عبدالسلام محمد عارف.. كما رأيته / الحلقة الأولى

            

عبد السلام محمد عارف كما رأيته / الحلقة الأولى

       
عندما كلفت بحماية منزل الرئيس عبد السلام تصورته قصرا فارها تحيط به الدبابات والمدافع وفوجئت به بسيطا وسط بيوت المواطنين!!

         

مقدمة:عبد السلام محمد عارف.. ضابط عراقي عربي، دخل التاريخ من أوسع أبوابه في الرابع عشر من تموز (يوليو) 1958 عندما قاد اللواء العشرين من جلولاء وهو آمر فوج ويحمل رتبة عقيد ركن، وفجر ثورة في العراق، توجت نضالات وتضحيات العراقيين ضد الاستعمار والقوي الرجعية وسياسات الأحلاف والمعاهدات التي كبلت العراق وعزلته عن أمته العربية،

وشكلت علامة مضيئة علي طريق التحرر والانطلاق نحو آفاق التقدم والتنمية الوطنية والوحدة العربية، لذلك ليس غريبا ان تقترن ثورة تموز (يوليو) باسم هذا الرجل الذي ضرب أروع الدلالات في الإيثار الوطني والالتزام الاخلاقي، عندما تنحي عن موقعه الفعلي كقائد للثورة ومنفذها الاول الي زميله ورفيقه الزعيم الركن (العميد) عبد الكريم قاسم آمر اللواء التاسع عشر، وفاء منه لكلمة شرف واتفاق اخوة وقسم علي التعاضد والتعاون بما يخدم العراق والأمة العربية، علما بأن الاخير الذي وصل الي بغداد بعد نجاح الثورة بخمس ساعات واحتل مكانه في وزارة الدفاع كرئيس للوزراء وقائد عام للقوات المسلحة ووزير للدفاع، لم يقابل صنيع عبد السلام وفروسيته، الا بالجحود والتعالي، الامر الذي أدي الي انتكاسة الثورة وانحرافها عن الأهداف الوطنية والقومية التي قامت من أجلها، واعتقال مفجر الثورة ومحاكمته وسجنه وإصدار حكم باعدامه في سياق عملية كيدية للانتقام من دوره البطولي في انبثاق الثورة ونجاحها.

                      

وكما عاني عبد السلام عارف ظلما واجحافا من زميله السابق عبد الكريم قاسم، فانه واجه غبنا وتهميشا من رفاقه الجدد عقب حركة الثامن من شباط (فبراير) 1963 عندما حاول البعثيون استغفاله والتجاوز علي مكانته وموقعه، وهم الذين استعانوا به كاسم وطني لامع ووجه قومي بارز، لصدارة الحركة واستثمار رصيده الثوري في مواجهة المعسكر المناوئ للوحدة والتيارالقومي من شيوعيين واكراد انفصاليين وبقايا العهد الملكي المباد، ولأن عبد السلام استوعب درس عبد الكريم قاسم جيدا، وأدرك بعد سنوات القهر الخمس التي أعقبت ثورة تموز (يوليو)، أن الاخوة والرفقة التي جمعته مع البعثيين لها التزامات مشتركة عليه وعليهم، وكل طرف يتهاون أو لا يحترم ما التزم به، يتحمل نتائج أعماله، لذلك اضطر عبد السلام الي حسم الامر معهم في الثامن عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 وأنقذ العراق مرة أخري من الفوضي وتناحر البعثيين وانشقاقاتهم.
والذين يستذكرون العامين والشهور الخمسة التي كان فيها عبد السلام عارف رئيسا للعراق من معاصرين له، او مؤرخين منصفين لعهده، لا بد وأن يتوقفوا إزاء سلسلة انجازات تحققت في هذه الفترة القصيرة، علي صعيد الأمن والاستقرار في البلاد والسلم الاجتماعي وسيادة القانون، والقرارات الاشتراكية والتشريعات التقدمية في استثمار الموارد والثروات الوطنية واتساع الخدمات البلدية والتعليمية والصحية والاجتماعية، وكلها موثقة لا تحتاج الي اثباتات.
وقد تعرض عبد السلام عارف في حياته وبعد وفاته في ذلك الحدث الجلل في الثالث عشر من نيسان (ابريل) 1966 الي ظلم كبير من قيادات حزبية وطائفية وعرقية تجنت عليه بدوافع سياسية، نتيجة استقامته وتواضعه، وثباته علي منهجه الوطني والقومي، وقد اتهم ولا يزال من قبل أوساط شيعية مقربة من ايران، بأنه طائفي سني، وتنسي او تتناسي انه هو من سمح لآية الله الخميني رجل الدين المعارض للشاه، بالقدوم الي العراق من منفاه في تركيا مطلع عام 1964، والاقامة والتدريس في النجف معززا ومحميا من عملاء الشاه البهلوي الايراني، واتهمته أطراف أخري بالدكتاتورية، رغم ان سيرته في الحكم والسلطة تؤكد عدالته ونزاهته اضافة الي بساطته ونقاء سريرته، واتهمه بعض قيادات القوميين بعدم الحماس للوحدة وأثبتت الايام انه قومي صلب ووحدوي أصيل.

                        

                             عراقيات يبكين على رحيل الرئيس عارف

عبد السلام عارف رحل الي جوار ربه، نظيف اليد والجيب والوجدان، لم يترك لبناته وأولاده أرصدة وعقارات وممتلكات، ولعلها من المصادفات الجميلة ان يصدر كتاب يؤرخ لجانب من حياة الرئيس الراحل عبد السلام عارف وفي هذا الزمن الذي صار فيه العراق يرزح تحت الاحتلال الامريكي ويحكم من زمر طائفية وعرقية معادية لتاريخ العراق وتراثه الوطني وعروبته، وأجمل ما في الامر ان صاحب الكتاب أكاديمي عراقي ومن القومية التركمانية، ليس محسوبا علي حزب أو جماعة سياسية معينة، بدأ حياته عسكريا وقادته وظيفته ليكون قريبا من رئيس الجمهورية مسؤولا عن حماية داره وضابطا في الحرس الجمهوري، فكتب مشاهداته وانطباعاته بتجرد وحيادية، مدفوعا بموضوعية شديدة ووطنية مخلصة، بعيدا عن المبالغات واصطناع الحوادث والروايات. لقد سرد الدكتور صبحي ناظم توفيق أحداثا عايشها، أو كان قريبا منها أو عارفا ببعض تفاصيلها، وقدمها الي قراء كتابه كما جرت بدون تزويق ومغالاة، وهو جهد يشكر عليه، ومبادرة تستحق الثناء. وفيما يلي الحلقة الاولي من اجزاء موسعة من الكتاب.

هارون محمد

   

           
تكليفي بحماية دار رئيس الجمهورية

تسلّمت قيادة الفصيل التاسع في السرية الثالثة للفوج الاول حرس جمهوري التي كان الملازم الاول هشام عبد الكريم السيد علي يقودها، وكنت محظوظاً بين منتسبيه من الجنود الأربعين وضباط الصف المعدودين، وعريف الفصيل ساجت عبد علي الذي كان أفضل ضابط صف التقيته.. والحقيقة أنني لم أعرف ضابط صف مثله او بمستواه الخلقي والعسكري واتزانه وشخصيته طيلة حياتي العسكرية التي استمرت ستة وعشرين عاما، إذ تعلمت منه اكثر مما تعلم مني، وخصوصاً خلال تلك الاسابيع او الاشهر الاولي من قيادة الفصيل.

وكان آمر سريتي الملازم الاول هشام عبد الكريم السيد علي، من افضل ضباط الفوج، وخير معلم ومدرب وموجه لي في حياتي العسكرية كضابط تخرج حديثاً.
انقضت ثلاثة اسابيع قبل ان يحل يوم الحادي والعشرين من آب (اغسطس) 1964، حين انتهي الدوام الرسمي مع حلول الساعة الثانية والنصف، فتناولنا طعام الغداء في مطعم الضباط، وتوجه الضباط الي غرف او قاعات منامهم لنيل قسط من الراحة قبل حلول موعد الرياضة المسائية في ذلك اليوم المقرف بحرارة معهودة. كنا خمسة ضباط برتبة ملازم ثان نبيت في قاعة صغيرة واحدة، وهم سعد شمس الدين، عبد محمود البنا، عبد الجبار جسام، سعد عبد الهادي، وكاتب هذه السطور، حين دخل علينا مساعد آمر الفوج الملازم الاول حامد جاسم الدليمي علي غير عادته، ليطلب ان يذهب أحدنا لتسلم مسؤولية حماية دار رئيس الجمهورية من الملازم فاهم مالك الذي مضت عليه خمسة ايام في هذا الواجب.. وعندما انتبه ان لا أحد من الضباط الذين تخرجوا حديثاً قد تكلف بهذه المهمة، فقد أمر ان يحضر أحد هؤلاء الضباط الاحداث نفسه للمهمة، ولما كنت مستعداً لها، فقد بدأت اُهيئ الفراش السفري وحقيبة ملابسي قبل قدوم السيارة العسكرية التي ستقلني.
كان هذا الواجب مفاجأة لي، إذ كنت اعتقد بأننا ـ نحن الضباط الاحداث ـ سوف لا تناط بنا مثل هذه المسؤوليات الا بعد انقضاء عدة اشهر علي خدمتنا، لنكتسب مزيداً من الخبرة، فقيادة فصيل في تدريب او تمرين او واجب داخل ثكنة، او حتي في معركة هجومية او دفاعية هي من الامور التي تعلّمناها ومارسناها نظرياً، ولربما عملياً بشكل نسبي، خلال سنوات الدراسة والتدريب في الكلية العسكرية، أما مثل هذه المهمات الخاصة، وبالأخص حماية دار رئيس الجمهورية، فلم يكن طلاب الكلية العسكرية او سواها قد تدربوا عليها او تعلموها.

          

أقلتني سيارة عسكرية من طراز (كاز) روسية الصنع الي خارج ثكنة الفوج. وكان تصوري ان منزل رئيس الجمهورية قصر فاره او بيت فخم يقع قريباً من القصر الجمهوري، وقد يطل علي نهر دجلة في أحد أحياء بغداد الراقية، مثل كرادة مريم، او الجادرية، او عرصات الهندية او المسبح، واعتقدت ايضا ان بضع دبابات وعدداً من المدرعات تحيط به، ورشاشات ومدافع منصوبة عليه تحميه من أخطار محتملة في ظروف العراق القلقة عام 1964.
لم أشأ ان أستصغر نفسي وأنا ضابط لأسأل جندياً سائقاً لا أعرفه، عن الموقع الذي نحن متوجهون اليه في عصر ذلك اليوم.. ولكن وبعد ان اجتزنا كل شوارع كرادة مريم فـالصالحية والكرخ والعطيفية والكاظمية مقتربين من جسر الائمة (1) اضطررت الي محادثة السائق وسؤاله:

الي أين نحن ذاهبون يا أخي؟
أجابني السائق: الي بيت رئيس الجمهورية سيدي.
وأين هذا البيت؟
في الاعظمية سيدي.
وسألته مستفسرا هل تقصد أنه في شارع الضباط؟ (2)
كلا سيدي.. انه قريب من المقبرة الملكية، رد علي السائق.

         

عبرنا جسر الائمة متجهين نحو سينما الاعظمية، ومن تقاطع الشوارع التي تقع علي مقربة منها، انحرفنا يميناً لأشاهد علي بعد مئات الامتار مبني المقبرة الملكية ذات القبة الزرقاء...

  

التي تضم بين جنباتها رفاة ملوك العراق فيصل الاول، غازي الاول وفيصل الثاني وعدد من امراء واميرات العائلة المالكة التي حكمت العراق المعاصر منذ عام 1921 حتي صبيحة يوم الرابع عشر من تموز (يوليو) 1958، وقبل ان نصل الي ساحة المبني المذكور بمئة متر تقريباً، انحرفنا يساراً لندخل شارعاً فرعياً حيث شاهدتُ ضابطاً برتبة ملازم ثان واقفاً امام سياج مبني انتصب قرب باب دخوله جندي حارس واحد يحمل بندقية كالاشنكوف.
نزلت من السيارة، متوجهاً نحو الضابط، وأديت التحية العسكرية له وقدمت نفسي، فهذه المرة الاولي التي أتقابل معه، فقد كان الملازم فاهم مالك مهدي مشتركاً في دورة بمدرسة المشاة في معسكر الوشاش (3) تؤهله للترقية الي رتبة ملازم اول، وفور انتهائه من الدورة التحق بالفوج وأرسل لذلك الواجب، ولذلك  كونه آمراً للفصيل السابع ضمن السرية الثالثة التي انتسبت اليها قبل ثلاثة اسابيع، فإننا لم نتعارف من قبل.
لقد اجتذبتني شخصية الملازم فاهم مالك خلال الدقائق الاولي التي بدأ فيها يوجز المهمة التي سأتسلمها للمرة الأولي، فقد كان خفيف الظل، لبقاً ومتواضعاً، صريحاً في طرح آرائه، محباً لجنوده المنسجمين معه، ولكنه لم يكن يبالي كثيراً بالضبط العسكري الصارم ـ كما هو حال معظم ضباط الاحتياط ـ وقد علمتُ، بعدئذ، أنه من عائلة معروفة جداً في محافظة الديوانية. وبعد جولة سريعة داخل سياج المبني، وجدت هناك قاعة لمنام الجنود تحوي خمسة وعشرين سريراً وخزاناً معدنياً لحفظ الملابس وهي متلاصقة مع مبني لاستحمام المراتب، وتطل القاعة علي ساحة مبلطة بالاسفلت لأغراض التدريب، وهناك علي مبعدة من القاعة غرفتان لضابط الحماية، الاولي للمكتب والثانية للمنام، وعلي مقربة منهما سياج مشترك ارتفاعه متر ونصف متر يفصل الثكنة عن دار رئيس الجمهورية، وللثكنة بابان، احدهما للدخول، والآخر للخروج، ويقف امام كل منهما جندي حارس واحد.

  

                         إحدى مناطق بغداد

ودارت جولتنا الثانية حول دار رئيس الجمهورية، بيت علي مقربة من ركن من اركان تقاطع اربعة شوارع فرعية ضمن منطقة سكنية اعتيادية متواضعة، تحوي مئات المساكن، مساحته بحدود ثلاثمئة وخمسة وسبعين متراً مربعا، مبني من الطابوق العادي، وربما مضي علي بنائه ما يقارب العشرين سنة، حديقته متواضعة، بناؤه من طابق واحد، ولاحظت ان غرفتين اُضيفتا اليه كطابق ثانٍ، وهناك سياج منخفض علي شكل مشبك معدني يفصل حديقة المنزل عن الشارع الفرعي المطل عليه، ارتفاعه متر ونصف متر، وبالقرب من باب الدار اُضيف بناء يبدو جديداً نسبياً، أو قد اُعيد طلاؤه مجدداً، يحوي في أسفله علي (كراج) يكفي بالكاد لسيارة واحدة، تعلوه غرفة صغيرة بمساحة الكراج نفسه لمنام سائق السيارة.
شعرت بالذهول مما شاهدته، فدار رئيس الجمهورية العراقية، التي تصورتها قصراً فارهاً في منطقة راقية، محاطاً بحدائق غناء ومياه جارية، تحميه دبابات ومدرعات ورشاشات ومدافع وجنود مدججون بالسلاح فوق سطوح وأبراج، أراها الآن بعيني دارا متواضعة في منطقة اعتيادية محاطة بعشرات الدور السكنية، بعضها أفخم منها بكثير في مساحتها وطرز بنائها وجمال حدائقها، واستغربت اكثر عندما علمت ان دار رئيس البلاد يحميها اربعة وعشرون جنديا لا يحملون غير بنادق (كلاشنكوف) نصفهم غادروا في اجازة او استراحة، وثلثا الباقين مرتاحون في قاعة المنام!! بادرني الملازم فاهم مالك قائلا: إسمعني يا ملازم صبحي جيداً، فهذا الواجب علي الرغم من سهولته وبساطته، فإنه يحمل حساسية قصوي تتعلق بشخص رئيس الجمهورية وأمنه عندما يتواجد في بيته، وخصوصاً وأنها المرة الاولي التي تكلف بها، إضافة لكونك ضابطاً حديثاً.. ناهيك عن الظروف التي تمر بها البلاد منذ ست سنوات. فمن حيث المبدأ، عليك أن تعرف أننا هنا مسؤولون عن حماية رئيس الجمهورية لوحدنا، وضمن منطقة سكنية اعتيادية، أهلوها من مختلف الاجناس والطوائف والاتجاهات السياسية، وان سيادته لا يوافق بشكل مطلق علي إزعاج أي منهم لانه يعتبرهم (جيران العمر) تربطه بهم علاقات إنسانية وشخصية وعائلية منذ سنوات.

نحمي عائلة الرئيس في حالة الاعتداء علي بيته فقط

واستطرد يقول: ليس ضمن واجبنا حماية أفراد عائلة الرئيس، إلا في حالة وقوع اعتداء علي بيته، بحيث عندما لا يتواجد في منزله فإننا نكتفي بإفراز جندي حارس واحد للوقوف في كل من بابي دخول خروج الثكنة ليس إلا، كما تراهما الآن، وليس لنا ان نتدخل او نمنع او نعيق أي شخص يزورهم، سواء من أقاربهم أو أصدقائهم أو من الجيران،

واردف قائلا:

ان الرئيس لم يأت الي البيت هذا اليوم، وبما أن الوقت قد جاوز الساعة الرابعة عصراً فإنه من المستبعد أن يحضر، ولذلك فإنك تري الامور والاجراءات اعتيادية تماماً.
وعرفت فيما بعد أن من عادات الرئيس أن يزور بيته بين يوم وآخر، ولكن ذلك ليس نهجاً ثابتاً، وأنه قلما يبيت فيه ليلاً، وان فترة حضوره تنحصر عادةً بين انتهاء الدوام الرسمي ببعض الوقت وحتي بُعيد صلاة المغرب، أو لربما لحين صلاة العشاء التي يؤديها في البيت قبل الخروج والعودة الي القصر الجمهوري، وذكرني الملازم فاهم ان مسؤولا محددا سيتصل بك من القصرالجمهوري عندما يتوجه الرئيس الي بيته، وعادة ما يكون الرائد عبد الله مجيد سكرتير عام ديوان رئاسة الجمهورية، أو العميد زاهد محمد صالح المرافق الأقدم للرئيس، أو الملازم رشيد علوان المهداوي المرافق الشخصي لرئيس الجمهورية ويقول لك:

إن الرئيس قد غادر أو سيغادر القصر الجمهوري، عندئذٍ عليك أن تحسب حوالي عشرين الي خمسة وعشرين دقيقة وهي فترة وصول موكب الرئيس الي هذه المنطقة، وخلال هذه الفترة القصيرة عليك أن تتخذ الاجراءات التالية: تخصيص جنديين لكل من بابي الدخول والخروج بدلاً من جندي واحد، وتخصيص جنديين آخريين مزودين برشاشتين خفيفتين، كل منهما في زاوية من زاويتي سطح قاعة الجنود، الاول في الزاوية المطلة علي شارع المقبرة الملكية، والثاني في الزاوية الاخري المشرفة علي تقاطع الشوارع الفرعية، ثم تضع جندياً واحداً يقف في تقاطع الشوارع المذكورة وآخر في مدخل الشارع الفرعي من اتجاه الشارع الرئيس للمقبرة الملكية، ويقوم هذان الجنديان بقطع مرور السيارات فقط وليس المشاة الي الشارع الفرعي المؤدي الي دار رئيس الجمهورية قبل وصول موكب سيادته ودخوله الي بيته، اذ يتم السماح لمرور السيارات الأهلية بشكل عادي بعد ذلك وحالما يستقر (الرئيس) في داره، بعدها تتصل هاتفياً بأحد اولئك الذين ذكرتهم في القصر الجمهوري لتخبره بوصول السيد الرئيس بسلام الي داره..

وأضاف الملازم فاهم ان وضع الجنود يبقي كما أوضحته آنفاً، طالما مكث الرئيس في البيت، ويظل الجنود الآخرون في القاعة بكامل ملابسهم وأسلحتهم لمواجهة أي طارئ قد يحدث، ولكن عليك ملاحظة إراحة الجنود الحراس في بابي الدخول والخروج وفي الشارع الفرعي والسطح، اذ ينبغي تبديلهم بجنود آخرين من داخل القاعة، لأن الرئيس قد يبقي في البيت لعدة ساعات.

        

دار رئيس الجمهورية بلا هاتف!!

وهنا لم أشأ السكوت، فقد نفد صبري وسألت الملازم فاهم: أرجو ان توضح لي لماذا نقوم نحن بكل هذه الاجراءات المعقدة؟ ولماذا لا يتصل احد أفراد عائلة السيد الرئيس بالقصر الجمهوري مباشرة لمثل هذه الامور، اليس ذلك أفضل لهم ولنا؟ وكم كانت دهشتي كبيرة عندما ابلغني الملازم فاهم، انه لا يوجد هاتف في بيت رئيس الجمهورية!

وصحت ماذا؟ هل صحيح ما تقوله يا ملازم فاهم؟ نعم.. قالها الملازم فاهم بثقة واضاف: عندما اُنشئت ثكنة حماية الرئيس هذه، بادر ديوان رئاسة الجمهورية وفاتح رسمياً دائرة بدالة الاعظمية لمدّ خط هاتفي لمقر الحماية. ولكن بدالة الاعظمية اعتذرت عن تنفيذ الطلب لعدم وجود خط هاتف شاغر لديها، فما كان من رئيس الجمهورية إلاّ إصدار أمر لتحويل هاتف مسكنه لينصب في مكتب ضابط الحماية.

ومرة اخري صحت عجيب!!

فقال الملازم فاهم نعم، ويقال ايضاً ان السيد الرئيس ربما أحس ان الناس قد يزعجون أفراد اسرته بطلباتهم وتوسّطاتهم لذلك فقد اتخذ هذا الاجراء، وتساءلت في دهشة: طيب.. ولكن كيف تتصل زوجة رئيس الجمهورية وأولاده بالاقرباء والاصدقاء؟ أجابني ان أولاد السيد الرئيس يحضرون الي مقرنا لاستخدام هاتفنا، وفي هذه الحالة عليك تركهم لوحدهم لتفادي إحراجهم، فلربما يكون لديهم حديث خاص، وان السائق الحاج أحمد قد يحضر للغرض نفسه، ومن المحتمل كذلك ان يطلب أحد الاقرباء أو الاصدقاء أحد أفراد عائلة الرئيس، فعليك إخبارهم بواسطة الجندي المراسل او عريف الفصيل بذلك، ولكن لا أحد يطلب زوجة سيادته (أم أحمد) بشكل مطلق، وإن طلبوها فإنها لا تحضر عادة.
وبعد ان أنهي الملازم فاهم شرح اسلوب الحماية جلسنا في مكتب ضابط الحماية ليتطرق الي اُمور القيادة والادارة قائلا: لا بد وأنك لاحظت، ان الذي يسمي بـ (فصيل الحماية) هذا ليس فصيلاً كاملا، انما هو نصف فصيل يقوده ضابط واحد برتبة (ملازم ثان) يتكون من اربعة وعشرين جندياً يرأسهم ضابط صف، وأن سبعة الي ثمانية جنود ينزلون الي بيوتهم لغرض الراحة وزيارة عائلاتهم، لذلك فإن القوة القتالية الفعلية لهذا الفصيل قد لا تتعدي سبعة عشر جندياً، وخصوصاً لدي انتهاء ساعات الدوام الرسمي بعد ظهر كل يوم،

مضيفا: إنني أري، انه في حالة وقوع أي اعتداء علي شخص السيد رئيس الجمهورية، او علي بيته، فإنك ستنشغل تماماً بالحدث، ولا يسمح لك المجال لطلب عون او الاستنجاد بقوة إضافية تحضر اليك بسرعة من الفوج او من القصر الجمهوري، لذلك فإنه من الأنسب ان تكلف احد ضباط الصف أو الجنود دائماً بالاتصال فوراً بأحد ارقام الهواتف المهمة المثبتة أمامك علي المنضدة، ويفضل إخبار مساعد آمر الفوج او الضابط الخافر للفوج أول الامر، ليكون اهم الاشخاص المسؤولين في فوجنا علي علم بالامر الطارئ، فمثل هذه الحوادث تتطلب إجراءات سريعة لاحقة علي مستوي الدولة، وبالأخص ان كان الاعتداء علي شخص رئيس الجمهورية،

واستطرد الملازم فاهم في وصاياه قائلا:

من الافضل ان لا تدع الجنود يتراخون، فالعرض الصباحي يبدأ في الساعة السابعة والنصف، وبعد ذلك تبدأ فترة ممارسة الرياضة الصباحية والهرولة لنصف ساعة قبل ان يتدربوا علي السلاح لساعتين مقررتين، وبعد الفطور الثاني وفي حدود الساعة العاشرة والنصف حاول ان تلقي عليهم محاضرة عسكرية او ضبطية أو اجتماعية او ما تراه مناسباً، وذلك قبل ان يحل موعد تناول طعام الغداء بعد الظهر، ولا تنس ان يتمتعوا بالرياضة المسائية عصراً، اذا لم يكن السيد رئيس الجمهورية حاضراً في بيته، بعدها أعطاني شرحا عن مواقيت اطعام جنود ومراتب الحماية، ومما قاله بهذا الصدد عن طعامي انا آمر فصيل الحماية، إن (مطعم ضباط الفوج) ليس مكلفا بإرسال الوجبات مع سيارة نقل الطعام الي الجنود او غيرها، لذلك عليك الاعتماد علي (جيبك) بإرسال جندي الي أحد المطاعم القريبة في الاعظمية ـ وما اكثرها عدداً ـ ليجلب لك الطعام الذي تشتهيه، وعلي نفقتك الخاصة.
لم يطل الملازم فاهم مالك الحديث معي أكثر من ذلك، فقد أشارت الساعة الي الخامسة تقريباً، حين أقلته السيارة العسكرية، وكان آخر نصائحه بأن لا أحمل هماً كبيراً في أداء هذه المهمة مذكراً اياي بأن أي شخص عندما يحس بعظم المسؤولية في أي ظرف وموقف، فإنه قد يبدع وتتفتق في ذهنه الأفكار والحلول الناجعة، فأديت له التحية العسكرية، شاكراً فضله ومتمنياً له السلامة.
الهوامش:

(1) جسر الأئمة علي دجلة ويربط بين الأعظمية والكاظمية
(2) شارع الضباط أحد شوارع الاعظمية سكنه عدد من الضباط
(3) معسكر الوشاش كان يقوم علي أرض متنزه الزوراء حاليا

     

    
 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

660 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع