يهود العراق ذكريات وشجون. الحلقة /٢٤

    

     يهود العراق ذكريات وشجون. الحلقة /٢٤
       

                    

                             

      العراق قدري: في ألمانيا، ياسمين ووارنر

العراق قدري الذي لا أستطيع الهروب منه. كلما حاولت نسيانه يأتي من ينكأ الجراح مرة أخرى، فيسفح دم ذكرياتي على الورق مرة أخرى "بلا ما يخاف الله!". أما من أباح دم الذكريات هذه المرة فهو أحد قراء "إيلاف" الغراء  معلقا على فصل من الفصول التي نشرتها : "لا يوجد أكذب من شاب تغرب إلا شيخ ماتت أجياله". وكان المرحوم أبو علوان يعبر عن مثل هذا القول بمثل عامي "بعد أضرب منـّه"، فيقول بلهجته العراقية الصميمة: "عدنا، الشاب اليشك (يشق) صلوخ (الذي يكذب) يقولون عليه "يضرب شيلمان" لكن على الشيخ اليشك صلوخ، يكولون"يقح شيلمان"، ليش؟ لان الشايب يكح هوايا وما بيه حيل يضرب شيلمان.

         

أنت مشايف  أبو الشادي (القرداتي) لما يجي بالعياد مالتكم ويقلب الدنيا بالدنبك وبالخرخاشة خاطر يلم الأولاد يشوفوا الشادي، وبعد ما الشادي يمشي مثل الحرامي ومثل الجرخجي (الحارس الليلي) وكتفا سلاح، يكله أبو الشادي: شلون اتنام العروس؟ يفتح رجليه منشع ومكيّف وطربان، ولما يكله شلون تنام العجوز، ينام أعوج ويصير يقح ويحك براسه وابظهره وينعوص ويشخر؟ الخايب بني آدم! بس يشيّب بقوم يقح، والله الستار من الباقي!". هذه بعض الدروس في الفلكلور العراقي الذي كان أبو علوان يلقيها علي وأنا مدين له بكثير من الأمثال والقصص التي سمعتها منه وأروي بعضها هنا. وكان أبو الشادي ينهي عرضه قبل أن يجمع البخشيش بمخاطبة الشادي بقوله: ولك وين أتحط الكريم؟ فيرفع الشادي يده ويضعها على رأسه بكفخة رنانة، ثم يقول: أو وين تحط البخيل، فيضع الشادي يده على الصلعة الحمراء تحت ذيله، فنضحك لهذه التمثيلية ونبادر الى التبرع لكي يضعنا الشادي على رأسه. ثم ينتهي العرض بأمر الشادي أن يضرب دقله وياخذ سلام. ولذلك كنا نحن أولاد البتاويين عندما نريد ردع خصم يتحرش بنا نقول له: "ولك أحسنلك تضرب دقلة وتاخذ سلام وتروح على باب الله!" ولا أدري حتى اليوم إذا كانت هذه العبارة قد انتقلت الى أحياء بغدادية أخرى أم تنوسيت مع رحيلنا؟

          

وأنا يا أخوان، لم تمت أجيالي بفضل ما نسميه بصناديق المرضي (عيادات تعالج المرضى باشتراك شهري زهيد) في إسرائيل التي تعج بكبار الأطباء "ولا تدري شلون أتدبّر حالها من كثرتهم"، فهم بعون رب العالمين، يطيلون الأعمار.. فقبل أن يصيح الواحد منا "آخ بطني آخ ظهري"، تراه واقفا أمام "باب الدختور" في عيادات المرضى التي تتنافس فيما بينها لتغري المرضى والعالم بالاشتراك فيها بأفضل الشروط، وترى الذي يحب زيارة الأطباء لاطمئنان على صحته صباح مساء، وقبل أن يدخل إلى العيادة يكون قد فتح دكم (إزرار) قميصه ليوفر الوقت على الدكتور المنهك. ولكي يتخلص الأطباء من التطبيب بأسعار هي "أخو البلاش" يطلبون من المريض القيام بفحوصات الدم حذرا من الوقوع في خطأ التشخيص وإقامة الدعوى ضدهم، فإذا كان المراجع للطبيب ممن "يصفرج وجّه لما يشوف الأبرة وجر الدم من ايده، وتصيبه سبع دوخات" فإنه يرمي "بالراشيته" في سلة المهملات ويكون قد تاب ولا يعود للمراجعة. فإذا "شافه" الطبيب بالطريق وسأله: "شلونك يابا؟"، يجيب وهو يتلعثم كالأثول. "والله يا دكتور وصفاتك هوايا زينه وبعد ماكو حاجة للمراجعة!"
وأنا والحق يقال، لست بحاجة الى الكذب، وقد قام بعض الأصدقاء بمحاولة التحقق من كلامي عندما أخبرت صديقة عزيزة للعائلة وهي السيدة ياسمين من فرانكفورت بأني أسكن في ضاحية تبعد عن القدس 9 كيلومترات في شارع كان اسمه "المدخل الأول" ثم أطلق عليه بقدرة قادر  بعد أن انتقلت إليه  اسم "شارع نهر الفرات" وأن هذا الشارع يؤدي الى "شارع ياسمين"، عجبت صديقتنا من هذه المصادفة، ولعلها شكت من صدق كلامي وظنت "آني كاعد أشق صلوخ"، فما كان منها إلا أن أرسلت صديقة لها قدمت في زيارة الى القدس ترجوها أن تصور لها "شارع ياسمين" وتقاطعه مع "شارع نهر الفرات"، فإذا كان صدقا ما أقول فستعد هذه اكبر معجزة، وإلا فإنها ستعد قولي " أكبر ضرب شيلمان وأطول صلخ انشق في التاريخ الحديث!". قالت ياسمين "والله استاذ، هاي صديقتنا ما كذبت خبر وجابتلي تصوير الشارع مالكم واللوحات وعليها أسماء الشوارع مثل ما كلت، ولما باوعت الصورة، قلت الأستاذ يحجي الصدك!". قلت لها: "والله قلتْ لجْ العراق قدري "وأين يمضي هارب من دمه"، منْ تركت العراق ولليوم لاحقني العراق وين ما أنداح اووين ما أروح، مو بس لاسرائيل إلا لأسكتلنده وابفنلنده وشايفه هسّا حتى لألمانيا لحقني العراق. ترى والله مو بس سموه الشارع مالتنا "شارع نهر الفرات" وشكرت رئيس المجلس البلدي وصوتت إله بانتخابات رئيس البلدية، لكن والله ما أدري شلون، حتى بحديقتنا طلع ابنفس السنة نخلة زغيرونه. زوجتي تعرف آني أحب التمر، كل شي يتعلق بالعراق أحبه، حتى التمر مال اسرائيل أحبه، ليش؟ لأنه مهربينه من العراق، وكل تمرة الآكلها تذكرني بالعراق،

  

حتى النوى ما التمر ما أخلي زوجتي تذبه بالزبل. ولج يا حرمة! ترى هذا التمر أصله من العراق ترى ميصير أتذبي النوى بالزبل، لازم أزرعه ويطلع نخل يذكرني بالعراق بلكت يجبر لله صدعات قلبنا، ترى ماكو أمل نرجع انزوره !".وبين حين وآخر آخذ ما اجتمع من النوى واقوم بزرعه في منحدرات التلال المقابلة لجبل القسطل جنوب "مبسيريت يروشلايم" (وتعني المبشرة بوصولك الى القدس). فأنا لا أفرط بأي شيء يتعلق بالعراق، فالعراق قدري،والذي يزور المنطقة سيجد أنها تحتوي على بعض فسائل النخيل التي نمت من النوى الذي زرعته. وزوجتي تعرف أصله العراقي وغلاوته عندي لأنهم جاءوا به من العراق، وقد هربه المستوطنون اليهود أيام الانتداب البريطاني الى فلسطين. وهذه الفسائل ليست مثل النخيل التي قام السيد مردخاي بن بورات وغيره من رؤساء بلدية أور-يهودا (نور يهودا)  واللد والرملة وتل أبيب وغيرها من مدن إسرائيل بنقل النخيل البالغة من جذورها وزرعها مرة أخرى في شوارع مدنها المشجرة. والعجيب أن النخلة مثل شجرة الزيتون يمكن نقلها مع جذورها من مكان الى آخر. وعندما انظر الى النخلات في شوارع اسرائيل أشعر بحسرة لأنني أستمع الى قلبها الكسير، فهي واقفة كالعانس التي بارت ولا يوجد من يتقدم بطلب يدها، إذا لا يوجد من يلقحاها ويعتني بثمارها.

    

فهنا لا يعرفون قدر النخلة التي كانت تستطيع إعالة عائلة كاملة. فإذا أجّر العراقي بيته وفيه نخلة، فهي لا تقع في ضمن الايجار، فالتمر، والليف والكرب، والسعف وفراخ الفخاتي والطيور كلها تعود لمالك الدار، وكثيرا ما جاء صاحب دار خالي حاييم في الكرخ محذرا أياي بألا أنزل عثوق تمر الخستاوي ولا فراخ الفخاتي، فهي له، وكان يراقبها ليل نهار من القهوة التي يقضي معظم أوقاته فيها كمالك لعدة دور فيها نخيل مراقبا اياها بحماس الزوج الغيور على زوجته اللعوب، وخاصة عندما كان يعلم بأني أرسلتَ من قبل الوالدين للتصييف في الكرخ. أما نخلة حديقتنا فهي نخلة مدللة نبتت في وسط الحديقة من نواة لا ندري كيف فاتت على زوجتي التي تحرص على ألا تنبت شجرة دون نخطيط مسبق لها، فأقول لها، ألا تصدقين أن العراق قدري، هاي حتى النخلة جت منها ليها، ومن الله؟

                                  

أما كيف تعرفت على صديقتنا ياسمين، فهو أيضا يعود الى السبب نفسه. كنت منهمكا في إتمام بحثي وتحقيق كتاب عجائب الأثار لعبد الرحمين الجبرتي في مكتبة معهد الدراسات الشرقية لجامعة بون مع الأستاذ ستيفان ويلد ومساعده يانس باكر وهو معهد يقع قرب نهر الراين، حبيب الشاعر هاينريخ هاينيه الذي استطاع ان يخضع الرايخ الثالث الى عبقريته، فحار كيف يتصرف معه. دخلت المكتبة فتاة جميلة "محير بزار" لا تستطيع الجزم هل هي ألمانية صريحة النسب أم عراقية أصلية. شعرها أسود سبط ولونها قمحي فاتح وعيون تقسم بانها أجمل من "عيون المها بين الرصافة والجسر". صعدتْ السلم لتفتش عن كتاب. لم تجده، صارت تفتش عنه في اكداس الكتب على الطاولات، فلم تجده، وقفت أمام كومة الكتب التي وضعتها أمامي، ووجدت ضالتها:
- هل تسمح سيدي بأن اخذ كتاب "موريه"؟
-  قلت لها تفضلي، ماذا تفعلين بـ"ـ موريه"؟
- عندي وظيفة عن السياب، وقيل لي إن له بحث مسهب عن السياب في هذا الكتاب.
- قلت في سرّي، لا إله الا الله، مرة أخرى لحقني العراق وهذه المرة بدون أمان من "عيون المها وراء السواد". نظرت إلي بارتياب وقالت:
- "أنت عراقي؟".
- شلون عرفتي؟
- هاي ينرادلها روحة للقاضي؟ لهجة بغدادية وأخت! وشوفتك عراقية. زين شسمك؟
- موريه!
 وقفت فاغرة الفم وقد صدمتها الدهشة.
- آني جيت أدور على الكتاب، هل مرة لكيت المؤلف، والله خوش حكاية!" وانفجرنا ضاحكين، والتفت نحونا القراء الألمان، مرة أخرى لا يتقيد هؤلاء العرب بآداب غرف المطالعة والمكتبات ويتصرفون كأنهم في الشارع العام.
وفي اليوم التالي جاءت بصحبة فتي أشقر جميل طويل القامة قدمته إلي "هذا خطيبي، وارنر، طالب في كلية الحقوق في الجامعة!"
قال لي الشاب الأشقر ذو العينين الزرقاوين بفرح طاغ:
- ظننتك شابا. جاءتني البارحة وهي تكاد تطير فرحا، سألتها ماذا جرى؟ قالت "إنك لا تدري بمن التقيت؟ فتشت عن الكتاب فوجدت المؤلف". وقلت له لأثير غيرته: التقيت بعراقي وأستاذ جامعي معروف، "بألحاظ تنادي على عاصيات الهوى الله أكبر!"، فقال لي بخوف ووجل: إذن، ستتركينني لأجله؟
وضحكنا، ومرة أخرى نظر ألينا الطلبة الألمان شزرا بالرغم من وجود الشاب الأشقر معنا. ومنذ ذلك اليوم انعقدت بيننا أواصر صداقة قوية. قالت لي بأني أشبه والدها المرحوم شبها كبيرا وبانها عراقية شيعية، وخطيبها الألماني لا يعلم باية قدسية تتمتع بها الفتاة العراقية الشيعية بين الرجال الشيعة، وإن أمها ألمانية تزوجت والدها المحامي عندما قدم للدراسة في ألمانيا، أما هو فمن عائلة يهودية تنصرت قبل قيام النظام النازي ووالده يعمل في المحاماة. وأنها توفر المال لإعانة عائلة والدها في العراق التي تعاني من الأوضاع الاقتصادية الصعبة تحت حكم البعث ومن جراء الغارات الأيرانية.
"هاي شلون دنيا؟ شيعية عراقية أمها ألمانية، تتزوج ألماني مسيحي أصله يهودي، نجا أهله من المحرقة النازية، تفتش عن كتاب ظنت أنه من تأليف باحث فرنسي، فإذا به عراق أصلي بتاوييني وفكها يهودي مهجّر إلى إسرائيل، ها شلون دنيا، والله كلها عجايب وغرايب!"
وفي عام 2003 كان علي العودة الى البلاد، أخبراني بانهما سيأتيان لزيارتي في بون ومرافقتي الى دارهما وفي المساء سيصطحباني الى مطار فرانكفورت، نفس اللفتة الكريمة التي قامت بها زميلتي الدكتورة أندريا هايست وزوجها قبل عام عندما أقلاني بسيارتهما الى مطار فرانكفورت ليوفرا لي عناء السفر بالقطار من بون الى فرانكفورت، فلما ودعتهما، "أرسلت من وراء السجف ناظرها، ترنو إلي ودمع العين ينهمل"، وشعرت بالأسى يعتصر قلبي الذي كتب عليه الترحال وفراق الأحباب، فالدموع فوق طاقتي وإن كنت "امعود على الصدعات قلبي."
 وبعد العشاء قالت ياسمين، أمامك يا أستاذ سفرة طويلة، استلق على الأريكة في الغرفة المجاورة. كنت في غفوة من النعاس وفجأة شعرت بلحاف يغطيني! وقلت في سري: والله لا يقوم بمثل هذه اللفتة الكريمة سوى فتاة تعزّ ضيفها العراقي الذي يشبه والدها، إعزازها لوالدها، ولا تقوم به سوى عراقية أصيلة تحترم الوالد والكبار، بارك الله فيها!.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/24909-2016-07-19-18-52-48.html

         

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1021 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع