع في الشمال على بعد 120 كلم من بغداد.

وعلى طول الطريق من العاصمة بغداد إلى سامراء ينتشر الجيش وميليشيات شيعية مثل سرايا السلام (الجناح العسكري للزعيم الشيعي مقتدى الصدر) ومنظمة بدر (تابعة لرئيس المجلس الأعلى عمار الحكيم) و”عصائب أهل الحق”، و”حزب الله” و”النجباء” بحجّة حماية المقدسات. وتشارك إيران في تلك الحماية، حيث تعلن وسائل الإعلام التابعة لها بين الحين والآخر مقتل ضباط منها في سامراء.

وقال محمد حسين، وهو أستاذ في كلية العلوم السياسية بجامعة تكريت إن “سامراء هي أكثر المناطق اضطرابا، وستكون في قلب المواجهة، وذلك لمكانتها لدى الشيعية، وأيضا لدى السنة فهي مدينة سنية بارزة”.
    
إيرينا بوكوفا: التطرف يتخذ من تدمير الثقافة سلاحا له لإضعاف وإذلال الهوية الإنسانية
    

مافيا الآثار

قدّرت وزارة الآثار والسياحة العراقية عدد المواقع الأثرية التي تعرّضت للتهريب بحوالي 4370 موقعا في محافظات الموصل وديالى وكركوك والأنبار وصلاح الدين. وما يسلم من التدمير يتعرّض إلى عمليات تخريب وتهريب منظم من قبل عصابات الآثار.

وأفادت منظمة اليونسكو وجود دوافع أخرى خلف ما يقوم به تنظيم داعش من خلال التدمير، كما اتضح ذلك في سوريا، حيث أن التنظيم استفاد مما نهبه هناك عبر بيع التحف المسروقة. فبعد الاستيلاء على مدينة الرقة مثلا قام مقاتلو التنظيم بسرقة التحف المعروضة في متحف المدينة. ورغم ظهور بعض هذه التحف الثمينة في الأسواق السوداء، فلازالت أكثر القطع الأثرية مختفية.

وكانت هيئة الآثار والسياحة العراقية أعربت عن مخاوفها من محاولات تهريب مخطوطات نادرة من الموصل إلى تركيا. كما أدان الخبراء والمختصّون عمليات التدمير التي وصفوها بالإرهاب الفكري الذي يتعمّد طمس وتدمير الرموز التاريخية والتراثية لمختلف المدن العراقية على غرار تفجير تمثال الشاعر العباسي أبي تمام الطائي ونبش قبر المؤرّخ الموصلي ابن الأثير.

ذات المصير لقيه تمثال الموسيقي العربي عثمان الموصلي والمزار المعروف بقبر البنت في الساحل الأيمن من مدينة في الموصل، مركز محافظة نينوى، أيضا دخل مسلحو داعش كنيسة كلدانية في الموصل، وقاموا بهدم تمثال «مريمانة»، إضافة إلى ساعة الكنيسة.

هذا التخريب المتعمّد، الذي يقوم به تنظيم داعش للآثار والتماثيل العراقية، بحجة أنها “أوثان”، هو امتداد لأكبر عملية تدمير ونهب وتخريب للآثار في التاريخ، وقد تعرّض لها العراق إبان الغزو الأميركي في 2003. ولايزال إلى اليوم مشهد تحطيم تمثال أبي جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين (714 – 775م) (في 18 أكتوبر 2005) أبرز دليل على هذه العمليات الممنهجة التي تتغذّى من التجييش الطائفي والتوتّرات الدينية.

مسح الهوية الثقافية

نشرت عالمة الآثار الألمانية سيمون ميوهل، التي عملت في العراق لسنوات عدة، قائمة بـ 18 موقعا أعلنت أنها مستهدفة من قبل تنظيم داعش أو أنها معرضة لمخاطر المعارك”. وترى الباحثة في علم الآثار أن أعمال التدمير هذه تشكل جزءا من استراتيجية شاملة، حيث أن تنظيم داعش “لا يريد مسح آثار أديان أخرى فقط بل أيضا القضاء على الهوية الثقافية للناس″.
    
ونقل التلفزيون الألماني عن ميوهل الخوف الكبير الذي يعتري الآثاريين من أن تنظيم داعش سيكرر ما فعله في سوريا”. وأشارت الأثرية الألمانية إلى أن “التنظيم ولأغراض إعلامية قام بتدمير بعض الأطلال النادرة للحكم الأشوري القديم في المنطقة. وهم عندما يقومون بتدمير شيء ما من الآثار فإنهم ينشرونه على مواقعهم لأغراض إعلامية”.

وحذّرت إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، من استهداف المتطرفين لمواقع التراث الإنساني، مشددة على أن “استهداف التراث هو استهداف للهوية والثقافة الإنسانية”، داعية في الوقت ذاته إلى حماية هذه المواقع من مثل هذه التهديدات.

وقالت بوكوفا إن العراق سوف يشهد موجة تدمير ونهب وسرقة للآثار مثل ما حدث قبل عدة سنوات، ودعت بوكوفا جميع الأطراف الفاعلة إلى الامتناع عن أي شكل من أشكال تدمير التراث الثقافي، بما في ذلك المواقع الدينية.

وأكدت أن “التطرف يتخذ من تدمير الثقافة سلاحا له لإضعاف وإذلال الهوية الإنسانية، وذلك بهدف تحقيق أهداف طائفية تسعى إلى تدمير العالم”.

لقد مرّت بالعراق حروب كثيرة لم تؤثر في آثاره مثلما أثرت فيه تداعيات الحرب الأميركية وما أعقبها، وما يجري اليوم على أرضه جزء من تلك التداعيات. وتشير إحصائية أعدتها وزارة السياحة والآثار إلى تعرض أكثر من 15 ألف قطعة أثرية إلى النهب والسلب خلال الأحداث التي رافقت غزو القوات الأميركية بغداد في أبريل عام 2003.

واليوم، ليست الموصل ونينوى وسامراء وحدها من يرزح تحت وطأة تهديد داعش وأمثالها، مواقع أثرية عديدة في بلاد الرافدين، التي تحمل بين طياتها أولى الحضارات الإنسانية، مهدّدة بالتدمير والاندثار. والعراق اليوم في حاجة ماسة إلى الدعم الدولي لحماية هذا التاريخ لكن الأمر يبقى معلقا مثلما يبقى الوضع العراقي إجمالا، إلى حين توضح الرؤية بشأن مستقبل البلد الذي سماه الإغريق “ميزوبوتاميا” أي بين النهرين، مهد الحضارة الإنسانية.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

775 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع