يهود العراق.. عراقيون متمسكون بالجذور رغم الهجرة القسرية

    

يهود العراق.. عراقيون متمسكون بالجذور رغم الهجرة القسرية..

                   

أدون شكر: أنا عراقي يهودي أطالب بإعادة مواطنة مداها 2600 عام، وأرشيف اليهود يفتح ملف قضية الهويات القلقة في عالم العرب.

   
من موجودات الأرشيف اليهودي.. صفحة من كتاب خاص بصلوات عيد الفصح، باللغتين العبرية والفرنسية، يعود تاريخ نشره في مدينة فيينا إلى سنة 1930
           

العرب/لندن – لم تتداخل هويات بأخرى كما تداخلت في العراق، ولم يعش الناس سواسية متخالطين كما عاش أهل العراق في الماضي، فكان العرب والتركمان والكرد والمسلمون السنة والشيعة والمسيحيون الأرثوذوكس والروم والصابئة والآشوريون إلى جانب اليهود والإيزيديين والسريان. الأديان والأعراق هي النسيج العراقي التام، الذي استفزّ الأمم التي جاءت إلى بلاد الرافدين، لترى ما لم تعهده في أراضيها وقاراتها البعيدة، ومع الاحتلال المتعاقب تم تمزيق الجسد إلى خطوط طول وعرض، وإلى شيعة وسنة، ومسلمين ومسيحيين ويهود، ثم جاءت الأنظمة الاستبدادية التي حكمت العالم العربي، لتستثمر في كل شيء يخدم استمرارها في الحكم، بما في ذلك تمزيق الوحدة الوطنية في المجتمعات العربية، في استجابة مباشرة للتعصّب الصهيوني، وخلقت تعصّبا عربيا زائفا مارسته الحكومات، أكثر مما مارسته الشعوب.
يهود العراق حكاية واسعة، لا تنتهي، بدأت ما قبل التاريخ. في العراق نسّق الأحبار السبعون نصوص التوراة بصورتها التي يعرفها العالم اليوم، ومن العراق خرج كبار مفكريهم وفنانيهم وسياسييهم، خرجوا مرغمين، منقادين لمن بحثوا عن هوياتهم في آفاق ابتعدت بهم عن وطنهم الأم وشرّدتهم في الآفاق، فلم يقبل كثير من يهود العراق الهجرة إلى إسرائيل، وفضّلوا العيش في أنحاء العالم، ومن اضطر منهم إلى متابعة حياته في إسرائيل، بقي عربيا خالصا، تخفق روحه مع مقامات العراق الموسيقية العريقة، بل إنهم نقلوا معهم كبار الموسيقيين من أمثال العملاق صالح الكويتي، وبقوا محافظين على عاداتهم وثقافتهم ولغتهم العربية وحنينهم إلى العراق.

          

كتب البروفيسور شموئيل موريه المتخصّص في الثقافة العربية في إسرائيل، وهو يهودي عراقي الأصل:

“أعود إلى سنوات الصفاء قبل هجرتنا حين كنا نشعر بنفحات الخلد طيبا، تهب من دجلة والفرات رافدي الخير والبركة، نسيما عليلا، يوم كان أهله في بشاشة الفردوس ونعيمه، في أيام عز العراق تحت رعاية الملك فيصل الأول، يأتمرون بوصيته الوطنية: (الدين لله والوطن للجميع)”.
ويدلنا الدكتور موريه إلى مصادر هامة من المكتبات والمخطوطات تحدثت عن يهود العراق، ومنها كتاب “رحلة بنيامين التطيلي النباري الأندلسي” التي ترجمها عن الأصل العبري عزرا حداد في بغداد سنة 1945.

        

يضم العراق عددا كبيرا من مراقد الأنبياء اليهود ومن بينهم مرقد النبي حزقيال في ناحية الكفل (جنوب الحلة)، وقبر عزرا في منطقة العزير

يقول بنيامين التطيلي عن يهود بغداد التي زارها: “يقيم في بغداد نحو 40 ألف بهودي وهم يعيشون بأمان وعز ورفاهية في ظل أمير المؤمنين الخليفة.. أما رئيس هؤلاء العلماء جميعهم فهو الرّبي دانيال بن حسداي الملقب ‘سيدنا رأس الجالوت’ ويسميه المسلمون ‘سيدنا ابن داود’، لأن بيده وثيقة تثبت انتهاء نسبه إلى الملك داود.. وتقضي التقاليد المرعية بين اليهود والمسلمين وسائر أبناء الرعية بالنهوض أمام رأس الجالوت وتحيته عند مروره بهم، ومن خالف ذلك عوقب بضربه مائة جلدة، وعندما يخرج رأس الجالوت لمقابلة الخليفة يسير معه الفرسان من اليهود والمسلمين، ويتقدم الموكب مناد ينادي بالناس: (اعملوا الطريق لسيدنا ابن داود)… وعندئذ ينهض الخليفة وينهض معه الحجاب ورجال الحاشية، فيجلس الرئيس فوق كرسي مخصص لجلوسه قبالة الخليفة”.
ويضيف في حديثه عمن زاروا العراق عبر التاريخ وشهدوا تعايش أهله من كل الأديان، “يروي ابن بطوطة الغرناطي والمتعصّب في تطبيق أحكام الذمة، في رحلته أنه عند زيارته للسلطان التركي محمد بن آيدين: (أتى شيخ على رأسه عمامة لها ذؤابة، فسلم عليه وقام له القاضي والفقيه، وقعد أمام السلطان فوق المصطبة والقراء أسفل منه، فقلت للفقيه: من هذا الشيخ؟ فضحك وسكت، ثم أعدتُ السؤال، فقال لي: هذا يهودي طبيب، وكلنا محتاج إليه، فلأجل هذا فعلنا ما رأيت من القيام له). فأخذ ابن بطوطة الامتعاض، وجعل يهين الطبيب على جلوسه فوق قرّاء القرآن، وشتمه، ورفع صوته، فأنكر السلطان فعلته، وغضب اليهودي وخرج من المجلس″.

     

وعاش اليهود في العراق، وكان منهم حسقيل ساسون أول وزير مالية للعراق في العصر الحديث في العام 1921، ومنهم إبراهيم الكبير الذي كان أول من وضع النقود العراقية في العام 1932 ومناحيم صالح دانييل الذي أنشأ من ماله الخاص “الميتم الإسلامي”.
وقال شاعرهم أنور شاؤول: “إن كنت من موسى قبستُ عقيدتي فأنا المقيم بظل محمدِ وسماحة الإسلام كانت موئلي وبلاغةُ القرآن كانت موردي”. واستمر يهود العراق عراقيين خالصين حتى وقعت الهجرة القسرية في العامين 1950-1951.
في هذا الملف، “الهويات القلقة” الذي يستعرض الأعراق والأديان والهويات في العالم العربي، سيكون ليهود العراق حديث من خلال صحيفة العرب، عن حياتهم الماضية في العراق، وحياتهم بعده، وعن ثقافتهم التي أريد لها عبر من هجّرهم قسرا من الجانب العربي ومن الجانب الإسرائيلي الذي أصرّ على تخويف اليهود الشرقيين من المجتمعات التي عاشوا فيها، ليغادروا إلى بلاد المهجر التي كانت بحاجة لخزانات بشرية توفر المزيد من المستوطنين، بالإضافة إلى حاجتها لخبراتهم وعلومهم وحضورهم القوي.

حنين إلى دجلة والفرات
مازال يهود العراق يعيشون الحنين بتقليب ذكريات شواطئ دجلة والفرات، مرّ شهرا أيار وحزيران 1941 ثقيلين عليهم، ففيهما حصل الفرهود (آخر أيار وأول حزيران غُر الغوغاء بنهب محلاتهم في بغداد) ومع ذلك ثبتوا في بلادهم ثبوتهم عندما احتل قورش الفارسي بابل وخيّرهم بين المغادرة والبقاء، وها هي تمضي ألفان وستمائة عام وهم يعيشون على هذه الأرض، حتى افتعل التعصّب ضدهم وتحملوا حوادث سياسية كبرى لم يكونوا طرفا فيها كطائفة.
اليوم، وفي ظل الوضع السياسي الحالي، يطرح السؤال: ما هو مستقبل العراق بلا قواعد للتعايش والتسامح؟ فما حصل من مأساة مع اليهود، سيتكرر، بل هو يتكرر مع مسيحييه ومندائييه ويحدث بين شيعته وسنته، فوسط هذه الفوضى لا يبقى لهؤلاء حام، بل لا يبقى شيء اسمه وطن.
حول قضية الأرشيف وصلة يهود العراق ببلادهم أجرت صحيفة “العرب” حوارا مع عدد من يهود العراق، الذين غادروه شبابا وصبيانا، وعاشوا تجربة البعد عن الوطن، ويتوقون إلى العودة إليه، خاصة بعد أن استنشقوا عبق العراق- الوطن والتاريخ والهوية من خلال مجموعة من وثائق أرشيف يهود العراق التي عرضت في واشنطن ومن بينها وثائق ميلاد وعقود زواج وشهادات مدرسية رمزا لتلك الصلة.

        

أدون شكر: القضية ليست قضية أرشيف بالأساس، إنما بما تحتويه هذه المستندات الشخصية من معان رمزية بالنسبة إلينا
    
أدون شكر: أحن إلى عراقي
كانت قضية خروج أرشيف يهود العراق وظهوره بمعرض أميركي، شاهد فيه محدثنا في هذا الحوار أدون شكر، الذي غادر بلاده 1971 ليس برغبته ورغبة ذويه، بابا لطرح قضية أكبر من الأرشيف ألا وهي تعلق العراقيّ بوطنه.
تحدّث أدون شكر عن تفاصيل قضيّة الأرشيف اليهودي العراقي قائلا:

وصل إلى عِلم الجيش الأميركي، في صيف 2003، أن ضابطا في المخابرات العراقية أثناء حكم النظام السابق، كان يعرف مكان بعض التحف والمستندات التي ترجع إلى الطائفة اليهودية العراقية، وأنه يريد كشفها للقوات الأميركية بشرط الحصول على ضمانات أمنية.
وعلى الفور توجهت قوات من الجيش الأميركي بصحبة بعض المتخصّصين إلى مبنى المخابرات العراقية، الذي كان في حالة تدمير شبه كاملة نتيجة القصف الجوي الذي تعرض له قبل ذلك بأيام. وتمّ العثور على الأرشيف، من بين عدد كبير من المستندات الخاصة بالمخابرات العراقية في بغداد، داخل سرداب غارق في المياه.
وقامت وحدات من المتخصصين التابعين للجيش الأميركي باستخراج هذا الأرشيف، وتم وضعه تحت الشمس بغرض تجفيفه. وقد أدى ذلك إلى تعفن مجموعة كبيرة من الأوراق، ومحو جزء من نصوصها.
إثر ذلك، نقل الأرشيف إلى تكساس بالولايات المتحدة الأميركية. واستغرق العمل عليه ومعالجته عشر سنوات.
ويعرض الآن قسم ضئيل من المحتويات في المتحف التابع للأرشيف الوطني الأميركي بواشنطن، والبقية معروض في موقع الأرشيف الأميركي.

                            
    
أحد صناديق الأرشيف اليهودي الذي تم العثور عليه في قبو المخابرات العراقية

عشرات الآلاف من الوثائق
يحتوي الأرشيف على أكثر من عشرات الآلاف من الوثائق، وما يقرب من 2700 كتاب، تم عرض 24 قطعة منها فقط حاليا في المعرض، ومن بين هذه القطع شهادتي المدرسية، كما أوضح شكر، الذي قام بزيارة المعرض.
وأضاف: يحتوي الأرشيف كذلك على المستندات التي تم العثور عليها داخل مدرسة “فرانك عيني” اليهودية في بغداد، التي تم إغلاقها العام 1972 وتحويلها إلى المدرسة النظامية التابعة إلى وزارة التربية والتعليم. كذلك، يوجد ضمن الأرشيف وثائق زواج وكتب ومراسلات بين أبناء الطائفة اليهودية العراقية وجهات في دول العالم، إلى جانب نسخ من كتب دينية وتاريخية يرجع تاريخها إلى ما يزيد عن 400 عام.
ويستطرد شكر، لكن لم يتضمن الأرشيف أية وثائق وطنية نفيسة بالمعنى المعروف مِن الآثار والوثائق.
ويسترسل أدون شكر في الحديث قائلا:

يقودنا هذا إلى ما صرح به الدكتور سعد إسكندر، المسؤول الحالي في وزارة الثقافة العراقية عن الأرشيف العراقي، والمتصدر حملة إعادة الأرشيف المذكور إلى بغداد مرة أخرى.
فقد ذكر إسكندر من قبل أن الأرشيف الوطني العراقي يحتوي على وثائق ومستندات يهودية أثمن بمراحل من تلك التي يحتوي عليها الأرشيف، واعتقد أن هذا الكلام كان صحيحاً، فقد كان النظام السابق استولى على تلك المستندات وحفظها في المتحف العراقي، وفي الأرشيف الوطني من دون معالجة، ومع بداية العام 2004 بدأ العمل على هذا الإرث الوطني الذي يخص الطائفة اليهودية على وجه الخصوص، لذلك فإنني أدعو المسؤولين في بغداد أن يمنحونا الفرصة، ونحن أصحاب هذه الوثائق، للاطلاع عليها باعتبارها جزءا من تاريخنا الوطني في العراق.

   

           

         الملك فيصل الأول مع مجموعة من الشخصيات اليهودية


الحقيقة الغائبة عن الأذهان أن الجالية اليهودية لا تتوقف عند ورقة شهادة ميلاد أو زواج، بمعنى أن القضية ليست قضية أرشيف بالأساس، إنما بما تحتويه هذه المستندات الشخصية من معانٍ رمزية بالنسبة إلينا أكثر من كينونتها المادية، رمزية المواطنة التي تربو على ألفين وستمائة عام في أرض العراق.

 2700 كتاب وعشرات الآلاف من الوثائق والتحف النادرة يحتويها الأرشيف اليهودي العراقي لدى واشنطن

استيلاء واشنطن على الأرشيف
عن التحركات التي قامت بها الجالية اليهودية في سبيل استعادة الأرشيف وما فيه من وثائق شخصية، يوضح أدون شكر أنه حتى حلول العام 2013 لم يكن أحد يعلم عن تفاصيل محتويات هذا الأرشيف، وبالتالي لم تتحرك الجالية اليهودية العراقية، الموزعة على بقاع الأرض، في سبيل المطالبة به.
وفي نوفمبر الماضي بدأت الحكومة الأميركية في نشر محتوى الأرشيف على الإنترنت، وبدأت معها عملية عرض لبعض القطع النادرة من الأرشيف في المتحف الوطني الأميركي بواشنطن. في التوقيت نفسه شرعت الحكومة العراقية في اتخاذ إجراءات لإعادة الأرشيف مرة أخرى إلى بغداد، مستندة في ذلك إلى اتفاقية، كان قسم الآثار في وزارة الثقافة العراقية قد وقّعها مع الحاكم العسكري الأميركي على العراق العام 2003 لمدة عامين، ينقل خلالها الأميركيون الأرشيف إلى الولايات المتحدة لمعاجلته هناك، وبعد ذلك تتم إعادته مرة أخرى إلى بغداد. هذا لا يستند إلى منطق صحيح، فبعد شهور عطّل الحاكم المدني على العراق بول بريمر القوانين والاتفاقيات العراقية كافة، وتم نقل أكثر من 100 مليون وثيقة خاصة بأجهزة ومؤسسات الدولة إلى واشنطن، فالمفروض من الحكومة العراقية الحالية التركيز على استرجاع هذه الوثائق التي هي جزء من تاريخ العراق الحضاري. وتقوم الجالية اليهودية حاليا بمساع حثيثة لمنع الحكومة العراقية من القيام بذلك، من خلال “المنظمة العالمية” ليهود العراق ومقرها واشنطن، وهي المسؤولة عن التفاوض مع وزارة الخارجية الأميركية، رغم إعلان الوزارة عن التزامها بالاتفاقية الموقّعة بينها وبين الجانب العراقي، ورغبتها في إعادة الأرشيف خلال شهر يونيو العام المقبل.

                           

            يهود عراقيين في المطار بعد ترحيلهم الى أسرائيل


تعليقا على الجدل الدائر حول المكان الأنسب لهذا الأرشيف وهل يبقى في أيدي الحكومة العراقية أو الطائفة اليهودية أو يبقى في المتحف الوطني في واشنطن، يرى أدون شكر أن المعنى أعمق من أين يكون مكان الأرشيف. ويوضح ذلك قائلا: لقد كانت لحظات مليئة بالحنين إلى الوطن. عندما ذهبت لأتجول داخل المتحف الأميركي لأشاهد محتويات الأرشيف المعروضة هناك، وإذا بي أفاجأ بشهادتي المدرسية بين المعروضات. فلم أكن لأتخيل ذلك بعد مرور أكثر من 40 عاما على هروبي مع أسرتي من العراق من دون أن نأخذ معنا مستندا واحدا، خشية التعرف على هويتنا من قبل الأجهزة الرسمية، ونجحنا بالهروب، بعد ثلاثة أيام من السفر عبر الجبال في شمال العراق، والوصول إلى إيران، ومن ثم السفر إلى أوروبا. لذلك فما يمثله هذا الأرشيف بالنسبة إليّ يتعدى كثيراً فكرة الورقة أو الوثيقة، بقدر ما يمتد إلى جذوري الوطنية العراقية، التي لا أمتلك ما يدل عليها أو يثبتها الآن سوى ما في هذه الشهادة.
قضية أرشيف اليهود العراقيين، تجاوزت كما قال أدون شكر حدودها المنحصرة في من أحقّ بالوثائق، ومكان عرضها، إلى قضية إنسانية لها علاقة بحقوق الأقليات المهمّشة، في العراق وغيرها من بلدان العالم؛ فما حصل لليهود، في العراق، يحصل لطوائف غيرهم. من هنا بات الأرشيف اليهودي العراقي رمزا لترسيخ قيم التسامح.
ويعبر أدون شكر عن ذلك قائلا: في الحقيقة لم يكن لدى أحد من الطائفة اليهودية رفاهية التفكير في انتمائه إلى أصوله العراقية أو أي شيء آخر ونحن داخل العراق وسط مراقبة مشددة ومتابعة مخيفة، بقدر ما كنا نقضي معظم أوقاتنا في التفكير في كيفية الخروج من العراق نتيجة القمع والاستبداد الذي كنا نتعرض له كطائفة يهودية وقتها، وهو ما قد يتساوى فيه بهذا الإحساس كل المهجرين من جميع الطوائف، هذا من الممكن أن يفسر ردود الفعل القوية من قبل الجالية اليهودية تجاه محاولات إعادة الأرشيف مرة أخرى إلى العراق، لأن هذا الأرشيف يُعد الخيط الذي يربطنا بعراقنا.
                   

قطعة حافظة للتوراة من التراث اليهودي العراقي يعود تاريخها إلى القرن 19

الآخر العراقي

“أنت مرتبط بالآخر العراقي، طوال وجودك داخل العراق وفي خارجه كيف ترى الآخرين وارتباطهم بك؟”

عن هذا السؤال يجيب أدون شكر: عندما عدت إلى العراق بعد 2003 وجدت أن العراقيين يعيشون حالة من الأمل والتفاؤل بالمستقبل، وبتغيير وجه البلد بالكامل وبوضعه على الطريق الصحيحة، وبعودة العراق إلى طبيعته كلوحة فنية متعددة الجوانب والملامح التي تتحد مع بعضها في النهاية لتعطي مشهداً جميلاً ومتماسكا للتعايش بين الطوائف والأديان المختلفة. يتجلى ذلك في المعنى الذي يقف وراء إصرار الجالية اليهودية العراقية على استعادة ذلك الأرشيف. فالعراق هو مهد الديانة اليهودية التي تمتد لأكثر من 2600 عام، وبالتالي فالجالية اليهودية العراقية تشعر بمسؤولية ثقيلة على كاهلها للعب دورها في مد حبال الوصل التاريخي لهذا الإرث العميق الضارب الجذور، وخصوصاً بعد أن استؤصل العرق اليهودي من العراق بنزعات سياسية وعصبيات معروفة وانعدام التسامح. لكن ما سألت عنه أراه يرتبط بالنظام الحاكم وعمق نظرته إلى كل تلك الطوائف، ففي الحالة اليهودية مثلا، نحن نبحث عن هذا التسامح من خلال النظر ليس فقط في الأسباب التي تدفعنا إلى الرغبة في استعادة الأرشيف، ولكن أيضا في تلك التي تقف وراء رغبة الآخر في فعل الشيء نفسه، لنتوصل معا إلى استرجاع روح الحياة العراقية، هذا في رأيي هو المعنى الحقيقي للتسامح.
رسالتي إلى الذين يطالبون بعودة الأرشيف إلى بغداد هي أن تترجم الدولة العراقية على الأرض معنى التسامح الذي جاء في ديباجة دستور 2005 بأن العراق هو أرض الأنبياء، وتحتضن جميع الطوائف والأديان، ليس من منطلق التفضل عليهم، ولكن باعتبارهم جزءا من هذه الأرض وهذا النسيج الوطني.

            


لقد سُلبت الجنسية العراقية من يهود العراق قسراً، ويوجد أكثر من 450 ألف يهودي عراقي في الخارج، لا يحمل الجنسية العراقية منهم سوى أقل من عشرة أشخاص، وعلى المستوى الشخصي فمازلت أحارب منذ عشر سنوات من أجل الحصول على جنسيتي التي هي حقي مثلما كانت من حق أجدادي العراقيين، الذين وطئت أقدامهم هذه الأرض منذ ألفين وستمائة عام، لكن السلطات العراقية في كل مرة ترفض طلبي بحجة أن الوقت غير مناسب، وأن الدولة في حالة بحث عن الاستقرار السياسي والأمني أولا.
نحن اليهود العراقيين نبحث عن اللحظة التي نتمنى فيها على الحكومة العراقية أن تحقق التعايش والتسامح يعود إلى عراقنا الحبيب، وحينها سنطلب من الحكومة العراقية ونتوسل إليها أن تحتفظ بأرشيفنا كي يكون شاهداً على الألفي والستمائة عام التي عشناها على تلك الأرض، وتعيد إحياء التراث اليهودي والمعابد وأضرحة الأنبياء العشرة حتى نفتخر ونعتز نحن وأبناؤنا من بعدنا بوطننا وجذورنا العراقية.

 

   الرئيس عبدالرحمن عارف مع عدد من الشخصيات اليهودية في بغداد

كان اليهود يشكلون 2.6 % من مجموع سكان العراق عام 1947 وانخفضت نسبتهم إلى حوالي 0.1 % من سكان العراق عام 1951


    

وعن آخر مكان غادره في العراق، وذكرياته عنه يقول شكر: كنا نعيش في حي البتاوين، وكان الحي يضم مسلمين سنة وشيعة ومسيحيين ويهودا وأناسا من جميع الديانات والطوائف، وكنت صبيا صغيرا ألعب وأتجول في شوارع الحي بينما لم أكن أعرف أيا من أصدقائي أهو سني أو شيعي أو أرمني أو مسيحي. التسامح هو ما حملناه معنا من ذكريات.

      

أقول: إن الجالية اليهودية العراقية في الخارج هي الجالية من بين الجاليات الأكثر تمسكا بأوجه حياة وطنها الأصل، وتتحدث اللهجة البغدادية، ويعزف أبناؤها موسيقى الغناء العراقي ويؤدون المقام العراقي، باحتفالات أسرية مرتين بالأسبوع، ويأكلون الخبز العراقي مثلما كانوا في العراق، بينما جاليات يهودية أخرى من أوروبا لا تكاد تتذكر شيئاً من بلدانها الأصلية.
نناشد الحكومة العراقية في أن تسعى إلى وضع الآثار اليهودية في العراق في قائمة ما تهتم به منظمة اليونسكو من آثار، لأنها ذات قيمة تاريخية وثقافية إنسانية. فبعد خمسمائة عام من طرد اليهود من أسبانيا والبرتغال، قررت هاتان الدولتان اليوم فتح أبواب العودة لأي يهودي قد يتمكن من الكشف عن أي شيء من ماضيه، فلماذا سيكون على العراق الانتظار إلى أكثر من نصف ألف عام لكي يمنح اليهودي العراقي الجنسية التي هي حق أصيل لنا.
أخيرا، نحن كعراقيين أُصلاء في هذا الوطن نأمل ونصلي من أجل أن يحتضن العراق الديمقراطي الجديد أبناءه اليهود ويطمئن جميع الأقليات الأخرى المهددة بالإقصاء، إلى تاريخهم الخاص وتراثهم الوطني. يعيد العراق إلى أحضانه، الذين فقدوا جنسيتهم قسراً، وأن يرحب بالمنفيين كافة، بعدها يمكن أن يقول الجميع: هذا هو العراق عاد لنا وعدنا إليه.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

840 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع