سنوات صدام مذكرات بقلم المترجم الخاص سامان عبدالمجيد ـ الحلقة الثانية

      

سنــوات صــدام مذكرات بقلم المترجم الخاص سامان عبد المجيد ـ الحلقة الثانية

             

                      

عندما بكى وزير الدفاع العراقي،الحاسة السادسة تنقذ صدام من القصف لدى غياب قائد المخابرات!!

                    

الرجل ذو النظارة المحرشفة الغليظة، الذي خاطب العراقيين يوم الخميس 20 مارس 2003، كان صدّام حسين بالفعل، وليس أحد أشباهه، كما اعتقد الكثيرون وأكّدوا في تلك الفترة، فقد سجّل الرئيس مداخلته في البيت المجاور لبيتنا، حيث أقام في الأيام الأولى من الأزمة.

في الصباح كنت في المكان عينه ، في حدود التاسعة بشارع الزيتون، كانت سيارة علي عبدالله.

  

وهي من نوع «نيسان سدريك» مركونة أمام الفيلا، قيل لي إنه كان يقضي الليل بمكاتبنا، وحين استيقظ في حدود العاشرة سألته عن سبب وجوده بذلك المكان، فشرح لي أنه استيقظ في حدود السادسة وكأنه أحس بوجوب الذهاب إلى العمل قبل الموعد المعتاد، وقال ما إن وصلت إلى المكتب حتى أبلغني رجل من الأمن بأن الرئيس قد أرسل في طلبي.

توجه علي عبدالله إلى مكتب الرئيس يرافقه أحد الحراس، وسأله الرئيس الذي اعدّ خطابه في دفتر صغير رأيه في البناء النحوي للنص، وأجرى السكرتير الصحافي بعض التصويبات، ثم سجّل صدام مداخلته التلفزيونية للحرب بعد بدايتها ببضع ساعات. وعلى غير عادته، لبس صدام نظارته فدهش علي عبدالله أن يظهر الرئيس الحريص على مظهره دوماً، بذلك المظهر على الشاشة.

- سيدي الرئيس لماذا تضع النظارة؟

- إننا في حرب يا علي!

كان النهار قد بدأ في الطلوع، لكن الغرفة كانت لا تزال غارقة في العتمة. في العادة كان صدّام لا يحب أن يُظهر أنه حسير البصر، ولذلك اعتقدنا أنا نفسي وأسرتي وأصدقائي أنه شخص آخر، لكنّ علي عبدالله ما لبث أن صحّحني:

- أستطيع أن أؤكد لك مئة بالمئة أنه صدّام حسين.

تذبذب في القيادة

في الأيام الأولى للصراع ساد شيء من التذبذب في قيادة البلاد، الناتج إلى حدّ كبير عن تحرك القيادة وابتعادها، فقد تقلصت مهامنا إلى حدود الأشياء الأساسية، كتحرير أوامر الرئيس المكتوبة ونشرات الأخبار الموجهة إليه. وقد صارت تعليمات صدّام أكثر كثافة مما كانت عليه في العادة.

ففي الأسبوع الأول من الحرب وجّه رسالة من ثلاث صفحات إلى ألفٍ وخمسمئة من مسؤولي الجيش الكبار تسلّموها عن طريق المراسلين. وكان ذلك عملاً هائلاً.

                             

وقد أمرنا عبد حمود سكرتير صدّام الشخصي بطبع هذه الرسائل على حواسبنا، مخالفاً بذلك الأوامر التي كنّا قد تلقيناها قبل بضعة أيام بعدم استعمالها. ومرة أخرى كانت الإجابة الوحيدة التي تلقيتها:

- الأوامر هي الأوامر.

وبعث صدام رسالة أخرى إلى خمسة آلاف عضو في الحزب، وهي رسالة خطية اضطررنا لتصويرها، وأرسل رسالة أخرى إلى شخص يُدعى عادل عبدالله المهدي، قائد المكتب العسكري للحزب بالناصرية في جنوب العراق، حيث كانت المقاومة العراقية صامدة في وجه الجيش الأميركي وحلفائه البريطانيين.

واحبُّ أن أضيف هنا أن هذه الميليشيات قد لعبت دوراً مهماً في إقناع الفرق العسكرية والسكان وبالقوة أحياناً، بأن لا يستسلموا لنداءات الغزاة وبأن لا يتعاونوا معهم.

       

وأخيراً حرّر صدام رسالة أخيرة موجهة إلى قيادات العشائر وإلى مسؤولي الطوائف فكان العدد بذلك هائلاً، ممّا اضطرنا إلى البحث عن قائمة هؤلاء في مكتب العشائر المنزوي في أحد بيوت حي المنصور. ونظراً لتعقّد أسماء الأسر العشائرية فقد كان إعداد القوائم عملاً غاية في الصعوبة.

في هذه الرسائل كان الرئيس يُقدّم النصائح العسكرية، ويؤجج الرّوح الوطنية للمقاومة. كان يريد أن يُعِدَّ لمعركة بغداد خير إعدادٍ. كيف يمكن تأجيل تقدّم قوات العدو حتى قلب العاصمة؟

كيف يمكن ممارسة حرب العصابات داخل المدن؟ كيف رفض حرب المجابهة واختار الهجوم على الفرق الأميركية بواسطة مجموعات صغيرة من الفدائيين. لقد تطلب منا انجاز المهمة المطلوبة ثلاثة أيام وثلاث ليال. وقد كنت عند الضرورة الملحة أستغني عن العمل بوساطة الفرق.

كنت أعود إلى البيت في ساعات متأخرة، ليس قبل الساعة الحادية عشرة ليلاً في الأحوال كافة، كان الجو العام قد أصبح مريعاً، فقد أصبحت شوارع بغداد خالية، ولم تعد هناك كهرباء، وكانت عاصفة الرمال تزيد من حدّة ذلك الانطباع بالكارثة. لم أكن أُميّز الشيء الكثير وأنا أسوق سيارتي. كنت خائفاً.

كان القصف يهزّ العاصمة هزّاً. كان مسدّسي في متناول يدي، كانت مصالح الأمن قد زودتنا بقطعة كلاشنيكوف، لكن استعمالها في السيارة كان غير عمليّ، فتركتها في المكتب وفضّلتُ الاحتفاظ بمسدسي في متناول اليد.

ومع ذلك كله، فقد ظلت معنوياتي جيدة. وعند نهاية شهر مارس ، وبعد مرور عشرة أيام على بداية الحرب، عاد إلي علي عبدالله واثقاً من نفسه من اجتماع مع الرئيس والمسؤولين العسكريين من الجبهتين الجنوبية والشمالية.

- الوضعية العسكرية على ما يرام. إنهم يعدّون لهجوم مضاد سوف يفاجئ الأميركيين.

هكذا قال لي متحدثاً عن صدّام، لكنني أجبته:

- «بيني وبينك» هذا مستحيل!

بعد لحظات من التأمل قال لي بلا تردّد:

- إنك على حق!

- من المستحيل أن يخسرالأميركيون هذه الحرب. فإن همُ تعرضوا لأي هزيمة، تصوّروا كم سيكون شعوره بالقوة والعظمة، وهو يهزم أول قوة في العالم. سوف يجعل الخطر يخيّم على المنطقة برمتها، وسوف يثير الرعب في قلب الكثير من العرب. هذا السيناريو، حتى وإن كان في صالح بلادنا، فهو أمرٌ لا يتصوره العقل. ان انتصارنا مستحيل حتماً.

كان علي عبدالله، مثلي تماماً، رجلاً تقنيا في خدمة النظام. هذا الشيعي ، ذو الأصل البابلي، كان يعمل في الديوان منذ ثلاثين عاماً!!. وكان في السنوات العشر الأخيرة سكرتيراً صحافياً للرئيس. كان يحضر كل اللقاءات ما بين صدّام وضيوفه بمن فيهم العراقيين، وكان يحرّر التقارير الرسمية المخصّصة لتلفزيون الدولة، ولكنه لم يكن مغفّلاً، حيث كنا ننتقد النظام أحياناً بصوت خافت، ونحرص في ذلك على ألاّ يسمعنا أحد.

ولم يتردّد هذا المناضل البعثي القديم يوماً في فضح انحراف الحزب منذ وصول صدام إلى السلطة، وكان يأسف لذلك أيّما أسفٍ:

- لم يعد البعث ذلك الحزب الذي انتميتُ إليه في الستينات!

كان علي عبدالله بعثياً تاريخياً ، ولم يكن ذلك شأن التسعين بالمئة من المنخرطين في هذا الحزب، الذين كانوا يأخذون بطاقات الحزب، بدافع الامتثال للقاعدة السارية، وطمعاً في كسب (منصب عمل أو مهنة سريعة أو بعثة تدريبية إلى الخارج). في هذا الشأن كثيراً ما كان يقول لي:

- هل تعرف كيف تُميّز ما بين بعثيّ حقيقي وما بين بعثيّ انتهازي؟ يكفي أن تسأله في أيّ تاريخ كان انخراطه في الحزب.

ومع ذلك، فقد كان علي عبدالله يعتصم ببعض الأمل:

- هل نسيت الصومال؟ ألم يضطر الأميركيون في النهاية إلى الانسحاب منها بعد الفشل الذي لحق بهم؟

قلت له:

- تأجيل نتائج الحرب هو كل ما يمكننا أن نأمل فيه، وأنت تعرف ذلك جيداً يا علي!

عند قراءتي للرسائل التي كان صدام يُوجّهها لقادة الجيش، كنت أحدّثُ نفسي بأن الحرب مسألة من اختصاص المحترفين، والحال أن صدام لم يكن محترفاً، فمعه لم يكن للاختصاصيين أي حق في الكلمة.

     

فحتى عندما كان يتظاهر بإعطاء العسكريين حرية قيادة العمليات على نحو ما فعل مع الفريق ماهر رشيد، أحد أبطال الحرب العراقية ـ الايرانية.

  

حيث عينه مستشاراً للقيادة العسكرية، كان هو السيد الآمر الوحيد، فقد كان في الواقع لا يثق بالجيش ولا سيما وزير الدفاع سلطان هاشم، فقد وضعه تحت الإقامة شبه الجبرية قبل الحرب بقليل. فقد كانت سيارة من الأمن الرئاسي تأخذه لحضور اجتماعات القيادة العامة، وهكذا كان الرئيس يراقب عن كثب كل حركاته.

                                     

صدام في الأعظمية

كان محمد الصحاف، وزير الإعلام، يشحذ معنوياتنا بتصريحاته الملتهبة، وقد ظل يُبدي الكثير من التفاؤل حتى النهاية. وقد أُخِذ عليه إصراره على الكذب عن قصد، لكنّ الصحّاف لم يكن له أيّ خيار آخر: فإما أن يغادر العراق وإما أن يظل فيه ويتظاهر بأنه يُصدّق ما يقول، فلم يكن الصحّاف أحمق ولا غبياً، على نحو ما كان يحلو لوسائل الإعلام أن تصفه به، وإنما كان يتحدث لغات كثيرة وكان بيته مليئاً بالكتب.

    

ما لبث ظهور صدّام العلني المفاجئ يوم الجمعة 4 ابريل في حي الأعظمية، الذي كان له فيه أنصار كثر أن شدّد عزمنا، فقد راح بزيّه الأخضر الزيتوني «البيريه» الذي يعتمره يُوزّع الابتسامات ويُحيّي بيده جمعاً من الفضوليين السذّج. كان ذلك أسلوباً من أساليب استهزائه غير المتوقعة بالأميركيين .

وكان هذا الشخص هو صدّام بالفعل وليس «نسخة» من نُسخه كما توهّم العديد من الاختصاصيين الذين أنفقوا الساعات في تفحّص شريط الفيديو الخاص بهذه الجولة المفاجئة، حتى يقيسوا طول أذنيه وأنفه ونسيج شعره وأشياء أخرى، في محاولة يائسة للتمييز ما بين صدام الحقيقي وما بين إحدى نسخه.

    

لكنّ شيئاً بسيطاً لم ينتبه إليه سوى القليل منا يثبت أن صدّام بذاته هو الذي رآه الجمهور: فقد كان أحد حراسه يرتدي القميص نفسه الذي كان يرتديه ليلة ذلك الظهور حين جاء يسلمنا رسالة من الرئيس، فقد تعرفت على زيّه من مربّعاته الكبيرة اللافتة للنظر، فلم نعتد على رؤية حراس الرئيس بالزيّ المدني، فقد كانوا في العادة يظهرون بالزي الكاكي، يا لهم من مساكين! فقد كانوا يمرون بلحظات عسيرة.

كنا نتعامل مع ثلاثة أو اربعة منهم كانوا الأشخاص أنفسهم دائماً. ذات مرة استأذننا أحُدهم في استعمال الحمّام، فقد كنا نحسّ بأنّ حياتهم كانت غايةً في القساوة.

وحتى لحظة تدمير مركز ماعون كانوا يتدافعون على مكاتبنا لإجراء العديد من المكالمات الهاتفية، لأن ذلك كان متعذّراً عليهم من الموقع الذي كانوا يختبئون فيه مع صدام، فحين كانوا يمرّون لتسلّم البريد أو لتسليمه لم نكن نجرؤ قط على السؤال عن حال الرئيس بشكل مباشر، بل كنا نكتفي بالقول «شلونك؟» أو «شلون الوضع؟».

كان ذلك أسلوبنا في الوصول إلى الجديد من الأخبار. لقد كنا بعيدين عن صدام ولكننا على اتصال به من خلال بريده وكنا نتطلع لمعرفة المزيد عنه.

        

عندما سيطر الأميركيون على المطار في اليوم التالي لظهور صدام في العلن يوم 5 ابريل، أخبرني أحد الأصدقاء أن العديد من جنود العدو قد لقوا حتفهم في المعارك، وقد رفع ذلك معنوياتي قليلاً، لكن الوضع ما لبث أن انقلب في اليوم التالي وظل يسير من سييء إلى أسوأ.

ومنذ ذلك الوقت صرنا معزولين عن صدام، وصار البريد الذي كنا نرسله إليه يعود إلينا بعد بضع ساعات من دون أن يكون قد اطلع عليه أحد، فقد كان السائقون الذين كنا نعهد إليهم به يقولون لنا إنهم لم يعثروا على أي شخص في المواقع المرصودة لاستلام هذا البريد، فلا شك أن صدّام قد اضطر لأسباب أمنية أن يغيّر ملاجئه باستمرار.

      

وأن لا يخبر بذلك إلاّ أقل عدد ممكن من الناس، فلم يعد حرّاسه الذين كانوا سعاته يعرفون أماكن وجوده، فقد كان يقال قبل الحرب إن الشخصين الوحيدين اللذين كانا يعرفان مكان وجوده باستمرار هما ابنه الأصغر قصيّ، وارثه والمسؤول عن حرسه الخاص، ثم عبد حمود ذراعه اليمنى.

وكون أن البريد لم يكن يصله فذاك أمر تعودنا عليه في الماضي وكان مردّه لتشوّش في الإدارة، أما هذه المرة فقد كان الأمر مثار قلق وحيرة، حيث أحسست أن الوضع على غير ما يرام.

في السابع من ابريل ذهبت إلى مكتبي لآخر مرة. وعلى الرغم من أننا كنا فقد فقدنا الصلة مع الرئيس فلا شيء كان ينبئ بالهزيمة الوشيكة، فقد قيل لي إن صدّام كان قد عقد اجتماعين مع المقربين إليه، فالاتصال إذن لم ينقطع ما بين القادة العراقيين. أحد هذين اللقاءين جمع ما بين أعضاء من أسرته.

حيث داعب صدّام هؤلاء ومازحهم على ما يبدو، وكان يحمل حزاماً من المتفجرات حول خصره، مثلما كان يفعل قصيّ وعديّ. ويقال إنه داعب عليّاً نجل الفريق حسين رشيد، وهو رجل من رجال أمنه الأقوياء، حيث قال له ضاحكاً:

- كم لك من الأطفال يا علي؟ وأنت يا حسين كيف حالك؟

وقد تركوا صدّام، وهم يشعرون أنه أراد أن يوهمهم بأنه، على الرغم من خطورة الوضع القصوى، لم يفقد رباطة جأشه، وكان قبل ساعات من ذلك الاجتماع قد اصطحب أصيل زوجة قصي واطفالها الثلاثة لكي يودّعوا أطفال رغد ورنا وهالة بنات صدام الثلاثة، وقد افترقوا في حي المنصور.

أين ذهبت الدفاعات؟

في اليوم نفسه قام الأميركيون بقصف المكان ظناً منهم أن صدّام وعائلته موجودون فيه، ومرة أخرى أنقذت الحاسة السادسة حياة الرئيس، لكن الأميركيين لم يضلوا الطريق كثيراً: فقد كان الرئيس يحتل أحد البيوت في الحي، وكان قد استدعى ابنيه قصي وعدي وأهم المسؤولين في الأمن.

                                  
وفي لحظة اللقاء المتفق عليها لاحظ أحد المقربين من صدام غياب مدير المخابرات الفريق عبدالجليل الحبّوش، فراح يتساءل في ذهول عن سبب تأخره، وما لبث أن فهم في تلك اللحظة أن جاسوسه الرئيسي قد غدر به!!.

وهكذا أدرك صدّام وقصي وعبد حمود أن المؤامرة قد بدأت تحدق بهم، فسارعوا بإخلاء الدار، وما هي إلا لحظات حتى حوّلت الصواريخ الأميركية البيت إلى انقاض، فلم يبق من البيت سوى فوهة فاغرة، وقد نجا صدام من الموت، لكنه أدرك أن الخيانة باتت تحاصره وأن سلطته قد بدأت تتأرجح من الداخل.

وعندما رأيت في اليوم نفسه على القناة الأميركية «فوكس نيوز» صور المدرعات وهي تتوغل في قلب بغداد، دون أن تعترضها أي مواجهة من الجيش العراقي لم تُصدق عيناي تلك الصور والمشاهد، فقد كانت الدبابات تمر أمام أحد المساجد.

وكانت جثث الشهداء ملقاة على الطريق. وقد كانت هذه القوات آتية من المطار تتقدم بسرعة ثمانين كيلو متراً في الساعة من دون أن يعترض سبيلها أي عائق من العوائق. كنا في المكتب نتابع تلك المشاهد بكثير من الذهول، لكننا كنا نثق في الحرس الجمهوري وفي الحرس الخاص للرئيس، ونعلم أنهما كانا قد نصبا القذائف والصواريخ دفاعاً عن العاصمة.

لكنّ أحد السائقين ما لبث أن سألنا في ريبة وذهول:

- ولكن أين ذهبت دفاعات بغداد؟ وأين وصلت هذه المدرعات الأميركية المجنونة؟

قلت له:

- إنها بالقرب من تمثال شواف.

- مستحيل! لقد ملأت خزّان السيارة بالبنزين هناك! لم أر أي مدرعة!

- لعل الأمر مجرد تركيب صور.

كان الأميركيون بالفعل يُظهرون أنهم قادرون على الدخول إلى بغداد والخروج منها بسهولة وبلا مقاومة، ومن هنا بدأ الذهول يتملكني.

في اليوم التالي، يوم 8 ابريل، تناولت فطوري في البيت. كانت زوجتي لا ترغب في أن أذهب إلى العمل، وظللت أنتظر حتى الساعة الحادية عشرة، وظل القصف متواصلاً، لكنني لم أكن أستطيع أن أتأخر أكثر من ذلك عن عملي.

وفكّرت، عارٌ عليك أن تبقى هنا هادئ البال ورفاقك هناك يقاسون في العمل.

وركبت سيارتي وانطلقت، كان عليّ أن أعبر نهر دجلة حتى أصل إلى المكتب، كان الجسر الأول، جسر الجمهورية، مغلقاً، وكذلك الجسر الثاني والثالث، أما الجسر الوحيد الذي كان لا يزال مفتوحاً للسير فكان يقع بالقرب من المدينة الطبية في الأعظمية. كانت الطرقات على الجانب الآخر من ضفة النهر، خالية، لكنّ أحد الأطفال استوقفني متسائلاً:

- إلى أين يا سيدي؟

- إني ذاهب إلى العمل.. إلى مكتبي،

فقهقه مستغرباً:

- أي مكتب؟ فالأميركيون عند نهاية الشارع.

«هذا مستحيل - قلت لنفسي - أمس فقط كنت هنا، وكذلك الحكومة والجنود العراقيون...».

لم أعد أفهم شيئاً في تلك الوضعية، وبدأت أفكر في داخلي أن لا شيء يمكن أن يفسر هذا التشتت والانهزام سوى الخيانة، ورجعت أدراجي نحو البيت.

لم أكن أنا الوحيد الذي وقع في الحيرة والاضطراب، فقد روى لي أحد الشهود ليلة سقوط بغداد انه رأى وزير الدفاع سلطان هاشم وهو يبكي أمام تقدّم القوات الأميركية، فلم يجد بدّاً بعد محاولاته اليائسة من أن يتقهقر ويُذعن للخصم وهو يقول:

- قُصيّ دمّر الجيش وعبد حمود دمر الدولة!

لم نتلقَّ على الإطلاق أي أوامر بالتفرق. في اليوم التاسع من ابريل مكثت في بيت أخت زوجتي في حي زيونة، الذي كان ملاذي مع الأسرة.

في الصباح حاولت مرة أخرى أن ألتحق بالمكتب لكن دون جدوى، فقد ظللت مشدوداً إلى الإذاعات الأجنبية الناطقة بالعربية، البي بي سي أو إذاعة مونتي كارلو، التي ما لبثت أن أكدت سقوط النظام خلال عصر ذلك اليوم. وبذلك دقت ساعة فرار أهم القادة العراقيين.

كان صدام يحتفظ بثلاثة سائقين لم يكن أيّ منهم يعرف الآخرين، كان أحدهم ينتمي لعشيرة العزة وآخر لعشيرة الدليمي والثالث للعشيرة الرئاسية من التكريتيين. فقبل الحرب بقليل، كان الرئيس قد حصرهم في ثلاثة مواقع مختلفة من بغداد، وكان العديد من الحراس يراقبونهم، وظني أن صدّام قد لجأ إلى أحدهم حتى يفرّ من بغداد الواقعة لتوها في قبضة الأميركيين.

 

كان استسلام المدينة يجري في أجواء غريبة، فما زلنا نذكر تفكيك تمثال الرئيس في ساحة الفردوس في قلب بغداد، لكن صور الحدث تعرضت للكثير من التلاعب.

فهناك كان عدد الصحافيين الذين هلّلوا وصفقوا للحدث يفوق عدد العراقيين بكثير، وباستثناء الأحياء الشّيعية الفقيرة، التي تعرضت لقمع النظام في السابق، فلم تكن البهجة على موعد مع ذلك الحدث، على الرغم من أن الأغلبية الساحقة من العراقيين كانت مسرورة بما كان يجري من أحداث.

   

وبينما كانت مشاهد النهب تتضاعف عبر البلاد تحت أنظار الأميركيين اللاّمبالية ، كانت مشاعر الخشية والفزع من تقلبات ما بعد صدّام قد بدأت تدب في النفوس.

وفي عصر التاسع من ابريل، كان محمد الصحاف وزير الإعلام لا يزال في استوديوهات القناة التلفزيونية الفضائية العراقية، حين تلقى رسالة مكتوبة من طرف الرئيس. وقد قرأ مقطعاً قصيراً منها أمام الموظفين الباقين معه.

- إن الرئيس سيزورنا بعد قليل.

بعد ذلك بلحظات مرت ثلاث سيارات دون التوقف أمام الاستوديوهات، فقد كانت تنطلق نحو الشمال في اتجاه تكريت، وبذلك فهم الصحاف أن كل شيء قد انتهى فأطلق بدوره ساقيه للريح.

وفي يوم السبت 12 ابريل مرّ الصحاف ثانية بالقرب من استوديوهات التلفزيون ، التي كانت قد تحولت إلى أنقاض، وتوجه نحو بيت مقابل كان يأوي معهداً للتكوين السمعي البصري. وكان حارسه الخاص يراقب مدخل المكان عن كثب، كان الصحّاف يمسك بيده كمية من الأشرطة.

وكان يبحث عن مهندس لتركيبها، فوجد هناك نجل ابن عمتي، مقدم البرامج الإذاعية باللغة الكردية، الذي قدّم له يد المساعدة. كان الأمر يتعلق بخطاب لصدام يقول فيه الرئيس «إنّ المعركة لم تنته...». في تلك الأثناء كانت سيارة «التويوتا 44»، التي جاء فيها محمد الصحاف قد فُككت وجُرّدت من كل مكوناتها!!!.

للراغبين الأطلاع على الحلقة الأولى:

http://www.algardenia.com/fereboaliraq/8239-2014-01-08-21-24-11.html

   

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

767 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع